حكايات التاريخ القديم والحديث، قصص ونوادر لا يعرفها إلا رواتها. طرائف في السياسة وشخصياتها، طرائف في الفن وأبطاله، طرائف اجتماعية وأدبية.. سرد لقصص دمشقية حُفرت في ذاكرة جيل لم يبقَ منه إلا القليل ليحكوه لأبنائهم وأحفادهم. قليلون يعلمون أن فرشاة الأسنان دخلت إلى مدينة دمشق بدلاً عن نبتة المسواك عام 1914، قبل الحرب العالمية الأولى بأشهر قليلة، “وأن 60% من الدمشقيين باتوا يمتلكون فراشاتهم الخاصة عام 1930. قليلون أيضاً يعلمون أن النساء الدمشقيات ارتدوا الحذاء ب “الكعب العالي” مع صيف عام 1924، حيث أدخل تجار المدينة هذا المنتج إلى أسواق الحميدية وغيرها، نقلاً عن باريس. وهم آل أجمان من عائلات القصاع الشهيرة وتوارثوا المهنة من ذاك الزمن حتى وقتنا عبر ابنهم الصديق الاستاذ نبيل اجمان.
هناك مَن لا يعلم أيضاً أن جامع بني أمية الكبير هو أول بناء تدخله الكهرباء في مدينة دمشق في شباط من العام 1907، ودخلت في نفس الفترة الى الكاتدرائية المريمية ودار بطريركية الروم الارثوذكس في منطقة الخراب بدمشق القديمة، وأن الكهرباء دخلت إلى دمشق قبل أن تدخل إلى ولاية لوس أنجلوس الأمريكية بواسطة شركة بلجيكية اتخذت لها مقراً وسط دمشق وأصبح هذا المقر نفسه مقراً لشركة كهرباء دمشق حتى هذه اللحظة.
كثيرون أيضاً لا يعلمون أن السيدة اللبنانية فيروز لم تبدأ مشوارها الفني في مهرجانات بعلبك عام 1957، كما يعتقد كثيرون، بل كانت البداية على مسرح سينما دمشق في فبراير1952. كانت فيروز “نهاد حداد” لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها عند قدومها الى سورية بعد اكتشافها من قبل مدير إذاعة دمشق أحمد عسة ومدير البرامج الأمير يحيى الشهابي. بحضور العقيد أديب الشيشكلي رئيس سورية آنذاك.
قليلون أيضاً يعلمون أن قماش ثوب زفاف الملكة البريطانية إليزابيت الثانية، يوم كانت ولية العهد في العام 1947، جاء من أسواق دمشق.
وأن أول مدرسة باليه في العالم العربي تأسست في دمشق في العام 1951 في منزل الوجيه مظفر البكري، كان البكري متزوّجاً من الفنانة اليونانيّة آنا فرانكولي، وكانت مأخوذة برقص الباليه، فقررت إدخال ذلك الفنّ إلى دمشق.
وأنّ الممثل والمخرج الكوميدي الشهير تشارلي شابلن زار دمشق لحضور افتتاح فيلمه «السيرك» في سينما «فلور دو داماس» في ساحة المرجة في خريف العام 1929 وكان في استقباله السياسي السوري فخري البارودي.
بيت دمشقي
يكشف المؤرخ د. سامي مبيض عن أخطاء تاريخية وفنية وتراثية وقع فيها منتجو مسلسل “باب الحارة” الدمشقي الشهير الذي أُنتج منه تسعة أجزاء ولاقى متابعة جماهيرية عربية كبيرة ومن بين تلك الأخطاء مثلاً يقول د. سامي مبيض أن دمشق لم تكن تغلق أبوابها يوماُ، فكانت دوماً مدينة النور والعلم والتجارة. لا يوجد باب يغلق في حارات دمشق، مثل العصور الوسطى في أوروبا. وأن العلم الفرنسي الموجود في مخفر باب الحارة معلق بالاتجاه الخطأ، فألوانه عمودية وليست أفقية. وأنه لا يوجد في دمشق شخص اسمه “العقيد”، هناك زعيم يمثل الأهالي ويحمي مصالحهم، وهناك “ازعر” يسطو على أرزاقهم.
دمشق لم تكن مثل مدينة شيكاغو في أفلام المافيا أو ما شابهها في أفلام الكاوبوي. لا أحد يخرج خنجره للقتال في أي وقت أو أي ظرفٍ كان، الخنجر كان سلاحاً أبيض ولم تكن فرنسا التي كانت تحتل سورية آنذاك تسمح باستخدامه بهذا الشكل الكوميدي الذي ظهر في المسلسل.
أسماء العائلات وعن أسماء الكثير من العائلات الدمشقية فيروي “الشامي العتيق” أن بعضها منسوب لمذهب أو طريقة: مثل بيت الشافعي، والمالكي، والحنبلي، والجعفري والرفاعي، والنقشبندي. والبعض الأخر حسب وصفه: بيت الطويل، والقصير، والرفيع، والدعبول والبيضاوي، والفقير، والحافي، والبردان، والسواح، والرحال، والمهاجر، والفقيه، والحباب، والحبوب، والنفاخ، والنعسان والنعوس. والآخر نسبة للورود والأشجار: بيت ياسمينة، وقرنفل، والجوري، والوردي، وفلة، وريحان، وبيت نخلة وبعضها منسوب للحيوانات مثل بيت الجمل، والعصفور، والنمر، والفهد، والسنجاب، والأرنب، وزرافة، وغزال، وسمكة، والجاجة، والديك، وجرادة، ودبانة. كما أن الكثير من أسماء العائلات منسوب للطعام مثل بيت المالح، والحلو، والحامض، والمر، والفتوش، والملوخية، وسليق، وهليون، والعجة، وبقدونس، وبصلة، وسكر، والبزرة، والدبس، ودبس وزيت، ودبس ولبن، والرز، وزعتر، وعدس، وحلاوة، وقبوات، وكبة، وسمسمية، وعرنوس، وكوسا، وتفاحة، وبقلة، وبيتنجانة، وخيارة، وجزرة.
وبعض اسماء العائلات مشتقة عن اعضاء الجسم: بيت أبو دان، أبو شعر، وابو الشامات، وعيون السود، وابو شنب، وأبو لسان، وابو ظهر، وابو شوشة، وبيت الباهم وبيت سنان… والبعض الأخر لعاهات جسدية: بيت الأخرس، والاطرش، والأبرص، والبرصا، والأبرش، والاكتع، والأعوز والأعرج. والبعض الأخر للألوان: بيت الأسمر، والأسود، والأبيض، والأخضر، والأزرق، والذهبي، والأشقر، والأصفر، والأحمر والبني، والحديدي، والبحري، والسماوي.
يروي سامي مبيض أيضاً أن سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم جاءت إلى دمشق في صيف العام 1931 لإحياء ثلاث حفلات في إحدى الحدائق بالهواء الطلق. كانت قيمة البطاقة لحضور الحفل “ليرة ذهبية” مما أجبر بعض المعجبين أن يبيعوا سجاد منازلهم، أو يرهنوا مصاغ زوجاتهم، من أجل حضور الحفل ومشاهدتها شخصياً، وبمجرد وصولها إلى مشارف العاصمة عن طريق بيروت القديم، كان في استقبالها الألوف يتقدمهم السياسي الشهير فخري البارودي، وأمين العاصمة، ومدير الشرطة والأمن العام، ونخبة من رجالات الصناعة والتجارة والاقتصاد، وأصحاب الصحف الخاصة وسيدات يمثلن الجمعيات النسائية بدمشق وطلبة المدارس. انتقلت أم كلثوم وسط هذا الزحام البشري غير المألوف في الحياة اليومية الدمشقية إلى فندق أمية وهناك كان في انتظارها مجموعة شباب قابلوها بالقدح والذم في المساء قبل بدء الحفل ورشقوها “بنترات الفضة” محاولين إحراق وجهها ومطالبين أم كلثوم بإلغاء الحفل و”بالاحتشام.” وطالبوا أيضاً أن تضع حجاباً على رأسها بالرغم من أن أم كلثوم كانت ملتزمة دينياً، حافظة للقرآن، ومحتشمة للغاية.
وحسب ما يروي سامي مبيض فإن أم كلثوم غضبت من هذا التصرف وقاطعت دمشق لسنوات طويلة. وأنها روت هذه القصة للرئيس السوري آنذاك ناظم القدسي عند استقباله لها في مطار دمشق في سبتمبر 1955، مبررة الغياب الطويل عن الشام. فعوضتها دمشق بوسام الاستحقاق من الدرجة الأولى واستقبال باهر في المرة الثانية وإحياء في حفلات لا تنسى على مسرح سينما دمشق.
قبل 80 عام يوغل سامي مبيض في البحث والتنقيب عن خفايا دمشق وما قيل عن أهلها فيُزيح الستار عن وثيقة فرنسية صادرة عن دبلوماسي فرنسي في العام 1940 تتحدث تلك الوثيقة عن السلوك الشرائي للدمشقيين قبل ثمانية عقود، ومما ورد في تلك الوثيقة: “تغير الدمشقيون كثيراً في السنوات الأخيرة. باتوا أكثر تواصلاً مع العالم الخارجي. نجد مستلزمات حديثة في بيوتهم لم يعرفوها من قبل، مثل جرس الباب، والمراوح الكهربائية، والبرادات الأميركية، وكل هذا بسبب توفر الكهرباء للعموم بشكل تدريجي وكبير منذ عام 1907.”وجاء أيضاً في ذات الوثيقة: “بالنسبة للكهرباء، بلغ عدد المشتركين بدمشق 80 ألف مشترك عام 1920، يوم كان عدد سكان المدينة آنذاك 950 ألف نسمة فقط. أما المذياع، فقد بلغ عدد مبيعاته بدمشق وحدها 11 ألف جهاز ما بين 1933 1938، معظمهم في المنازل والمقاهي وفي محلات الحلاقين”.
في 17 تموز 1998 وافقت 120 دولة في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا على ما يعرف بميثاق روما، واعتبرته قاعدة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وعارضت هذه الفكرة سبع دول، وامتنعت 21 عن التصويت.
واعتبر الميثاق أن ملايين الأطفال والنساء والرجال في القرن العشرين -الذي شهد حربين عالميتين- قد وقعوا “ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة” وأنه شهد “جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن العالمي” وأن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب.
وقبل ذلك كانت لجنة خاصة قد قدمت -بطلب من الجمعية نفسها- مسودتين لنظام المحكمة الجنائية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لكن المشروع لم ير النور، وبقي معلقا بسبب الإشكالات السياسية التي خيمت على العلاقات الدولية خلال ما عرف بفترة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق.
اعتُمد نظام روما الأساسي عام 1998 ودخل حيّز التنفيذ عام 2002، وتأسست بذلك أول محكمة جنائية دولية دائمة، وذلك بعد جهود استمرت عقودا طويلة.
مخاض عسير اعتُمد “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” يوم 17تموز 1998 بالعاصمة الإيطالية روما، ليتوج جهودا استمرت طويلا بهدف إقامة كيان دولي مستمر يتولى مهمة المحاسبة على ما تشهده الحروب والنزاعات المختلفة من انتهاكات واضحة للحقوق الأساسية التي كفلها القانون الدولي للإنسان.
بدأت الجهود في ظل عصبة الأمم عام 1920 عبر تشكيل لجنة قانونية لإعداد مشروع لإقامة محكمة دائمة للعدل الدولية، ثم تواصلت مع عقد مؤتمر دولي في جنيف عام 1937 شهد إبرام اتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية، لكن معارضة بريطانيا وروسيا أدت إلى إفشال المشروع.
استؤنفت الجهود في ظل الأمم المتحدة ابتداء من عام 1946 وعلى فترات متفاوتة، حتى شهد عام 1989 قيام لجنة القانون الدولي بمناقشة طبيعة المحكمة الجنائية الدولية المقترحة والأحكام ذات الصلة باختصاصها وقواعد الإجراءات التي يتعين اتباعها أمامها.
ثم قامت اللجنة عام 1996 بتحديد الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي العدوان، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والجرائم ضد موظفي الأمم المتحدة، وأخيرا جرائم حرب.
في الأثناء، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995 إنشاء اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة، في حين شهد عام 1998 التطور الأبرز عندما تم عقد مؤتمر روما الذي شهد الاتفاق على بنود الاتفاقية المنشئة للمحكمة فيما عرف بنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك يوم 17 تموز من ذلك العام.
رفض أميركي وشارك بأعمال المؤتمر وفود تمثل 160 دولة فضلا عن منظمات دولية وأخرى غير حكومية، وحظي نظام روما بموافقة 120 دولة مع امتناع 21 دولة عن التصويت، ومعارضة سبع بينها الولايات المتحدة التي أصرت على أن يكون لمجلس الأمن هيمنة على الادعاء بالمحكمة، كما رفضته اسرائيل لاعتباره الاستيطان جريمة حرب، ورفضته كذلك الصين والهند.
خلال صياغة نظام روما الأساسي طالبت الولايات المتحدة أن يكون عمل المحكمة خاضعا لسلطة لمجلس الأمن الدولي الذي تحظى فيه بحق النقض (الفيتو) غير أن مؤتمر روما رفض ذلك.
بادر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون إلى التوقيع على نظام روما يوم 31 كانون الأول عام 2000، غير أن خلفه جورج بوش الابن ألغى ذلك التوقيع في أيار من عام 2001، ودشن حملة عالمية ضد المحكمة، انتهت بالفشل.
سلم عالمي
اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في روما 1998
يتكون نظام روما من 128 مادة تتصدرها ديباجة تشير إلى ما شهده القرن العشرين من سقوط الملايين من الأطفال والنساء والرجال ضحايا لفظائع هزت ضمير الإنسانية بقوة، وهددت السلم والأمن في العالم، وتؤكد أن هذه الجرائم يجب ألا تمر دون عقاب وأنه تجب مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي.
وأكدت الدول الأطراف في نظام روما عزمها -من أجل بلوغ هذه الغايات ولصالح الأجيال الحالية والمقبلة- على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة ذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره.
وفي الأول من تموز 2002 دخل نظام روما الأساسي حيّز التنفيذ، وتأسست بذلك أول محكمة جنائية دولية دائمة.
اعلان
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من تموز 2002 بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 نيسان من السنة نفسها، بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه ستين دولة.
صادقت لحد الآن على قانون المحكمة 108 دول، وتلتقي في جمعية للدول الأعضاء، وهي هيئة تراقب عمل المحكمة، كما وقعت 41 دولة أخرى على ميثاق روما لكنها لم تصادق عليه بعد.
اختصاصات المحكمة تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بـ:
جرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا.
الجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق.
جرائم الحرب، وتعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي.
ويمكن للمحكمة أن تنظر بقضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها.
تعاون دولي والمحكمة –التي يقع مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكنها يمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان آخر- هي محكمة مكملة للقضاء الوطني للدول الأعضاء فيها، وتمثل المآل الأخير عندما تكون هذه المحاكم غير قادرة على التحقيق مع المتهمين بالجرائم المذكورة، أو لا تريد ذلك.
يمكن للدول المصادقة على المحكمة أو مجلس الأمن الدولي أن تحيل على المدعي العام قضايا تتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها، كما يمكن له أن يبادر بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك.
ويفرض قانون المحكمة على هذه الدول أن تتعاون معها في التحقيقات والمتابعات التي تباشرها، بأن تسلم المتهمين إن كانوا من مواطنيها، أو تعتقلهم وتسلمهم إن دخلوا أراضيها، وبأن توفر كل الوثائق المتوفرة لديها في أي قضية تفتح المحكمة التحقيق فيها.
ويمكن للمحكمة أن تتعاون مع الدول غير المصادقة على ميثاقها، وذلك عبر تفاهمات أو اتفاقات منفصلة، كما يربط المحكمة بالأمم المتحدة اتفاق ينظم العلاقات وسبل التعاون بينهما، وبذلك تختلف المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية التي تعتبر ذراعا تابعة للأمم المتحدة تهدف من خلالها لحل النزاعات بين الدول.
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو (الأوروبية-أرشيف)
هيكلة المحكمة تتكون المحكمة من:
رئاسة تتكلف بالتدبير العام للمحكمة، وتضم ثلاثة قضاة ينتخبون من هيئتها القضائية لولاية من ثلاث سنوات.
شعبة قضائية، وتتكون من 18 قاضيا متخصصا في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية والقانون الدولي.
مكتب للمدعي العام، ويختص بالتحقيق في الاتهامات بالجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، ويبحث عن الدلائل والوثائق ويفحصها ثم يعرضها على المحكمة، والمدعي العام الحالي هو الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو.
قسم السجل، ويتابع كل الأمور الإدارية غير القضائية، وينتخب المسؤول عنه من قبل قضاة المحكمة لولاية تمتد خمس سنوات.
قضايا أمام المحكمة وتنظر المحكمة الآن في أربع قضايا، ثلاث منها أحالتها عليها دول صادقت على المحكمة، وتتهم أشخاصا بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على أراضيها، وهي الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وأوغندا، والقضية الرابعة أحالها على المحكمة مجلس الأمن متهما فيها الرئيس السوداني ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم مماثلة في إقليم دارفور غرب السودان.
أول شخص تم تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية هو توماس لوبانغا، زعيم إحدى المليشيات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حيث قيل إنه جند أطفالا قاصرين واستخدمهم في الحرب.
وتسعى المحكمة أيضا إلى متابعة قادة مليشيا جيش الرب الأوغندي، المتهمين بدورهم بتجنيد أطفال واستغلالهم في الحروب.
من المجمع عليه ان اسم سورية جاء اصلاً من أسيريا(آشور) واسم سوريين أو سيرييّ من أسيرييّ.
كتب المؤرخ هيرودوتس في تاريخه “هؤلاء (الآشوريون) كان يدعوهم اليونانيون سوريين”
وكان لوقيانوس السميساطي يدعو نفسه أسوري، أشوري، ويدعو بلاده سورية. وكان اليونانيون يستعملون أسماء سورية والسيريينواللغة السورية لتسمية البلد والسكان واللغة المحلية. في حين كان السكان الأصليون يسمون أنفسهم “آراميين” ولغتهم “الآرامية”.
هذه المنطقة من العالم كانت هي مهد الحضارة الإنسانية على الإطلاق، وابسط القول كانت مهد حضارة إنسانية عظيمة سُميت بـ “الهلال الخصيب” بسبب تربتها الخصبة، و”هلال” لأن أرضها تشبه الهلال وتضم معظم أراضي العراق الحديث، وسورية، والأردن وفلسطين، ونظرية المرحوم المناضل انطون سعادة مؤسس القومية السورية والحزب القومي السوري الى ان نجمة هذا الهلال الخصيب هي قبرص لاسيما انها من الارض السورية وكانت كنيستها قد انشقت عن انطاكية في القرن الخامس وتأسست رئاسة اساقفة مستقلة، وتشير بعض التعريفات إلى أن الهلال الخصيب يضم وادي النيل في مصر أيضاً.
بدأ الناس في الزراعة في تلك المنطقة قبل أكثر من 9000 سنة قبل الميلاد، وفي عام 2500 قبل الميلاد شكل السومريون أول مجتمع يمكن تسميته “دولة” مع قوانين مكتوبة ونظام سياسي، وعلى الرغم من أن نشأة الدولة عادة ما ترتبط بالرومان القدماء، إلا أنه يمكن القول أن بين الرومان القدماء وبين السومريين، عدد سنوات أكثر من التي تفصل بيننا وبين الرومان القدماء.
الفينيقيون السوريون الذين عاشوا على الساحل السوري فيما يُسمى الآن سورية ولبنان، كانوا رائعين فكانت ابجدية رأس شمرا في منطقة اللاذقية اول ابجدية في التاريخ ومنها اشتقت كل اللغات القديمة في بلاد الشام والرافدين! وسجل التاريخ لهم اهتمامهم بالسيمفونيات حيث تم العثور على اقدم سيمفونية في التاريخ في موقع رأس شمرا…لقد سادوا البحر المتوسط حتى يمكننا القول انه كان لفترة بجحيرة فينيقية… لقد أداروا شبكة تجارة عبر قرون قبل الميلاد بالتجارة البحرية.
ثم نراهم سيطروا على البحر الابيض المتوسط جنباً إلى جنب مع اليونانيين، والبعض منهم أبحروا بعيداً وأنشأوا مستعمرات في شمال أفريقيا( ليبيا طرابلس، وقرطاج (تونس) وإسبانيا وصقلية وسردينيا.والكثير من المدن في شبه الجزيرة الايبيرية اسبانيا والبرتغال هم من بناها، ووصلوا الى مصب الامازون بعد خروجهم من مضيق جبل طارق وكانت لهم الريادة في اكتشاف اميركا، وتركوا نقشاً بالفينيقية يؤرخ لهذا الكشف…
وتعتبرالعاصمة الليبية “طرابلس” التي ما زالت تحتفظ بنفس اسمها الفينيقي حين بنوا مستعمرتهم هناك والبعض يعتبرها جسر ثقافة فينيقية من سورية الى ليبيا ومن ليبيا الى الضفة الاخرى اي السواحل الايطالية وخاصة في العهد الروماني.
يتكون السكان في سورية الكبرى من خليط من الاجناس نظرا للاحتلالات المتعددة وخضوعها للغريب وللجنسيات الكثيرة من غزاة وفاتحين وعابرين والاديان الأكثر…ولا تزال سورية تبعا لذلك بوتقة انصهرت فيها وتنصهر فيها كل الاقوام والاديان حيث على ارضها حالياً اكثر من 15 جنسية واكثر من 17 طائفة دينية…
لكن من المتفق عليه ان السكان الاصليين هم الآراميون المنحدرين من نسل آرام بن سام بن نوح والمنتشرين في بلاد الشام.
ولقد انكفأ الآراميون على انفسهم امام كل الاحتلالات، وعاشوا في المناطق الداخلية والجبلية اكثر منها في المدن الكبرى والسواحل، وخاصة مع مجيء الاسكندر والصبغة اليونانية التي صبغت البلاد. ولاسيما ان الاسكندر كان مشبعا بنظرية معلمه الفيلسوف افلاطون بدولة عالمية واحدة تسودها الثقافة اليونانية، لذلك قام باستقدام اعداد كبيرة من اليونانيين واسكنهم في المدن الجديدة التي بناها وبناها خلقاؤه السلوقيون من بعده وصارت عنوانا للمدن الهلينية – الهلنستية في سورية، وكان الاسكندر لتحقيق دولته العالمية الواحدة يقيم حفلات زواج جماعية لجنوده الاغريق من بنات المناطق المفتوحة، كما فعل عندما قام بتزويج عشرة آلاف جندي يوناني من جنوده حال فتحه بلاد فارس من بنات فارسيات، وهو تزوج بواحدة، وكان قد فعل الامر ذاته في بلاد الشام والرافدين ومصر ايمانا منه بهذه الدولة العالمية الواحدة التي تسودها الثقافة اليونانية تحت عرشه الهليني.
لذلك لايمكننا القول ان في سورية عنصرا سكانياً واحداً صرفاً واو عرقاً دموياً نقياً او حضوراً دينياً او طائفياً او مذهبياً واحداً، او ان سورية هي ارض لفئة دون الاخرى للاعتبارات التي ذكرناها والا كنا امام نظرية العرق الواحد الآرية-النازية او كما يهودية الدولة… بل كما اسلفنا هي فسيفساء متنوعة متناغمة جعلت لسورية المكانة الاولى في التاريخ القديم باسهام من الجميع. وصار الخليط سورياً تبعاً لارضه الواحدة سورية التي اكسبته جنسيتها. لاسيما وان الكل يقول ان سورية ارضه وحده، والا لسلمنا بحق الاكراد في الشمال السوري والعراقي و…في حين ان الارمن واليونان والسريان عاشوا فيها 20 قرناً، وبالطبع وهذا مخالف لعلم الانتروبولوجيا اذ لايمكن لشعب ان يتكون من ارومةنسلية ودموية واحدة فقط ولا من دين واحد وبالتأكيد نرفض على ذلك ان يقال ان فلسطين هي ارض لليهود واعتماد يهودية الدولة التي اقرت كتشريع رسمي في الدولة العبرية.
واذا كانت اللغة هي العامل الجامع المحدد للجنسية، فمن باب اولى ان تكون معظم اميركا الجنوبية عدا البرازيل اسبانية، وان الولايات المتحدة والقسم المتحدث بالانكليزية في كندا واوستراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا هي انكليزية، وكذلك تصبح بلجيكا وسويسرة بقسميهما الفرنسيين وكندا الفرنسية والدول الافريقية المتحدثة بالفرنسية هي افرنسية.
وللتأكيد على نظريتنا بخصوص اللغة فإن المناطق الواقعة الى الغرب من نهر الفرات والسواحل حفلت بالعناصر الوافدة على التتابع من يونان ورومان وروم بيزنطيين.
بينما انكفأ الآراميون الى الشرق من الفرات، ومن بقي منهم في الغرب كان يتوجب عليه ان يتقن اليونانية ليعمل في الادارات العامة اضافة الى تكلمه بالآرامية، لاسيما وان اليونانية مع الفتح اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد هي لغة الدولة والدواوين منذ عهد الاسكندر المقدوني الكبير لادارة الدولة الهلينية، ثم في الهلنستية مع سلوقوس نكتاروس واسرته التي انتهت بانتصار الرومان السنة 64ق.م وانتهاء دولة السلوقيين بيد بومبيوس.
وفي الدولة الرومانية كانت اللغة اليونانية هي لغة الادارة الرسمية والحكم والثقافة والفن…، ومن البديهي ان تكون هي لغة الامبراطورية الرومية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية الى زمن الخلافة الاموية وعبد الملك بن مروان الذي امر بتعريب الدواوين والادارة…من اليونانية واستبدال النقود الرومية باخرى اموية، وجدير ذكره ان اللغة اليونانية كانت لغة الثقافة العالمية لم تقوى امامها اللغة اللاتينية في الدولة الرومانية، وصارت لغة التبشير بالمسيحية ولغة المجامع المقدسة واساساً كانت اليونانية لغة الانجيل ببشاراته الاربع…
امام كل ذلك فكان السكان المحليون يتقنون اليونانية لغة الدولة كلغتهم الآرامية.
ومن الجدير ذكره ان تتحدث الوقائع عن ان سورية ازدهرت بكثافة في كل المجالات وخاصة في العهد الرومي البيزنطي (بين القرنين الرابع والسابع المسحيين، مع كثافة سكانية واقتصادية عالية الوضوح، وقد وصل العمران الى شرق البلاد وفي وسط بادية الشام، فقامت مدن عظيمة كالرصافة وخناصر والاندرين وازدهرت تدمر بظهور النمو السكاني فيها بشكل مكثف.
وقد بلغ عدد سكان سورية في القرن المسيحي الاول حوالي سبعة ملايين نسمة، وقُدِّرَ عدد اليهود منهم بمليون نسمة، كما ان عدد سكان انطاكية وحدها وهي العاصمة و”عين الشرق كله” بلغ 800000 نسمة وتراوح عدد اليهود فيها بين 45000 – 60000 نسمة، وكان السكان بمجملهم قد صاروا مسيحيين بعد اندثار الوثنية في القرن الرابع المسيحي.
لم تكن اللغة اليونانية وحتى القرن السادس لغة المسيحيين الروميين البيزنطيين او الارثوذكسيين وحدهم فقط كونها لغة كنيستهم، بل لغة كل المسيحيين ابناء الكنائس الشرقية التي انسلخت عن الكنيسة الام بعد مجمع افسس ومجمع خلقيدونية كالآشوريين والكلدان، ثم السريان في سورية والاقباط في مصر والارمن والاحباش، ثم تراجعت اليونانية وحلت محلها اللغات المحلية، وتؤكد الليتورجيا الكنسية المستخدمة في الكنيستين الشرقيتين القبطية والسريانية المتحدتين في العقيدة اللاخلقيدونية الى تغلغل اليونانية فيهما بالرغم من الخلاف العقيدي الذي ادى الى ظهور السريان والاقباط ككنائس قومية تتزعم مشروع الكيان القومي المستقبلي برئاسة “البطريرك الرئيس الأعلى…”.
في منطقة شرق الفرات والجزيرة الفراتية العليا والسورية، عادت الآرامية الى الانتعاش بعد انكفائها، فعاشت قروناً باسم اللغة السريانية التي هي في حقيقتها لهجة آرامية خاصة بمدينة الرها. هذا وقد ادى انتشار لهجة مملكة الرها التي اقتبلت المسيحية قبل غيرها من الممالك الآرامية الداخلية في منطقة واسعة من الكنائس الشرقية التي انشقت عن الكنيسة الرومانية وهي كنيسة الدولة بحكم انشاء الكنيسة القومية المحلية ( السريانية والنسطورية الآشورية والكلدانية…) فتسمت “اللغة السريانية” ورمزت الى الآراميين المتنصرين وكتبت الكنائس طقوسها بالسريانية وبها انتشرت المسيحية، والمثال انه بفضل كنيسة المشرق النسطورية في بلاد الرافدين انتشرت المسيحية النسطورية في الهند والصين…
بعد دخول المسلمين الى سورية السنة 635م اخذت العربية بالانتشار فاحتلت مع الزمن موقعها وسادت، وقد قام الشماس عبد الله بن الفضل الأنطاكي وهو شيخ المعربين في الكنيسة الانطاكية الرومية بتعريب الطقوس الارثوذكسية في القرن 11م، مع بقاء اللغتين اليونانية والسريانية كلغتين طقسيتين في الكنيسة الرومية الارثوذكسية، وقد قوي عود اللغة اليونانية مجددا في الكرسي الانطاكي اعتبارا بين 1724 و1899 م وهي الفترة التي صارت فيها رئاسة انطاكية يونانية، كما ان اللغة الآرامية المنتشرة بين المسيحيين القلمونيين وكلهم روميون خلقيدونيون سواء كانوا ارثوذكساً ام كاثوليكاً (لعدم وجود اتباع الكنيسة السريانية اللاخلقيدونية في المنطقة) وحتى الآن في القلمون وابرزها معلولا و…حتى يبرود، ضعفت الآرامية مع بقاء بعض القرى في الجزيرة الفراتية، وشمال لبنان يتكلمون الآرامية والسريانية حتى القرن 17 واللغة المارونية هي آرامية سريانية بدورها وان كانت بأبجدية خاصة.
ومؤخرا بمبادرة فردية من المرحوم الاستاذ جورج رزق الله ابن معلولا اواخر القرن 20، قام بوضع ابجدية للغة الآرامية المتداولة شعبياً في معلولا (وهي امتداد اللغة الآرامية الفلسطينية التي سادت في فلسطين وتحدث بها الرب يسوع)، وأحدثَ المذكور معهداً لتعليم اللغة الآرامية بمباركة من الجهات المختصة تربوياً وثقافيا في سورية كون الآرامية من التراث السوري المتجذر.
وبالتالي فقد انتهى استخدام اللغة السريانية في طقوس الكنيسة الارثوذكسية في تلك المناطق، وخاصة القلمون ، ولاتزال موجودة بعض المخطوطات الطقسية الارثوذكسية بالسريانية في كنائس المنطقة الارثوذكسية وفي دير القديسة تقلا بمعلولا وقد تعرضت للسرقة مع بقية المخطوطات والايقونات حين اختلال التكفيريين معلولا وقيامهم بتدمير كنائسها واديارها وبيوتها، وتوجد بعض مخطوطات ليتورجية ارثوذكسية في مكتبة بطريركية انطاكية الارثوذكسية بدمشق وهي تدل على ان هذه اللغة الآرامية كانت لغة كل سكان سورية حتى من المسلمين وهناك قرى عين التينة وبخعا اضافة الى النبك ويبرود و…يتحدث مسنوهم الآرامية كأهل معلولا… وليست فقط لغة الكنيسة السريانية الشقيقة وحدها بعقيدتها المختلفة عن عقيدة الكنيسة الارثوذكسية وعن شقيقتها الكنيسة السريانية الأخرى، وهي الكنيسة المارونية الكاثوليكية..
وازدهرت اللغة العربية في الكنيسة الارثوذكسية مع ابن الفضل وماتلاه من البطاركة والاكليروس والعلمانيين المتفقهين بالعربية، ولكن بقيت اليونانية لغة طقسية شقيقة متجذرة في الكنيسة الارثوذكسية الانطاكية بحكم الوحدة الارثوذكسية مع البطريركيات اليونانية القسطنطينية والاسكندرية والاورشليمية ورئاسة اساقفة اليونان ورئاسة اساقفة قبرص.
التاريخ بالمختصر
رزحت سورية في تاريخها قبل دخول المسيحية تحت احتلالات كثيرة، فموقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية شدت اليها الطامعين، سيما وانها لم تتمتع بالقيادة المؤهلة لدفع خطر الغزاة والاحتلالات الطامعة بموقعها كجسر يربط الشرق بالغرب، كموقع طرق دولية في العالم القديم بين القارات الثلاث القديمة، للتجارة الدولية وقتئذ، بما في ذلك طرق التجارة مع الشرق الاقصى والمعروف عالميا بطريق الحرير، ماجعلها معبراً لجيوش القوى الغريبة المتصارعة والتي كانت تنقل معاركها الى ارض سورية كما في صراع الحثيين والمصريين القدماء، وصراع الفرس واليونان القدماء، ثم الرومان.
في ذلك يقول هورست كلينكل:” كانت سورية تفتح صدرها للمؤثرات الحضارية الخارجية وتعمل على تطويرها واذابتها في بوتقة التراث المحلي… وانصهرت فيها شعوب مختلفة، فكان الناتج هو مايمكن تسميته ب”السوريين”، هذا الشعب الذي ابدع في تطوير التيارات الثقافية المختلفة، واصبح يعد من اكثر شعوب العالم القديم تقدماً على الصعيدين الاقتصادي والحضاري ” (آثار سورية القديمة، ص15 و23).
يُقسم تاريخ سورية في الحقبة السابقة للفتح العربي الى 3 حقبات هي
1- فترة الشرق القديم بين 2500-333ق.م مع الاسكندر وفتوحاته ودولته العالمية المصبوغة بالثقافة اليونانية.
2- الفترة الهلنستية والرومانية بين 333ق.م و395م وهي انقسام الامبراطورية الرومانية.
3- الفترة الرومانية الشرقية او الرومية البيزنطية بين 395 و635م بالفتوحات الاسلامية لدمشق وبلاد الشام.
ساد الحثيون من كبادوكية سورية، ثم كانت دولة دمشق، التي اسسها حسب الروايات هيكوس بن آرام، والتي خضعت لسيادة داود. وخضعت في 733ق.م للملك الآشوري شلمنصر. ثم تجاذب السلطة على سورية البابليون والمصريون حتى احتلها الفرس. ووقعت تحت تأثير الحضارة اليونانية/ الهلنستية، كما كانت قد وقعت قبلاً تحت تأثير حضارات أخرى.
وكان قد زارها الاسكندر المقدوني مرتين: الأولى في طريقه الى مصر بعد وقعة ايسوس حيث أقام سنة كاملة تقريباً، والمرة الثانية في ربيع السنة 331 ق.م حيث شخص من مصر الى الفرات عن طريق نهر العاصي، ومن بعده خضعت سورية لخلفائه السلوقيين.
واصبحت سورية جزءاً ثابتاً ورئيساً من العالم الهلنستي ( اليوناني- الشرقي)، حيث التقى الشرق مع الغرب واشتبكا حضارياً بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، اذ هيمن الطابع اليوناني على المدن السورية الكبرى وخصوصاً الأحياء الجديدة التي اسسها السلوقيون الى جانب المدن الأصلية ومدينة انطاكية شاهد على التجذر الهليني مع اللاذقية…وافاميا…والمدن المنسية في سهول حلب وادلب…وفي الجنوب السوري حيث بصرى وشهبا و…القنيطرة والجولان.
لكن الشرق القديم بخصوصيته الآرامية القديمة ظل محتفظاً بنفسه في الارياف، ولم تنطفىء فيه روح الحياة الخاصة به.
كما لم تتأثر الجزيرة الفراتية شرق الفرات بالتيار الهلنستي العارم كما في غرب سورية وشمالها وجنوبها ووسطها، وساعد على ذلك لأن الفرس الفرتيين كانوا قد وضعوا حداً عسكرياً فاصلاً للسيطرة السلوقية على المناطق الواقعة الى الشرق من نهر الفرات في القرن الثاني قبل الميلاد، واستمدت الكنيسة الشرقية النسطورية والسريانية منعتها في بعض الازمنة من حماية اكاسرة الفرس لها من التغلغل اليوناني في الطقوس والتعليم.
واخيراً احتل الرومان سورية بقيادة القائد بومبيوس64ق.م فضم سورية الى الامبراطورية الرومانية وبقيت لأنطاكية المكانة وصارت عين الشرق كله وعاصمة الشرق الروماني.
عندما انشطرت الامبراطورية الرومانية الى قسمين شرقي وغربي في السنة 395م وقعت سورية في القسم الشرقي من الامبراطورية التي تسميت امبراطورية الروم الشرقية وعاصمتها القسطنطينية بيزنطة وحكمها الروم البيزنطيون وسادت اللغة اليونانية والكنيسة الارثوذكسية وهي الكنيسة الرسمية.
اما المناطق الواقعة شرق الفرات فقد ظلت بأيدي الفرس الساسانيين، خلفاء اسلافهم الفرتيين، ثم احتل العرب المسلمون سورية الطبيعية انطلاقاً من دمشق 635م.
وتحت الحكم الاسلامي تعاقب على ارض سورية فاحتلوها وحكموها من بعد العرب المسلمين وهم: الخلفاء الراشدون بين 634-661م
الخلافة الأموية وعاصمتها دمشق بين 661-749م، فالخلافة العباسية ومقرها في بغداد بين 749-868م، تلاهم الاخشيدونيون بين 868-905م، ثم العباسيون 905-937م، فالاخشيدونين/الحمدانيون 937-969م.
الروم البيزنطيون استعادوا سورية بين 969-1071م وفي 969-1144م بنو مرداس، 1027-1070م السلاجقة، الفاطميون بين 1070-1144م، بنو زنكي بين 1144-1175م، الايوبيون 1175-1265م، المماليك 1265-1516م
العثمانيون 1516- 1918م، الانتداب الفرنسي 1918-1946م
وكان الجنرال كاترو قائد قوات فرنسا الحرة في سورية قد اعلن وثيقة كاترو وهي الاستقلال الذي لم ينفذ الا في عام 1946 بجلاء المحتل الفرنسي والاستقلال الناجز لسورية.
جلاء المحتل الفرنسي عن سورية في 16 نيسان 1946 وبدء الحكم الوطني.
الخاتمة
اجتمعت في سورية وتفاعلت في العصور القديمة، وخاصة في العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية الحضارات كلها فمن الشرق نفذت الحضارة الفارسية ومابين النهرين والعراق والسورية الآرامية والفينيقية والكنعانية، ومن الغرب الحضارة اليونانية والهلنستية والرومانية والرومية.
هذه الحضارات تمازجت وتزاوجت وتصاهرت في سورية على مدى العصور، ويقول وال ديورانت:” أمسك المسيحيون السوريون بشعلة الحضارة اليونانية واسلموها الى العرب المسلمين…
لقد نشأ في سورية رجال عظام منهم اباطرة تولوا السلطة في رومة كفيليب العربي الحوراني(من شهبا) وافراد من اسرة كاراكلا الحمصية ولكن الاهم ان تأثير عظماء البيئة الحضارية السورية كالمعمار ابولودور الدمشقي قد أثرى اوابد روما الخالدة، كما ان فلسفة مدارس انظاكية فرضت ذاتها في اروقة الفلسفة الاوربية وصارت جزء منها وكانت حوران مخزن غلال روما وادلب مركز زيتها.
الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
بذلك محاولات من جانب بعض الدول أثناء المؤتمر الدبلوماسي في روما عام 1998، من أجل توسع نطاق الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بإدخال جرائم أخرى في اختصاصها، وبخاصة جرائم الاتجار الدولي غير المشروع فيها المخدرات (اقتراح دول الكاريبي) وجرائم الإرهاب (اقتراح الهند وتركيا) وكان المشروع المقدم من لجنة القانون الدولي ينص أيضاً على اختصاص المحكمة بجميع الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية الملحقة بالمشروع، ولم يتم اعتمد تلك الاقتراحات، وسواء لأسباب سياسية أو لاعتبارات تتعلق بعدم الاتفاق على تعريف مشترك بين تلك الدول لتلك الجرائم [1]. أو القول بأنه من الأفضل أن تترك ملاحقة مرتكبي الجرائم المقترحة للمحاكم الجنائية الوطنية بالا يتوسع في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية – من حيث الموضوع حتى تتفرغ هذه المحكمة لنظر الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي الإنساني [2].
ومع ذلك فقد ورد بالقرار (E) الملحق بالوثيقة الختامية للمؤتمر الدولي بما يلي : “إن مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين وقد اعتمد النظام الأساسي للمحكمة، يعترف بأن أفعال الإرهاب والاتجار الدولي غير المشروع في المخدرات هي من الجرائم شديدة الخطورة موضع الاهتمام الدولي .
لذا نوصى من جانبنا عند مراجعة نظام المحكمة الجنائية الدولية وفق المادة (121) من النظام الأساسي، إدراج جرائم الإرهاب وجرائم المخدرات، وفق التعريف المتفق عليه، في قائمة الإجرام التي تدخل في اختصاص المحكمة [3].
المطلب الأول: جريمة الإبادة الجماعية
(أ) تعريف جريمة الإبادة الجماعيةعرفت المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جريمة الإبادة، أو ما يطلق على هذه الجريمة أيضاً تعبير (إبادة الجنس Le genocide) بقولها : لغرض هذا النظام الأساسي، تعنى “الإبادة الجماعية” أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية دينية بصفتها هذه إهلاكا كلياً أو جزئياً:
قتل أفراد الجماعة (ب) إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة (ج) إخضاع الجماعة لأحوال معيشة يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً (د) فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة . (هـ) نقل أطفال الجماعة قسراً إلى جماعة أخرى.
وهذا هو نفس التعريف الذي سبق أن وضعته لهذه الجريمة اتفاقية منع الإبادة الجماعية والعقاب عليها التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر سنة 1948 [4]. ودخلت جيز النفاذ ابتداء من 12 يناير سنة 1951 [5].
وقد صدقت مصر على هذه الاتفاقية، حيث تم إقراراها بالقانون رقم 121 لسنة 1951 الذي حدد بدء العمل بها في مصر من 8 مايو 1952 [6]. وقد أخذ بهذا التعريف للإبادة الجماعية أيضاً : النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (المادة الرابعة) [7].
والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية لرواندا (المادة الثانية) [8]. وتعد جريمة الإبادة الجماعية، بسب شدة جسامتها، من الجرائم الدولية التي تعرض للخطر السلم والأمن الدوليين [9]. وفي بيان جسامة هذه الجريمة قالت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، في قضية (Jean Kamdanda) إن جريمة الإبادة الجماعية مثل الجرائم ضد الإنسانية، تصدم بشدة ضمير الإنسانية . وعلى الرغم من أن المحكمة المذكورة رفضت في حكمها هذا، التفرقة بين جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية من حيث درجة الخطورة التي تتضمنها كل منهما، إلا أنها في ذلك أكدت أن الجريمة الأولى “الإبادة الجماعية ” تشكل جريمة الجرائم [10].
ووفقاً لرأي جانب من الفقه، فإن جريمة الإبادة الجماعية تدخل ضمن صور الجرائم ضد الإنسانية، وإن كانت تتسم ببعض السمات الخاصة التي تميزها عن غيرها من تلك الجرائم [11]. وتأخذ بهذا الرأي بعض التشريعات الجنائية الوطنية، كما هو الحال بالنسبة لقانون العقوبات الفرنسي الجديد الذي تناول في الكتاب الثاني منه “الجنائي والجنح التي تقع على الأشخاص ” وجعل في مقدمتها الجنايات ضد الإنسانية [12]. وأول هذه الجنايات هي جريمة إبادة الجنس أو الإبادة الجماعية .
وقد عرفتها المادة 211/1 من القانون المذكور على نحو يتقارب إلى حد كبير مع التعريف الوراد في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والعقاب عليها لعام 1948 [13].
(ب) أركان جريمة الإبادة الجماعيةتعريف الجريمة بصفة عامة – بأنها عدوان على مصلحة يحميها القانون، ويختص القانون الجنائي بالنص عليها وبيان أركانها والعقوبة المقررة لفاعلها . ولا يختلف الأمر في جوهره – بالنسبة للجريمة الدولية فهي بدورها عدوان على مصلحة يحميها القانون، وينصرف تعبير القانون هنا إلى القانون الدولي الجنائي، وذلك الفرع من القانون الدولي الذي يتكفل بإسباغ الحماية الجنائية على مصلحة يرى جدارتها بتلك للحماية لكونها من الأعمدة التي ينهض عليها بناء المجتمع الدولي [14]. وهل يمكن أن نعرف الجريمة الدولية في أنها “سلوك إرادي غير مشروع، يصدر عن فرد باسم الدولة أو بتشجيع أو رضا منها، ويكون منطوياً على مساس بمصلحة دولية محمية قانوناً . ومن هذا التعريف نستخلص الأركان العامة التي تنهض عليها الجريمة الدولية وهي :-
ركن مادي : يتمثل في سلوك تترتب عليه نتيجة إجرامية
ركن معنوي: يستلزم أن يكون السلوك المتقدم صادراً عن إرادة حرة، بمعنى أن يتوافر لدى الجاني عناصر المسئولية الجنائية
ركن دولي : يتطلب أن يكون الفعل المرتكب صادرا بناء على طلب الدولة أو تشجيعها أو إرضائها ومنطوياً على مساس بالمجتمع الدولي [15].
وهدياً على ذلك فإنه يمكن القول بأن جريمة الإبادة الجماعية تقوم على أركان ثلاثة هي: موضوع أو محل ينصب عليه السلوك الإجرامي (جماعة بشرية معينة) والركن المادي ويتمثل في سلوك إجرامي معين يكون من شأنه إبادة الجماعة محل الاعتداء كليا ًأو جزئياً والركن المعنوي ويتطلب توافر القصد الجنائي الخاص – والركن الدولي يتطلب أن يكون الفعل المرتكب بناء على طلب الدولة أو تشجيعها أو رضائها ومنطوياً على المساس بالمجتمع الدولي
ونتناول هذه الأركان على النحو التالي
أولا: الموضوع إلى ينصب عليه السلوك الإجرامي (جماعة بشرية معينة)لكي يتوافر جريمة الإبادة الجماعية، وفقاً لنص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (التي نقلت المادة الثانية) من اتفاقية منع الإبادة والعقاب عليها لعام 1948، يجب أن يكون الجاني قد ارتكب سلوكه الإجرامي ضد جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه [16]. أي أن الأفعال الإجرامية ضد شخص أو أكثر من أعضاء إحدى الجماعات البشرية المذكورة إبادتها، وليس فقط بسبب الصفة الفردية للشخص الذي أصابه الفعل الإجرامي مباشرة [17]. ومن هذا المنطق لوحظ أن التميز بين البشر ” La discrimination” يدخل ضمن عناصر هذه الجريمة [18]. فهناك هدم لمبدأ المساواة بين الناس، الذي أقرته الشرائع السماوية، والمواثيق الدولية، باعتبار أن هناك مجرما أو مجموعة من المجرمين تقرر إبادة جماعة معينة من البشر بصفتها هذه على سطح الأرض وترتكب الأفعال الإجرامية التي من شأنها تحقيق هذه الإبادة، سواء في الحال أو بصورة بطيئة [19]. ومن أبرز التطبيقات المعاصرة لهذه الجريمة في القضاء الجنائي الدولي
جريمة إبادة جماعة “التوتسي في رواندا” [20].وقد حاولت بعض الدول المشاركة في مؤتمر روما الدبلوماسي توسيع نطاق الجماعات البشرية المشمولة بالحماية في نص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، جماعة سياسية أو اجتماعية ولم يأخذ بهذا الرأي.
ويذهب جانب من الفقه إلى أن إغفال ذكر هاتين الجماعتين في المادة المذكورة لا يشكل عبياً ذكر، لأن الجرائم الخطيرة التي ترتكب ضد جماعة سياسية أو اجتماعية بصفتها هذه بقصد إبادتها يمكن أن يشكل إحدى الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة (م7) [21]. بينما يذهب رأى آخر إلى أن استبعاد الجماعات الإنسانية والاجتماعية من مجال الحماية التي تقررها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية – تمشياً مع ذات الخطة التي اتبعتها اتفاقية منع الإبادة الجماعية والعقاب عليها لسنة 1948 ـ يعد قصوراً، ينبغي تداركه من أجل تدعيم حماية صفوت الجماعات [22].
ثانيا : الركن المادييتمثل الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية في سلوك إجرامي معين يأتيه الجاني، على أن يكون من شأن هذا السلوك إبادة جماعية (قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية ) وذلك وفقا للمادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية – سالفة الذكر – فإن السلوك الإجرامي المكون لهذه الجريمة يتخذ الصور الخمس الآتية :-
(أ) قتل أفراد الجماعة: تمثل الوسيلة المباشرة التي يستخدمها الجاني بقصد إبادة الجماعة محل الاعتداء . ويقصد القتل هنا القتل العمدي [23]. وهذا ما قضت به المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضية (Akayezu) وقد لجأت المحكمة لتحديد مضمون هذا الفعل إلى نصوص قانون العقوبات الرواندي المتعلقة بتعريف القتل العمدي . وهو احداث وفاة المجني عليه عمداً [24].
وفي القضية ثبت المحكمة الجنائية الدولية توافر سياسة الإبادة الجماعية في رواندا خلال سنة 1994 عن طريق المذابح التي وقعت بشكل منظم وفي كافة أنحاء البلاد ضد النساء والأطفال والشباب والشيوخ من التوتسي ( وهي الجماعة التي كان يراد إبادتها).
ومن هؤلاء المجنى عليهم من كان قد تجمع في الكنائس والمدارس، والمستشفيات والملاعب الرياضية، بل وبعض المؤسسات العامة بناء على وعود من بعض المسئولين في الإدارة المحلية بحمايتهم، ويتراوح عدد القتلى في المذابح كما أسلفنا ما بين خمسمائة ومليون قتيل [25].
وعلى ذلك فإن جرائم الإبادة الجماعية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترتكب إلا بطريق العمد، وبالتالي فلا مجال لفكرة الخطأ في ارتكاب هذه الأفعال، التي تعتبر أبشع وأخطر أفعال الإبادة [26]. ويلاحظ أنه لا يشترط لقيام جريمة الإبادة الجماعية أن يقع القتل على جميع أفراد الجماعة المعنية، إنما يكفي أن يقع على بعضهم [27]. وفقا لما ورد في نصوص أركان الجرائم التي وضعتها اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية تتحقق جريمة الإبادة الجماعية عندما يقتل مرتكب الجريمة شخصاً أو أكثر من أفراد الجماعة، ما دامت الأركان الأخرى قد توافرت [28].
(ب) الحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة
ويعتبر الاعتداء الجسيم على السلامة الجسدية أو النفسية لأعضاء الجماعة وسيلة من وسائل الإبادة وإن كانت أقل وحشية من القتل، ولا تؤدى إلى الإبادة المطلقة وبصفة حالية، إلا أنها تنطوي على قدر كبير من العدوان اللاإنساني، وإن جسامة الاعتداء هي التي يكون من شأنها إهلاك الجماعة – كليا أو جزئيا، بطريق غير مباشر [29]. ومن أمثلتها الضرب المفضي إلى إحداث عاهات مستديمة بهم والجرح أو التعذيب إلى الحد الذي يصيب ملكاتهم العقلية، أو تعريض الجماعة للإصابة بأمراض معدية أو التعذيب البدني والنفسي وهي جميعها أفعال تعتبر تمهيد للإبادة البطيئة مما يفقد أعضاء الجماعة القدرة على ممارسة وظائفهم في الحياة الاجتماعية [30].
وقد اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا المعاملة غير الإنسانية والاغتصاب والعنف الجنسي يدخل ضمن هذه الأفعال، ما دامت أنها كانت مرتكبة بقصد إبادة أفراد الجماعة محل الاعتداء (التوتسي ) [31].
ولا يشترط أن يكون الضرر البدني أو النفسي الجسيم الذي أصاب أعضاء الجماعة دائما، أي لا يشترط أن يكون هذا الضرر غير قابل للشفاء [32].
ومن أمثلة جرائم الإبادة الجماعية جرائم القتل والعنف الجنسي والتعذيب التي ارتكبها الرئيس اليوغسلافي السابق Solovodon Milosovic ضد مسلمي البوسنة والهرسك – والذي ينتظر المحاكمة عن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، إلى أن عاجلته المنية يوم الثلاثاء الموافق 14/3/2006 وينال جزاء ما فعل يوم الحساب من قبل رب العالمين [33].
(ج) اخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد اهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا
أهم ما تتسم به هذه الصورة للأفعال الإجرامية المكونة لجريمة الإبادة الجماعية، أن الوسائل التي يستخدمها الجاني أو الجناة لا تؤدي إلى إهلاك أو إبادة الجماعة كليا أو جزئيا في الحال، ولكن هذه الوسائل يكون شأنها تحقيق ذلك بصورة بطيئة ومن أمثلة تلك الأفعال: حرمان أفراد الجماعة من الغذاء أو الخدمات الصحية الضرورية أو الطرد المنظم من المساكن [34]. أو تكليف أعضاء الجماعة بأعمال شاقة مصحوبة بعدم توفير الغذاء والرعاية الصحية اللازمين [35].
ويعتبر إخضاع الجماعة بصورة عمدية لظروف من شأنها القضاء عليهم كلياً أو جزيئاً، وسيلة أخرى من وسائل ارتكاب جريمة ( إبادة الجنس) وهذه الوسيلة تتفق مع سابقتها في انطوائها على الإبادة البطيئة، فهي لا تتخذ صورة القتل أو الإيذاء الجسيم، وإنما تهدف إلى إخضاع الجماعة لظروف معيشية قاسية من شأنها القضاء عليهم ببطء … مثل عزلهم في أماكن مجدية خالية من عناصر الحياة أو تحديد إقامتهم في مناطق موبوءة دون تمكينهم من الحصول على الدواء [36].
(د) فرض تدابير تستهدف منع التناسل داخل الجماعة
إعاقة التناسل تمثل هي الأخرى وسيلة من الوسائل “إبادة الجنس” وهى تعتمد على أساليب بيولوجية تعوق نمو وتزايد وتكاثر أعضاء الجماعة المستهدفة، وذلك : بقطع الأعضاء التناسلية لرجال الجماعة أو تطعيم سكانها بعقاقير تفقدهن القدرة على الحمل [37]. أو إكراههن على استخدام الوسائل التي من شأنها منع الحمل أو على الإجهاض، أو الفصل بين الرجال والنساء أو الحرمان من الزواج [38].، وهناك العديد من الوسائل والطرق التي يكون من شأنها إعاقة تكاثر الجماعة
(هـ) نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى
تفترض جريمة الإبادة في هذه الصورة أن يقوم الجاني أو الجناة بنقل أطفال الجماعة المراد إبادتها – بالإكراه إلى جماعة أخرى لفصلهم تماماً عن جماعتهم الأصلية . ويستوى أن يكون الجاني قد استخدم لنقل أطفال الجماعة أفعال العنف المادي أو التهديد باستعماله أو أفعال الإيذاء النفسي التي تؤدي إلى إجبار أطفال الجماعة على الانتقال منها إلى جماعة أخرى [39].
لأن مثل هذه الأفعال تعتبر وسيلة للقضاء على ظاهرة تعاقب الأجيال والحيلولة دون اكتساب الأبناء للغة أو عاداتهم أو شعائرهم الدينية، بحيث ينشأ هؤلاء الأطفال نشأة أخرى متقطعة الصلة بجذورهم . ويستوى بعد ذلك ما إذا كان النقل تم إلى جماعة تكفل لهم الرعاية الصحية أو الثقافية أو الاجتماعية أو إلى جماعة تجردهم من هذه الرعاية الصحية أو الثقافية أو إلى مكان يتعرضون فيه لظروف قاسية.
وعلى ذلك لا يشترط لقيام الجريمة أن تحدث بالفعل إبادة الجماعة المعتدى عليها كلياً أو جزئياً ويجب أن نلاحظ، أن جريمة الإبادة الجماعية تتحقق بمجرد ارتكاب أحد الأفعال الإجرامية الخمسة السابقة، ما دام الإبادة الجماعية تتحقق بمجرد ارتكاب أحد الأفعال الإجرامية الخمسة السابقة، ما دام قد توافر لدى الجاني – أو الجناة – وقت ارتكاب الفعل نية إبادة الجماعة محل الاعتداء حتى ولو لم تتحقق الإبادة بالفعل كليا أو جزئياً [40].
وتشترط اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية التي وضعت نصوص أركان الجرائم، أن يصدر السلوك الإجرامي المكون لجريمة الإبادة الجماعية، في أي من صورة السابقة، في سياق نمط مماثل واضح موجه ضد الجماعة أو أن يكون من شأن السلوك أن يحدث بحد ذاته ذلك الإهلاك [41].
ويسأل الجاني الذى ارتكب أحد أفعال الإبادة الجماعية، سواء كان قد ارتكبه وحدة [42]. أو مع غيره، بوصفه فاعلا أو شريكا ويستوى أن تكون الجريمة في إحدى صورها السابقة قد تحققت في صورة تامة أو وقفت عند حد الشروع (المادة 25 – 3 أ، ب جـ من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ).
بالإضافة إلى ما سبق فإن الاتفاقية تؤتم أربع صور أخرى من صور السلوك الإجرامي لهذه الجريمة، وهي التأمر والتحريض، والشروع والاشتراك بقصد ارتكاب هذه الجريمة، ومحدد اتيان هذه الأفعال يمثل جريمة خاصة يستحق عنها مرتكبها المسائلة الجنائية حتى ولم لم تقع الجريمة الأصلية . (م3)، وذلك بصرف النظر عما إذا كان هؤلاء الأشخاص من الحكام المسئولين دستوريا أو من الموظفين العموميين أو من الأشخاص العاديين.
ثالثا : الركن المعنوي (وجوب توافر القصد الخاص – النية):بادئ ذي بدء الجرائم التي تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية هي في مجموعها جرائم عمدية وفي هذا المعنى تنص المادة 30 من النظام الأساسي للمحكمة على أنه :
ما لم ينص على غير ذلك، لا يسأل الشخص جنائيا عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ولا يكون عرضه للعقاب على هذه الجريمة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد وللعلم.
لأغراض هذه المادة، يتوافر القصد لدى الشخص عندما
يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بسلوك، ارتكاب هذا السلوك
يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بسلوكه، ارتكاب هذا السلوك، فيما يتعلق بالنتيجة . التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث والواقع أن تعبيري القصد والعلم الواردين في النص السابق يجب أن يتحدد مدلولهما على ضوء المدلول السائد للقصد الجنائي في العديد من التشريعات الجنائية والوطنية، وهو علم الجاني بعناصر الجريمة، واتجاه ارادته إلى احداث هذه العناصر أو إلى قبولها [43].
قاعة المحكمة
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نقول إن كلمتي القصد والعلم المنصوص عليهما في المادة 30 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية يشيران إلى عنصري العلم والإدارة الذين يقوم عليهما القصد الجنائي.
وفيما يتعلق بالقصد الجنائي في جريمة الإبادة الجماعية، فإنه يجب من ناحية، أن يتوافر القصد العام، وهو يقوم – كما هو معلوم، على نحو ما ذكرنا – عنصري العلم والإدارة، وينبغي أن يعلم الجاني أو الجناة، بماهية فعله أو أفعالهم الإجرامية، وبأن هذه الأفعال كالقتل والأذى البدني أو العقلي الجسيم … تنصب على شخص أو أشخاص ينتمون إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية دينية معينة . وأن الأفعال الإجرامية ترتكب ضد المجني عليهم بصفتهم أعضاء في الجماعة البشرية، وليس بصفتهم الفردية، وأن يكون من شأن تلك الأفعال إبادة أعضاء الجماعة كليا أو جزئيا ويتعين أيضا أن تتجه إرادة الجاني أو الجناة إلى هذه العناصر [44].
ولكن القصد العام لا يكفي وحدة لقيام جريمة الإبادة الجماعية وإنما يجب أن يتوفر القصد الخاص وقوامه أن يتوافر لدى الجاني أو الجناة، لحظة ارتكابهم السلوك الإجرامي قصد أو نية إبادة الجماعة البشرية محل الاعتداء كلياً أو جزئياً [45].
ويعتبر قصد أو نية الإبادة، أهم العناصر المميزة لجريمة الإبادة الجماعية [46]. ورغم أن النية من الأمور النفسية التي تثير بعض الصعوبات عند إثباتها [47].
فإنه، وكما قضت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، يمكن استخلاصه من بعض الوقائع المادية، ومن أقوال المتهم، ومن هذه الوقائع العدد الكبير من الضحايا المنتمين إلى الجماعة المجني عليها (التوتسي في رواندا) وكون أفعال ترتكب ضد أفراد الجماعة بسب انتمائهم إليها، على نطاق واسع في البلاد بشكل منظم .
ومن الوقائع الأخرى الهامة التي استدلت منها المحكمة في هذا الحكم على توافر القصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية، إنه ثبت لديها أن الجناة كانوا يقتلون أي فرد ينتمى إلى جماعة التوتسى بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة، والنساء الحوامل، بل امتد القتل ايضا إلى النساء الحوامل اللاتي ينتمين إلى الهوتو المتزوجات من التوتسي، لأن المجتمع يقوم على نظام أن الطفل ينتمى إلى جماعة أبيه [48].
أما إذا ثبت انتفاء قصد الإبادة لدى الجاني، فإن الفعل المرتكب يمكن أن يشكل جريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب إذا توافرت أركان أي منهما [49].
وفيما يتعلق بالركن المعنوي للشريك في جريمة الإبادة الجماعية، لوحظ أنه يتطلب أن يكون الشريك قد ارتكب فعله، كالمساعدة أو التحريض، عن علم وإرادة، وأن يعمل بأفعال الجناة الذين يشترك معهم، وأن هؤلاء الجناة سيرتكبون أفعالهم بقصد إبادة جماعية قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة كلياً أو جزئياً بصفتها هذه ولا يشترط أن تتوافر لدى الشريك قصد الإبادة [50]. ومؤدى ذلك أن الاشتراك في هذه الجريمة يكفي لتحقق ركنه المعنوي القصد الجنائي العام .
المطلب الثاني: الجرائم ضد الإنسانيةتم تعريف الجرائم ضد الإنسانية في المرحلة السابقة على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية [51].
طبقا للدراسات وتقصى جذورها فإن فكرة “الجرائم ضد الإنسانية” : قد ظهرت لأول مرة عام 1915 [52]. ولكن تعبير الجرائم ضد الإنسانية Le Crimes contre l’humanite ” لم ينشأ في القانون الدولي إلا بعد الحرب العالمية الثانية [53]. وقد ابتكر هذا التعبير ليشمل تحت وصف قانوني واحد الفظائع التي ارتكبها الألمان النازيون ضد المدنيون . والتي لم يكن من الممكن اعتبارها جرائم حرب، أو أنها تمثل انتهاكا للقانون الدولي بالمعنى الدقيق [54].
وقد أدرجت هذه الجرائم في المادة الإنسانية فقرة (ج) من النظام الأساسي لمحكمة نورمبرج التي نصت على أن الجرائم ضد الإنسانية هي : أفعال القتل العمد، والإبادة، والاسترقاق ، والأبعاد، والأفعال غير الإنسانية الأخرى التي ترتكب ضد آية جماعة من السكان المدنيين، قبل الحرب أو أثنائها، أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية لأية جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة أو مرتبطة بهذه الجرائم، سواء كان تلك الأفعال مجرمة أو غير مجرمة في القانون الوطني للدولة التي ارتكبت فيها [55].
وواضح من هذا النص، أنه يقسم الجرائم ضد الإنسانية إلى طائفتين من الجرائم،الأولى هي الأفعال غير الإنسانية التي تتمثل في القتل العمد، والإبادة والاسترقاق والأبعاد، وأي فعل غير إنساني آخر يرتكب ضد جماعة من السكان المدنيين قبل الحرب أو بعدها . أما الثانية فتشمل الاضطهادات لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية وفي جميع الأحوال فإنه يستوى أن تشكل الأفعال المرتكبة انتهاكا للقانون الداخلي في الدولة التي وقعت أم لا . مما يؤكد قاعدة سمو القانون الدولي على القانون الداخلي . ومن ناحية أخرى فإن النص يشترط في الأفعال المكونة للجرائم الإنسانية أن تكون قد وقعت تنفيذا لجرائم ضد الإنسانية، وفقا لهذا التعريف، ليست فئة مستقلة من الجرائم، وإنما هي تابعة أو ملحقة بجرائم الحرب [56].
وأيضا نصت المادة الثانية الفقرة (ج) من القانون رقم 10 الصادر في 20 ديسمبر سنة 1945 بشأن مجلس الدولة على ألمانيا، على تعريف الجرائم ضد الإنسانية بأنها ” الفظائع والجرائم التي تشمل ليس على سبيل الحصر القتل العمد، الإبادة، الاسترقاق والأبعاد والسجن والتعذيب والاغتصاب، وكل الأفعال غير الإنسانية الأخرى ضد السكان المدنيين والاضطهادات لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية سواء كانت هذه الجرائم، تشكل انتهاكاً للقانون الوطني للدولة التي ارتكبت فيها أم لا [57]. ويتميز هذا التعريف بأنه يقرر ذاتية واستقلال الجرائم ضد الإنسانية خاصة، وأنه يعكس ميثاق محكمة نورمبرج والذي لم يتطلب في الأفعال المكونة لهذه الجرائم أن تكون قد ارتكب أثناء الحرب أو بمناسبتها [58].
وقد عرفت المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة الجرائم ضد الإنسانية بقولها ” للمحكمة الدولية سلطة محاكمة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم التالية إذا ارتكبت في أثناء نزاع مسلح، سواء كان طابعة دوليا أو داخلياً وكانت موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدنيين (أ) القتل (ب) الإبادة (ج) الاسترقاق (د) الإبعاد (هـ) السجن (د) (ز) الاغتصاب (ح) الاضطهاد لأسباب أو عرقية أو دينية (ط) الأفعال اللاإنسانية الأخرى “.
وعلى الرغم من أن النص المذكور يشترط في الجرائم ضد الإنسانية أن تكون مرتبطة بنزاع مسلح، سواء كان ذا طابع دولي أو داخلي فإن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة نفسها حكمت في قضية ” tadic” سنة 1997 بأنه ليس من الضروري أن تكون هذه الجرائم قد ارتكبت أثناء نزاع مسلح وعلى هذا فإن القانون الدولي العرفي لا يشترط وجود صلة بين هذه الجرائم والنزاع المسلح [59].
أما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا عام 1994، فلم يشترط عند تعريفه للجرائم ضد الإنسانية ارتباطها بنزاع مسلح، وإنما تطلب في الأفعال المكونة لهذه الجرائم أن ترتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي على مجموعة من السكان المدنيين لأسباب قومية أو سياسية أو دينية [60]. إذ تنص المادة الثالثة من هذا النظام الأساسي على أنه للمحكمة الدولة لرواندا سلطة محاكمة الأشخاص المسئولين عن الجرائم التالية إذا ارتكبت كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أي مجموعة من السكان المدنيين لأسباب قومية أو سياسية أو إثنية أو عرقية أو دينية : (أ) القتل (ب) الإبادة (ج) الاسترقاق (د) الإبعاد (هـ) السجن (د) (ز) الاغتصاب (ح) الاضطهاد لأسباب أو عرقية أو دينية (ط) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ” [61].
هيئة المحكمة
وقد عرف جانب من الفقه، الجرائم ضد الإنسانية بأنها ” جريمة دولية من جرائم القانون العام بمقتضاها تعتبر دولة ما مجرمة إذا أقرت بحياة شخص أو مجموعة من الأشخاص الأبرياء أو بحريتهم أو حقوقهم، بسبب الجنس أو التعصب للوطن أو لأسباب سياسية أو دينية أو إذا تجاوزت أفرادها حالة ارتكابها جريمة ما إلى الاضرار بمجموعة أشخاص أبرياء أو بحريتهم أو حقوقهم، فإنها تستحق العقوبة المنصوص عليها [62].
وعرفها آخر بأنها الجرائم التي تنطوي على عدوان صارخ على إنسان معين أو جماعات إنسانية لاعتبارات معينة [63].
أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 فقد نص في المادة الثانية منه على أنه لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تميز عنصري بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو أي وضع آخر دون أي تفرقة بين الرجال والنساء ….) وفي المادة الخامسة منه نص على أنه ( لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الخاصة بالكرامة) [64].
ولقد وسعت المحكمة الجنائية الدولية من تعريف الجرائم ضد الإنسانية في النظام الأساسي لها وذلك في المادة السابعة الفقرة الأولى على أنه أي فعل من الأفعال التالية يشكل ” جريمة ضد الإنسانية متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم : (أ) القتل العمد (ب) الإبادة (ج) الاسترقاق (د) إبعاد السكان المدنيين وعن علم بالهجوم (هـ) السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد للقانون الدولي (و) التعذيب (ز) الاغتصاب أو الاستبعاد الجنسي أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي مثل الدرجة من الخطورة (ج) اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أون دينية، أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعروف في الفقرة الثالثة أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جرمية تدخل في اختصاص المحكمة (ط) الاختفاء القسري للأشخاص (ي) جريمة الفصل العنصري (ن) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالحصة العقلية أو البدنية.
وتتضح مظاهر التوسع في مدلول الجرائم ضد الإنسانية الذي حدده النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية [65].
وذلك بالمقارنة بمفهومها الذي كان سائدا ًمن قبل من عدة نواح فمن ناحية أولى يعكس ميثاق محكمة نورمبرج الذي يحصر نطاق تطبيق فكرة الجرائم ضد الإنسانية في الإفعال الإجرامية التي حددتها المادة السادسة فقرة (ج) ساقة الإشارة إليها – المرتكبة من الالمان أثناء الحرب العالمية الثانية متى كانت تلك الأفعال الإجرامية مرتبطة بجرمية العدوان، وبعكس النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا الذي اشترط في الأفعال المكونة للجرائم ضد الإنسانية أن ترتكب أثناء نزاع مسلح، سواء كان دوليا أو داخليا، فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، قد جعل هذه الجرائم مستقلة عن النزاع المسلح، الدولي أو الداخلي على حد سواء [66].
ومن ثم فإن الجرائم ضد الإنسانية مثل جريمة الإبادة الجماعية يمكن أن ترتكب في زمن الحرب أو وقت السلم، كما أنها يمكن أن ترتكب من ممثلي الدولة أو أي شخص آخر [67].
ومن ناحية اخرى، فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وسع من قائمة الأفعال الإجرامية التي تدخل في مجال الجرائم ضد الإنسانية، بما يتفق وتطور القانون الدولي الإنساني إذ تضمنت هذه القائمة، بالإضافة إلى كافة الصور التقليدية للجرائم ضد الإنسانية (كالقتل العمد، الإبادة، الاسترقاق، الإبعاد والسجن، والتعذيب، والاغتصاب، والاضطهاد ) مجموعة الأفعال الإجرامية الخاصة كالاستبعاد، والإكراه على الدعارة، والحمل الإجباري، والتعقيم الإجباري، وغيرها من الاعتداءات الجنسية الخطيرة المماثلة، وذلك بهدف توفير الحماية اللازمة الأكثر ضعفاً في المجتمع، وبخاصة النساء والأطفال [68].
أركان الجرائم ضد الإنسانيةيبين من نص المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، أن الجرائم ضد الإنسانية تقوم على الأركان الثلاثة الآتية :-
الركن الأول:أن يرتكب الفعل الإجرامي في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أية مجموعة من الكسان المدنيين :-
ويمكن أن يطلق على الركن تعبير “الركن الدولي [69]. وقد عرفته الفقرة 2/أ
ومن المادة سالفة الذكر بقولها ” تعنى عبارة ” هجوم موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين نهجا سلوكا يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها في الفقرة (1) ضد أية مجموعة من السكان المدنيين عملاً بسياسة دولة أو منظمة تقضى بارتكاب هذا الهجوم أو تعزيزا لهذه السياسة.
وفي هذا الصدد أيضا جاء من نص أركان الجرائم الذي وضعته اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية (في مقدمة المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة والمتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية، ما يلي :
يفهم الهجوم المباشر ضد السكان المدنيين في سياق هذا العنصر بأنه يعنى سلوكاً يتضمن ارتكاباً متعدداً لأفعال المشار إليها في الفقرة (1) من المادة (7) من النظام الأساسي ضد أي سكان مدنيين تأييدا لدولة أو سياسية تنظيمية بارتكاب هذا الهجوم ولا توجد ضرورة لأن تشكل الأفعال عملاً عسكرياً، ومن المفهوم أن السياسة الرامية إلى القيام بهذا الهجوم تستدعي أن تقوم الدولة أو المنظمة بتعزيز أو تشجيع فعلي للهجوم على السكان المدنيين [70].
ومؤدى ذلك أن الجرائم ضد الإنسانية تأخذ صورة الأفعال التي ترتكب على نحو واسع النطاق وبشكل منهجي فيكون في الغالب عدد الضحايا فيها كبيراً وبالتالي تخرج من نطاقها الجرائم الفردية التي يرتكبها شخص من تلقاء ذاته[71]. ويجب في ذات الوقت أن تكون هذه الأفعال (التي تشكل الهجوم واسع النطاق أو المنهجي ضد أية مجموعة من السكان المدنيين ) [72]. قد وقعت عملاً بسياسة دولة أو سياسة منظمة (غير حكومية) فعنصر سياسة الدولة أو المنظمة يعد عنصراً حاسماً في جعل الجرائم ضد الإنسانية تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية [73].، باعتبار أن هذه السياسة هي التي تضفي على الفعل الإجرامي المرتكب الدرجة الكبيرة في الخطورة التي تبرر اعتباره اعتداء على المجتمع الدولي بأسره [74]. فالإنسانية بأكملها هي المجني عليها في هذه الجريمة [75].
وعلى ذلك، إذا ارتكب الأفعال الإجرامية المنصوص عليها في المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، دون أن يكون هناك سياسة دولة أو منظمة، فإن الأفعال لا توصف بأنها جرائم ضد الإنسانية، وبالتالي لا تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية [76].
الركن الثاني : الركن المادييتكون الركن المادي للجريمة ضد الإنسانية من فعل إجرامي معين يمكن أن يتخذ، كما يتضح من نص المادة 7/1 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واحد من الإحدى عشر صورة الآتية :-
القتل العمدي
الإبادة : وتشمل تعتمد فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد اهلاك جزء من السكان (م7/2ب من النظام الأساسي).
الاسترقاق : ويعنى ممارسة أي من السلطات المرتبة على حق الملكية، أو ممارسة هذه السلطات جميعاً على شخص ما، بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال (المادة 7/2ج) من النظام الأساسي.
أبعاد السكان أو النقل القسري للسكان وقد حددت المادة (7ظ2د) من النظام الأساسي للمحكمة المقصود بهذا الفعل بأنه ” نقل الأشخاص المعنيين قسرا ًمن المنطقة التي يوجدون فيها بصورة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي” والإبعاد يتضمن الطرد للسكان من وطنهم . أما النقل القسري للسكان، فيتصور أن يتم من مكان إلى آخر داخل الحدود الوطنية للدولة [77]. ومن أبرز أمثلة هذه الجريمة ما ترتكبه إسرائيل من إبعاد للفلسطينيين عن أرضهم [78].
السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي
التعذيب : وقد بنيت المادة (7ظ2هـ) من النظام الأساسي معنى التعذيب بأنه تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة بدنياً عقلياً، بشخص موجود تحت إشراف التمتهم، وسيطرته ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءاً منها ونتيجة لها [79].
الاغتصاب أو الاستبعاد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري أو أي شكل العنف الجنسي : على مثل هذه الدرجة من الخطورة . وعلى الرغم من أن هذه الصورة للجرائم ضد الإنسانية معروفة منذ زمن طويل في تاريخ القانون الدولي، إلا أنها ارتكبت بصورة أكثر بشاعة في النزاع المتعلق بيوغسلافيا السابقة، حيث كان ترتكب الاعتداءات الجنسية الخطيرة المشارة إليها بصورة جماعية وأمام الجمهور واستخدمت ضد النساء المسلمات كوسيلة للتطهير العرقي، وارتكبت أيضا الجرائم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية الخطيرة الأخرى بصورة وحشية أثناء النزاع في رواندا وقد أصدرت محكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا أحكاما بالإدانة عن بعض هذه الجرائم ضد الإنسانية [80].
مع ملاحظة أن جريمة الاغتصاب تعتبر جريمة ضد الإنسانية إلا أنها تعدو وسيلة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، كما قضت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا [81].
وقد أوضح النص أن أركان الجرائم الذي وضعته اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية، أركان الاغتصاب الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية على النحو التالي:-
أن يعتدى مرتكب الجريمة (ذكرا كان أم أثنى) على جسد شخص بأن يأتي سلوكاً ينشأ عنه ايلاج عضو جنسي في أي جزء من جسد الضحية أو جسد الفاعل أو ينتج عنه إيلاج أي جسم أو عضو آخر من الجسد في شرج الضحية [82]. أو فتحة جهازها التناسلي مهما كان ذلك الإيلاج طفيفاً.
أن يرتكب الاعتداء بالقوة أو التهديد باستخدامها أو بالإكراه كأن ينشأ عن خوف الشخص المعنى من أن يتعرض هو أن الغير لأعمال عنف أو حبس أو اعتقال أو إيذاء نفسي أو سوء معاملة، أو باستغلال بيئته أو أن يرتكب الفعل على شخص لا يستطيع أن يعبر عن حقيقة رضاه.
أن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
أن يعلم مرتكب الجريمة أن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو ينوى أن يكون هذا السلوك جزءاً من ذلك الهجوم [83].
الاضطهاد ويقصد به حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرماناً متعمداً أو شديداً من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي م7/2ز) من النظام الأساسي للمحكمة، وكذلك نص المادة 7/1 ح من النظام الأساسي).
الاختفاء القسري للأشخاص – ويقصد به إلقاء القبض على أي من الأشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية أو بإذن أو دعم لهذا الفعل أو بسكوت عليه، ثم رفضها الإقرار بالحرمان لهؤلاء من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن تواجدهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة (م7/2/ط) من النظام الأساسي
الفصل العنصري : وتعنى جريمة الفصل العنصري، كما حددتها المادة (7/2/ح) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال المشار إليها في الفقرة (1) من ذات المادة سالفة الذكر وترتكب في سياق نظام مؤسس قوامه الاضطهاد والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام.
الأفعال اللاإنسانية الأخرى : وقد حددت اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية خمسة أركان لهذه الأفعال اللاإنسانية وهي :
أولا : أن يلحق مرتكب الجريمة معاناة شديدة أو ضرراً بالغاً بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية للسكان المدنيين بقصد ارتكاب فعلاً لا إنسانياً
ثانيا : أن يكون ذلك الفعل ذا طابع مماثل لأى فعل آخر مشار إليه في الفقرة 1/من المادة (7) من النظام الأساسي.
ثالثا : أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت طبيعة الفعل.
رابعا : أن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
خامسا: أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو ينوى أن يكون هذا السلوك جزءاً من ذلك الهجوم [84]. وعلى الرغم من أن تحديد مدلول الأفعال اللاإنسانية الأخرى يثير بعض الصعوبات في العمل [85].
الركن الثالث : الركن المعنويالجرائم ضد الإنسانية هي جرائم عمدية وبالتالي يلزم لقيامها توافر القصد الجنائي م 30 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية). فيجب أن يعلم الجاني بعناصر الجريمة وأن تتجه إرادته إلى تحقيق هذه العناصر، ولكن القصد العام لا يكفي لقيام الركن المعنوي فيها، وإنما يجب بالإضافة إلى ذلك توافر القصد الجنائي الخاص [86].
ومؤداه، كما يتضح من نص المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، علم المتهم لحظة ارتكابه الفعل الإجرامي أنه يرتكب فعله في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أيه مجموعة من السكان المدنيين الأمر الذي يقتضى أن يكون الفاعل عالم بالهجوم المشار إليه.
وبالنسبة لجريمة الفصل العنصري كصورة للجرائم ضد الإنسانية فإن القصد الجنائي الخاص فيها يتطلب أن يرتكب المتهم الفعل الإجرامي ” بنية الإبقاء على نظام الحكم العنصري الذي تمارس من خلاله جماعة عرقية واحد الاضطهاد والسيطرة على جماعة أو جماعات عرقية أخرى [87].
المطلب الثالث: جرائم الحربيقصد بجرائم الحرب : كل انتهاك لقوانين وأعراف الحرب [88]. وقد نصت الماد (8/1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن يكون للمحكمة اختصاص، فيما يتعلق بجرائم الحرب، ولاسيما عندما ترتكب في إطار خطة سياسية عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجريمة .
وتعتبر جرائم الحرب من الموضوعات التي طرحت للنقاش فقد أثارت خلافاً في مؤتمر روما، انتهى إلى اعتماد الماد (8) من النظام الأساسي والتي تضمنت أربع طوائف من الجرائم وهي :-
الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 أي تلك المرتكبة في النزاعات المسلحة الدولية.
الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف الواجبة التطبيق في النزاعات المسلحة الدولية.
الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف السارية على النزاعات المسلحة غير الدولية.
الانتهاكات الجسيمة للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف لعام 1949 أي تلك المرتكبة في النزاعات المسلحة غير الدولية فخلال مناقشات مؤتمر روما تم استعراض النص المتعلق بجرائم الحرب المقدم إلى الوفود، انشغالا كبيرا بسبب العدد الكبير من الاختبارات المتاحة والتي أظهرت العديد من الاختلافات فبينما وجد اتفاق عام تقريباً بشأن تضمين النص، من بين جرائم أخرى الجرائم الخطيرة التي تشكل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني المرتكبة خلال المنازعات المسلحة غير الدولية وعلى الأخص الانتهاكات الخطيرة للمادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف والبرتوكول الثاني في النص عليها . ومن الجدير بالذكر أن نص المادة (8) قد جاء أخيراً مشتملاً على انتهاكات القانون الدولي الإنساني
المرتكبة في النزاعات المسلحة غير الدولية على غرار البرتوكول الثاني الملحق باتفاقيات جنيف [89].
وكان من أهم الموضوعات التي أثارت خلافاً حول جرائم الحرب بشكل عام ما طالبت به الوفود العربية ودول عدم الانحياز، ومن إدراج نص يقضى بتحريم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، الأمر الذي تحفظت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، إضافة لعدد من الدول التي تملك أسلحة نووية، وتم في النهاية التوصل لتسوية قضت بتحريم كافة أسلحة الدمار الشامل، على أن تكون قد حرمتها اتفاقية دولية متعددة الأطراف، وكان هذا سيكون بإمكان الدول الممتلكة للسلاح النووي التذرع بعدم وجود هذه الاتفاقية، بينما سيكون على الدول الأخرى انتظار إبرام مثل هذه الاتفاقية [90].
وتعتبر جرائم الحرب من إحدى الجرائم التي أنشأت من أجلها المحكمة الجنائية الدولية .
وعلى ذلك نتناول أنواع جرائم الحرب في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حسبما حددتها المادة (8) من هذا النظام إلى قسمين رئيسين:
الأول : يشمل جرائم الحرب التي ترتكب في نطاق النزاعات الدولية المسلحة
الثاني : يتضمن جرائم الحرب التي تقع في مجال النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي [91]. ثم نتناول في نهاية ذلك أركان جرائم الحرب وذلك على النحو التالي:-
أولا : جرائم الحرب التي ترتكب في مجال المنازعات المسلحة الدولية وتنقسم هذه الجرائم إلى طائفتين هما:أ- الانتهاكات الجسيمية لاتفاقيات جنيف لعام 1949:حددت المادة (8/2)، (أ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هذه الجرائم بقولها لعرض النظام الأساسي تعنى جرائم الحرب، الانتهاكات الجسمية لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة
القتل العمد
التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية
تعمد إحداث معاناة شديدة أو الحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة.
إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمحافظة للقانون وبطريقة عابثة.
إرغام أي أسير حرب أو أي شخص مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية.
تعمد حرمان أي أسير حرب أو شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة .
الابعاد أو القتل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع.
أخذ الرهائن.
ويلاحظ أن هذا النص جاء مماثلا للمادة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة [92]. ولم تثار أثناء انعقاد مؤتمر روما أية صعوبات فيما يتعلق بإخضاع جرائم الحرب المشار إليها لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية . فهذه الجرائم تعتبر من الجرائم الخطيرة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره وهي تعتبر جزءاً من القانون الدولي العرفي، وقد نقلت أحكامها عن اتفاقيات جنيف لعام 1949 [93].
ويتضح من النص السابق، ومن نص أركان الجرائم الذى وضعته اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية [94]. أن الركن المشترك الذي تقوم عليه جرائم الحرب سابقة الإشارة يتمثل في أن يكون الفعل الإجرامي قد ارتكب في سياق نزاع دولي مسلح أو بشكل مرتبط بهذا النزاع وهذا الركن الذي يميز جرائم الحرب عن الجرائم العادية وعلى ذلك فالأفعال الإجرامية غير المرتبطة بالنزاع المسلح مثل القتل لدافع شخصية بحتة كالانتقام أو غيره لا تعتبر من قبيل جرائم الحرب . الركن الثاني المشترك أيضا بين الجرائم السابقة هو توافر صفة خاصة في المجنى عليه في الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف – فيجب أن يكون الشخص المجني عليه أو الأشخاص المجني عليهم من المشمولين بالحماية بواحدة أو أكثر من اتفاقيات جنيف لعام 1949 والركن المعنوي في هذه الجرائم يتطلب علم مرتكب الجريمة بوجود نزاع مسلح، وبأن فعله يقع على شخص أو أشخاص تسرى عليهم الحماية المتوفرة في اتفاقيات جنيف .
ب- الانتهاكات الجسيمية الأخرى لقوانين وأعراف الحرب التي تطبق على النزاعات المسلحة الدولية:وتشمل هذه الانتهاكات ست وعشرين جريمة بينتها المادة (8/2/ب) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهي :
تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أن ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية.
تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية، أي المواقع التي تشكل أهدافا ًعسكرية.
تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملا بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستحقوا الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون النزاعات المسلحة.
تعمد شن هجوم مع العلم بأنه هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو أحداث ضرر واسع النطاق الطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة.
مهاجمة أو قصف المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافاً عسكرية، بأية وسيلة كانت.
قتل أو جرح مقاتل استسلم مختاراً، يكون قد ألقى سلاحه أو لم تعد لديه وسيلة للدفاع.
إساءة استعمال علم الهدنة أو علم العدو أو إشارته العسكرية وزيه العسكري أو علم الأمم المتحدة أو إشارتها أو أزيائها العسكرية، وكذلك الشعارات المميزة لاتفاقيات جنيف مما يسفر عن موت الأفراد أو إلحاق إصابات بالغة بهم.
قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية، والاثار التاريخية، والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى شريطة ألا تكون أهدافا عسكرية .
إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف معاد للتشوية البدني أو لأي نوع من التجارب الطبية أو العلمية التي لا تبررها المعالجة الطبية أو معالجة الأسنان أو المعالجة في المستشفى للشخص المعنى والتي لا تجرى لصالحة وتتسبب في وفاة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص أو في تعريض صحتهم لخطر شديد.
قتل أفراد منتمين إلى دولة معادية أو جيش معاد أو إصابتهم غدراً.
إعلان أنه لن يبقى أحد على قيد الحياة.
تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه ضرورات الحرب.
إعلان أن حقوق ودعاوى الطرف المعادي ملغاة أو معلقة أو لن تكون مقبولة في أية محكمة.
إجبار رعايا الطرف المعادي على الاشتراك في عمليات حربية موجهة ضد بلدهم، حتى وأن كانوا قبل نشوب الحرب في خدمة الدولة المحاربة.
نهب أي بلدة أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عيه عنوة.
استخدام السموم أو الأسلحة المسممة.
استخدام الغازات المخالفة أو السامة أو غيرها من الغازات وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد أو الأجهزة.
استخدام الرصاصات التي تتمدد أو تتسطح بسهولة في الجسم البشري، مثل الرصاصات ذات الأغلفة الصلبة التي لا تغطى كامل الجسم والرصاصة أو الرصاصات المخرزة الغلاف.
استخدام أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاما لا لزوم لها أو تكون عشوائية بطبيعتها بالمخالفة للتعاون الدولي للمنازعات المسلحة، بشرط أن تكون هذه الأسلحة والقذائف والمواد والأساليب الحربية موضع خطر شامل وأن تدرج في مرفق لهذا النظام الأساسي، عن طريق تعديل يتفق والأحكام ذات الصلة الواردة في المادتين 121، 123.
الاعتداء على كرامة الشخص، وبخاصة المعاملة المهنية والخاصة بالكرامة.
الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الاكراه على البغاء أو الحمل القسري على النحو المعروف في الفقرة 2 (و) من المادة (7) أو التعقيم القسري أو أي شكل أخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضا انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات جنيف.
استغلال وجود شخص مدني أو اشخاص آخرين متمتعين بحماية لإضفاء الحصانة على العمليات العسكرية على نقاط أو مناطق أو قوات عسكرية معينة.
تعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة المبينة في اتفاقيات جنيف طبقا للقانون الدولي.
تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غني عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الامدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف .
تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزاميا أو طوعيا في القوات المسلحة الوطنية أو استخدامهم للمشاركة فعلياً في الأعمال الحربية.
ومن أهم ما تجد الإشارة إليه في الخصوص، أن النظام الأساسي الجنائية قد اعتبر قيام دولة الاحتلال بالاستيطان في الأرض المحتلة، جريمة حرب وذلك إلى جانب جريمة الحرب المتمثلة في قيام دولة الاحتلال بإبعاد أو نقل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها والمنصوص عليها من قبل في المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 [95].
ولقد كان النص على الاستيطان من جانب دولة الاحتلال في الأرض التي تحتلها ضمن جرائم الحرب – سببا رئيسياً دفع إسرائيل إلى التصويت ضد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية [96]. وحتى عندما وقعت اسرائيل على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في اللحظات الأخيرة التي كانت متاحة أمام الدول للتوقيع على النظام الأساسي للمحكمة ضد إسرائيل ومواطنيها [97].
ومن ناحية أخرى، يلاحظ فيما يتعلق بتحديد الأسلحة التي يعد استخدامها في إطار المنازعات الدولية المسلحة جريمة حرب، كانت العديد من الدول المشاركة في مؤتمر روما، حريصة على إدراج الأسلحة البيولوجية والأسلحة الكيماوية والأسلحة التي تصيب الإنسان بالعمي، ضمن الأسلحة المحظور استخدامها [98]. ولكن الدول الكبرى التي تملك أسلحة الدمار الشامل عارضت هذه الوجهة من النظر بحدة أن القانون الدولي لا يفرض حظراً على هذه الأسلحة بل إنه يسمح بحيازتها في حالات محددة [99].
ولقد ساهمة مصر بدور بارز من أجل إدراج استخدام الأسلحة النووية ضمن جرائم الحرب التي تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية [100].
ومع ذلك، لعدم إفشال مؤتمر روما رؤى عدم النص على هذه الأسلحة في النظام الأساسي للمحكمة في الوقت الحالية، وتمت صياغة الفقرة (20) من المادة (8/2/ب) سابقة الإشارة على نحو يسمح بإمكانية إضافة أسلحة محظورة أخرى في المستقبل إلى النظام الأساسي عند تعديله [101].
ويجب بطبيعة الحال، أن تكون الأسلحة النووية في مقدمة تلك الأسلحة المحظورة على أمل أن يتحقق الحظر الشامل على استخدام الأسلحة النووية [102].
ومن ناحية ثالثة، فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (م8) يكشف عن تطور في قواعد القانون الدولي بشأن جرائم الحرب المتمثلة في جرائم الاغتصاب وغيرها من الجرائم الجنسية التي ترتكب سواء في مجال النزاعات المسلحة الدولية أو النزاعات المسلحة غير الدولية [103]. حيث أعطيت هذه الجرائم الخطيرة أهمية خاصة [104].
فهي تعد جرائم حرب إذا توافرت فيها الأركان المنصوص عليها في المادة (8)، وتعد جرائم ضد الإنسانية عندما تتوافر فيها الأركان المبينة بالمادة (7).
ويذهب جانب من الفقه إلى أن التوسع في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم الجنسية الخطيرة والوصف القانوني المزدوج لهذه الجرائم يهدف إلى تحقيق غرضين أساسيين أولهما وهو تدعيم الحقوق الأساسية للنساء، والثاني هو الردع العام لتجنب أن تستخدم الاعتداءات الجنسية كوسيلة للتطهير العرقي، كما حدث في يوغسلافيا السابقة ورواندا [105].
وكذلك حرص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على تدعيم الحماية الدولية الجنائية للأطفال، فاعتبر تجنيد الصغار الذين يقل سنهم عن الخامسة عشرة سنة في إطار النزاعات الدولية المسلحة (أو النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي 9، تدخل في إطار جرائم الحرب [106].
ومن الأفضل بطبيعة الحال، ان يمتد خطر تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة الدولية أو الداخلية إلى انتهاء مرحلة الطفولة بكاملها، وهي طبقا لاتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الطفل لعام 1989، ثماني عشر سنة، ويجب أن يلاحظ في هذا الشأن، أنه باعتبار أن مقاومة الاحتلال هي حق مشروع بمقتضى القانون الدولي لكل شعب يحتل أرضه، فإن مساهمة الأطفال الفلسطينيين في المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي لا يثار بشأنها هذا الحكم [107].
ثانيا : جرائم الحرب التي تقع في مجال النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي (أي في النزاعات الداخلية المسلحة):تنقسم هذه الجرائم بدورها إلى طائفتين هما:
أ- الانتهاكات الجسمية للمادة (2) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949:نصت المادة (8/2/ج) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أربع أنواع لجرائم الحرب التي تندرج تحت الانتهاكات المشار إليها، الانتهاكات الجسيمة للمادة (3) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة 12 أغسطس 1949، وهي أي من الأفعال التالية المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكاً فعلياً في الأعمال الحربية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم وأولئك الذين اصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر:
استعمال العنف ضد الحياة والأشخاص، وبخاصة القتل بجميع أنواعه والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.
الاعتداء على كرامة الشخص، وبخاصة المعاملة المهنية والخاصة بالكرامة .
أخذ الرهائن.
إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون الضمانات القضائية المعترف عموماً بأنه لا غنى عنها .
وعلى أن ويلاحظ أن القواعد المتعلقة بجرائم الحرب المنصوص عليها في الفقرة السابقة لا تنطبق على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية مثل أعمال الشغب وأعمال العنف المنفردة والمتقطعة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة (م8/2/د) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية [108]. وقد تم أخذ هذا الحكم من المادة الأولى فقرة (2) من البروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية [109].
وتتمثل الأركان المشتركة التي تقوم عليها جرائم الحرب السابقة من ناحية وجوب أن يكون الفعل قد وقع في إطار أو بالارتباط بنزاع مسلح غير ذي طابع دولي، وأن يكون الفعل قد وجه ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكاً فعليا في الأعمال الحربية كالمدنيين، وهؤلاء هم خارج نطاق القتال والعاملين بالمجال الطبي بل وأفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم، والذين أصبحوا عاجزين عن القتال لأي سبب [110]. ومن ناحية أخرى فإن هذه الجرائم عمدية، ويتطلب فيها العلم بعناصر الجريمة واتجاه الإرادة إلى هذه العناصر، ويجب أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف التي تفيد قيام نزاع مسلح وأن يعلم بحالة المجني أو المجني عليهم [111].
ب-الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي:بادي ذي بدء وقد نصت المادة (8/2/هـ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على اثنتى عشرة صورة للأفعال الإجرامية اتي يمكن أن تتخذها الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف واجبة التطبيق على النزاعات المسلحة الداخلية وهي :-
تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية.
تعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة المبينة في اتفاقيات جنيف طبقاً للقانون الدولي .
تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملاً بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب القانون الدولي للمنازعات المسلحة .
تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية، والآثار التاريخية، والمستشفيات، وأماكن تجمع المرضى والجرحى، شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية.
نهب أي بلدة أو مكان حتى وأن تم الاستيلاء عليه عنوة.
الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضا انتهاكاً خطيراً للمادة (3) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع.
تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزامياً أو طوعيا في القوات المسلحة أو في جماعات مسلحة أو استخدامهم للمشاركة فعلياً في الأعمال الحربية.
اصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع، ما لم يكن ذلك بداع من أمن المدنيين المعنيين أو لأسباب عسكرية ملحة.
قتل أحد المقاتلين من العدو أو إصابته غدراً.
إعلان أنه لن يبقى أحد على قيد الحياة.
إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف آخر في النزاع للتشوية البدني أو لنوع من التجارب الطبية أو العملية التي لا تبررها المعالجة الطبية أو معالجة الأسنان أو المعالجة في المستشفى للشخص المعنى والتي لا تجرى لصالحة وتتسبب في وفاة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص أو في تعريض صحتهم لخطر شديد.
تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستلاء مما تحتمه ضرورات الحرب.
والقواعد السابقة لا تنطبق عليها أيضا، كما تقضى المادة (8/2/و) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، على حالات الاضطرابات والتوتر الداخلية، مثل أعمال الشغب أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة
كذلك حرص النظام الأساسي للمحكمة على النص صراحة على أنه ليس في القواعد المتعلقة بجرائم الحرب ما يؤثر على مسئولية الحكومة عن حفظ أو إقرار القانون والنظام في الدولة أو عن الدفاع عن وحدة الدولة وسلامتها الإقليمية بجميع الوسائل المشروع (م8ظ3)[112].
الهامش
[1] HENZELINE (Marc), la Cour penale international … Op Cit. R.p.s, 2001.p. 223
انظر في عرض الاتجاهات الموسعة لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية د. محمد ابراهيم زيد المحكمة الجنائية الدولية، مجلة الفكر الشرطي العدد الأول يناير سابق الإشارة اليه ص 52 -53.
[2] politi (Mauro) le statut de Rome de la our penale, international Le point de vue d. un negociateur, Op. Cit, (R.G.D.I.P.) 1999, p. 827.
[3] انظر د. ابراهيم محمد العناني، إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، مجلة الأمن والقانون العدد السابق الإشارة اليه ص 256 وانظر أيضا د. عصام عبد الفتاح مطر، الجريمة الإرهابية، دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية 2005 ص 2 وما بعدها د. محمد قوانس محب الدين، الإرهاب في القانون الجنائي على ا لمسئولين الوطني والدولي، رسالة دكتواره من المنصورة 1987 ص7.
[4] politie (Mauro), le statu de Rome de la cour penale international .. Op Cit (R.G.D.I.P) 1999, p. 830 et 831 Heneline (Marc). La Cour penale international … Op. Cit, R.p.s 20001 p. 223 et 224.
[5] انظر عرض نصوص هذه الاتفاقية الدولية د. محمود شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الأول، الوثائق العالمية، المرجع السابق ص 1009 وما بعدها.
[6] للمزيد في هذا انظر، د. محمود نجيب حسني، دروس في القانون االجنائي الدولي رقم 15 ص 38، د.محمد محي الدين عوض، دراسات في القانون الجنائي الدولي، مجلة القانون والاقتصاد، عدد مارس نسة 1965 ص 263، د. حسنين عبيد، الجريمة الدولية، المرجع ص 262 هامش رقم 1 من ذات الصفحة.
[7] Hut (Andre) et Koering، Joulin (Renee), Droit pernale international, Op Cit. No 21.p.32.
[8] انظر د.حسن الجوني، جريمة ابادة الأجناس في ضوء نظام المحكمة الجنائية الدولية، منشور في أعمال الندوة العلمية حول المحكمة الجنائية الدولية (تحدى الحضانة) سابق الإشارة، ص 226.
[10] Le Crime de genocide constitue le Crime de Crimes … et Maison (Rafa elle) le crime de genocide dans les premiers jugements du Tribunal penale internationale pour Rwada, R.G.D I. P. 1999,.P. 131.
[11] د.حسنين عبيد، المرجع السابق، رقم 91 ص 253، د.حسن الجوني، المرجع السابق ص 230. الهامش رقم 23
Broomhall (Bruce), la cour penale international … Op. Cit. R.I.D.P 1999. p.61.
وقيل أنها أيضا صورة مشددة من الجرائم الإنسانية انظر
Maison (Rafaelle), le Crime de genocide … Op. Cit. R.I.D.p. 1999.p.130.
[12] د.شريف سيد كامل، التعليق على قانون العقوبات الفرنسي الجديد القسم العام، رقم 6 ص 16.
[13] تنص المادة 211/1 من قاون العقوبات الفرنسي على أنه يكون جريمة الإبادة الجماعية كل فعل يرتكب بطريقة مدبره بقصد الإبادة كلياً أو جزئيا، لجماعة قومية أو عرقية أو تنتمي لسلالة معينة أو لدين معين أو لجماعة محددة بالنظر إلى أي معيار أخر تحكمي ويتحقق ذلك بارتكاب أحد الأفعال الآتية ضد أعضاء هذه الجماعة :- القتل العمد، الاعتداء الجسيم على سلامة الجسم أو العقل ضد أعضاء الجماعة، إخضاع الجماعة لظروف معيشية من شأنها القضاء عليها كلياً أو جزئيا، اخاذ تدابير لإعاقة التناسل داخل الجماعة، نقل الصغار قسرا من الجماعة إلى جماعة أخرى ويعاقب على الإبادة الجماعية بالسجن المؤبد إلى جانب العقوبات التكميلية المنصوص عليها في المادة 213/1 عقوبات وإن كنا نرى أن تكون عقوبة الإعداد لمن يرتكب لمن يرتكب هذه الجريمة حتى تتناسب مع الفعل .
[14] د.حسنين ابراهيم صالح عبيد، الجريمة الدولية، دار النهضة العربية، بدون سنة نشر، ص5.
[15] د.حسنين إبراهيم صالح عبيد، الجريمة الدولية، دار النهضة العربية، بدون سنة نشر، ص5.
[16] وسع المشرع الفرنسي من نطاق الجماعات محل الاعتداء في جريمة الإبادة الجماعية حيث ذكر من المادة 211/1 من قانون العقوبات، خلافا لنص المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن جريمة الإبادة الجماعية والعقاب لعام 1948، عبارة أو جماعة محددة بالنظر إلى معيار آخر تحكمي “انظر في ذلك”
[17] Crynfogel (Catheine) Crimes Court 1,humanite art 211- 1 a 213، 5. op, cit fasc 20 ma 91 p.27.
[18] MAISON (Rafaelle) le Crine de genocide dans kes premirs du tribunal penal international pour le Rwanda op, cit R.G.D. I. p 1999. 134 et 135.
[19] TRUCHE (pierre) et Bouretz (Pierre) Crimes de gurre، Grimes contre l’humanite op. cit no 52.p.1.
[20] ZAKR (Nasser) Amalyse specifique du crime de gemo cide dams le tribumal penale international pour le Rwanda. Op. cit R. Cit. R.S. C 2001 p. 266.
واجهت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في حكمها Akayesu سنة 1998 صعوبات فيو وصف جماعات كل من الهوتو والتوتسي في رواندا بأنها جماعات إثنية، لن أفراد هذه الجماعات يتقاسمون نفس اللغة ونفس القائمة، ولكن المحكمة توصلت في النهاية إلى أن قرار التوتسي في رواندا تشكل جماعة ثابتة مستمرة تدخل في نطاق الجماعات محل الحماية في المادة 2/2 من النظام الأساسي للمحكمة، وذلك بالاستناد إلى أبعاد تاريخية ترجع إلى فترة الاحتلال البلجيكي لرواندا، حيث قررت سلطات هذا الاحتلال هناك بداية الثلاثينات من القرن الماضي تقسيم السكان إلى ثلاثة مجموعات اثنية : الهوتو وتشك ل84% من السكان، والتوتسي وتمثل حوال 15% من السكان وجماعة Twas وتشكل حوالي 1% من سكان رواندا، ولتحقيق هذا الغرض (تقسيم السكان إلى جماعات إثنية) جعلت سلطات الاحتلال لكل رواندي بطاقة شخصية يذكر فيها اسم الجماعة التي ينتمي إليها ولاحظت المحكمة الجنائية الدولية سلطات الاحتلال لكل رواندي بطاقة شخصية يذكر فيها اسم الجماعة التي ينتمي إليها لاحظت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن ذكر الهوية الاثنية للشخص ظل معمولاً به حتى بعد استقلال رواندا ولم يبلغ إلا بعد المذابح البشعة التي حدثت في هذا البلد عام 1994م. انظر:.
MAISON (Rafaelle) le Crine de genocide dans kes premirs du tribunal penal international pour le Rwanda op, cit R.G.D. I. p 1999. 135 et 136.
[21] HeNazelim (Marc) la Cour penale international op. cit R.G. Di-p.1999 p. 224.
[22] ويذكر أصحاب أو أنصار هذا الرأي مثالاً يوضح النتائج التي ترتب على استعباد الجماعات السياسية من نطاق الجماعات محل الحماية في المادة الثانية من اتفاقية منع إبادة الجماعات والعقاب عليها لعام 1948، وتقابلها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو قتل ما يقرب من مليون شخص في كمبوديا من قبل جماعة الخمير الحمر فيما بين عامي 1975، 1985 أي ما يقرب من 40% من السكان . إذ لم توصف هذه الجريمة البشعة بأبها إبادة جماعية لأن الجناة والضحايا من نفس المجموعة العرقية، لأن الجماعة محل الاعتداء كانت سياسية، وبالتالي لا تشملها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، والعقاب عليها . للمزيد من هذا انظر د. محمود شريف بسيوني، الإطار العرقي للقانون الإنساني الدولية، التدخلات والثغرات والغموض “منشور في القانون الدولي الإنساني دليل التطبيق على الصعيد الوطني، إصدار اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالقاهرة سنة 2003 سابق الإشارة إليه ص 92، د. حسنين عيد، الجريمة الدولية، المرجع السابق رقم 98 ص 270- د. شريف سيد كامل، المرجع السابق، ص 63.
[23] Grynfogel (Catherine)Crines contre l’humanite, ART. 211 L a 213، 5 cit. Facczo. No 91. p. 21.
[24] ZAKR (NASSER) Analyes. Specifique du crinme de genocide. Op.cit R.S.c. 2001 , p. 265.
[25] ZAKR (NASSER) Analyes. Specifique du crinme de genocide. Op.cit R.S.c. 2001 , p. 265.
[26] د. عبد الواحد محمد الفار، الجريمة الدولية، المرجع السابق، 300.
[27] د. حسنين إبراهيم عبيد، الجريمة الدولية، المرجع السابق، رقم 96 ص 264..
[28] الأركان الأخرى التي ذكرتها اللجنة المشار إليها بصدد هذه الصورة لجريمة الإبادة الجماعية هي أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين تم قتلهم منتمين إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، أن ينوى مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية كليا أو جزئيا، وأن يصدر هذا التصرف في سياق نمط سلوك مماثل وواضح موجه ضد تلك الجماعة أو أن يكون من شأن هذا لتصرف في حد ذاته إهلاك الجماعة ( انظر في ذلك د. محمود شريف بسيوني، المرجع السابق ص 208، د. عمر محمود سليمان المخزومي، المرجع السابق، رسالة دكتوراه، ص374، 375.
[29] Truche (Pierre) et Bouretz (pierre). Crime s de guerre، Crimes de guerre، crimes .comre lihumante. Op cit no 52.p.1
[30] ZAKR (NASSER) Analyes. Specifique du crinme de genocide. Op.cit R.S.c. 2001 , p. 265.
[31] ZAKR (NASSER) Analyes. Specifique du crinme de genocide. Op.cit R.S.c. 2001 , p. 265.
[32] انظر في ذلك جريدة الأهرام المصرية، 14/3/2006.
[45] للمزيد من هذا الخصوص انظر د. حسنين عبيد، الجريمة الدولية، المرجع السابق سنة 2004 رقم 23 ص 60.
[46] Broomhall (Bruce) La Cour penale international . op. cit R.I.D. p 1999 p. 61, HENZELIN (Marc) la cour penale international .. op. it .R.p. S. 2001 . .224.
[47] د. محمود شريف بسيوني ” الإطار العرفي للقانون الإنساني الدولي ” المتداخلات والثغرات والغموض” في القانون الدولي الإنساني دليل للتطبيق على الصعيد الوطني، المرجع السابق، ص 92 93.
[48] Maison (Rafalle), le Crime de gemocide des les premiers Jugements du tribuna penale international op. cit RG. D. i.p 1999, p 138 et 139.
[49] Broo MHALL (Bruce) cit. R.I.D.p. 1999. p. 61.
[50] Maison (Rafalle) Op. cit RG. D. i.p 1999, p 144.
[51] Maison (Rafalle) Op. cit RG. D. i.p 1999, p 144.
[52] وذلك لمواجهة ما أطلق عليه في ذلك الوقت المذابح التي ارتكبها الاتراك ضد الأرمن فقيل بأنه تمت إبادة منهجية ومتعمدة من الدولة التركية ضد جزء من سكانها المدنيين خارج نطاق الحرب، وقد أصدرت فرنسا وبريطانيا وروسيا في 24 مايو اعلانا مشتركا حول هذه المذابح وعدوانها “بالجرائم ضد الإنسانية والمدنية ” وأكدوا على وجوب مسائلة أعضاء الحكومة التركية تلك الجرائم ” انظر في ذلك: Garibian (sevane) , souverainete et legalite en droit penal international le Comcept de Crime conter L.humanite dans et dans le discourse des jugues a Nuremberg, op cit p. 29 et marge no 2.
[53] للمزيد انظر د. حسنين عبيد، الجريمة الدولية، المرجع السابق، (بيان الأصول التاريخية للجرائم ضد الإنسانية، رقم ص 354.
[54] KHERA d(Rahi) la Competence de la cour penale international; op. cit D. 2000 Doctine, p. 588.
[55] Delmas، Marty (Mireille ) le Crime contre humanite, les dorits de l’homme et art 211 l’213,5 op cit fasc. 20. p 8 et 9.
[56] GARIBIAN (sevfane) souve Rainete et Legalite en droit . penale international le concept de Crine contre l’humanite dansle discourse des juges a nuemberg, op cit p. 32-33 انظر د. محمد يوسف علوان، الجرائم ضد الإنسانية في الندوة العلمية حول “المحكمة الجنائية الدولية” تحدى الحضانة التي تظمتها الحقوق دامعة دمشق واللجنة الدولية للصليب الأحمر في الفترة ما بين 3-4 نوفمبر سنة 2002 ص 202.
[57] Delmas، Marty (Mireille ) le Crime contre op cit R..S.C 1994. p 119.
[58] للمزيد انظر د. سوسن تمر خان بكة، الجرائم ضد الإنسانية في ضوء أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، رسالة دكتوراه، سابقة الإشارة إليها ص 57.
[59] د. محمد يوسف علوان، الجرائم ضد الإنسانية، في أعمال الندوة العلمية “المحكمة الدولية الجنائية تحدى الحصانة ” سابقة الإشارة ص 88.
[60] انظر د. محمود شريف بسيوني، الإطار العرفي للقانون الإنساني الدولي، المرجع السابق ص 88، و د. شريف سيد كام ل- المرجع السابق ص 75 وما بعدها .
[61] للمزيد انظر د. محمود شريف بسوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان المجلد الأول الوثائق العالمية، المرجع، المرجع السابق، ص 1016.
[63] انظر د. حسنين ابراهيم صالح عبيد، الجريمة الدولية، دراسة تحليلية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى 1979، ص 203.
[64] انظر في ذلك د. على يوسف الشكري، القانون الجنائي، المرجع السابق ص 149 وما بعدها، د. نبيل أحمد حلمى، ا لإرهاب الدولي وفقاً لقواعد القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، دون سنة طبع، ص 66.
[65] Huet (Amdre et koering، joulin (Renee) Droit penal international op. cit no 21 . p32.
[66] Henelin (marc) la cour penale international .op.cit. r. p. s 2001 p. 224 politi (mauro) le statut rome de la cour renale international ons op. cit R.G. D. ip 1999 . p. 831.
[67] Broomhall (Bruce, la cour penale international ..op. cit R.I.D p. 1999 , p. 6, et 62 kherad (Rahim) la competence de la cour penale. Internationale, op. cit, D, 2000 doctrinc, p. 588.
[68] politi (Mauro) L e statut de la cour penale، intenationlae. Op. it. R.C.d. I. p. 1999, p 832.
[69] للمزيد في هذا الخصوص : انظر د. حسين ابراهيم عمر، مفهوم الركن الدولي في الجريمة ضد الإنسانية، الجريمة الدولية رقم 94 ص 259، وأيضاً د. سوسن تمر خان بكة، رسالة دكتوراه سابقة الإشارة إليها، ص 241 وما بعدها .
[70] انظر عرض هذا النص د. محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية، المرجع الساق ص 212، المحكمة الجنائية الدولية، اعداد المستشار شريف غنام، اصدار اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالقاهرة، المرجع الساق ص 587.
[71] CARILLo، SALCEDO (juan، Antonio ), la cour penale international l’Humnte trouve une place dans le droit international, R.G.I.P، 1999, 23 et 55.
[72] بالنسبة للعسكريين يمكن أن تتحول إلى جرائم ترتكب كما حدث في العراق عند الغزو الأمريكي، ا لبريطاني كان يقوم الجنود الأمريكيين بمباشرة العنف الجنسي والقيام بربط العضو الذكري للرجال حتى يحتبس البول وكثيراً ما يؤدى إلى الوفاة وهناك العديد من الأفعال اللانسانية سوف تكشف عنها الأيام عن الغزو الملعون من الدولة المارقة (أمريكا) وحلفائها ويذهب بعض الباحثين إلى أنه كان من الأفضل أن ينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على امكان أن تتحول جرائم الحرب هذه إلى جرائم ضد الإنسانية ما دام أنها ارتكبت بشكل منتظم انظر في ذلك : د. محمد يوسف علوان، الجرائم ضد الإنسانية، المرجع السابق ص 213.
[73] للمزيد د. محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق، رقم 28 ص155، 156، الاطار العرفي للقانون الإنساني الدولي، المرجع السابق ص 90.
[74] Broomhall (Bruce), la cour penale international . op. cit R.i. d. p. 1999.p62.
[75] Carrillo، Salce do (juan، Antonio) , la penale internationale, L’Humanite trouve une place dans le droit international, R.G.d. I. p. 1999 p.23 et ss.
[76] اللمزيد في هذا الشأن انظر د. عبد العظيم وزير، قراءة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق، ص 22.
[77] د. محمد يوسف علوان، الجرائم الإنسانية، امرجع السابق ص 216.
[78] د. عبد العزيز وزير، قراءة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية – المرجع السابق ص 22.
[80] د. سوسن تم رخان بكة، الجرائم الإنسانية في ضوء احكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، رسالة دكتوراه، سابق الإشارة إليها ص 365 وما بعدها .
[81] Amison (Rafaelle) le crime de qenocide dans les premiers jugements du tribunal penale internationale pour le Rwanda, op. c. it. R.G. I.p. 1999, p. 138 et 1939.
[82] اانظر في ذلك د. محمود نجيب حسني، الموجز في قانون العقوبات، القسم الخاص سنة 1993 رقم 668 ص 447، د. احمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص سنة 1991 رقم 419 ص 652، د. شريف سيد كامل، جرائم الاعتداء على الأشخاص سنة 2004، رقم 172 ص 217 وما بعدها .
[83] د. شريف سيد كامل، اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق ص 84.
[84] للمزيد انظر د. محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق ص 223.
[85] Henzelin (marc) la cour penale international . op. cit. R.P.S, 2001, p. 225.
[86] انظر في ذلك د. حسنين عبيد، الجريمة الدولية، المرجع السابق رقم 94 ص 258.
[87] د. أحمد عبد الحميد محمد الرفاعي، النظرية العامة للمسئولية الجنائية (القصد الجنائي الدولي) مؤسسة الطوبجي للتجارة والطباعة والنشر، القاهرة سنة 2005، ص 151 وما بعدها، د. عبد الله الأشعل، النظرية العامة للجزاءات الدولية في القانون الدولي الطبعة الأولى، سنة 1997 ص 27 وما بعدها
[88] د. سعيد عبد اللطيف حسن “المحكمة الجنائية الدولية” دار النهضة العربية، القاهرة سنة 2004 ص 245.
[89] انظر نص المادة (8/2هـ جـ، د، و ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
[90] د. محمود شريف بسيوني “تقييم النظام الأساسي للمحكمة االجنائية االدولية “دراسات في القانون الدولي الإنساني، دار المستقبل العربي، القاهرة 2000 ص 456.
[91] Broohall (Bruce) , la cour penaleinter، international .. op. cit R.I.D. p. 1999. p[. 62.
[92] Huet (Andre) et koering، Joulin (renee) Droit penale international . o. cit no 21 p. 32.
[93] انظر أ. هرمان فون هيبل، تعريف جرائم الحرب في نظام روما الأساس، منشور في ندورة “المحكمة الجنائية الدولية : تحدى الحصانة “سابقة الإشارة إليها ص 249.
[94] انظر عرض هذه النصوص، د. محمود شريف بسيوني، المحكمة االجنائية االدولية ص 226 وما بعدها .
[95] انظر الاستاذ هرمان فون هيل، تعريف جرائم الحرب في نظام روما الأساسي، الندوة سابقة الإشارة ص 254.
[96] انظر د. عبد العظيم وزير، قراءة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق ص 23.
[97] د. صلاح الدين عامر، اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة مجرمي الحرب، والقانون الدولي الإنساني في دليل للتطبيق على الصعيد الوطني سنة 2003، ص 478.
[103] انظر في ذلك الشأن الأستاذ / هرمان فون هيبل، تعريف جرائم الحرب في نظام روما الأساسي، المرجع السابق، ص 252.
[104] oliti (mauro), le statue de rome de la cour penale inte rmational le . op. it , (R.G.D. I. p) 1999, p. 835.
[105] KHERAD (Rahim) 1, Competence de la cour penale international op. cit d 2000, doctrine. P.589.
[106] oliti (mauro) op. cit R.G. D. I. p. 835. KHERAD (Rahin) op. it D. 2000 Doctrine,p. 589.
[107] للمزيد اانظر في ذلك د. عبدالعظيم وزير، قراءة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق، ص 25.
[108] HENZELIN (MARC) la , cour penale، international . op. cit . R.P.S 2001 , p. 225.
[109] انظر في ذلك الأستاذ / هرمان فون هيبل، تعريف جرائم الحرب في نظام روما، الأساسي، المرجع السابق لص 250 وانظر أيضا في عرض نصوص البروتوكول المشار إليه : موسوعة القانون الدولي الإنساني، اعداد الأستاذ / شريف علتم والأستاذ / محمد ماهر عبد الواحد، إصدار بعثة اللجنة الدولةي للصليب الأحمر بالقاهرة، سنة 2002، ص 352 وما بعدها .
نعني بعمارة الكنيسة عمارة مباني الكنائس المسيحية. وقد تطورت عمارة مباني الكنائس على مدى ألفي سنة مسيحية، جزئياً عن طريق الابتكار وجزئياً عن طريق محاكاة الأساليب المعمارية الأخرى، فضلاً عن الاستجابة لتغير المعتقدات والممارسات والتقاليد المحلية.
منذ نشأة المسيحية وحتى الوقت الحاضر، كانت أهم عناصر التحول للهندسة المعمارية والتصميم المسيحي الكنائس العظيمة للرومية البيزنطية ، وكنائس الدير الرومانيكية، والكاتدرائيات القوطية، وبازيليكات النهضة مع تأكيدها على التناغم بين اكثر من هندسة وطراز.
كانت لهذه المباني الكبيرة، المزخرفة في كثير من الأحيان والمرموقة ذات الهندسة المعمارية سمات مسيطرة في البلدات والريف التي كانت موجودة فيها. ومع ذلك ، كانت الكنائس الأبرشية في العالم المسيحي، وعددها أكثر بكثير، مركز اللقاء المسيحي في كل مدينة وقرية. في حين أن العدد القليل من الأعمال الفنية المعمول بها هو مساواة الكنائس الصغيرة بالكاتدرائيات والكنائس الكبرى، ونشير الى ان الأغلبية تطورت على طول الخطوط الأبسط، مبينة تنوعاً إقليمياً كبيراً بين كل مكان وآخر، وكثيراً ما تظهر التكنولوجيا المحلية والديكور في عمارة الكنيسة المحلية.
في بناء الكنائس تم في البداية تعديل المباني من تلك المخصصة أصلاً لأغراض أخرى كالاجتماعات العامة مثلاً، ولكن مع ظهور الهندسة الكنسية المميزة، جاءت مباني الكنيسة وكانت هي صاحبة التأثير الكبير على المباني المدنية فصار مهندسوها يقلدون هندسة العمارات الكنسية.
في القرن العشرين، كان لاستخدام المواد الجديدة، مثل الصلب والخرسانة ، تأثير على تصميم الكنائس.
يقسم تاريخ العمارة الكنسية نفسها إلى فترات، وإلى البلدان أو المناطق ،والى الانتماء الطائفي او العقيدي. ونشير الى أن التغييرات في الممارسة الليتورجية بين فرع كنسي وآخر، قد تؤدي إلى تغيير المباني الكنسية القائمة، وقد يتم تغييراستخدام مبنى تم بناؤه بواسطة مجموعة دينية من قبل مجموعة اخرى لها أغراض مختلفة. ( كما هو حاصل اليوم في اوربة ببيع الكنائس)
أصول وتطور بناء الكنيسة يتألف أبسط مبنى للكنيسة من مساحة واحدة للاجتماعات والصلوات، مبنية من مواد متاحة محلياً وتستخدم نفس مهارات البناء مثل المباني المحلية. مثل هذه الكنائس كانت مستطيلة بشكل عام، لكن في الدول الأفريقية مثلاً حيث المساكن الدائرية هي القاعدة، يمكن أن تكون الكنائس الدارجة دائرية. كذلك يمكن بناء كنيسة بسيطة من الطوب الطيني، والقطع المنقسمة أو الركام. قد يكون مسقوفًا باستخدام القش والقوباء المنطقية والحديد المموج أو أوراق الموز. ومع ذلك، وكذلك الكنائس في اليابان والصين تأخذ شكل الابنية التراثية السائدة لجهة الشكل العام والسقوف.
لكن جماعات المؤمنين المسيحيين المتزايدة بدءاً من القرن الرابع فصاعداً، سعت إلى تشييد مبانٍ للكنائس كانت دائمة ومذهلة من الناحية الجمالية. وقد أدى هذا إلى تقاليد استثمر فيها المسيحيون ورئاساتهم والقادة المحليون الوقت والمال والهيبة الشخصية في بناء الكنائس وتزيينها لمجد الله كما في روسيا القيصرية.
في أي أبرشية، غالباً ما تكون الكنيسة المحلية هي أقدم مبنى وهي الاجمل، وهي أكبر من أي مبنى يعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر باستثناء ربما حظيرة رهبانية او دير. غالباً ما تكون الكنيسة مبنية من أكثر المواد المعمارية المتاحة ، وغالباً ما تكون مكشوفة من الحجر أو الطوب. لقد طالبت متطلبات الليتورجيا الكنسية عموماً أن تمتد الكنيسة من قاعة واحدة إلى قاعتين رئيسيتين، أحداهما للرعية والآخرىالتي فيها يؤدي الكاهن طقوس القداس الالهي، اي في هيكل الكنيسة وفيه المذبح والمائدة المقدسين، ولكن في حالة وجود عدد كبير من الكنائس القديمة، فقد تم تمديد المبنى جزئياً، وأجزائه المختلفة التي تشهد على تاريخه المعماري الطويل وعدد مؤمنيه الكبير.
البدايات في القرون الثلاثة الأولى للكنيسة المسيحية المبكرة ، كانت ممارسة المسيحية كما هو معروف غير قانونية وممنوعة وان كان قد تم بناء القليل من الكنائس سراً وبالتورية.
في البداية وفي بعض المناطق صلى اليهود المتنصرين مع الوثنيين السابقين في الكنس اليهودية وفي بيوت خاصة. وبعد انفصال اليهود والمسيحيين استمر الأخيرون في العبادة في البيوت، المعروفة باسم كنائس المنازل. كانت هذه في كثير من الأحيان منازل للأثرياء أعضاء الإيمان. يكتب القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “إن كنائس آسيا ترسل تحياتها. يرحب بك أكويلا وبريسكلا، مع الكنيسة في منزلهما…” والمقصود هنا جمهرة المؤمنين بالرب يسوع التي كانت تجتمع في هذا البيت للصلاة بحرارة الى الرب يسوع.
و بيت القديس حنانيا الرسول في دمشق مثلاً.
لاحقاً تم تكييف بعض المباني المحلية لتصبح كنائس مسيحية. واحدة من أقدم المساكن التي بنيت بعد فترة وجيزة السنة 200مسيحية في دورا اوربوس في الرقة السورية حيث تم إنشاء غرفتين في البناء الواحد، عن طريق إزالة الجدار، وتم إنشاء منصة، وعلى يمين المدخل خصصت غرفة صغيرة للمعمودية المقدسة.
من كنيسة البيت إلى الكنيسة منذ أوائل المسيحية ونظراً للحظر والاضطهادات العنيفة وحتى براءة ميلان السنة 313 م كانت معظم الكنائس المسيحية (جماعة المؤمنين) تتعبد في الدياميس حيث قبور الشهداء المسيحيين، وفي الكهوف كمغارة القديسين بطرس وبولس في انطاكية، وقبو بيت حنانيا الرسول اول اسقف لدمشق، وفي القبو الذي كان على اسم مريم في دمشق (كنيسة مريم- المريمية) بعيدا عن اعين اليهود المتعصبين والسلطات الرومانية الوثنية، ويتزامن مع بيت حنانيا بدمشقفي اواخر العقد الرابع من القرن المسيحي الاول.
الكاتدرائية المريمية بدمشق اقدم كنيسة في العالم وتعود الى عام 38 مسيحية
كانت العبادة كما اسلفنا تمارس سراً حيث يجتمع الاخوة في عشاء المحبة في كل ليلة يكسرون الخبز كما فعل الرب يسوع في العشاء الأخير. بعض الكنائس الرومانية ، مثل بازيليك سان كليمنتي في روما ، بنيت مباشرة على البيوت حيث يعبد المسيحيون الأوائل.
اذن في الامبراطورية الرومانية بنيت لاحقاً الكنائس مكان بعض الكنائس الرومانية المبكرة الأخرى المبنية خلال القرون الثلاثة الدامية على مواقع الاستشهاد المسيحي أو عند مدخل سراديب الموتى حيث تم دفن المسيحيين.
مع انتصار الإمبراطور الروماني قسطنطين في معركة ميلفيان بريدج عام 312 ميلادية ومرسومه الشهير من ميلانو السنة 313مسيحية ، أصبحت المسيحية ديانة شرعية ومن ثم ديانة الإمبراطورية الرومانية المميزة بقرار الامبراطور ثيوذوسيوس الكبير 387م ، وقد امر بالمسيحية ديناً بديلاً عن الوثنية وحول ممتلكات الوثن والمعابد الوثنية واوقافها الى كنائس لتمجيد اسم الله الحي...
إن الإيمان، المنتشر بالفعل حول حوض البحر الأبيض المتوسط ، يعبر الآن عن نفسه في المباني التي يمارس فيها هذا الايمان ونقصد بذلك الكنائس. تم تصميم العمارة المسيحية لتتوافق مع الأشكال المجتمعية، وهكذا أصبحت الكنيسة، وهي قاعة كبيرة مستطيلة للاجتماعات، تصميماً عاماً في الشرق والغرب، كنموذج للكنائس، مع صحن الكنيسة والممرات… وكانت البازيليكا المدنية مختلفة عن بازيليكا الكنيسة المسيحية فهذه كان فيها عادة حنية واحدة حيث يجلس الأسقف والكهنة في المنصة خلف المذبح. في حين كان للكنائس الوثنية تمثالًا للإمبراطور، ركزت العبادة المسيحية على اقامة العبادة للاله الحي واجراء الذبيحة الالهية على القربان المقدس كرمز للإله الأبدي والمحب والغفوروتذكاراً لسر الفداء بالذبيحة الالهية على القربان الخبز والخمر رمزاً لجسد ودم الرب يسوع، فبالمسيح تحولت ذبيحته الدموية على الصليب الى ذبيحة غير دموية بحلول الروح القدس على المائدة المقدسة بعد ذبح القربان او الخبز المقدس الذي يرمز الى جسد الرب على المذبح المقدس في الهيكل المقدس.
كنيسة حنانيا الرسول وتعود الى اواخر العقد الرابع في القرن المسيحي الاول
هندسة الكنائس في سورية
لاشك ابداً ان سورية بلد المسيحية حتى اعماق البادية والصحراء، وفي ذرى الجبال الوعرة، وفي البراري والبساتين والغابات. وبها تزخر البلاد السورية برقعتها الكبيرة بالأوابد المسيحية الموثقة لتجذر المسيحية منذ نشأتها وحتى حاضرنا المعاصر.
فبلادنا السورية تحوي أقدم وأغزر وأجمل الآثار المسيحية في العالم، ولايضاهيها في هذا المضمار، بلد آخر. فقد فاق عدد الكنائس في سورية في القرنين الخامس والسادس المسيحيين اي منطقة اخرى على الاطلاق، وكانت سورية ولاية من ولايات الامبراطورية الرومية البيزنطية التي كانت تدعى “المسكونة” وتمتد من بريطانيا غرباً حتى حدود فارس شرقاً، ومن الدانوب في قلب اوربة شمالاً حتى الصحراء في قلب افريقيا جنوباً.
ونظرة سريعة على اوابدنا المسيحية في سورية الطبيعية، وكانت عاصمتها انطاكية وتليها دمشق (بصفتها منطلق المسيحية بتنصير شاول المضطهد وانطلاقته رسولاً للايمان الى جنوب البلاد والعربية ثم شمال البلاد وانطاكية وآسية الصغرى وكل العالم المعمور)، يدرك عظم اهمية هذه الأماكن المسيحية التي بات معظمها مندرساً كالمدن المنسية…ومنها مابقي يقارع الزمن ويتجلى بقدسيته اكثر فأكثر كالأديرة العامرة واولها بلا منازع دير سيدة صيدنايا البطريركي بهندسته الفريدة كالحصون والكاتدرائية المريمية اقدم كنيسة في العالم…و…و…
كانت التجمعات المسيحية تتلو الاديرة فالرهبان كانوا يسبقون في قلاليهم المنفردة تجمعات السكان، كمنسك سمعان العمودي، ورهبان القورشية في قورش ومتزعمهم القديس مارون في الشمال السوري…
مغارة القديسين بطرس وبولس في انطاكية اقدم كنيسة وتعود الى سنة 42 مسيحية وكانت مقر بطرس الرسول اول بطريرك على انطاكية العظمى
كان المؤمنون بعد استقرار راهب او تجمع رهباني كدير او… يلتفون حول الرهبان فتنشأ التجمعات السكانية ويكون هذا الراهب او احد رهبان الدير الرهباني كاهنها وهاديها…وتنشأ بايدي هؤلاء الرهبان الاديرة كما فعل تلاميذ القديس سمعان العمودي ببناء ديره حول العمود الذي عاش عليه…على سبيل المثال…
هذه التجمعات الجميلة من المدن والقرى المسيحية في السهول والتلال والجبال ببياض حجارة مبانيها او سوادها (كما في جنوب سورية والعربية) تتوسطها الكنيسة او الكنائس وحتى الاديرة يهندستها المميزة واشكال صلبانها وسط طبيعة خلابة سواء كانت خضراء كما في وادي العمق من حمص وحتى انطاكية مروراً بحماة وادلب…
دير سيدة صيدنايا البطريركي ويعود الى عام 518م وبني بأمر الامبراطور يوستنيانوس بعد اعجوبة ظهور العذراء عليه وهي من امرته ببناء دير على اسمها للراهبات المتوحدات
او طبيعة صحراوية جبلية جرداء كما في عدرا والقلمون كمعلولا وفيها دير القديسة تقلا حيث اختارت التوحد والرقاد وكل المنطقة، مروراً بصيدنايا وديرها وبقية الاديار والكنائس التي كانت قد وصلت الى اربعين معبداً، الى ذرى بلودان ودير اليونان الى سوق وادي بردى…كنائس واديار تزهو بنواقيسها ورهبانها ومؤمنيها.
كانت الكنيسة تشكل في المواقع السكنية من مدن وقرى سورية القلب النابض بحياة المؤمنين، والقطب المحوري لأنشطتهم مجسدة ايمانهم ورجاءهم ومحبتهم ووحدتهم. يسهمون في بنائها بأيديهم قبل اموالهم وتبرعاتهم السخية لتكون بيوتاً تليق بأن تكون بيوتاً لله يرتفع فيها البخور مع الصلوات الى العرش السماوي لذلك فكانوا يودعون فيها اعظم مخيلاتهم الهندسية وبقالب فني مستنير بنور المسيح له المجد.
بذلك اشاد السوريون في الفترة الرومية البيزنطية مابين القرنين الرابع والسابع المسيحيين اعظم الاوابد الكنسية من كنائس واديار وباسيليات ومستشفيات و…وهي ذروة فن مهندسيهم وعنوان فخارهم.
ولا عجب اذا ما اعتبر العلماء بالاجماع هذه الفترة الشاملة للعهد البيزنطي الرومي بين القرن الرابع والقرن السابع قبل دخول المسلمين ( لأنه كان محظوراً بناء الكنائس في العهود الاسلامية منذ بدء الوجود الاسلامي وحتى حملة ابراهيم باشا المصري على بلاد الشام بين 1831-1840 وهو قد اذن بترميم وبناء الكنائس وكان الاول!!!)
في هذه الفترة البيزنطية البديعة كانت ذروة ثورة الابداع الفني حيث انجب فيها المسيحيون السوريون حضارة انسانية هي قمة سلم القيم بكل شيء وبلغت هندستهم وخاصة بناء الكنائس منها آنذاك قيمة انسانية شاملة كانت من ملهمات الهندسات المعمارية الرومية البيزنطية وعصر النهضة الاوربية والحضارة العربية والارمنية والجورجية.
مرسوم ميلانو والثورة العمرانية في بناء الكنائس
بعد انتصاره على خصمه ليكيانوس اصدرالملك حسن العبادة المعادل للرسل قسطنطين الكبير براءته الشهيرة ومن ميلانو بايطاليا في العام 313مسيحية “مرسوم ميلان” اباح فيها للمسيحيين حرية العبادة في الامبراطورية الرومانية كبقية المواطنين واوقف حمامات الدم والاضطهادات العنيفة التي تعرضوا لها خلال القرون الثلاثة المنصرمة وهي الاولى من عمر المسيحية. فصارت المسيحية ديانة رسمية اسوة ببقية الديانات في الامبراطورية.
عندها خرج المسيحيون من الكهوف والدياميس وقبور الشهداء المسيحيين اي من التعبد السري كالمنظمات السرية المحظورةالى العبادة العلنية، هذه الاباحة للمسيحية وخروجها الى عالم الضوء حدت بها الى اشادة الكنائس والى زخرفتها بالشكل الذي يليق بمؤسسها الرب يسوع وعلى انها بيت للرعية المسيحية التي تصلي للفادي.
وكان الكثير من المسيحيين قد حولوا دياميسهم وبيوتهم الى كنائس كما في مغارة القديسين بطرس وبولس في انطاكية، وكما في بيت القديس حنانيا الرسول في دمشق وهو الاول ويتساوى في القدم والاولوية على كل الكنائس المسحية في الكون مع كنيسة مريم بدمشق (المريمية) كما اسلفنا.
وسرعان ماظهرت الكنائس في كل مكان وصلته المسيحية، وكانت بذور الرهبنة قد بدأت تنبت شتلات رهبانية في مصر اولا مع انطونيوس الكبير وباخوميوس لتنتشر في بلاد الشام وآسية الصغرى واليونان وتبدأ معها قلايات الرهبان المنفردة والتجمعات الرهبانية والحظائر والأديرة الرهبانية المشتركة بكنائسها التي كانت في معظمها فخمة بهندستها وتزييناتها وانتدب لتزيينها وزخرفتها ارباب الفن الهندسي في البناء والفسيفساء والنحت والتصوير الكنسي كما في افامية ومنطقة العمق وسهول ادلب وباريشا…وصيدنايا ومعلولا والغوطة الدمشقية ووادي النصارى وعكار والقلمون اللبنانية وصنين والارز والقلمون السورية ومار سابا في فلسطين ودير القديسة كاترينا في سيناء…
دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي مطلع القرن الخامس
في سورية حيث البوتقة الازلية للشعوب المستقرة والعابرة والحضارات ومجمل المدنيات الزاهرة، وتأثيرات مثيلاتها في البلدان المجاورة، في هذه البوتقة تم صهر كل ذلك فتجلى فن فريد واصيل بآن وهو الفن السوري الذي كانت ذروة ازدهاره في الحقبة المسيحية الرومية وحتى دخول المسلمين، عندها توقف هذا الفن بتوقف بناء الكنائس والاديرة والصروح المسيحية وفق الشريعة الاسلامية.
السوريون وهم المهندسون والمعماريون والنحاتون والرسامون وقد اظهروا براعتهم وابداعاتهم وما لاشك فيه ان الثقافة اليونانية القديمة الكلاسيكية مع الاسكندر المقدوني ومن ثم مع الهلنستيين ثم الحقبة الرومانية والسيادة اليونانية المطلقة فيها للفنون المعمارية اليونانية… لتعقبها فترة السيادة البيزنطية التي امتدت حوالي الف عام في منطقة بلاد الشام…
كنيسة سرجلة في سورية
ويحلو لنا ان نستعرض تأثير الفنون في تلك المرحلة على الفن المعماري السوري
– الفن المعماري اليوناني/الهلنستي- الوثني
خضع الشرق برمته عقب فتوحات الاسكندر لتأثير الفن اليوناني المتميز في القرون الثلاثة ماقبل المسيح وامتد التأثير اليوناني بعده ثلاثة قرون مسيحية. فسيطرت عليه العناصر اليونانية سيطرة مطلقة.
– الفن المعماري الرومي
هو مزيج من بعض عناصر يونانية قديمة ضعيفة، وعناصر رومانية اكثر حداثة استُخدم فيها الآجر والحجر الصغير والطين، وعناصر شرقية فارسية ساسانية معتمداً القبة المرتكزة فوق بناء مربع. فتآلفت هذه العناصر العديدة وتكونت العمارة الرومية بفن راقٍ بلغ اوجه في القرن السادس المسيحي، ويعتبر عهد الملك يوستنيانوس (526-565) مسيحية هوعصره الذهبي الاول. وقد استمر هذا الفن حتى احتلال القسطنطينية من قبل العثمانيين السنة 1453م. لقد كان فناً مسيحياً متميزاً في وحيه واتجاهاته، مثلته الكاتدرائية آجيا صوفيا اروع تمثيل (الشهيدة لاحقاً وقت الاحتلال1453م و2020 حالياً بتحويل اردوغان لها من متحف الى جامع مجدداً وطمس وازالة تلك التصاوير الرائعة من قبابه في الداخل ومن جدرانه وحنياته).
– الفن المعماري السوري
“انه فن قائم بذاته، أضاف الى اتقان وروعة العناصر اليونانية والاسلوب البازيليكي الروماني عناصر فنية سورية أصيلة، وهو فن مبتكر مسيحي في مجمله.”
امتد بامتداد العهد الرومي في سورية، اي من القرن الرابع الى القرن السابع، وقد بلغ ذروته في كنائس المدن المنسية ودير العمودي ورويحة في ادلب وسهول حلب.
لقد تفرد الفن السوري وهو اصيل بعناصره الزخرفية الرائعة التي نقلها المسلمون وتباهو بها، وحملها بالمقابل الحجاج المسيحيون الى اوطانهم لتصبح مقوِّمة للفن الرومَّني في اوربة الغربية، ونظرة واحدة الى كنائس الفن السوري الرومية في رويحة وقلب لوزه وسمعان العمودي تظهر لنا كم هو مدين فن العمارة الاموية الاسلامية للفن السوري- الرومي الاصيل، كجامع عمر في القدس وكاتدرائية القديس يوحنا المعمدان بدمشق(الجامع الاموي) وكاتدرائية حمص( جامع خالد) وكاتدرائية حلب( الجامع الاموي).
كاتدرائية دمشق كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان التي حولها الوليد سنة 705 الى الجامع الاموي
الهندسة الكنسية والطقوس
تؤلف هذه الهندسة كلاً لايتجزأ. فقد نظمت الطقوس لتقام في مبنى ديني بهندسة تلبي الحاجة الطقسية، حيث ان تصميم الكنيسة جاء تلبية لحاجات الطقس الروحي ومتطلباته، واجريت عليه بعض التعديلات والاضافات التي تستلزمها الرتب الدينية والمستجدات الطقسية.
ويظهر من انواع الكنائس القديمة في سورية ان كل واحدة منها كانت لسد حاجة معينة، فالكنيسة الرعوية مختلفة عن الكنيسة الديرية الرهبانية، وعن كنيسة الحج، وعن كنيسة دار الشهداء(مارتيريون) ككاتدرائية القديس جاورجيوس الارثوذكسية (حالياً) في ازرع ودار العماد…
سورية بلد الكنائس
ما ان اعلن قسطنطين مرسومه عام 313م بالسماح للمسيحيين بحرية العبادة حتى تحولت سورية الطبيعية كلها الى ورشة عمل لمدة 300 سنة لبناء الكنائس، وكان ذلك هو الذي ادى الى انتشار الكنائس في كل مكان رداً على القرون الثلاثة الاولى التي حاول فيها الاباطرة الرومان خنق المسيحية في مهدها بالمذابح والاضطهادات المريعة وازهاق ارواح مئات الالوف من المسيحيين.
لم تتوقف حمى بناء الكنائس ولم تفتر همة المعماريين في ارجاء الشام الكبرى في اظهار كنائس الله وتجليات الايمان المسيحي وممارسته فيها، بالرغم من السلبيات بالمنازعات العقيدية بين الخلقيدونية واللاخلقيدونية والهرطقات العنيفة وغزوات الغزاة واجتياحات الاجانب المستمرة لسورية والحروب الدامية بين الفرس والروم والكوارث الطبيعية كالزلازل كزلزال انطاكية المدمر اواخر القرن السادس، وزلزال القسطنطينية المتزامن والاوبئة الضاربة كما حصل في وباء القسطنطينية اواخر القرن السادس وكاد ان يفرغ العاصمة ومحيطها من البشر.
كاتدرائية آجيا صوفيا وهي على هندسة كاتدرائية بصرى في سورية والصورة تعود الى القرن 12 في احد احتفالات الفصح وقد حول السلطان محمد الكاتدرائية الى جامع ايا صوفيا 1453 وحولها اردوغان من متحف 1934 الى جامع مجددا 2020
وقد تعهدت مشاغل وورشات عمل البناء الكثيرة الجوالة تشييد الكنائس الكبيرة منها والصغيرة. وساهم في هذا العمل الجبار نخبة من المهندسين الأفذاذ وجمهرة من المعماريين الخبيرين ومجموعة من الفنانين العبقريين في النحت والنقش والزخرفة ورهط كبير جداً من العمال النشيطين الملتزمين. هؤلاء جميعاً كانوا من اهل البلاد مسيحيين من سورية ومنهم عدد من الكهنة والشمامسة والرهبان. هذا لم تَثنِ عزمَهم الصعابُ والأخطار والمحن التي المت بالبلاد. فكنت ترى سورية كلها وكأنها ورشة عمار كبيرة لدور عبادة مسيحية لايُحصى عددها. أضف الى ذلك ما ابداه المسيحيون من كرم وسخاء في التبرعات الوفيرة، مابذلوه من جهود جسمانية جبارة لرفع صروحٍ كنسية مجيدة، نرى حتى اليوم آثارها الخالدة شواهد على عمق إيمانهم وعظمة تضحياتهم…ولم تتوقف حركة البناء هذه الا بالحظر الذي فرضه الاحتلال الاسلامي في القرن السابع بدءاً من دخول دمشق 635م على بناء كنائس جديدة…فتَّجَّمَّدَ، من جراء ذلك الحظر المشين السيل العمراني البديع للكنائس والاديرة، وخُنقَتْ المواهب العبقرية العمرانية الهندسية منها والفنية، في تطور شرنقتها الابداعي بما كان قائماً في مطلع القرن السابع المسيحي.
ويحق لنا ان نتساءل عما كانت قد تؤول اليه الحركة العمرانية المسيحية في زخمها وعبقريتها، نوعاً، في الجمال والكمال، وكما في عدد دور العبادة لولا هذا الحظر الشؤوم والتعدي، المجحف السافر، على ممارسة أسمى الحريات في الوجود! إضافة إلى الاستيلاء المنتظم على الكنائس، وعلى التتابع لتنتهي كنائس اي بلد.
/فقد كان في دمشق وحدها حين اقتحمها المسلمون حرباً من الباب الشرقي وصلحاً من باب الجابية سنة 635مسيحية 35 كنيسة واقعة بين شطري المدينة المفتوحة حرباً وبالدم بحق اهلها كونه لم يكن فيها اي جندي رومي بقسمها الشرقي من باب الشرقي بقيادة خالد وحتى موقع كنيسة مريم في الشارع المستقيم وقد حولت كنائس هذا القسم الشرقي وعددها17 كنيسة فوراً الى مساجد ومعها كل كنائس واديار الغوطة وعددها 18…اما القسم الغربي من المدينة الممتد من كنيسة مريم الى الباب الغربي او باب الجابية الذي تم دخوله صلحاً وبدون دماء وشهداء فعدد كنائسه كان 17 كنيسة وابرزها كاتدرائية دمشق على اسم القديس يوحنا المعمدان شفيع المدينة وهي الواقعة في قلب المدينة، وكانت كنيسة اسقف المدينة وكنيسة والي دمشق الرومي وفيها رأس القديس يوحنا المعمدان، فهذه لأن الدخول منها تم صلحاً بموجب الاتفاق بين الوجيه الدمشقي الرومي سرجون النصراني وابن الجراح ويقضي ببقاء الكنائس بأيدي مسيحيي دمشق، ومع ذلك بدأ القضم التدريجي وتحويلها الى مساجد وكانت ذروتها هي كاتدرائية دمشق.وبها انتهت الكنائس وقد تحولت كلها الى مساجد.
باب بولس احد ابواب دمشق السبعة وبداخله كنيسة القديس بولس
اما كنيسة مريم الواقعة على خط الفصل بين شطري الدخول حربا وصلحا فأغلقتْ، لأنهم اعتبروها من املاك الدولة حتى عام 705 عندما صادر الوليد كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان وانتزعها من ايدي المسيحيين، وحولها الى الجامع الاموي. ونتيجة لاحتجاج المسيحيين الذين فقدوا كل كنائسهم في الريف والمدينة وللحظر السائد على بناء كنائس جديدة، فقد اضطر الوليد الى اعادة كنيسة مريم المغلقة، وللعلم فان كنيسة مريم كان قد بناها “المسيحيون المريميون” السنة 38 مسيحية/.
“ومما يُلاحظ ان المهندسين والبنائين المسيحيين في سورية ظلوا حتى القرن السابع يستنبطون نماذج وأساليب هندسية جديدة، ولم يصلوا بعد في اوائل القرن السابع الى مرحلة استنفذوا فيها كل ابتكاراتهم واصبحوا يعتمدون على الماضي كلياً.”
( الاب بطرس ضو: تاريخ الموارنة، 2/179)
وتجدر الاشارة الى ان الكنيسة الجنوبية في شيخ سليمان السنة 602م هي واحدة من بين كنيستين او ثلاث كنائس بُنيت في سورية بعد نهاية القرن السادس، اي قبل الفتح الاسلامي بفترة وجيزة.
تأثير الفن السوري
لاشك ان سورية غنية بالآثار المعمارية التي تعود الى عهد المسيحية الأول. انه غنى قلما نجد له مثيلاً ووفرة وجمالاً، في منطقة أخرى من بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط. فقد كتبت الباحثة كريستين شترويه” الفن المسيحي المبكر في سورية”: “يشغل فن العمارة مكانة بارزة في مجمع الفن السوري من القرن الرابع الى السابع مايطبعه بطابعه، ويفضل كثرة الأبنية الباقية، على نحو رائع صورة سورية الحديثة. صحيح أنه لم يبق الشيء الكثير في المدن الكبرى الا ان المناطق الجبلية وبادية الشام ومنطقة الفرات والسهول الساحلية تحتوي على المئات من ابنية السكن والمقابر والكنائس التي تولد انطباعاً عميقاً عن كفاءة المشاغل والمعماريين السوريين وخيالهم الخصب”. وعندما قُدّمت للمرة الأولى، أمام الرأي العام الواسع، صورة ابنية منطقة كبيرة من قبل المركيز دي فوغويه وكذلك الرسوم الرائعة للمهندس المعماري دوتوا وذلك من عام 1865 الى 1877، كان الانطباع كبيراً الى حد جعل القول بتأثير فن العمارة السوري على سائر بلدان البحر الأبيض المتوسط على انه حقيقة مؤكدة في الدراسة والبحث خلال فترة طويلة.
دير سيدة البلمند البطريركي يعود الى القرن الخامس
لم يبقَ في منطقة البحر الأبيض المتوسط الا عدد قليل من الكنائس والابنية التي شُيدت في الفترة الواقعة بين القرن الرابع والسابع دون تغييرات أضيفت اليها في القرون اللاحقة.
وعلى ضوء ماتقدم ندرك كم هو هام ان نجد في منطقةٍ سوريةٍ واحدة، وهي الهضبة الكلسية-الجيرية في شمال سورية، حوالي 150 كنيسة ومئات البيوت التي لاتزال قائمة على حالة من الجودة يمكن معها اعادة إنشائها بكل جزئياتها. ان الصورة الاجمالية لفن العمارة السوري تتصف رغم ملامحها المشتركة بالغنى في البدائل المتنوعة والتباينات المتعارضة”. (الآثار السورية، مجموعة أبحاث أثرية تاريخية، ص 234)
أثر الفن السوري المسيحي تأثيراً كبيراً في الشرق والغرب منذ القرون الوسطى، فإذا ماتوقف عمران الكنائس ودور العبادة المسيحية في مطلع القرن السابع تقريباً لكن استمر بناء المساجد او تحويل الكنائس الى مساجد، وبناء قصور العرب الفاتحين والخلفاء الامويين على يد المهندسين والفنانيين المعماريين المسيحيين السوريين وانعكس هذا على دمشق وابنيتها القديمة وقصورها البديعة وهي كلها بنيت بايدي المعماريين المسيحيين حتى في عصر الانحطاط العثماني وقبله في عهد القهر الديني الفاطمي والمملوكي.
لقد طبع هؤلاء الفطاحل السوريون المسيحيون تلك الابنية الاسلامية والقصور بالطابع الذي تميزت به كنائسهم وقصورهم ودورهم… وللمعلومة فان قصر الخضراء الذي كان قد اتخذه معاوية قصر ولاية دمشق ثم قصر الخلافة الاموية الذي تحول في القرن 18 الى قصر اسعد باشا العظم هذه الآبدة الدمشقية الاشهر، كان هو قصر والي دمشق الرومي ومنه يأتي صباح كل يوم الى كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان للصلاة ويدخله من الباب الجنوبي وهو ذاته اليوم الباب الجنوبي للجامع الاموي (في منطقة الصاغة القديمة بدمشق)، ثم يعود الى قصر الولاية لممارسة اعمال الادارة والسياسة. ومثله استقر كل القادة المسلمين بعد دخولهم دمشق في القصور الخاصة بأصحابها من علية القوم الشاميين حول الكاتدرائية وقصر معاوية كونها قلب دمشق السياسي والتجاري والديني… ولذلك تم بداية اخذ جزء من الكاتدرائية وتحويله مسجداً ليصلي فيه المسلمون الرسميون المقيمون هناك كما اسلفنا ثم تم بعد عدة عقود تحويل الكاتدرائية قسراً الى مسجد.
توقفت هذه الهندسة السورية الفريدة في سورية ولكن بعض مهندسيها ومعمارييها الافذاذ انتقلوا الى خارج الحدود الى آسية الصغرى والقسطنطينية بعيداً عن حدود الخلافة الاسلامية، والى اوربة حيث ان كنائس الوطن الام سورية صار نظيرها على ايديهم في اوربة. وثمة امثلة كثيرة لاتحصى منها كنيسة كلوني التي تذكر بكنيسة قلب لوزة وهي وريثة لها، والبازيليك الأولى للقديس مارتان في مدينة تور بفرنسا، وكنيسة القديس بطرس في فيينا ايضاً على غرار قلب لوزة.
قلب لوزة” كنيسة سورية شكلت مصدر إلهام لكاتدرائية نوتردام
تعود كنيسة قلب لوزة في محافظة إدلب الى القرن المسيحي الخامس وهي من ابرز الكنائس الرومية البيزنطية في سورية، وتعد الصرح الهندسي الذي استوحى منه معماريون كثر بناء كنائس وكاتدرائيات في أوربة. وتعد تحديداً مصدر إلهام لبناء كاتدرائية نوتردام باريس التي تعرضت مؤخراً لحريق ضخم.
وتُزين الكنيسة، وهي بين الأقدم في سورية، من الداخل أقواس تحمل جدرانها المليئة بالزخارف النباتية، وأدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في عام 2011 على لائحتها للتراث العالمي كجزء من القرى القديمة في شمال سورة التي بُنيت بين القرنين الأول والسابع والمدرجة أيضاً على قائمة التراث الإنساني المهدد بالخطر.
وتقول المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية إن كنيسة قلب لوزة من الطراز البازليكي، ظلت تستخدم للصلاة والاحتفالات الدينية حتى القرن الثاني عشر الميلادي، إلا أنها أصبحت مهجورة.
وأوضحت الخبيرة في التراث في الشرق الأوسط ديانا دارك أن كنيسة قلب لوزة تعد المثل الأقدم للهندسة المعمارية التي تقوم على واجهة مؤلفة من برجين يفصلهما مدخل مُقنطر، عرفت لاحقاً بالعمارة الرومانسية، بنى كنيسة قلب لوزة مسيحيون جمعوا ثرواتهم من إنتاج النبيذ وزيت الزيتون، وشكلت الكنيسة مقصداً للحجاج، كما لزوار دير مار سمعان العامودي القريب وكان التجار والرهبان والحجاج يتنقلون بكثرة بين هذه المنطقة وأوربة، لذا، ليس مفاجئاً أن تكون وجدت الهندسة المعمارية هذه طريقها تدريجياً إلى أوربة، حتى قبل حملة الفرنج في القرن الثاني عشر”.
ويقول الباحث في التاريخ فايز قوصرة إن “الفن المعماري في كنيسة قلب لوزة يفوق الكنائس الأخرى في المنطقة جمالاً”، وأضاف: “من يتعمق في تاريخ الفن القوطي وخصوصا القوطي الكنسي يجد أن هذا الطراز المعماري قد انتقل إلى أوربة من سوريا”، مضيفاً أن “أكبر إثبات على ذلك هو كاتدرائية نوتردام”.
ويشير إلى التشابه بين كنيسة قلب لوزة وكاتدرائية نوتردام من حيث الواجهة والبرجين والسقف الخشبي.
وعلى ذلك يعترف مؤرخو الفن الرومني بتأثير الفن السوري عليه. وفي هذا الصدد يصرح الاب ماتيرن:” ابتدأ الفن الرومني حيث توقف الفن السوري، قبل مائتي سنة”.
دير القديس سمعان العمودي
هذه التأثيرات امتدت وانتشرت بفضل العلاقات التجارية بين سورية وبلاد الغرب، وبخاصة فرنسا، فالجاليات السورية المزدهرة في فرنسا، وحركة التجار الغربيين الوافدين من الغرب الى الأراضي المقدسة- وسورية المسيحية رقعة منها بكنائسها الفخمة واديرتها الكثيرة واماكن الحج العديدة فيها ومن اهمها قلعة سمعان- اجتازوا سورية وزاروا محجاتها ومواقعها التاريخية الشهيرة. كما ان أزمة هجرة الأدمغة السورية المتمثلة بالسوريين من رهبان كانوا بنائين وذوي ذوق رفيع في الهندسة والفن الزخرفي ورجال الاكليروس الروميين المثقفين بالثقافة اللاهوتية الرفيعة والادبية والعلمية هجروا سورية الى كل مكان ومنها الغرب وطليعته فرنسا (التي كانت غارقة بالجهل)بعد الاحتلال الاسلامي لسورية والمشرق والتضييق الشديد عليهم بعد وقوع ثلاث بطريركيات رومية هي انطاكية واورشليم في آسية والاسكندرية في افريقيا تحت الاحتلال…
هؤلاء ساهموا مساهمة فعالة في حركة بناء الاديرة والكنائس وفي نشر الثقافة والعلم في بلاد الغرب، هذا كله قد جعل من التمازج والانصهار بين الشرق والغرب لمصلحة الاخير فقد توقف بناء الكنائس وانحسار فن هندسة الكنائس في سورية، لكنه انطلق على ايدي السوريين بعزيمة في الغرب بتأثير سوري فعال او بتخطيط سوري أصيل.
قباب الكنائس الرومية البيزنطية من الداخل
ضوء على المهندسين والفنانين والمعماريين السوريين
ورث المهندسون والفنانون والمعماريون السوريون عن اسلافهم، الذين نشأوا في كنف المدرسة اليونانية الكلاسيكية، الهندسة المعمارية وفنون الزخرفة والتزيين. فتميزوا بذوق رفيع واتزان فريد، فبنوا المدن والقرى ومراكز الحج والاديرة بكنائس قوية جداً تقف امام تحديات الطبيعة سداً منيعاً، وجميلة جداً تليق بالعبادة المسيحية، وطبقاً لمتطلبات الطقوس الكنسية ومستلزمات الاحتفالات الدينية، وبحسب أصول الهندسة المعمارية والفن الزخرفي. ولاشك في ان مهندسين كثر قد ساهموا في التصميم والتخطيط، بيد انهم لم يكونوا جميعاً على وتيرة واحدة في العبقرية. وقد تركوا بصماتهم في مآثرهم واسمائهم في كتابات حُفرتْ في زوايا المباني الكنسية.
استُعملت عبارات يونانية عديدة بجانب اسم كل منهم لتعني مهنته، اي في عملهم الهندسي المعماري الفني، وتعني كلها في سورية المهندس، منها باليونانية “تيخنيتيس” اي مهندس، و”إيكوذوموس” و “إرغوذوتيس” اي بَّنَّاءْ بالمعنى الحصري، او “تيكتونيس”، و “أرخيتكتون”، و”ميخانيكوس”. واليك بعض أسمائهم ومهنتهم وموقع البناء وتاريخ البناء( راجع قاموس الآثار ، حوران،ع2074، جوزيف نصر الله: مهندسون…، بالفرنسية، والأب بطرس ضو: تاريخ الموارنة، ج1و2)
الاسم المهنة موقع البناء تاريخ البناء
الكسندروس إيكونوموس طفحة 550م
أنيوس إرغوذوتيس قنسرين 475م
أوسابيوس تيخنيتيس بابسقا 475م
بارغوس وكيريوس ——– بتير 378 م
داماس ——– كوكنايا 431م
دومنوس ——– كوكنايا 389م
سيكوندينوس تيخنيتيس مُغر رمضان
سيميونيس إيكوذوموس دير سمعان
كوينتوس تيخنيتيس بتير 414م
كيريلاس ——— كسيجيه 414م
كيريوس/ كيريس ——– قصر البنات 418م
كيروس ——— دارفيتا 418م
ملخوس ——— ريحا 401م
مرقيانوس كيريس ——- بابسقا 401م
نيكاتور إيكوذوموس ج. شيخ بركات 470م
نونّوس سرجيله 386م
يوحنّان داحس/دار عمار
وهناك أسماء أخرى لمهندسين يذكرهم المونسنيور نصر الله: دانيال في كاتدرائية براد، وبطرس بن أنطونيوس مهندس وشماس في فدره، وقوزما في فدره السنة 489م وبراد السنة 491 و496م، وبرج القس السنة 493م، وكفر نبو السنة 504، وسرجيوس في كنيسة الشيخ سليمان، وابراهام وهيراقليطس وبلاديوس مهندسون وكهنة في قلعة سمعان، ويوحنا بن ماريون الكاهن في زرزيتا السنة 500م ومن المهندسين كهنة عملوا في بناء كنائس واديرة وآخرون عمروا في حمص وأفامية…
ومن اهم واشهر المهندسين السوريين المسيحيين الروميين في فني الهندسة المعمارية والزخرف التزييني الكنسيين: المهندس مارقيانوس كيريس.
كاتدرائية بصرى
المهندس مارقيانوس كيروس/ كيريس توفي 420م
هو كاهن رومي خلقيدونيمن جهة، ومهندس من جهة اخرى، جمع مارقيانوس بين خدمة الكهنوت ومهنة الهندسة والبناء الكنسي، وجمع في تصميمه وتنفيذه العظمة الى الذوق الرفيع وقد اقتبس مثال العظمة عن ابنية الرومان التي كان يراها امثال عمود سرمدا وهيكل باقرحا الوثني والطريق الروماني المرصوف. كما انه اقتبس من ابنية اليونان المنتشرة هنا وهناك في انطاكية واللاذقية وافامية وتدمر وبعلبك…عناصر الزينة والتوازن. فنتج عن هذا المزيج الهندسي الفن السوري الرائع الذي اتبعه هو ومن خلفه من المهندسين والمعماريين، وادخلوا عليه تحسينات كثيرة، كما ان صفته الكهنوتية اثَّرت في تصميم هندسته الرائعة، فابدع في الرسوم والرموز الدينية. هذا وقد صمم وشيد في منطقة باب الهوا في حدود ادلب مع لواء الاسكندرون اربع كنائس نقش اسمه على باب كل واحدة منها:
-كنيسة بابسقا السنة 390-401م يتكرر اسمه 3 مرات(مرتين كمهندس، ومرة ككاهن)، عمل على بنائها مدة 11سنة.
-الكنيسة الشرقية في كسيجبه السنة 414/415م
-كنيسة ماربولس وموسى في دارفينا السنة 418م
-كنيسة دير مار بيزا المسمى “قصر البنات” بجوار بابسقا. مات في ميدان عمله، فدُفن في كنيسة هذا الدير.
…
تمثل هذه الكنائس وغيرها سابقة لها ولاحقة الحضارة المسيحية في مرحلة عنفوانها وعصرها الذهبي وأوج ازدهارها. وتؤلف مجموعة فريدة في العالم بقيمتها الفنية الرفيعة ودورها في تاريخ الهندسة المعمارية العالمية واثرها البعيد في فروع الحضارة الشرقية والغربية وهي تراث سوري عظيم ومنبع الهام…نفتخر به كسوريين…
ختاما
الكنائس في سورية من حيث الكبر:
اولاً كنيسة دير سمعان العمودي، ثانياً كركين شرقي معرة النعمان، ثالثاً الكنيسة الكاتدرائية في براد، رابعاً كنيسة بيزوس في رويحة.
الكنائس في سورية من حيث الأهمية من الناحية الهندسية والفنية:
اولاً كنيسة دير سمعان العمودي، ثم كنيسة قلب لوزه، ثالثاً بيزوس في رويحة، رابعاً كنيسة الرصافة/ سرجيوبوليس. وكنيسة بيزوس هي الكنيسة البازليكية الأولى في التاريخ المسيحي، والبناية البازليكية الأولى في تاريخ الهندسة بوجه عام التي ترتكز على الدعائم القائمة في صحنها قناطر باتجاهين اي باتجاه طول الكنيسة وعرضها.”
الكنائس في سورية ثلاثة انواع:
النوع البازليكي المثلث الأسواق، والنوع المصلب (كنيسة القوسية في انطاكية)، والنوع المستدير ذو التخطيط المركزي ( كنيسة سلوقية/ السويدية، وكنيسة مرعية، ومارتيريون الرصافة وغيرها). ويُذكر ان هذه الطرازات الثلاثة قد اندمجت في بناء واحد في كنيسة دير سمعان العمودي، يؤلف كلا عضوياً متناسقاً فريداً في نوعه في تاريخ الهندسة.
(انتهى الجزء الاول)
من المصادر
تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى/ د. اسد رستم
تاريخ كنيسة انطاكية/ بابادوبولس تعريب الاسقف استفانوس حداد
تاريخ الكنيسة المسيحية/ سميرنوف، تعريب المطران الكسندروس جحى
سورية المسيحية في الالف الاول الميلادي المجلد الاول/ الأب متري هاجي اثناسيو
الحقائق الوضية في تاريخ الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية/ الخوري ميخائيل بريك
الآثار السورية، مجموعة ابحاث أثرية تاريخية/ د.عفيف بهنسي
الشارع المستقيم في دمشق / الاب ايوب سميا، مجلة النعمة البطريركية 1960
صور مقدسة على الفسيفساء المكتشفة في محافظة حماة في الحوليات الأثرية العربية السورية/ عبد الرزاق قزوق.
يتتبع تاريخ القباب الرومانية والرومية البيزنطية معمارية القباب في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية القديمة واستمرارها في العصور الوسطى، اي في امبراطورية الروم البيزنطية.
كانت القباب عناصر معمارية مهمة في كلتا الفترتين، وكان لها تأثير واسع على الأنماط المعاصرة وما بعدها، من العمارة الاسلامية في دائرة الدولة الاسلامية بكل عهودها بما فيها العثمانية، والعمارة الروسية، إلى النهضة الإيطالية … الحديثة. كانت القبب نصف كروية بشكل معتاد، على الرغم من أن الأشكال الثمانية والمقطعة معروفة أيضاً، وقد تطورت بشكلها واستخدامها وهيكلها على مر القرون. استندت الأمثلة المبكرة مباشرة على جدران القاعات المستديرة، وظهرت على محور مركزي للتهوية والضوء. أصبحت المقتطفات شائعة في الفترة البيزنطية ، وقدمت الدعم للقباب على المساحات المربعة
بنيت الكنائس المقببة مركزياً منذ القرن الرابع للوظائف الخاصة جداً، مثل كنائس القصر الملكي أو الشهداء ، مع اتساع طفيف في الاستخدام حوالي السنة 500 م لكن معظم مباني الكنائس البازليكية كانت قاعات مسقوفة بالأخشاب.
يبدو أن كنيسة القديس بولكوكتوس في القسطنطينية (524-527) بنيت ككنيسة كبيرة ومسطحة على غرار كنيسة مريمليك قبل خمسين عاماً، وإلى آجيا ايرين ( السلام المقدس) التي بناها الإمبراطور يوستنانيوس.
في الثلث الثاني من القرن السادس المسيحي، استخدم بناء الكنيسة من قبل الإمبراطور يوستنيانوس وحدة الصليب المقببة على نطاق ضخم، تمشياً مع تأكيده على الابتكار المعماري الجريء. وقد أكدت العمارة الكنسية على القبة المركزية، وقام المهندسون المعماريون بوضع المخطط المركزي المقبب المبني من الطوب في جميع أنحاء شرق رومانيا. يمكن اعتبار هذا التباعد مع الغرب الروماني من الثلث الثاني من القرن السادس المسيحي بداية ظهور العمارة الرومية “البيزنطية”. أما البازيليكات المسقوفة بالأخشاب، والتي كانت في السابق الشكل المعياري للكنيسة، فستظل كذلك في غرب القرون الوسطى.
بعد أن دمرت الزلازل معظم مدينة القسطنطينية في سنة 532م ، بما في ذلك كنيستي آجيا صوفيا “الحكمة المقدسة” وآجيا ايرين “السلام المقدس”، أتيحت ليوستنيانوس الفرصة لإعادة البناء.
حنية كنيسة
كانتا كنيستان بازيليكيتان وكلتاهما أعيد بناؤهما كنيستان مقببتان، على الرغم من أن آجيا صوفيا أعيد بناؤها بشكل اكبر بين عامي532 و 537 مسيحية، و أُسميت (أعظم بناء في العالم). وكان تصميمها الهندسي تصميماً أصلياً ومبتكراً بدون سوابق معروفة بكثير في الطريقة التي يغطي بها مخطط البازيليك مع القبة وشبه القباب. وقد تسببت الزلازل الدورية في المنطقة بانهيار جزئي للقبة واستلزمت إصلاحات جذرية. كان الشكل الدقيق للقبة المركزية الأصلية التي اكتملت في عام 537م مختلفًا بشكل كبير عن الشكل الحالي، كما أن الحسابات الهندسية والابعاد المعاصرة كانت أكثر جرأة بكثير من وقتنا.
كتب بروكوبيوس أن القبة الأصلية بدت “لا ترتاح على البناء الصلب، بل لتغطية الفضاء بقبته الذهبية المعلقة من السماء”.
وقد ذكر المؤرخ البيزنطي يوحنا مالالاس أن هذه القبة كانت 20 قدماً بيزنطية. إحدى النظريات هي أن القبة الأصلية استمرت في منحني المنحنيات الموجودة (التي أعيد بناؤها جزئياً بعد انهيارها) ، مما أدى إلى إنشاء قبو شراعي ضخم مثقوب بحلقة من النوافذ. كان هذا القبو جزءاً من المجال النظري الذي يبلغ قطره 46 متراً (151 قدماً) ( وهي المسافة من قاعدة واحدة معلقة إلى قاعدة العاكس)، 7٪ أكبر من امتداد قبة البانتيون.
وهناك نظرية أخرى ترفع الغطاء الضحل لهذه القبة (الجزء فوق ما هو اليوم الزنبركات) على أسطوانة قصيرة نسبياً تحتوي على النوافذ. انهارت هذه القبة الأولى جزئياً بسبب الزلزال المدمر في السنة 558 م، ثم تم تنقيح التصميم إلى الوضع الحالي. تسببت الزلازل أيضا في انهيار جزئي للقبة في السنتين 989 م و 1346 م، بحيث تتكون القبة الحالية من أجزاء تعود إلى القرن السادس ، على الجانبين الشمالي والجنوبي، وأجزاء من القرنين العاشر والرابع عشر على الجانبين الغربي والشرقي، على التوالي .
قبة كنيسة رومية بيزنطية من الداخل
هناك مخالفات حيث تلتقي هذه القطاعات تبلغ القبة المركزية الحالية، فوق الزوايا، حوالي 750 ملليمتر (30 بوصة). يبلغ عرضه حوالي 32 متراً (105 قدماً) ويحتوي على 40 ضلعاً شعاعياً ينبع من بين 40 نافذة عند قاعدته. تم حظر أربعة من النوافذ كجزء من الإصلاحات في القرن العاشر. تقع حلقة النوافذ عند قاعدة القبة المركزية في الجزء الذي كان من المتوقع أن يكون أكبر شد تطوُّر فيه ، ولذلك ربما تم استخدامه للمساعدة في تخفيف التشقق على طول خطوط الطول. وقد ساعدت تقلصات الحديد بين الكتل الرخامية من الكورنيش على تقليل الزيادات الخارجية عند القاعدة والحد من التشقق، مثل حلقات التوتر الخشبية المستخدمة في قبب الآجر البيزنطية الأخرى. ويدعم القبة والمثبّتة بأربعة أقواس كبيرة تنبثق من أربعة أرصفة. بالإضافة إلى ذلك ، يتم وضع قبتين شاسقتين ذات نسبة متشابهة على جوانب متقابلة من القبة المركزية وتحتوي على قباب شبه أصغر بين أربعة أرصفة إضافية. آجيا صوفيا، كاتدرائية القسطنطينية وكنيسة قصر القسطنطينية الكبير المجاور، لديها شكل من أشكال خطة مثمنة.
قام الامبراطور يوستنيانوس الكبير حسن العبادة باعادة بناء كنيسة الرسل القديسين في القسطنطينية على نطاق أكبر بين عامي 536م و 550 م، وكان المبنى الأصلي عبارة عن بازيليك صليبية الشكل مع ضريح مقصب مركزي. كان استبدال يوستنيانوس على ما يبدو صليباً بشكل مماثل ولكن مع قبة مركزية وأربعة قباب مرافقة. كانت القبة المركزية فوق المعبر تحتوي على زوايا ونوافذ في قاعدتها، في حين كانت القباب الأربعة على أذرع الصليب تحتوي على زوايا متدلية دون نوافذ. يبدو أن القباب قد تم تغييرها بشكل جذري بين ترميمي 944 و 985 من خلال إضافة براميل ذات نوافذ أسفل كل القبب الخمسة، وبرفع القبة المركزية أعلى من القباب الأخرى.
ثاني أهم كنيسة في المدينة بعد آجيا صوفيا، وهي هذه الكنيسة ” الرسل القديسين” أمست في حالة سيئة بعد الاحتلال اللاتيني الفرنجي للقسطنطينية بين عامي 1204م و 1261م، ثم قضى عليها العثماني محمد محتل القسطنطينية بتدميرها وتسويتها بالأرض في عام 1461م لبناء مسجد الفاتح في موقعها.
كاتدرائية القديس يوحنا في أفسس وكنيسة القديس مرقس في البندقية هما أنموذج عن كنيسة الرسل القديسين الشهيدة في القسطنطينية. وكذلك كاتدرائية القديس انطونيوس البدواني في البندقية بهندستها المشتقة أيضا من هندسة هذه الكنيسة الشهيدة…
السوق الوسطي في الكاتدرائية المريمية بدمشق من انموذج كنائس الباسيليك والبيما العلوية يمين ويسار السوق الوسط وتقرأ منها فصول الانجيل المقدس من الاعلى على رؤوس المؤمنين
تطوربناء الكنائس في سورية
1- من قاعة استقبال
على غرار علية صهيون في اورشليم (وهي قاعة من بيت سكني) التي اقام فيها الرب يسوع لتلاميذه العشاء الأخير، وكان هذا العشاء السري والأخير هو القداس الالهي الاول. وعلى غرار ذلك وخلال القرون المسيحية الثلاثة الاولى تابع المسيحيون اقامة القداس الالهي والصلاة في قاعة ببيت عادي(أ.ع 1/3، 9/37-39،20/6-9).
2- الى القاعة / الكنيسة
عثر علماء الآثار على أنموذج من أمكنة الاجتماعات المسيحية في بلدة دورا أوربوس / الصالحية على ضفة الفرات الغربية بالقرب من البوكمال، وقد شُيِّدَ هذا البيت للعبادة واتمام سر الافخارستيا في اوائل القرن الثالث المسيحي، في هذا البيت في الطبقة السفلى منه جُعلت قاعة صغيرة بسيطة للغاية وغير منقسمة للعبادة لايميزها شيء عن ردهة الاستقبال في بيوت ذلك الزمان، ماعدا مصطبة صغيرة اقيمت امام الحائط الشرقي يوضع عليها كرسي الاسقف او الكاهن ، انها ردهة في بيت خاص تحولت الى قاعة يجتمع فيها المسيحيون للمشاركة في الصلاة والذبيحة والتداول بشؤون الجماعة. ومن الارجح ان الذبيحة كانت تقام فوق مائدة امام كرسي الاسقف،(قاموس الآثار، سورية 1863/68)
3- الى الكنيسة ذات الصحن الواحد غير المنقسم
نشأ هذا الطراز في جبل باريشا والجبل الأعلى، في النصف الاول من القرن الرابع المسيحي. وقد انطلق من هندسة القاعة الكبرى المستطيلة في البيوت اوالنوادي العامة (الاندرون). وأقدم كنائس هذا الطراز في هذين الجبلين هي كنيسة كركبيزه، كنيسة إشروق، كنيسة مار مايا، وكنيسة نوريه.
تنضوي الكنائس في سورية المشيدة مابين القرنين 4 و7م تحت نمطين اثنين: كنائس ذات سوق واحدة كما في كركبيزة مثلاً، وكنائس ذات اسواق ثلاثة اي الطراز الباسيليكي الملكي وهي الأكثر انتشاراً وعناصره الرئيسة هي التالية:
1- الصحن المستطيل الشكل المنقسم الى 3 اسواق سوق وسطي وسوقان جانبيان اصغر عرضاً بصفين من الاعمدة القائمة باتجاه طول الكنيسة كالكاتدرائية المريمية وكنيسة الصليب المقدس …بدمشق وكاتدرائية القديسين بطرس وبولس في انطاكية…
كنيسة الصليب المقدس في القصاع بثلاثة اسواق انموذج عن الباسيليكيات وعليها القبة وجرسيتان وهي على شكل صليب
هذا الفن الباسيليكي ذو الاسواق الثلاث سوري المنشأ، وقد عمد المسيحيون الى التعبير عن عقيدة الثاوث المقدس في هندسة كنائسهم المتكونة من 3 اقسام: قدس الأقداس وهو مثلث الغرف، بيت القدسات، والدار / الصحن وهي مثلثة الاسواق في الأغلب…
2- القناطر القائمة فوق الأعمدة.
3- المنور: وهو القسم من السوق الوسطى في الكنيسة المرتفع فوق السوقين الجانبيين وفيه الشبابيك والنوافذ لإضاءة الكنيسة كما في مريمية الشام.
4- السوق الوسطى: وهو أعرض من السوقين الجانبيين ويرتفع فوقهما، ويغطيهما سقف منحن ذو انحدارين.
5- السوقان الجانبيان: سطح كل منهما منحنٍ وذو انحدار واحد. وفوقهما أحياناً الشعاري المخصصة للنساء.
6- السطوح والسقوف من خشب وقرميد. وهناك قبة كبرى وقباب صغيرة.
7- قدس الأقداس او الايوان: وهو قسم الكنيسة القائم خلف الايقونسطاس حيث تقام الذبيحة، وهو مخصص للاكليروس يتألف من بيت قدس او الهيكل، في الوسط المقدسة، وتكون مربعة الشكل او مستطيلة وتتألف من لوحة رخامية ترتكز الى صخرة مكعبة ترمز الى المسيح والى أربعة اعمدة ترمز الى الانجيليين الأربعة، وهناك قبة الهيكل المرتكزة الى اربعة أعمدة. وخلف المذبح الحنية الكبرى. في هذه الحنية يُنصب عرش الاسقف ( الكاتدرا) في الكنائس الرومية كما في الكاتدرائية المريمية بدمشق وكاتدرائية انطاكية…
يحيط بالعرش مقاعد لجلوس الاساقفة والكهنة…والى جانبي الحنية الكبرى حنيتان صغيرتان تلاصقان قدس الاقداس، وفي جانبيه حجرتان مربعتان، كان يُصعد اليهما يميناً وشمالاً وهما متعلقتان بالهيكل: احداهما الذياكونيكون (بيت الشمامسة) وهي حجرة مربعة تقع الى يمين الهيكل، وهي ايضاً “سكرستيا” لحفظ الأواني المقدسة والادوات اللازمة للخدمة الطقسية، وفيها “يبدل” الاكليروس بالملابس الطقسية، والأخرى البروثيسس، خزانة التقدمة، وهي حجرة مربعة يصعد اليها المؤمنون لتقديم التقدمات قبل الذبيحة. وكان الشماس يكتب اسماء المقربين مع بيان تقدماتهم لتذُكرْ اسماؤهم في صلوات القداس الالهي، وموقع هذا المقام عادة في الكنائس المبنية في الجهات الشمالية على يمين المذبح/ الهيكل، أما كنائس الجنوب فمكان تقادم المؤمنين فيها بعكس ذلك في شمال الهيكل. وهناك ايضاً المارتيريون او دار الشهداء.
8- اتجاه قدس الاقداس الى الشرق:
كنيسة حنانيا الرسول في محلة الميدان بدمشق الايقونسطاس الخشبي البديع
في اول امرها لم تشرع كنيسة الله توجيه الكنائس الى اتجاه معين. ولما كانت وُجهة بعض الكنائس الى الغرب، كان الاسقف يقف امام المذبح والشعب مقابله ناظراً الى مدخل الكنيسة. فحتمت القوانين الرسولية في القرن الرابع ان تكون ابواب الكنائس متجهة الى الغرب لكي يتجه المصلون الى الشرق في صلاتهم ولتتميم تكريس القربان امام المذبح، فأصبحت وجهة الكاهن في الصلاة لتتميم تكريس القربان ولأن المسيح هو مشرق المشارق.
وصدر مرسوم جديد في القرن الخامس غيَّرَ اتجاه الكنائس، بشكل معاكس، فترتب على الكاهن ادارة ظهره للشعب، حيث يقيم الذبيحة وهو متجه شطر الشرق. مما اضطر المهندسين لبناء كنائس يكون اتجاهها الى الشرق ومدخلها من الغرب، وقد ترسخت العادة في القرن السادس بتوجيه الكنائس كلها نحو الشرق دون استثناء.
كان اتجاه كنائس سورية كلها نحو الشرق على غرار المعابد الوثنية بتأثير طقوس الشمس في آسيا وذلك لأن الحياة والثراء الفني ينبعان من الشرق، بينما الغرب هو معقل الموت والشر. والمسيح في الايمان المسيحي هو مشرق المشارق وشمس العدل.
وكانت اولى الكنائس الباسيليكية في القسطنطينية والقدس وانطاكية ورومة متجهة نحو الغرب لربما على غرار مجامع اليهود.
9- يحتل بيت القدس احدى الجهات الصغرى وهو مكون من حنية نصف دائرية مغطاة، وينفتح على الصحن بقنطرة او قوس. ومنشأ القوس على اعمدة فارسي الاصل، وقد ظهر في منطقة أنطاكية منذ القرن الثالث المسيحي، ثم انتشر في البلاد السورية.
10- تتضمن الواجهة في الخارج، قوساً كبيراً يفضي الى نرثكس او المدخل الداخلي الذي يتألف من رواق مُغلق يمتد على عرض الكنيسة كان فيه يجتمع الموعوظون والتائبون المعروفون بالسامعين لذلك يقول الكاهن قبل تلاوة دستور الايمان :” الابواب الابواب بحكمة لنصغي” ليتم فتح الابواب كي يسمع الموعوظون دستور الايمان.
نشأ الفن المسيحي السوري الرفيع بفضل تطور التقليد الفني السابق وتطبيقه على الحياة الجديدة. وقد اجتمعت منذ أقدم العصور فوق أرض سورية ملتقى الحضارات، وتمازجت وتزاوجت عناصر حضارية من منابع مختلفة، شرقية وغربية.
تجلت عبقرية الفنانين السوريين المنفتحين على منابع الفن بإيحاء مسيحي في انتقاء العناصر من أصول ومصادر متفرقة في ابنية منتشرة في مدى جغرافي وزمني واسع. والجمع بينهما، ودمجهما في كلٍ عضوي واحدٍ متماسكٍ ومتجانس ذي شخصية، وتخرج منها آية فنية جديدة.
عبقرية الفنان السوري والمهندس والبَّناء التي أحسنت اختيار هذه العناصر، ودمجها وصهرها في بوتقة واحدة، وشخصية واحدة في جسم عضوي واحد، خلقت هوية فنية جديدة في الطراز الباسيليكي الكنسي الأكثر جمالاً وأناقة الذي عم الكنيسة جمعاء شرقاً وغرباً، حتى اصبح هو الطراز الكنسي المفضل في العالم كله.
وقد وضع أرباب الكنيسة هذا التخطيط، في هندسة الكنائس الباسيليكية في سورية الشمالية بتقسيمها الارضي وتكوينها لا نقلاً عن نماذج سابقة بل هم وضعوه لمتطلباتهم الروحية وتجاوباً مع متطلبات العبادة والنظام الطقسي.
كنيسة النبي الياس الغيور في حلب ايقونسطاس خشبي بديع والسّوليا، وهي مصطبة بين الهيكل وصحن الكنيسة لاقامة الاحتفالات
انه عمل فني هندسي حر فرضته الكنيسة على كتلة المهندسين والفنيين والمعماريين المحليين في سورية وعهدت اليهم بتنفيذ تفاصيله في الكنائس بسورية فكانوا امناء عليه فطبقوه بحذاقة نالوا عليه استحسان الكون والاقتباس منه في اي مكان في العالم المسيحي، حتى بات موصوفاً بأنه “الفن السوري المسيحي”.
الكنيسة ومعناها
الكنيسة كلمة معربة عن الكلمة اليونانية (اكليسيا)، والكنيسة هي البيعة وهي متعبد المسيحيين، تقابل الكنيس عند اليهود، والهيكل كلمة معربة عن العبرية وعن الآرامية (شقيقة العبرية) “هيكلو” وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين، اما البازليك “باسيليكي” فهي كلمة دخيلة بمعنى الطاق او الرواق الملكي او الكنيسة العظمى، والكنيسة الباسيليكية اي الملكية هي التي صحنها يتألف من ثلاثة اروقة او أسواق، او اكثر.
عرف القديس مكسيموس المعترف في القرن المسيحي السابع الكنيسة بأنها
” الكنيسة صورة الله لأنها على نحوه تعالى تجمع كل الكائنات. وهي ايضاً صورة للعالم: العالم الروحي او العقلي المرموز اليه بقدس الأقداس، والعالم الحسي أو المادي المشار اليه بأسواقها او صحنها. وهي ايضاً صورة الانسان فقدس الاقداس يرمز الى النفس وصحن الكنيسة الى الجسد، لابل هي صورة النفس عينها، فيمثل قدس الأقداس القوى العقلية، والاسواق القوى الحسية.”
الحنية الكبرى (صدر الكنيسة)
الكنائس الشرقية عامة لها في الناحية الشرقية الحنية التي تتضمن القدس وقدس الأقداس وبيت القدس، وهو قسم الكنيسة المرتفع القائم خلف حاجز الايقونات “تيمبلون”( الايقونسطاس مستقبلاً) الواقع بين قدس الأقداس وصحن الكنيسة. فيه يُحتفل بالذبيحة الالهية، ويتكون من بيت للمذبح وغرفتين. فهو اذن القسم الشرقي من الكنيسة ويحتوي على ثلاثة أقسام:
1- بيت القدس او الهيكل: وهو موضع المذبح/ الهيكل من قدس الأقداس يتوسط القسم الشرقي من الكنيسة.
2- المارتيريون او بيت الشهداء وتوضع فيها ذخائر الشهداء وتعني كلمة “ذخيرة” القطعة من الآثار المقدسة، كما انها تعني ايضاً الوعاء الذي تحفظ فيه القطعة، والصندوقة الحاوية تلك الذخائر تسمى باليونانية “شاس”. هذا وقد كانت ذخائر وعظام الشهداء في جرن من الحجر يصب فوقها المؤمنون بعض الزيت ليتقدس وبه يدهنون ويتبركون وقد حث القديس يوحنا الذهبي الفم في احدى عظاته في انطاكية جماعة المؤمنين ان يأتوا الى الكنيسة بقارورة فارغة ويحملوا فيها الى بيوتهم قليلاً من زيت الشهداء طلباً للشفاء وللقوة على تحمل مصائب الحياة. ودرجت العادة ان تُبنى غرفة الشهداء يمين المذبح ليزورها المؤمنون قبل ان يدخلوا الى الكنيسة ويتناولوا جسد الرب. وكانت غرف الشهداء مزينة بالصور والرسوم المقدسة.
قلب لوزة” كنيسة سورية شكلت مصدر إلهام لكاتدرائية نوتردام
3- الذياكونيكون او غرفة الشمامسة وهي الغرفة المحاذية لبيت القدس/ المذبح لجهة اليسار. وفيها توضع الأواني الكنسية والكتب الدينية والطقسية الضخمة، وفيها يلبس الاكليريكيون الحلل الطقسية وفيها تحصل الاستعدادات للقداس والاحتفالات الطقسية. وكانوا يتقبلون فيها تقدمات المؤمنين من قمح وزيت وخمر، ويوضع الزيت والخمر في جرار من الفخار او في جرار محفورة في الصخر.
الايقونسطاس وهي كلمة يونانية مركبة من كلمتين (إيقونة وموضع)، وهي في الاصطلاح الكنسي جدار رخامي أو خشبي يفصل قدس الأقداس عن صحن الكنيسة في الكنائس الارثوذكسية الرومية ويحتوي على ايقونتي السيد والسيد والمعمدان وشفيع الكنيسة، ويعلوه صف ايقونات الرب يسوع والتلاميذ الاثني عشر ويعلوه الصلبوت الكبير، وفي وسط الايقونسطاس الباب الملوكي الذي يدخل ويخرج منه اثناء الخدمة الالهية رئيس الخدمة والكهنة…
كان قبلاً عبارة عن حاجز او ستر يفصل قدس الاقداس عن باحة الكنيسة في بعض اوقات الذبيحة، وهذه الحجب والاستار لاتزال مألوفة في الكثير من كنائس الشرق. اما كنائس الغرب فكان لها درابزون عالٍ يفصل قدس الاقداس عن باحة الكنيسة وله باب يُقفل وكان يمد وراءه ستر عند الحاجة.
ونقول مجدداً الى ان الايقونسطاس مزين بالايقونات المقدسة ولاسيما ايقونتي السيد والسيدة. وقد يرجع استعمال الايقونسطاس الى مرحلة سابقة لعهد بدعة محاربي الايقونات. ويروي المؤرخون الكنسيون ان الامبراطور يوستنيانوس الحسن العبادة عند فراغه من بناء الكاتدرائية الشهيدة آجيا صوفيا ” الحكمة المقدسة” في القسطنطينية، في القرن الساس المسيحي. رفع امام الهيكل حاجزاً رائعاً مغشى بالفضة المطَّرقة، تمتد على عُمُده وعوارضه عسالج ازهار ونجوم ونقوش مذهبة، وقد تجلت على عمده صور السيد والسيدة ورؤساء الملائكة والأنبياء. فيبدو الايقونسطاس مثقلاً بالإيقونات الفنية الرائعة.
الصحن
هو في الكنيسة المكان المخصص لاجتماع الشعب. يمتد من باب الكنيسة حتى قدس الاقداس. ويمكن ان يكون من سوق واحدة، او منقسماً الى ثلاثة اسواق او اكثر وفي وسط القسم الاوسط من الصحن تقام البيما.
بيما/ فيما او المنبر
بيما/ فيما او المنبر يمين ويسار السوق الوسطي في المريمية وع العرشين البطريركي والاسقفي والايقونسطاس والسولا والانارة
1- استعمال بيما خارج المسيحية: وتعني كلمة بيما اليونانية اصلاً قوس المجكمة او منبر القضاء او العرش. سبق وجود البيما عند اليهود في مجامعهم فتُقرأ التوراة من على منصة عالية. وتعلو البيما الخشبية او الحجرية، كرسي كان يوضع عليها السفر وقت القراءة، وكانت توضع في الصحن الأوسط من المجمع مجالس مختصة بالشيوخ منتظمة بشكل نصف دائري ومتجهة صوب الشعب.
واعتمدتها البدعة المانوية زمن ماني المبتدع المجدف، وكان الرومان الوثنيون قد اعتمدوا البيما في دار القضاء وكانت هي كرسي القاضي، ومجلس الهيئة الحاكمة في صدر الحنية. ومن هذا الاصل انتقلت لفظة “بيما” الى الاستعمال الكنسي عندما تحولت الحنية/ القبة في مجلس القضاء الى حنية في الكنيسة المسيحية لاحتواء المذبح الذي يجلس وراءه الأسقف والاكليروس.
2- التطور في استعمال لفظة بيما
اصبحت في الاستعمال الكنسي،تعني ثلاثة امور هي
اولاً- عرش الاسقف في صدر قدس الاقداس او الهيكل المحتوي على المذبح
ثانياً – منبر الوعظ في صحن الكنيسة
واجهة الكاتدرائية المريمية بدمشق اقدم كنيسة في العالم وتعود الى عام 38 والجرسية الضخمة المنفردة يمين البناء في الباحة الخارجية
ثالثاً- في بعض اجزاء سورية والعراق هي مصطبة او منصة في صحن الكنيسة يعلوها عرش من حجر تحيط به من اليمين 6 كراسي ومثلها من اليسار لجلوس رئيس الاحتفال ومعاونيه الاكليروس.اشبه بالكاهن الاعظم الرب يسوع وتلاميذه…
وفوق هذه المنصة عادة مائدة تعلوها أحياناً مظلة وقرايات لتلاوة الأسفار المقدسة. وعرش الاسقف في بيت القدس كان يسمى تارة بيما وطوراً ثرونوس اي العرش، ومنبر الوعظ في صحن الكنيسة كان يسمى تارة “بيما” وطوراً “أمبون” ايضاً اي المنبر.
وقد استعملت الكنائس الارثوذكسية في عهودها القديمة السّوليا، وهي مصطبة بين الهيكل وصحن الكنيسة، تتم عليها الاحتفالات الكنسية. ( المريمية وكنيسة الصليب بدمشق والنبي الياس بحلب) اضافة الى امبون يميني ويساري علويين لقراءة الانجيل في الكنيستين…
وتمثل البيما والانجيل الطاهر فوقها عرش المسيح الملك الذي يدين شعبه بحسب الانجيل، واثنا عشر مقعدا ترمز الى تلاميذ المسيح كتذكار العشاء الأخير
النرثكس او الرواق
هو الممر المسقوف امام الكنيسة، الواقع بين المدخل الرئيس للكنيسة والصحن.
الباحة/ الساحة
هي باحة مكشوفة غير مسقوفة تقع امام الكنيسة، فرضت الكنيسة منذ القِدم، ان تكون للكنيسة باحة ذات اروقة. وتجدر الاشارة الى ان عدداً قليلاً من الكنائس اتبع هذا الرسم. مثال باحة كنيسة السيدة العذراء في شيخ سليمان وفي خربة حاس…
الناقوس
عمد المسيحيون احياناً الى البرج الواقع بجانب الواجهة الغربية للكنيسة ( الكنائس الارثوذكسية) او بقربها ( المريمية) ليذكروا من اعلاه المسيحيين بمواعيد الصلوات المتعددة في النهار.
الناقوس اليوم استخدامه شائع في الحياة الرهبانية وهو مكون من خشبة طويلة يقرعون عليها (ير القديس جاورجيوس الحميراء) وفي بعض الاديرة من الحديد الرنان( دير سيدة البلمند) ويختلف الناقوس عن الجرس المألوف الذي يعلق في اعلى برج الجرسية (كنيسة الصليب) ونشير الى ان الناقوس قديم العهد اعتمده اهل الصين والهند وكان معروفاً لدى الاغريق والرومان واستخدمته كنائس الغرب منذ شارلمان الذي عمم استخدامه. وكان ان المسلمين اثناء صلواتهم في الجانب الذي اقتطعوه من كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان السليبة ( الجامع الاموي) وحولوه الى مصلى اسلامي كما يروي ابن عساكر قد تضايقوا من قرع النواقيس للدعوة الى الصلاة المتعددة نهاراً في الكاتدرائية، وهي من اهم الامور التي دفعت بالوليد للاستيلاء على الكاتدرائية وتحويلها الى الجامع.
الانارة في الكنيسة
ايقونسطاس كنيسة الصليب المذهب مع الباب الخشبي الملوكي في السوق الوسطى مع بابين ملوكيين مماثلين في السوقين الايمن والايسر من حفر الفنان المرحوم جورج زيتون وتقدمته
اولى المهندسون والبناؤون المسيحيون السوريون عامة إنارة الكنائس اهتماماً عظيماً، فعمدوا الى شتى الطرق لتأمين الانارة الكافية ولتزيين أرجاء الكنيسة بالأنوار الساطعة. وكان تعدد النوافذ امراً ضرورياً بسبب إقامة الصلوات وتلاوة القراءات صباحاً ومساءً فهذه النوافذ بأشكالها المختلفة متوزعة في بناء الكنيسة لتأمين الضوء.
كما ان السرج والمصابيح الفخارية والخزفية والبرونزية والفضية كانت مستخدمة بكثرة، كذلك المشاعل العالية والثريات الكبيرة جداً المعلقة في السقف بسلاسل ضخمة كما في المريمية قبل ان يتم ادخال الكهرباء اليها لأول مرة عام 1907 حين دخول الكهرباء الى دمشق والمشاعل النحاسية العالية امام ايقونسطاس الكنيسة وهي من النحاس المطروق واعلاها شموع ضخمة وكذلك على الثريات( قبل الكهرباء) وكذلك في كنائس الاديار البطريركية والابرشية الحاضرة في كرسينا الانطاكي المقدس، وفي اديرة الجبل الرهباني المقدس ” جبل آثوس.
اما السرج فكانت تعتمد على زيت الزيتون “الذهب الأخضر” وخاصة في ادلب والشمال السوري وغوطة دمشق واكثر المناطق السورية وهو منتج سوري اساسي وكان يُصدر الى كل انحاء العالم.
بهذا الزيت كان المسيحيون ينيرون كنائسهم بالأنوار ويسرجون فيها السُرج ويضيؤنها.
من المصادر
تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى/ د. اسد رستم
تاريخ كنيسة انطاكية/ بابادوبولس تعريب الاسقف استفانوس حداد
تاريخ الكنيسة المسيحية/ سميرنوف، تعريب المطران الكسندروس جحى
سورية المسيحية في الالف الاول الميلادي المجلد الاول/ الأب متري هاجي اثناسيو
الحقائق الوضية في تاريخ الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية/ الخوري ميخائيل بريك
الآثار السورية، مجموعة ابحاث أثرية تاريخية/ د.عفيف بهنسي
الشارع المستقيم في دمشق / الاب ايوب سميا، مجلة النعمة البطريركية 1960
صور مقدسة على الفسيفساء المكتشفة في محافظة حماة في الحوليات الأثرية العربية السورية/ عبد الرزاق قزوق.
ان المسيحيين الأولين لم يكونوا يجرؤون على العبادة المسيحية من خلال تشييد هياكل جميلة فاخرة واقامة معابد كبيرة واسعة بل ظلوا حتى عهد قسطنطين الكبير وبراءته الشهيرة ميلانو 313م التي اطلقها بحرية العبادة والسماح للمسيحيين بعبادة الههم، لذلك كان المسيحيون قبلاً يجتمعون في اماكن حقيرة يتلون فيها فروض عبادتهم حسب تقليد الرسل الاطهار، وعند احتدام نار الاضطهادات كانوا يجتمعون في الأودية والغابات…وبقومون باداء فروض العبادة فيها بعيداً عن اعين السلطات الرومانية التي كانت ترى بالمسيحية تهديداً للوثنية التي هي صمام الامان للامبراطورية الرومانية فالمسيحيون مخالفين للشريعتين الدينية والمدنية الرومانيتين بصفتهم خارجين عن القانون ويجب القضاء عليهم بكل قسوة…
لكن المسيحيين الاوائل وعلى مدى القرون الثلاثة الاولى كانوا يتسابقون لنيل الشهادة، وكانت الكنائس هي اماكن متوارية عن النظر معروفة في علم العاديات المسيحية بالكاتاكومبات وقياسها المغاور والكهوف كما في مغارة القديسين بطرس وبولس في انطاكية للعبادة واقامة عشاء المحبة للاخوة كما فعل الرب يسوع في العشاء الأخير في علية صهيون قبيل القبض عليه وصلبه…
معنى الكلمة كاتا كومبي Ad Catacumbas
هي كلمة اما مركبة من كلمتين يونانيتين :”كتا” و”كيمبوس، او “كتا” و”تيمبوس” ومعناهما: الموضع حيث يُحرق الميت، أو تلّ من تراب يركم على رماده ورفاته…
واما مشتقة من الفعل اللاتيني كُوبو بمعنى رقد.
ومجمل القول فيها كيفما كان اشتقاقها انها تفيد معنى (المرقد) و(المضجع) عموماً و(القبر والمدفن) خصوصاً.
وردت بالعربية كلمة ديماس مقابلاً لكلمة كاتا كومبي وتنصرف معجمياً (فعل) دَمَسَ هو دمَسَ يَدمُس ويَدمِس ، دَمْساً ودُمُوساً ، فهو دامِس، والمفعول مَدْمُوس – للمتعدِّي دَمَسَهُ في الأَرْضِ أي خَبَّأَهُ، دَفَنَهُ.
كما يعني دِيمَاس جمعها دَيَامِيس أو دَمَامِيس تعني دامس بمعنى شديد الظلام، ويقصد بها كل مكان مظلم تحت الأرض، وقد يُقصد به السجون العميقة في الأرض خصوصاً، كما جاء في بعض المعاجم بمعنى حمّام تهم أن يجعلوه جبّاً مظلماً في بطن الأرض
اما في اللغة الكنسية فكلمة كاتا كومبات تدل على الكهوف الواسعة والمغاور الرحبة حيث كان المسيحيون حذراً من نيران الاضطهادات يتممون فروض العبادة على مدافن موتاهم حسب شهادتي صفرونيوس اوسيبيوس ايرونيموس احد كتاب الكنيسة الغربية في القرن الرابع المسيحي ومعاصره أوريليوس بروذينتوس.
وان تسمية الكاتاكومبات في روما فينسبها البعض إلى القديس كاتاكومبوس الذي استشهد على يد الرومان في بداية المسيحية.
وكما لايخفى على مطالعي التاريخ المسيحي الكنسي والمدني ان المسيحيين رفضوا بكل تكَّره واشمئزاز عادة حرق اليونانيين والرومانيين القدماء وكل الشعوب القديمة لجثث موتاهم. اذ كانوا يضعونها على ركام من حطب ويضرمون فيها النيران على مرأى من الجميع. كما رفضوا عادة المصريين القدماء بتحنيط موتاهم واجساد الحيوانات المقدسة عندهم كالقرود والهررة واللقالق والبزاة وغيرها واتبعوا عادة اليهود التي هي اكثر شيوعا بينهم كونهم يعتبرون انفسهم مكملين للشريعة الالهية” انا ماجئت لأنقض بل لأتمم” فكانوا يوارون موتاهم التراب بعد رفع الصلوات الحارة الى الله ليرحم نفوسهم متجنبين الافراط في الحزن والبكاء والنوح (الذي كان سائداً عند اليهود باقامة مناحات عظيمة على الميت) اعتماداً على رجائهم الوطيد وايمانهم القويم بيوم البعث يوم يجيء الرب على سحابة ليدين الاحياء والاموات.
تاريخ الكاتاكومبات – الدياميس
كنيسة على ديماس
من حيث الأساس، الدياميس هي أنفاق حُفرت في الصخر لتستخدم كمدافن، ويعتقد ان الكلمة catacomb المقابلة لـ «ديماس» ذات المعنى غير المؤكد ربما «في الأوجرة» كانت اسم مكان أطلق على مدفن معين في الطريق الأبياوي القريب من روما. وفي النهاية طُبّق الاسم على جميع المدافن الواقعة تحت الأرض. ومع انه توجد دياميس في أنحاء كثيرة في حوض البحر الأبيض المتوسط فإن الدياميس في روما هي أشهرها وأكبرها أيضا، إذ يقدّر طولها الإجمالي بمئات الأميال. وقد جرى تحديد مواقع 60 منها، وجميعها تقع على بعد بضعة أميال خارج وسط المدينة التاريخي على طول الطرقات القنصلية التي كانت تربط روما بأقاليمها.
ان هذه الكاتاكومبات التي تؤثر كل التأثير في نفوس مشاهديها مما لايعلم كنهه كل واحد ولاسيما في نفوس علماء العاديات نظراً لضخامتها الهائلة وغرابة بنائها مع دقة زينتها الداخلية يتساءل عنها الناس كيف ومتى حفرت وصارت اشبه بقصور فخيمة يتراوح عدد طبقاتها بين الواحدة الى الخمس في ذلك الظلام الدامس، ومع صعوبة الجزم في ذلك يترجح ان الكاتا كومبات لم تُحفر في زمن واحد بل في ازمنة متعاقبة.
دياميس روما Catacombs of Rome أو سراديب الموتى الشهيرة في روما هي سراديب أو ممرات تحت الأرض وحجرات استُعملت مقابر وكنائس. حفر المسيحيون الأوائل تلك السراديب من القرن الثاني إلى أوائل القرن الخامس المسيحيين ليختبئوا فيها أيام الاضطهادات الدموية الهائلة طيلة القرون الثلاثة المسيحية الاولى. تزين الرسومات المقدسة جدرانها وأسقفها. وأهم السراديب هي الموجودة في سان كاليستو وسان سياستيانو …
وكانت هذه الأروقة أمكنة يدفن فيها المسيحيون الأولون أمواتهم ويجتمعون فيها إبان الاضطهادات العنيفة كما اسلفنا ليعزي بعضهم بعضاً ويشجع بعضهم بعضاً ويجدوا فيها القوة والشجاعة والعزاء، بالقرب من مدافن الشهداء، حتى باتت قبلة الزوار الأتقياء الآتين من كافة الأقطار والأمصار عبر العصور والأجيال.
شهادات
-يشهد (بوزيو) وهو مكتشف الكاتا كومبات انها مقاطع او مقالع قطعت منها الحجارة ونقل منها التراب لتشييد ابنية مختلفة في روما، وكان يشتغل بذلك المسيحيون قبل اعتناقهم المسيحية. وبعد مسيحييتهم استفحلت موجات الاضطهادات الدموية العنيفة بحقهم فحولوا هذه المقالع تحت الارض الى مكامن وملاجىء، واتخذوها مدافن لشهدائهم وموتاهم. وكانوا يقيمون على مثاويهم فروض العبادة. وكان المسيحيون يوقرون الشهادة والشهداء في سبيل المسيح فهم اشبه بحبة الحنطة التي تدفن في التراب لتنمو سنبلة تطرح قمحاً كثيراً اي زيادة عدد المؤمنين بالمسيح.
-آخرون ذهبوا في شهاداتهم عن الكاتا كومبات الى انها كانت عبارة عن آثار قديمة تعود الى ماقبل التاريخ، وذلك استناداً الى ماجاء في التاريخ من ان القدماء كانوا يحفرون تحت الارض بين مدينتين او أكثر أنفاقاً سرية يستخدمونها عند ضيقتهم لمقاصدهم. وقد وُجد آثار لمثل هذه في كمبانيا حسب شهادة الباحث والمنقب الجغرافي الشهير سترابون الاغريقي (46 ق.م-24 ق.م)
-وقال (مركي) و (دي روسي) /وقوله هو الاقرب الى القبول والاقتناع/
“ان المسيحيين حفروا الدياميس الكاتا كومبات في زمن الاضطهادات، وكانت بادىء ذي بدء مقابر ثم مع تتالي الاضطهادات حفروا لها منافذ تصل احداها بالأخرى فصارت بمثابة مشبَّك من دهاليز ومسالك في جوف الأرض حتى يتحير من يدخلها كيف يخرج منها بعد دخوله فهي متاهات مخيفة يخاف الداخل على حياته ان تُفقد داخلها قبل الخروج منها.
ويبدو في روما انه في القرن الأول المسيحي لم تكن للمسيحيين الرومان مدافنهم الخاصة، بل كانوا يدفنون موتاهم مع الوثنيين. وفي منتصف القرن الثاني، عندما كان مدّعو المسيحية قد بدأوا يتأثرون بالفكر الوثني، وتظهر الهرطقات والبدع المشوهة لنقاء المسيحية قدّم، المهتدون الأثرياء أملاكا لتكون مدافن مسيحية، ولحل مشكلة الاتساع دون الابتعاد كثيرا عن المدينة ابتدأ الحفر.
وانتشرت الكاتاكومبات في دائر الكرسي الانطاكي لكن ليس كما كان الحال في روما فهناك العاصمة وفيها كانت تجري حفلات الاعدام الجماعية للمسيحيين، ففي دمشق كان اول الشهداء هو جاورجيوس البواب وهو بواب الباب المعروف بباب بولس شرق دمشق، وقد قام بتهريب بولس الرسول بانزاله بسل كبير وغقاباً له قتله اليهود الدمشقيون رجماً خارج الباب حتى الاستشهاد وقام المسيحيون الاوائل بدفن جثمانه في موقع رجمه وصار المسيحيون الاوائل يدفنون موتاهم حول قبر جاورجيوس البواب وتسمى المكان باسمه وصار هذا القبر مدفناً للاكليروس الدمشقي باسم القديس جاورجيوس.
وكانت العبادة للمسيحيين الدمشقيين تتم للأرثوذكسيين بقيادة حنانيا الرسول في قبو بيته وهو اليوم كنيسة حنانيا الرسول، وللمريميين في قبو كان يتخذ كمصلى للشيعة المريمية وهو الآن الكاتدرائية المريمية
من أبرز الآثار القديمة التي اكتشفت في مدينة حمص، الدياميس أو ما تسمى في العصر الروماني باسم الكاتاكومبات، وهذه الدياميس هي كهوف تحت الأرض يمارس فيها المسيحيون ديانتهم بعيداً عن ملاحقة السلطة الرومانية القاسية التي كانت تقاوم الديانة المسيحية وتضطهد اتباعها بضراوة. ولقد كشف عن هذه الدياميس في حمص في حي الشرفة وفي حي باب تدمر في عام 1960 وتعود إلى القرنين الثالث والرابع الميلادي. تتألف دياميس حي الشرفة من أروقة مبنية عقودها السقفية من الأحجار السوداء، طولها 18م وعرضها 12م ومتوسط العمق عن السطح 5.25م، وتتفرع من الدهاليز الوسطى دهاليز جانبية تؤدي إلى معازب وضعت فيها قبور المسيحيين مع آثاثهم الجنائري. ولقد زينت بعض الجدران بألواح الفسيفساء أو بالتصوير الملون الفريسك تمثل سير انجيلية….
وكان الانجليز القدماء يسجنون السجناء من عامة الشعب في الدياميس تحت الارض، وفي التاريخ الاسلامي انه كان لبعض حكام المسلمين سجون تسمى ديماساً لشدة ظلمتها مثل ديماس الحجاج بن يوسف الثقفي.
تقسيم الكاتا كومبات
اذا تخيلنا تلك المغاور الفسيحة والكهوف الرحبة وتمثلنا مافيها من الآثار القديمة الجديرة بالذكر نجد انها تقسم الى ثلاثة اقسام
اولاً الدهاليز او المسالك
الدهاليز او المسالك الكاتا كومبات هي كثيرة الوجود في محلات مختلفة ولاسيما في روما التي لقبت بلا مبالغة بأم الكاتا كومبات أو بروا الأسراب حيث اكتشفت من سنة 1578 الى مطلع القرن 20 ماينيف عن الستين منها، وهذه المدافن تفتح مداخلها الضيقة بجانب الطرق فينحدر منها الزائر بدرج متعرج ومتموج من عمق ثمانية الى حمسة وعشرين متراً تحت سطح الارض حيث يجد على يمينه وشماله مقعدين حجريين للاستراحة عند دخوله اليها وخروجه منها. ومن ثم تفتح امامه الدهاليز او المسالك التي تكون تارة رحبة وطوراً ضيقة وحيناً عالية ومرة واطئة…منارة بنور ضئيل يدخل اليها من ثقوب مستديرة أو مربعة الشكل في سقفها المعروف باللو مناريا اي الكُوى وعلى كل من جدران هذه الدهاليز والمسالك توجد أثقاب لدفن الموتى الواحد فوق الآخر وعددها يتراوح بين الواحد الى الخمسة وتدعى باللاتينية لوتشي ولوكُولي وكل منها يسع جثمان او جثمانيين واكثر فلهذا اختلفت اسماؤها باختلاف حجمها، فالتي تحتوي على جثمانيين تسمى في اصطلاح علماء العاديات المسيحية بزومي والمحتوية على ثلاث جثامين تعرف بالتريزومي…وعلى اربعة كواتريزومي…
فكان اهل ذلك العهد يغسلون اولاً الميت ويدرجونه بكتان نقي ومن ثم يضعونه في القبر وكثيراً ماكانوا يضعون بجانبه لباساً واسلحة واواني متنوعة وثمينة الى غير ذلك من حاجيات الحياةمما يدل على عمر الميت وحالته المادية . ثم كانوا يسدون باب القبر ببلاطة من المرمر او الحجر البسيطويُحكمون وضعها حذراً من انتشار رائحة فناء الجثمان، وبعد ذلك يحفرون او يكتبون على القبر رموزاً مختلفة ورسوماً بسيطاً وتصاوير جميلة مع ذكر اسم الميت وتاريخ مولده وانتقاله من عالم الفناء الى دنيا البقاء. اما القبريات او التواريخ على القبر ايباتاش التي اكتشفت في الكاتاكومبات فمختصرة للغاية الا ان رصف عباراتها يدل بأوضح بيان على رجاء ومحبة ومعتقد الراقدين بالرب وعلى ايمانهم الوطيد وآرائهم القويمة بشأن الموت والقيامة ومصداقاً لما اوردنا نذكر شيئاً مماهو باقٍ الى ايامنا وهو:
” ياتيخكوس نفسك مع القديسين”
“قسطنديا دائماً أمينة انتقلت الى الله”
” أغابي ستبقي حية الى الأبد”
“ياتيموثاوس سلام لك أبدي بالمسيح”
” هنا قد رقدت ذمالي حسب ارادة الله”
“تريانديانوس حيّ”
” ايها الشاب مرقس انت الآن في مصف الابرار”
” الأسقف كورنيليوس – شهيد” الى غير ذلك مما لايحصى
ثانياً الكوبيكولا
هي عبارة عن محلات مربعة الشكل او مخمسة الزوايا او مستديرة بمحراب في وسطه قبر معروف بالاركوزوليورم ومُنمندوم اريناتم بمعنى قبر تحت قوس وهو الآن بمثابة المائدة المقدسة كما هو واضح من شهادة اوريليوس بروذينديوس حيث يقول ان هذا المذبح اي المبني على قبر القديس ايبولتوس وهو في آنٍ واحد موزع السر اي سر الافخارستيا وحافظ امين للشهيد يحفظ رمته الى حين مجيء الحاكم الأزلي ويغذي سكان تيبر اي سكان ايطاليا بطعام مقدس. وهذه الكوبيكولا مغشاة بالمدافن العائلية وفيها حواجز تقسمها الى قسمين الواحد للشعب والآخر للاكليروس.
ثالثاً الكابيلا
وتعرف اكليسيا او بالباسيليكا. قد ارتبكت الأقوال وتضاربت الآراء بشأنه مما لامحل لذكره ومن المؤكد انه عبارة عن كُبيكلتين او ثلاث الى الخمس كبيكلات. وتختلف عن الكبيلات المذكورة آنفاً بهيئة بنائها وزينتها الداخلية اي بالتصاوير والنقوش والرموز الموشاة بها جدرانها وسقوفها. وكل من هذه الكبيلات المستطيلة الشكل تقسم الى ثلاث محلات. فالقسم الاول منها وهو عبارة عن كبيكلتين معد للمؤمنات عند اقامة خدمة القداس الشريف والثاني عبارة عن كبيكلتين معد للمؤمنين اما الثالث والاخير فهو بمثابة الهيكل المقدس الآن وفي جانبه الشرقي يوجد الكرسي الحبري ويكون اما متحركاً واما ثابتاً شبه صليب وامامه المذبح المقدس وهو ايضاً اما متحرك او ثابت على اربعة اعمدة. وفي جانبي الكرسي الحبري محفورة قبور للشهداء او مقاعد للكهنة. واما على جانبي الهيكل فتوجد كبيلكتان يقال انهما كانتا غرفاًاما للموعوظين واما لحفظ الأمتعة المقدسة وغيرها. وهذه هي الكاتا كومبات بكل ايجاز.
كاتدرائيات فوق الدياميس منها كاتدرائية القديس بطرس
وقد شيدت كاتدرائيات عظيمة رحبة فوق بعض الدياميس إحياءً لذكرى القديسين والشهداء الذين دفنوا في تربتها. فكاتدرائية القديس بطرس الرفيعة العماد قد بنيت في المكان الذي أقيم فيه ضريح زعيم الرسل. والحفريات التي بوشر بها في أيام البابا بيوس الثاني عشر أثبتت ذلك إثباتاً لا يستطيع أن يقاومه معاند أو ينكره مكابر. وحول ضريح هذا الرسول العظيم كشفت آثار أضرحة أخرى مسيحية. وقد دامت مدة الحفريات ست عشرة سنة بإشراف علماء يشاء إليهم بالبنان في علم الآثار، وخبراء فنيين لا يطالون، الذين وجدوا مع ما وجدوا بقايا الكاتدرائية الأصلية التي ابتناها قسطنطين الكبير في هذا المكان عينه.
على الطريق الموصلة إلى مدينة أوستيا (Ostia) وعلى مقربة قليلة من المدينة، ضريح القديس بولس رسول الأمم. وقد أقيمت أيضاً فوق ضريحه كاتدرائية تدعى “كاتدرائية القديس بولس خارج الأسوار”. وإن أشهر الطرق هي ولا شك الطريق “الابيانية” المدعوة “ملكة الطرق الروماني” لما حوته أطرافها من الأضرحة لشخصيات وثنية عظيمة اشتهرت أيضاً بمدافن المسيحيين، ونخصّ بالذكر منها المقبرتين باسم “دياميس القديس سبستيانوس والقديس كاليستوس”.
فالتقليد نقل إلينا أن على هذه الطريق الأبيانية التقى القديس بطرس، يوم غادر روما، بالسيد المسيح حاملاً صليبه، فجثا الرسول في الحال على ركبتيه وصرخ قائلاً: “يا سيد إلى أين تذهب (Domine quo vadis)؟” فالتفت إليه الفادي قائلاً “أنا ذاهب إلى رومة لأصلب ثانية”. أما القديس بطرس فوعى ما عناه الرب بقوله هذا وعاد ثانية إلى رومة، وبعد قليل من وصوله إليها استشهد على الصليب ورأسه إلى أسفل لأنه لم يعتدّ نفسه أهلاً لأن يموت على الصليب بنفس الصورة التي صلب فيها المعلم الالهي على صليبه مرفوع الرأس.
المكان الذي دفن فيه موقتاً القديسان بطرس وبولس
ومنذ سنوات قليلة خلت، وجد في ديماس القديس سبستيانوس المكان الذي دفن فيه موقتاً الرسولان بطرس وبولس والمسمى “المعبد الرسولي”، والكتابات التي تشاهد حتى يومنا هذا على جدران هذا المعبد تعبر عن استغاثات المسيحيين بهذين القديسين وتنبئ بالكفاية عن انهما دفنا معاً فترة غير قصيرة في هذا المكان. والبابا القديس غريغوريوس الكبير شهد بأن المسيحيين إبان استشهاد هذين الرسولين، حضروا من الشرق مطالبين بجثمانهما، كما اردف قائلاً بشهادته: بأن جثمان هذين القديسين قد دفن على الطريق الابيانية على بعد ميلين من المدينة (رومة)، في المكان المعروف بالدياميس (Ad Catacumbas).
جثمان القديس بطرس في تل الفاتيكان وجثمان القديس بولس خارج أسوار روما
ثمة تقليد قديم يقول أن المسيحيين الشرقيين الذين طالبوا بجثمان الرسولين قد لقوا عاصفة من الاضطهاد اضطرتهم إلى اللجوء إلى دياميس القديس سبستيانوس، ولذا انتهز المسيحيون الرومانيون الذين ما كانوا يريدون أن يفقدوا ذخيرة جليلة وكنزاً عظيماً كذخيرة اميري الكنيسة ورسوليها العظيمين، فحالوا دون أن ينفّذ الزائرون الشرقيون رغبتهم ويحققوا مرماهم، فتخيّروا الوقت المناسب ونقلوا جثمان هذين القديسين، فدفنوا جثمان القديس بطرس في تل الفاتيكان، وجثمان القديس بولس خارج الأسوار على ما هو مشهور ومعروف الآن. أما ادارة دياميس القديس سبستيانوس فقد انيطت بالرهبان الفرنسيسكان وقد شيدت منذ أقدم العصور كنيسة رائعة في المكان الذي استشهد فيه القديس سبستيانوس الجندي الباسل، وحيث آثر أن يُرمى بالسهام على أن ينكر إيمانه بالمسيح المصلوب.
متى ظهرت الدياميس الرومانية؟
Good Shepherd fresco from the Catacombs of San Callisto
ومع ذلك فالدياميس الرومانية لم تظهر بروعتها وتُكشف جميع مسالكها إلا في الجيل الأخير من عصرنا إذ أكبّ علماء أعلام على دراسة آثارها وحفر مخبآتها وإظهار معالمها جلية واضحة بشكل علمي لا يقبل نقداً ولا نقيضاً. وكان أول من حمل علم البحث والتنقيب فيها العلاّمة الايطالي الكبير جوفاني دي روسي (Giovanni de Rossi) الذي توفاه الله عام 1894، وهكذا تيسر للمسيحيين ولوجا وللعلماء الاهتمام بشؤونها ودراستها دراسة أثرية علميّة.
طول الدياميس ستمائة ميل
عندما نشر العلاّمة تيودور مومسن (Théodore Momsen) كتابة عن “الكتابات الأثرية المسيحية في مدينة رومة” قال: “قبل الآن كان يعتبر العلماء دراسة الآثار المسيحية ملهاة، لقتل الوقت ولملء ساعات الفراغ، ولكن بكتابي هذا أصبحت دراسة الآثار المسيحية علماً جليلاً.” والعلامة دي روسّي ارتأى أن الدياميس الرومانية تشغل مساحة ستمئة ميل وهي المسافة التي توازي طول ايطاليا كلها من جزيرة صقلية حتى جبال الألب والأب ماركي (Marchi)، الذي كان أستاذه وسلفه والذي كان يشغل وظيفة القيّم على مدافن رومة الأثرية، قدَّر المساحة بأكثر من تسعمائة ميل. وهذان العالمان الأثريان اختلفا في عدد المسيحيين الذين دُفنوا في هذه المدافن. فروسّي قدَّر عددهم بأكثر من ثلاثة ملايين بينما العلاّمة ماركي قال أن عددهم بلغ السبعة ملايين.
مأوى المسيحيين
وقد يلوح لنا لأول لحظة أن ما يقدرانه مبالغ فيه ولكن ما علينا إلا أن نتذكر بأن شعب رومة المسيحي بقي مدة ثلاثمائة سنة يجد مأواه وراحته في هذه أرض الدياميس المباركة. وبما أن الشريعة الرومانية كانت تحرّم دفن الموتى في حدود المدينة لذا كانت المدافن الرومانية خارج أسوار المدينة، على طول الطرق العديدة المؤدية إلى الممتلكات الامبراطورية الرومانية الواسعة الرحاب. فقد وُجد أكثر من خمسين قطعة أرض خصّصت مسالكها الباطنية للمدافن، وهي تضم الألوف والألوف من القبور التي نضدت فوق بعضها. وقد عبّر عن ذلك الأب ماركي في كتابه الشهير “اورلاندو الشرس” بإيجاز ووضوح إذ قال: “كانت برية رومة مليئة بالمدافن، فالحقول الرومانية كانت بالحقيقة تحيا بالقبور.” فلو جال أحد في تلك المنعطفات وطاف في تلك المسالك السحيقة تحت الأرض وكشف مخبآت تلك الحياة التي كان يعيشها المسيحييون في أجيالهم الأولى لاستطاع أن يرسم صورة حقيقية عن الحياة المسيحية ويقدّر أعمال وبطولات الباباوات الأولين المعترفين والشهداء.
إيمان المسيحيين الأولين
ولو أن الأزمنة والعناصر عبثت بتلك الأمكنة ونالت من جدّتها، إلا أن أهم آثارها ما زالت سليمة تطاول العصور. فلا يحتاج الزائر للتفكير المضني والخيال المرهق ليعود إلى أيام الاضطهادات، تلك التي عانى منها المسيحيون الأمرّين، وبذلوا فيها دماءَهم سيولاً عارمة في الأجيال الثلاثة الأولى من تأسيس الكنيسة. فإنه ولا شك يجابه هنا حقيقة المسيحية الحية وجهاً إلى وجه.
فإنه يستشف منها طريقة العبادة التي كان يمارسها المسيحيون الأولون وليتورجيتهم وإيمانهم، وذبائحهم. إنه يرى بالعين المجردة حقيقة إيمانهم المقدس، إذ تتمثل أمام ناظره تعاليم الكنيسة في الحجارة ناطقة بالكتابة، والرسوم على الجدران بالفحم الثابت أو الألوان المختلفة. فألوف الكتابات المسطّرة على الجدران أو الحجارة، تؤلف نغماً واحداً معبراً عن شركة القديسين وقيامة الموتى، والزائر بكون الشاهد الحي على ذاك الاهتمام الذي كان المسيحيون يبذلونه في سبيل دفن موتاهم، والإكرام الذي كانوا يخصّون به الشهداء الاماجد، والمعترفين بالإيمان الذين آثروا الموت على الحياة من أن يجحدوا إيمانهم أو ينكروا الههم وفاديهم.
الى هذه الكاتا كومبات التجأ المسيحيون الاوائل حذراً من نيران الاضطهادات المضطرمة وحافظوا فيها على معتقداتهم القويمة حيث تمكنت في افئدتهم شعائرها. واضرم في صدورهم روح الثقة بالله والمحبة للقريب والغريب اما في ديجورها الدامس فقد رتبت العبادة الالهية واقيمت الطقوس الكنسية كما هي عليه الى يومنا هذا ولما انتصرت المسيحية شيدت المعابد البهية لتمجيد الله في النور وعلى سطح الارض حسب ترتيب الكاتا كومبات وتقسيمها في بطنها ليتمجد ويتعظم فيها اسم الرب القدير.
مستجدات تاريخية مرعبة لاحقة
وعن تاريخ الدياميس ربما أُجريت أول أعمال الحفر عند منحدرات التلال او في المقالع المهجورة. ثم كان يوضح لودفيغ هرتلنغ وإنغلبرت كيرشباوم في كتابهما عن الدياميس، «كان العمل يبدأ بحفر دهليز يزيد ارتفاعه قليلا على طول إنسان، وكانت تحفر أنفاق جانبية الى اليمين وإلى اليسار، وكان يمكن ان تُربط أطرافها لاحقا بممر آخر مواز للدهليز الأول، وهكذا كانت تتشكل شبكة ممرات بسيطة لا تلبث ان تصير تدريجا أكبر حجما وأكثر تعقيدا».
والتطور الأبرز حدث في القرنين الثالث والرابع، فبحلول ذلك الوقت نشأت هرطقات في المسيحية نتيجة تداخل الوثنية فيها، ومع براءة قسطنطين سنة 313 ب.م، صارت الدياميس ملكا لكنيسة روما، وبلغ بعضها في النهاية حجوما هائلة. فقد كان ممكنا ان تسع الدياميس الرومانية بأجمعها مئات الآلاف من القبورر إن لم يكن الملايين.
وفي خلال تلك الفترة كانت المدافن تزخرف وتوسع، وبنيت مراق جديدة فيها لتسهيل دخول سيل الزوار المتزايد، وانتشرت شهرة القبور المنسوبة للبابوات، وخصوصا في شمالي أوربة، الى حــد ان الدياميس صارت مقصدا لرحـــلات حج جماعية. وبسقوط روما السنة 476م وحدوث الغزوات البربريــة الأولى في بداية القـــرن الخامس، صـــارت المنطقة بأسرها خطرة جدا، وتوقــف استخدام الدياميس كمــدافن.
أما في القرن الثامن فقد تضررت القبور كثيـــراً اذ تعرضت للسلب والنهب ليـــس فقط من قبل الجيوش الغازية بل ايضا، استنـــادا الى المؤلفين المذكورين، من قبــل الوسطاء الرومان الذين كانوا يزوّدون رؤســاء الأديرة الألمان والفرنكيـــين المتعطشـــين الى الذخائر بكميات كبيرة من التذكارات المقدســـة لزيادة هيبة كاتــدرائياتهم وأديرتهم. ولما وجــد البابـا بولـــس الأول انه غيــر قــادر على حمايــة الدياميس، نقل معظم ما تبـقى من العظــام الى داخل أسـوار المدينة حيث تحفظ بأمان.
كانت الدياميس التي يعرفها الناس هي قبور حول الكنائس يدفنون فيها أمواتهم ولا يعرفون مكانا آخر لدفن الموتى . إلى أن قذفت الأرض مئات الألوف من الجثث او العظام النخرة في بيوت الناس فهرعوا مرعوبين إلى الشوارع ولا يعرفون هل قامت القيامة وقذفت القبور احشائها ؟
وعلى ضوء ذلك اكتشفوا تلك الممرات المخيفة تحت المدن والتي تبدأ عادة من تحت الكنائس او قصور الأمراء. ولنأخذ باريس مثالا على ذلك… فقد اكتشف المحققون وجود أكثر من مليوني جثة مكدسة في بعض الاماكن في ممرات تحت الأرض قد يصل ارتفاع اكداس هذه الجثث احيانا أكثر من عشر أمتار. وهنا تبين سر شكوى الناس من تلك الروائح الغريبة الكريهة التي تنبعث من تحت بيوتهم حتى قيل أن هذه الروائح تجعل الحليب محمّضا لشدتها. فطالب الناس من الدولة ان تغلق هذه الممرات وانقاذهم من الرعب الذي يعيشون فيه . وهنا ظهر الجاني الحقيقي . لقد اعترض رجال الدين على قرار اغلاق هذه الدياميس من دون تقديم اي عذر او سبب لاعتراضهم. ولكن في سنة (1780) تصدّعت الأرض تحت اقدام الناس وقذفت الجثث إلى البيوت والشوارع نتيجة لاحتباس غازات تفسخ الجثث، وعلى ضوء ذلك اغلقت فتحات هذه الدياميس. وقررت الدولة نقل الجثث والعظام إلى مقالع (تومب إبسوار المهجورة ) وعلى مدى (15) شهرا كانت قوافل مخيفة تنقل العظام كل ليلة وحتى الصباح . وكانت العظام والجثث تُلقى عبر فتحة (مهوى) ارتفاعه (17) مترا .
في سنة (1787) كان اول من نزل لمشاهدة هذه الدياميس السرية هم الأمراء ونساء البلاط الملكي فقد نزلوا ما يقارب (91) درجة حتى وصلوا إلى اول النفق، وعلى ضوء المشاعل شاهد الجميع ما تقشعر له الجلود، اكداس من الجثث والعظام تم رصفها على شكل علامة الصليب، وبناء اغلب الجدران من هذه العظام. وفي سنة (1774) انهار (1000) قدم من شارع (رود دنيفر) والذي اطلق عليه فيما بعد “شارع الجحيم” وهو الان بإسم (دنفير روشرو) خًسف هذا الشارع وانهار تحت اقدام الناس والبيوت في حفرة عمقها (30) متراً فصارت باريس مهددة بالانهيار. وفي سنة (1782) اقتحم رجل صحفي شجاع اسمه (فيليبير أسبير) احد هذه الانفاق لكي يعرف اسرارها، وقد حاول هذا الصحفي ان يشق طريقه عبر مئات الكيلومترات من الدهاليز. فضاع في هذه المتاهة وفي سنة (1793) أي بعد احد عشر عاماً، وجدوا هيكله العظمي، وقد تم التعرف عليه من خلال مفاتيحه وثيابه ومصباحه. لو يدخل الزائر من أحسن المداخل المؤدية للسراديب السرية واجملها انارة هذه الايام لشاهد باباً برونزياً صدئاً ثقيلاً ووراء الباب يمتد رواق بُنيت جدرانه بالجماجم وعظام الفخذ والعظام الكبرى للكتف وهي مرتبة في صفوف هائلة وقسم منها على شكل صلبان مما يجعل المنظر مرعبا جدا حيث صنعت كل ثريات الشمع من عظام الاطفال الرقيقة. على مساحة تساوي ثلثي مساحة باريس كانت الانفاق مليئة بالعظام والجرذان الكبيرة تعشعش في اجواف الهياكل العظمية. يقول الخبراء : لو تم توزيع الجرذان على سكان باريس لكان نصيب كل فرد ثلاث جرذان كبيرة الحجم لها قدرة كبيرة على هضم اقوى السموم وهذه الجرذان لا تعاني نقصا في الاغذية فهي تشن غاراتها الليلية على البيوت والمطاعم ومكبات النفايات اضافة إلى التهامها كل يوم 100 طن من الفضلات ، وهذا يُساوي ثلث مزابل باريس . زعم البعض ان هذه الجثث هي بقايا ضحايا الطاعون الاسود الذي ضرب باريس سنة (1418) والذي قتل مئات الألوف . ولكن تبين فيما بعد من خلال الوثائق التي تم العثور عليها في سراديب (كاتاكومبات) ووثائق أنفاق مدفن (سان زينوسان) أن مليونين جثة على أقل التقادير هم ضحايا مذبحة عيد القديس (برثولماوس) . وهي المذبحة التي جرت في باريس على خلفيات مذهبية طائفية على يد الكاثوليك ضد البروتستانت في فرنسا. حيث كان اتباع مذهب برثولماوس يحتلفون بعيد لهم فهجهم عليهم الكاثوليك وامعنوا فيهم ذبحا ثم رموا جثثهم في مجاري باريس القديمة والممتدة مئآت الكيلومترات تحت الأرض فتكومت عظام اكثر من مليونين انسان بينهم شيوخ واطفال ونساء كلهم من اتباع هذا القديس. وبرثولماوس اعتمد عليه يسوع في تبليغ رسالته إلى اليهود كما يذكر إنجيل مرقس 3: 18 ((ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا ))وكان من بينهم برثولماوس . وكان برثولماوس منصفا حيث انكر مسألة ربوبية يسوع وصلبه وتكاثر اتباعه ، ولكن اليهود امسكوه وسلموه للقيصر الذي صلبه منكس الرأس بعد أن سلخ جلده حيا. وقد ذكر المؤرخ (يوسابيوس القيصر) بأن القديس برثولماوس ترك نسخة من انجيله وهو الإنجيل الذي لا تعترف به الكنيسة وتعتبره من الأناجيل المنحولة ، وقد ورد اسم هذا الإنجيل في قائمة الكتب الممنوعة للبابا (جلاسيوس) وقد وصلت من هذا الانجيل اجزاء لا تزال في مكتبة الفاتيكان ضمن الوثائق الاكثر سرية. هذا سرٌ من أسرار المجازر الطائفية كشفت عنه المقابر الجماعية الدياميس ولم يكتب عنه أحد بهذا الوضوح.
من المصادر
نجيب ميخائيل ساعاتي مجلة النعمة البطريركية بدمشق في 15 آذار 1910
د. اسد رستم كتاب كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى
موقع المعرفة دياميس رومة
المعجم الوسيط
موقع ايزابيلا “سر كتاكومب المخيف.الدياميس شواهد على عدم رحمة الانسان بأخيه …”
بدايةيعد علمنا الشاعر المهجري “ميشيل مغربي” أحد مؤسسي العصبة الأندلسية…
حظي الأدب المهجري بعناية الدارسين ونقاد الأدب ومازال كذلك، ولهذا الأدب محبوه ومتذوقوه ، فقد كان فتحاً في أدبنا الحديث، فتح عيوننا على مباهج الحياة،وروعة المغامرة وإغراء الحرية ، بعد أن ظل أدبنا أحقابا طويلة نائما في مغارة التاريخ مغمضا عينيه على مستجدات الحياة مكتفيا بالاجترار من الكتب القديمة ، وكد الذهن لا في توليد المعاني البكر، بل في تنميق الكلام والولوع بالأسجاع واللهاث وراء التورية وفي مباركة الأوضاع القائمة وهي أوضاع مزرية تميزت بالركود الاجتماعي والتأسن الثقافي والاستبداد السياسي وكانت غاية الأدب أن يصل إلى البلاط مسبحا بحمد الحاكم آناء الليل وأطراف النهار لتحقيق مآرب شخصية مضحيا بمصلحة الجماعة لحساب المصلحة الشخصية.
خرج الأدب المهجري إذا من رحم المعاناة مبشراً بعصر الخصوبة وبقيام طائر العنقاء من رماده صحيحاً معافى، وهو يحمل معول الهدم منقضا على سفاسف الماضي، معلياً صرحاً جديداً من الأدب الخلاق المتميز بصدق الشعور ونزعة التجديد والغيرة على حاضر الأمة ومستقبلها متزوداً من الثقافة العربية الأصيلة والغربية البناءة ، مستفيدا من أرض ترعرع فيها هي الأرض الجديدة – أمريكا الشمالية والجنوبية – حيث للفرد قيمة وللعلم المكانة الأولى – إنها مجتمع الصناعة والتقدم والإبداع والرفاه المادي والمعنوي وكل هذه العوامل مجتمعة وجدت صداها في عقول وضمائر وإنتاج أدباء المهجر الأدبي والفكري .
الشاعر ميشيل المغربي
«هو آخر حبة في عنقود شعراء المهجر الجنوبي البارزين». بهذا وصفه الاديب الكبير صديقنا الاستاذ عيسى فتوح.
بعض من السيرة الذاتية
ولد الأستاذ ميشيل بن حافظ المغربي ـ والدته هيلانة بنت عبد الله _ اللاذقانية الأصل ـ في مدينة الإسكندرية في 16 كانون الأول سنة 1901م بعد وفاة والده بأربعة أشهر، فتعهدته والدته بالتربية الصالحة…
درس في مدارس االاسكندرية الابتدائية اللغتين العربية والانكليزية حتى بلوغه سن العاشرة، وزارت به مدينة حمص بطلب من ذويه مرتين، وفي المرة الثالثة عام 1911 رحلت به نهائياً إلى موطن أبيه وأجداده فألحقه ذووه بالكلية الإنجيلية الداخلية في عهد مديرها العلامة حنا خباز وتتلمذ عليه وعلى الاساتذة فريد ملحم ويوسف شاهين و…حتى نهاية المرحلة الثانوية.
ولما أغلقت المدرسة أبوابها مع بداية الحرب العالمية الاولى 1914 ظل شاعر حمص ذا الميل الغريزي لتلقي العلوم مثابراً بنفسه، وقد تتلمذ على الأستاذ اللغوي يوسف شاهين في آداب اللغة زهاء سنتين بدأ في أثنائها ينظم الشعر، فكان أول ما قاله رثاءه لوالده، وأصدر اول ديوان له تحت عنوان ” العواصف” عام 1922…
الهجرة من الوطن
هاجر الى تشيلي اواخر عام 1923 فأقام فيها ستة أشهر، ثم اتجه منها الى البرازيل في عام /1924/ حاملاً معه ديوانه الشعري “العواصف” المحكي عنه الذي نشره في عام /1922/. وفي المهجر عكف “ميشيل مغربي” على ممارسة التجارة مع المطالعة ونظم الشعر في أوقات الفراغ. ونجح “مغربي” في التجارة والشعر معاً، وظل طويلاً يمني النفس بطبع ديوانه الثاني “امواج وصخور” منتظراً أن تستأنف دور النشر في لبنان نشاطها، ولما يئس من الأمر دفع به الى احدى المطابع في البرازيل، وصدر بعد وفاته بكل اسف.
طرق شاعرنا في مهجره أبواباً كثيرة من شعر الحياة ففتحت أمامه على مصراعيها كأبواب السياسة والفلسفة والاجتماع والنقد والوصف والمناجاة. وعنى عناية خاصة بالناحية الوطنية السياسية فكان صوتاً مدوياً في سبيل استقلال سورية وتحررها من الرجعية والتخلف.
شهد به الشاعر شكر الله الجر عنه مرة بقوله:”ان ميشيل مغربي اجود قريحة من سائر شعراء حمص في البرازيل، واكثرهم تعدداً لموضوعاته…وعند من لايعرفه اديباً، يظنه تاجر ازرار فحسب” ولما اطلع ميشيل مغربي على رأي زميله في العصبة الاندلسية الذي نشر يومئذ في مجلة” الأديب” اللبنانية، علق عليهم بقوله:”هذا صحيح وذلك لأني تاجر ، هل يريدني أن أظهر امام الزبن بمظهر الأديب؟ او ان أتكلم معهم كلام اديب، وهم أنصاف أميين؟ لو فعلت ذلك لشعروا بالنقص، وانفضوا عني، وتهربوا مني…انها خطة مني لم يكن منها بد.
لي قصيدة عنوانها “نجوى العاصي” نظمتها بعد خمس سنوات من وصولي البرازيل_ وكنت قد قضيت تلك السنوات الخمس متجولاً في انحاء البلاد، اعرض بضاعتي على المواطنين، اصحاب الحوانيت التجارية البعيدة عن سانباولو، ولم انظم في أثنائها الا قليلاً جداً اصف بها حالتي، ومنها هذا البيتان:
ولقد أطوف عليّ سترُ تنكر……………..للألمعية مبعد طرّاحُ
ان عملي في التجارة كان يقتضي مني بساطة المظهر، وبساطة الحديث، أما شكر الله فلم ينجح تاجراً، لأنه كانت تنقصه السياسة. اشتغل في الادب فأنتج انتاجاً حسناً، أما أنا فإليك ما اقول ايضاً في قصيدتي “ماشاء ربك كان”:
فقضيت عمرك في العُبابِ ولم……………….تطفيءْ غليل فؤادك الظامي
لو لم تَخُض بحر التجارة لم……………….يبلغ قريضَكَ أي عوامِ
ولكنتَ أثرى القومِ عن ثقةٍ ……………….لو كنتَ للشعراءِ لم تنضم
ماشاء ربُك كان لاتندم
لقد نجح ميشيل مغربي في التجارة والشعر معاً، وفي هذا المجال يذكر “جورج صيدح” في كتابه (أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية) «يطارد الشعر والشعر يطارده، فإن التقيا على غفلة من الأشغال المادية جاء بشعر غنائي بديع..». وان اهتم بمناسبات عرضت أجاد النظم، ثم انصرف الى مهامه وقتاً طويلاً لاينتزعه الشعر منها الا بقوة قاهرة خارجة من اعماق نفسه”.
كان شاعراً حساساً، سريع التأثر، يتطير من كآبة المساء، وهجوم الليل ويضيق بالحزن الذي يحمله غروب النهار الى حد الاختناق، وقبله ضاق خليل مطران وايليا أبو ماضي في قوله:
نُشرتْ رايةُ الأصيل لتطوي……………..صفحة اليوم بعد صفحة أمسِ
هوذا الليلُ هاجمُ في سوادٍ…………… يغمر الأرضَ بالأسى والتأسي
اختلفت فلسفته في الحياة والموت عن فلسفة ايليا ابو ماضي في قصيدته الطلاسم التي لايدري فيها من أين جاء والى اين سيمضي. انه “لايبالي” بكل هاتيك القضايا المصيرية، وحسبه في هذا الوجود ان يتمتع بالجمال المطلق، ويتنعم بالأحلام الناضرة
ايه ياطير ان سر البرايا………….. بابه ظل محكم الاغلاق
حاولت فتحه فلاسفة الدنيا ………….فباؤوا بالعجز والاخفاق
حسبنا في الوجود أنا وَسِعُنا ………….كلُ حسنِ الوجود بالأحداقِ
“لانبالي” من اين جئنا ولا اي………..نَ سنمضي وما عسانا نلاقي
لكننا نجده في قصائد أخرى يبالي كثيراً بمسألة الوجود والمصير، ويقع في نفس الحيرة والتساؤلات التي وقع فيها شعراء المهجر الشمالي بخاصة: ماذا وراء القبر؟ وما مصير شاعر ينتظر العفو والمغفرة من ربه، الجنة أم النار؟:
ماذا وراء القبر ياخالقي………………من بعد أن أخلع هذا الجسد؟
أعدَدْتَ ناراً أم ترى جنة………………لشاعرٍ على رضاكَ اعتمدْ؟
ويؤمن بأن الانسان مسير بالقدر لا مخير، وكان يمكن أن يكون يمكن أن يكون طاهراً كبرعم الورد، نقياً كندى الفجر، لو لم يخلقه الله انساناً ضعيفاً لايستطيع أن يقاوم إغراء الفتون، وسحر الجمال:
فؤاده برغم آثامه…………….. ممتليءٌ حباً وايماناً
كان كزر الورد في طهره……………. لو أنت لم تخلقه انسانا
لكنه مسير بالقدر
زيارته الوطن الاصيل سورية
زار الشاعر “مغربي” وطنه سورية/ حمص سنة /1956/ بعد هجرة دامت (33) عاماً فقد وصل الى البرازيل في الرابع عشر من ايلول سنة 1923، ووصل الى حمص في الرابع عشر من ايلول نفسه سنة 1956، فما ان اكتحلت عيناه برؤية حجارها السود، ولاح لهما نهر العاصي حتى اغرورقتا بالدموع، اما هو فقد ضاع في نشوة اللقاء، لايدري أفي حلم هو ام في يقظة فنظم قصيدة يقول فيها:
هذي تحية مدمعي الهطّال………………..يا أيها الوطن الحبيب الغالي
في يقظة ألقاك أم في غفوة………………من بعد أعوام مررن طوال
وينتقل بنفس القصيدة إلى “حمص” ويتغنى بجمال رياضها وعبير أزهارها فيقول:
يا حمص، يا حمص الحبيبة مرحباً…………..بنسيمك المتعطر الأذيال
طوباكَ أنكَ في إهابِكَ لم تزل ………………. أما أنا فانظرْ لسوءِ مآلي
كتب عنه الأستاذ “أديب البستاني” في العدد الخاص الصادر بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس جريدة “حمص”: «أحب “ميشيل” الناس وأحب لهم ثوب العافية وحياة الغبطة ولكنه أحب بلاده فوق جميع الناس فنظم عنها الكثير من الشعر فكان بقلبه وقلمه وعقله وخياله ابناً باراً لأمته وعاشقاً مولهاً لبلاده. حمل إلى العالم الجديد وجه الشرق السحيق، وجه شرق الأنبياء والحكماء والمبدعين».
وعاش “ميشيل مغربي” حياته في البرازيل، حاملاً حب وطنه في قلبه ووجدانه، دون أن يعرف للتعصب معنى، محارباً تجار الطائفية والإقليمية الضيقة من أجل أن تبقى كلمة بلاده واحدة، فإذا أطل عيد المولد النبوي احتفل مع إخوانه المسلمين بهذا العيد كأنه منهم، وكأن العيد عيد جميع المسيحيين:
ما لاح أضحى أو تألق “مولدُ”………………إلا طربت كأنني أنا منهم
جوّدت آي الذكر في قرآنه………………فإذا ملائكة البيان تحوّمُ
إني لفي قلبي المسيح وأحمد………….. ولفيه آمنةٌ تقيم ومريمُ
«لقد كان “ميشيل مغربي” شاعراً بارع الوصف، أوتي بصراً نفاذاً، وبصيرة قادرة. ظل طويلاً يمني النفس بطبع ديوانه الثاني (أمواج وصخور) منتظراً أن تستأنف دور النشر في لبنان نشاطها بعد الحرب، ولما يئس من الأمر دفع به إلى إحدى المطابع في البرازيل، وصدر الديوان بعد وفاته في حزيران /1977/ عن ستة وسبعين عاماً» كما قال عنه الأديب “عيسى فتوح”.
وله في النثر جولات رائعة، فقد أخذ يكتب في بعض المجلات والصحف، فكانت تتناقل تلك الفصول بإعجاب.
ومن مزاياه الفاضلة تعصبه لعروبته وقوميته، حيث يفخر بأمته العربية التي راحت تسير في طريق المجد، متخطية الأشواك، متباهية بعدد من قدمت شهداء، وبذلت من تضحيات فيقول:
أمةٌ تعدو في طريق علاها………….وكأن الأشواك فيها ورودُ
تزدهي كلما أشارتْ الى قبرٍ……….وقالت: هنا أقامَ شهيدُ
وبخصوص عيد الجلاء انما كان من دماء الشهداء التي سفكت على ارض الوطن، واذا كنا نحتفل بعيد الجلاء، فعيد الشهداء هو خلود أرواحهم في جنات النعيم:
إن لبسنا من الحياة برودا………….فدماءُ الأحرارِ هذي البرودُ
أو يكنْ عيدَنا الجلاءُ فعيدُ ال……….شهداء المغيبين الخلودُ
يصب شاعرنا جام نقمته على اولئك الذين تفرق بين اخوتهم في الوطن نزعات الطائفية البغيضة المريضة، فيتاجرون بها، ويلقون مصلحة الوطن جانباً وهو هنا يلتقي بالشاعر القروي فيقول:
إن دينـي أن أتـرك الديـن من أجـ………ل بـلادي وأعـيد الأحجـارا،
وصـلاتي أن لا إلـه سـوى أر…………….ضـي ولـو كـان أهلـها كفـارا
ومن شعره الوصفي للطبيعة
إن رأيـت الشـمس قـد ألـ………..قت عـلى الأرض الشـعـاعا
والملفت في حياة الشاعر ميشال المغربي أن الجالية الإسلامية المحمدية في سان باولو لم تكن تقيم حفلة في عيد المولد النبوي إلا وتدعوه لتكون له قصيدة فيها، ولعل قصيدته “الرسول العربي” من أروع ما نظم وهو ألقاها عام 1954 بدعوة من الجمعية الخيرية الإسلامية في المسجد الإسلامي في سان باولو.منها هذه الابيات
اللـه قـدّر لـي دينـاً أقـلـده عـقـداً………… أبي كـان من قبـلي يقـلده
وإن جـاري لـه عقـد يماثـلـه يضيء……….. ياقـوتـه الغـالي وعسـجده
صنـو المسـيحية الإسلام في نظري……… كـلاهما مـوجـد الأديـان موجـده
زواجه
اقترن الشاعر ميشال مغربي عام 1939 من ابنة عمه فيوليت توفيق المغربي وهي على جانب من الثقافة ودماثة الخلق وكانت لها اليد البيضاء في دفع رفيق حياتها إلى جمع آثاره الشعرية وضمها في ديوان باسم “أمواج وصخور” إلا أن المنية كانت وافت الشاعر الكبير قبل أن يصدر كتابه فتابعت الفاضلة زوجته المهمة وصدر ديوانه في أوائل العام 1984.
وفاته
في حزيران 1977 نعت انباء البرازيل وفاة شاعرنا ميشيل عن ستة وسبعين عاماً، قضى ثلاثة وخمسين منها موزعاً بين التجارة والشعر، وهو آخر حبة في عنقود شعراء المهجر الجنوبي البارزين.
اشتهرت البادية السورية، منذ أقدم العصور، بمدن وقصور ومنشآت، من كل نوع، رائعة التخطيط، مترفةَ البنيان، اندثر أكثرها فلم يبقَ قائماً منها اليوم سوى خرائب متناثرة في جَلبات الواحات، وبين الرمال. وربما تحدّت بعض الأعمدة الرشيقة، والجدران والنقوش عوامل الزمن وافتئات الإنسان، فظلّت منتصبةً تُثير الخيال، عندما يمرُّ المسافرون من أمامها، أثناء تنقلهم رجوعاً عِبْرَ قرونَ من الصمت إلى عهودٍ كانت تضجّ فيها بالنشاط والفن والرفاه.
من تلك الروائع، وهذه المواقع، عشرات اتفق على تسميتها بالمدن الميتة، شرقي حماة، وفي جبل الزاوية، بين حماة وإدلب، وفي جبل باريشا، وجبل العُلا إلى الشمال الغربي من حلب ومنطقة قورش وعفرين…، ومنها آثار قصر ابن وردان، ودير صليب، وقصر أثريا، ومن أهمّها جميعاً تدمر، ودورا أوروبوس، وماري، ومنها القصور الأموية الحير الغربي، والحير الشرقي، وأسيس، في سورية وقصر عمرة، والمشتى، وخربة المفجر، وخزانة، في الأردن، وقصر عنجر في لبنان، وغيرها كثير.
ومن المدن والقصور، مالا يزالُ مطموراً تحت رمال البادية السورية، تُظهره معاولَ المنقبين وجهودهم الحثيثة سنة بعد سنة.
والرَّصافة، او سرجيو بوليس او مدينة الشهيد القديس سرجيوس واحدة من تلك الروائع، التي يزدانُ بها الكنز الأثري الذي يمتد في طول وعرض سورية الحبيبة، وان لم تَنلْ بعد جزءاً بسيطاً مما تستحق من عناية باحثينا والآثاريين رغم الجهود الحثيثة، التي أولتها إياها المديرية العامة للآثار والمتاحف، بإمكاناتها المتوافرة وبمساعدة الباحثين الكبار من الاجانب.
سرجيو بوليس (الرصافة) مدينة العجائب، بل احدى عجائب العالم القديم، بنيت من المرمر الوردي المرصع بالجس. آثارها ساحرة، وإطلالة قصورها وحدائقها جميلة. والرصافة تعني الحجر البراق الذي لم ينضج جيولوجياً بعد، وتقع شمالي شرق البادية السورية،
سرجيو بوليس تعتبر لؤلؤة البادية السورية التي لا تزال محافظة على أوابدها التاريخية والأثرية، كما تعد من أقدم المدن السورية العريقة التي تعود إلى العهدين الروماني والرومي، حيث كانت تعرف باسم سيرجيوبوليس وهو شفيعها القديس الشهيد الذي استشهد بالقرب منها ودفن فيها ولذلك تحولت بسببه الى محجة مسيحية شهيرة جداً، قارب موسم الحج اليها كموسم الحج الى صيدنايا وديرها الذي بني باعجوبة العذراء الطاهرة.
ذُكرت المدينة العظيمة سرجيوبوليس في الكثير من المدونات القديمة، منها الرُقم الآشورية… كما وردت في الكتاب المقدس/ في سفر إشعيا 12 .37 وسنحاريب، و ايضاً في الكتابات والمدونات اليونانية القديمة، وقد كانت موضع تنازع بين اليونان والرومان والروم على التعاقب مع الفرس، ولذلك امتلكت قلاعاً منيعة تحميها من غزوات الفرس الساسانيين قبل أن تصبح من المدن التابعة لمملكة تدمر وسط سورية، وقبل أن تصبح منتجعاً صيفياً للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الذي أضاف إلى عمرانها وطورها وكان له الفضل في أن تكون جنة في وسط سورية في زمانها، حيث أسهم في عمرانها وازدهارها بتشييد قصرين اكتشف أحدهما إثر التنقيب عن آثارها فعرفت آنذاك باسم “رصافة هشام “.
موقعها
تقع مدينة سرجيو بوليس على بعد ثلاثين كيلومتراً من مدينة الرقة شمال شرق سورية على الضفة اليمنى لنهر الفرات، وتبعد 75 كم عن قصر الحير الشرقي ما جعلها موضع اهتمام العرب الغساسنة الذين احتلوها لأهمية موقعها، حيث يُنسب إلى الملك الحارث الثاني الفضل في ترميم أسوار المدينة، وتشييد كاتدرائية كبيرة في العصر الرومي البيزنطي، كما قام ابنه المنذر بن الحارث الثاني بتشييد خزانات المياه فيها، وببناء قصر كبير له، ودار للضيافة خارج سورها الشمالي.
تبعد حوالي 40 كم الى الجنوب الغربي من الرقة، وتقع قبالتها، وتبعد 180كم من حلب، و90كم عن مدينة الثورة. و في منتصف الطريق تقريباً بين الرقة وتدمر على خط مستقيم. والرصافة اليوم قرية خربة تشهد خرائبها على مجد عظيم اعطت ولاتزال شهرة وغنى اثري انساني ثري لمحافظة الرقة.
اسمها
عُرفتْ عبر التاريخ باسماء عديدة، ولكن اقدم نص تاريخي ذكرها بإسم “راسبا” يعود الى سنة 840 ق.م. وقد ورد اسمها في التوراة(4 ملوك 19/12) وفي النصوص الآشورية “رص ف”، فهي مدينة “ريسيف” أو”راسابا” او رصافة او “زرافة”، وتعني الفحم المستعر في اللغة الآشورية القديمة.
وقيل ان اسمها مشتق من كلمة “رصيف” اي حجر مرصوف، أو الطريق الذي كانت تسلكه القوافل عبر الصحراء من منطقة الفرات الى دمشق، مارة عبر الرصافة فتدمر فصدد فدمشق بخط مستقيم. وتجدر الاشارة الى ان “راصف” أو “رصف” هو اله النور عند الفينيقيين ومعظم السوريين القدماء، وله تمثال في رأس شمرا(أوغاريت).
ذكرها بطليموس كإحدى مدن منطقة تدمر والطيبة باتجاه الفرات. وجاء اسمها في الوثائق الكنسية اليونانية على شكل “رصافاس”. ويبدو انها أُعطيتْ أيضاً اسم تيترابيرجيوم Tetrapyrgium.
أُسميت “سرجيوبوليس” اي (مدينة سرجيوس) تيمناً بالقديس الشهيد سرجيوس لكونها مكان استشهاده ودفنه. وكان ذلك في العصر الرومي اعتباراً في القرن 4م وصارت ابرشية هامة من ابرشيات الكرسي الانطاكي المقدس
القديسان الشهيدان سرجيوس وباخوس
ومنذ ذاك الزمن صار الضريح مقصد الحج المسيحي، وموضع اكرام المؤمنين المسيحيين من المناطق المجاورة وحتى البعيدة نسبياً.
في عصر الدولة الرومية ازدهرت المدينة وشُيدتْ فيها الاديرة والكنائس والأسوار المنيعة التي تلفها وحُفرت فيها صهاريج المياه.
وسميت ايضاً أنسطاسيوبوليس، نسبة الى الامبراطور الرومي أنسطاسيوس الأول (491-518م) الذي رفع مكانتها الى مرتبة مدينة، وعمر فيها الكنيسة الباسيلكية الكبرى، بيد ان هذه التسمية التي تعود الى القرن الخامس لم تعمِّر طويلاً.
“رصافة هشام”
الشائع الدارج في تسميتها المنسوبة الى الخليفة الاموي هشام ذلك لان هشام بن عبد الملك (743-722م) لكونه اختارها مقراً لحكمه وعاصمة لدولته بنقلها اليها من دمشق الشام.
وأسميت “رصافة هشام” ايضاً تمييزاً لها عن عدة اماكن أخرى تعرف بهذا الاسم في العراق. ووكان العرب قد اسموها “الرضاب” او ” الزوراء”.
مناخها
قاري، شديد الحرارة صيفاً وشديد البرودة شتاء. لاشجر فيها ولاغطاء نباتي بالمعنى المقصود للكلمة. بل يتواجد فيها الابل والغزلان وبعض الحمير والخراف. ماؤها شحيح مالح ورديء، لا عين مياه جارية فيها بل صهاريج. ويقصد اهلها نهر الفرات لجلب الماء، والمطر شحيح فهي خارج خط المطر ولايزيد معدل الامطار السنوي فيها عن 100مم سنوياً. وقدر الخبراء عدد سكانها الثابتين بين 4000الى 5000 نسمة، ويزداد هذا العدد في المواسم ليبلغ 10000 نسمة وكان ذلك في اوج مجدها في القرنين الخامس والسادس المسيحيين، ويعتمدون في معيشتهم على تخفير القوافل وغزل الصوف وموسم الحج الشهير الى ضريح القديس الشهيد سرجيوس، الا انها اقفرت من السكان منذ زمن بعيد.
أهميتها
الرصافة اليوم عبارة عن أطلال بائدة وآثار مندثرة. احتلت، منذ القرن الرابع المسيحي، مكانة فريدة وهامة كمركز حدودي للأمبراطورية الرومانية والرومية ضد الفرس والفرثيين. وهي من اهم المواقع الأكثر اهتماماً وفائدة وإثارة في الشرق الأوسط، ومن بعد تدمر، بل اجمل وافضل وأضخم مدينة بائدة في بادية الشام وهي المدينة القابعة في قلب البادية السورية منذ آلاف السنين تعتبر احدى عجائب العالم القديم لما تحتويه من اسرار وزخارف ونقوش تؤكد على ان المدينة عاشت أزهى العصور واجملها حتى غدت بهذه المناعة والقوة والمظهر الخلاب، عدا عن كل مافيها من عجائب وغرائب تدهش القلوب وتجعل الانسان الناظر اليها يفكر ملياً بكيفية بنائها وتشييد قصورها ومبانيها واماكن عباداتها، فهي عدا عن ضخامتها وجمالها، تجسد الفن السوري الأصيل وتعبر عن عمق وعظمة ايمان بناتها…
عبر تاريخها الاول كانت سرجيو بوليس محط القوافل في حلها وترحالها، يعيش سكانها تحت خيام وبر وحول صهريج ماء، في هذه المدينة كانت القوافل، التي تعبر الصحراء من مختلف الجهات في طريقها الى البحر المتوسط، تتوقف للتزود بالمياه والمؤن في سرجيو بوليس.
في العام 297 شهدت الرصافة فصل من فصول الإضطهاد الديني العام في الامبراطورية الرومانية ضد معتنقي المسيحية، حيث أمر حاكم المدينة العسكري الروماني بتعذيب و قتل أثنين من الجنود السوريين هما سرجيوس و باخوس لإنهما رفضا انكار المسيحية، واستشهدا، فدفن باخوس في مكان يبعد عن المدينة عشرة كيلومترات بينما دفن سرجيوس في المدينة…
مع إنقسام الإمبراطورية الرومانية في العام 395 م الى غربية عاصمتها روما وشرقية عاصمتها القسطنطينية المحدثة السنة 320 م التي تبعتها سورية الكبرى وآسية الصغرى فأصبحت سرجيو بوليس مركزاً مهماً للدين الجديد و دعيت بإسم جديد هو سرجيوبوليس (أي مدينة سرجيوس أو سركيس)
اصبحت منذ مطلع القرن الرابع المسيحي مع وجود ضريح شفيعها الشهيد القديس سرجيوس، مطرحاً للحج المسيحي، يضاهي محجة القديس سمعان العمودي غرباً.
كانت تُفام مهرجانات القديس سرجيوس في تشرين الاول من كل عام، حيث يؤمها الحجاج ومنهم من يأتي اليها من حجاج اورشليم والاماكن المقدسة فيها.
دخلت سرجيوبوليس في عداد اماكن الحج المسيحي في مراحل طريق حجهم الى فلسطين وأماكنها المقدسة، كما دخل دير القديس سمعان العمودي، ودير سيدة صيدنايا البطريركي ودير القديسة تقلا البطريركي في معلولا ودير القديس سابا في فلسطين…الخ في عداد المحجات المسيحية،على الرغم من وقوعها في قلب البادية وبعيدة عن الاماكن السكنية وخارجة عن عقد المواصلات الاعتيادية.
احتراماً وتقديراً وتكريماً للقديس سرجيوس سمى ابناء المدينة مدينتهم باسم سرجيو بوليس(1).
اكتسبت اهميتها الاستراتيجية كموقع استراتيجي دفاعي كائن في اقصى الحدود الشرقية للأمبراطوريتين الرومانية والرومية، شكل شريطاً حدودياً مع بلاد فارس لحمايتها والدفاع عنها بتحصينات منيعة جداً، مؤلفة من سور حصين وابراج عالية وأدراج وممرات ومنشآت عديدة ناهيك عن موقع المدينة المرتفع والبالغ 300م فوق سطح البحر.
عبر تاريخها
سرجيوبوليس
كانت سرجيو بوليس ودورا اوربوس تدوران في فلك تدمر في ايام عزة وقوة وازدهارالاخيرة، لكنها اي سرجيو بوليس احتلت مكانة فريدة في اعقاب سقوط تدمر واقتياد زنوبيا اسيرة في موكب النصر الروماني الى روما السنة 273م.
في السنة 293م اصبجت تابعة لمنطقة الفرات واقامت فيها حامية رومانية، وفي عهد الامبراطورية الرومية اكتسبت اهمية خاصة كونها مدفن شهيد، فارتفعت فيها الاماكن الكنسية الرومية الارثوذكسية، وصارت مركزاً مسيحياً متميزاً في شرقي سورية بسبب مكانتها المقدسة كمركز حج مسيجي متميز يجذب الاعداد الغقيرة سنوياً في شهر تشرين الاول من كل عام من كل مكان قريب وبعيد، حيث بلغت ذروة مجدها وازدهارها وعلوها في العصر الرومي.
مما قيل عن تأسيسها ان مؤسسيها هم بنو غسان الموالون للدولة الرومية، وهي كانت في الاصل مجرد قلعة (قلعة الرصافة) متواضعة على طريق تدمر نيقيفورم(الرقة). عسكرت فيها في القرن الخامس حامية رومية، فشهدت حركة عمرانية واسعة النطاق في القرن السادس كنسياً ومدنياً، شعبياً ورسمياً.
بنى فيها الملك انسطاسيوس كاتدرائيتها وأنشأ آباراً عظيمة. واصبحت غنية بفضل هبات الحجاج ونذورهم، مما أغرى المجاورين بغزوها. فأقدم كسرى الاول السنة 542م على الاغارة عليها، وبعد مفاوضات مريرة اخذ الفدية وسلب كنوزها وثرواتها من كنائسها ، وسلب الصليب الذهبي المرصع بالجواهر الذي كان قد قدمه الامبراطور يوستنيانوس الحسن العبادة (2).
سرجيو بوليس ( الرصافة)
وعلى اثر هذا الغزو الفارسي هب الامبراطور يوستنيانوس لتحصين المدينة وترميم اسوارها، للمحافظة على اديارها الرهبانية وكاتدرائيتها وبقية كنائسها وحماية سكانها المسيحيين ضد هجمات الفرس وغزوات العرب المجاورين، وصرف العناية في الاهتمام بصهاريجها الفخمة وبتشييد المباني العديدة والدور السكنية والأروقة الكبيرة، وعسكرت فيها حامية رومية كبيرة لحمايتها. كما ان الامبراطور موريقيوس الرومي رممها ايضاً في 596م. وفي اواخر القرن السادس انشأ امراء الغساسنة عمال الروم في بادية الشام وحوران، إيواناً (قصراً) لهم خارج الاسوار هو إيوان المنذر، وكتب المؤرخ ميخائيل السرياني:”في هيكل مار سرجيس بالرصافة تعاهد منذر بن حارث ملك العرب الارثوذكس مع يوسطينان بن جرمنا فطريق الروم قائد جيوش الروم الأعظم…”(3)
لكن مالبث كسرى الثاني ان اجتاح المدينة مجدداً في 616م فدمرها وسلبها كل كنوزها، وبقيت دماراً، ولما تغلب عليه الامبراطور الرومي هرقل واستعاد المدينة اعاد من مغانم كسرى الى كاتدرائية سرجيو بوليس بعض التحفالتي سلبها منها، ومن جملتها الصليب الذهبي المرصع بالجواهر، وصينية ذهبية ثمينة وعطايا شخصية… شكراً منه لقديسها الشهيد سرجيوس الذي بشفاعته رُزق (هرقل) ولداً ذكراً.
احتلها العرب المسلمون في غمرة احتلالهم بلاد الرافدين، فشهدت المدينة حقبة ثانية من الازدهار في ايام الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك (643-622م) الذي رمم اسوارها وصهاريجها، وجعلها مكان اقامته، وبعد موته دُفن فيها.
في العهد الاموي كانت سمة الرصافة انها مدينة مسيحية عامرة وآهلة بسكانها المسيحيين واماكنها المسيحية الرومية الفخمة وكنائس المذاهب الاخرى، فيها الكاتدرائية الرومية العظيمة وكنائسها الارثوذكسية الفخمة جداً ودير بديع وقصور رائعة. ولما دخل عبد الله بن علي العباسي الرصافة السنة 749م، نبش قبرالخليفة الاموي هشام واخرج منه رفاته، وأهانه، وقطع بقاياه واحرقها…
كانت رصافة هشام قد ذُكرت في جملة ” العواصم” اي المواقع والحصون العسكرية والحربية في ايام العرب كما جاء في كتاب المسالك والممالك(5)
ظلت كاتدرائية الشهيد سرجيوس عامرة في الرصافة حتى القرن 13م، وعلى رغم الغزوات المتكررة بقيت الرصافة مركزاً للحج المسيحي، وظل سكانها مسيحيين ارثوذكسيين في بيئتهم العربية، فهم عرب اصيلون في عروبتهم واخلاقهم والبستهم ونمط عيشهم. ومارست الكنيسة دورها الرعوي بحقهم حتى القرن 13م عندما غزاها هولاكو المغولي 1260م فسلب كنوزها ودمرها وبقي شعبها فيها يعيد بناءها،الى ان اجتاحها الظاهر بيبرس المملوكي الكاره للمسيحيين 1264 فدمر المدينة بالكامل، وأجهز على سكانها المسيحيين وساق من بقي حياً منهم الى حماه وضواحيها والسلمية…(4)
بهذا الفعل الارهابي التدميري الممنهج بحق المسيحيين قضى المملوكي بيبرس البندقداري على أغلبية المدن والتجمعات المسيحية في بلاد الشام ومنها سرجيوبوليس التي في عداد الابرشيات الانطاكية الشهيدة، وهي التي كانت مدينة عظيمة ولؤلؤة البادية السورية ومركز حج مسيحي في تلك القفار الصحراوية، ومثلها كانت بقية المدن الميتة والمنسية وما اكثرها في سهول حلب وادلب ومنبج وشمال سورية وحتى في البادية الشامية حيث كان السواد السكاني الاعظم من المسيحيين…وبكل اسف يزيف مؤرخونا وكتاب تاريخنا ومناهجنا المدرسية تمجد به بكل اسف كمحرر ومنقذ من الفرنج والمغول ولكنه قضى على ابناء المشرق المسيحي…
كما تمجد بمن سبقه من “الفاتحين…كخالد بن الوليد الذي قتل 40000 مسيحي دمشقي مدني السنة 635م لدى اقتحامه دمشق القديمة من “بابها الشرقي” بدون سبب، في حين كان ابوعبيدة يدخلها من بابها الغربي صلحا وقد اتفق مع المسيحيين سكانها عبر سرجون النصراني على ذلك مقابل دفع الجزية ولم يكن في دمشق اي جندي رومي اذ اخلوها قبل حصار المسلمين لها.!!!
اصبحت سرجيو بوليس اي رصافة هشام اطلالاً وآثاراً ينعق فيها البوم كبقية المدن المسيحية المائتة في سورية هجرها اهلها او اجلوهم منها بعد مجازر دموية بحقهم لينعق فيها بوم الخراب بقعل الارهاب الطائفي المتعصب كما حصل في سورية منذ 2011-…
وصف الرصافة الطبيب المسيحي البغدادي ابن بطلان المتوفي سنة 1048م فقال:”وسكان هذا الحصن بادية، أكثرهم نصارى، معاشهم تخفير القوافل، وجلب المتاع والصعاليك مع اللصوص. وهذا القصر في وسط برية مستوية السطح، لايرد البصر من جوانبها الا الافق. ورحلنا منها الى حلب في اربع رحلات”. وذكرها ايضاً من بعده ياقوت الحموي (1179-1229م) في كتابه( معجم البلدان) فكتب:” الرصافة في وسط البرية، وفيها جماعة من اهل الثروة، لأنهم بين تاجر يسافر الى أقطار البلاد، وبين مقيم فيها يعامل العرب. وفيها سويق عدة عشرة دكاكين. ولهم حذق في عمل الأكسية. وبين رجل فيهم، غنيهم وفقيرهم، يغزل الصوف، ونساؤهم ينسجون”.
ابرشية سرجيو بوليس الانطاكية الشهيدة
سرجيو بوليس ابرشية انطاكية تتبع بطريركية انطاكية التي اسسها الرسولان بطرس وبولس
ابرشية سرجيو بوليس الانطاكية الشهيدة، كانت ابرشية زاهرة من عداد ابرشيات بطريركية انطاكية وسائر المشرق ولكنها باتت شهيدة كما مر.
وبالعودة الى البدايات فإنه بعد براءة ميلان 313 مسيحية والسماح بحرية العبادة للمسيحيين ووقف الاضطهادات الدموية بحقهم ازدهرت المسيحية بعد ثلاثة قرون من الاضطهاد الدموي الشديد، ثم أدى هذا الازدهار الى الإزدهار المادي للمدينة والظاهر في بناء هذه الكنائس البديعة في هذا الوسط المقفر والقاحل…! واعطت سرجيو بوليس عدداً كبيراً من الأساقفة الذين ساهموا في المجامع المسكونية وخاصة في مجمع خلقدونية في العام 451 م، حيث تمت مناقشة طبيعة السيد المسيح وحافظوا عليها ابرشية انطاكية خلقيدونية ارثوذكسية بايمانها القويم.
كما قلنا كانت سرجيو بوليس منذ القرن الخامس المسيحي حصناً عسكرياً في قلب الصحراء يبعد 25 كم عن سورا، تفصلهما ثكنة عسكرية، ولما استشهد القديس سرجيوس صارت مركز اسقفية فانبعثت بفضلها الروح المسيحية الايمانية في المنطقة منذ تاريخها المبكر كما اسلفنا. وتبعت متروبوليتية هيرابوليس (منبج)، من اعمال سورية الثالثة او الفراتية، الخاضعة لبطريركية أنطاكية. وظلت اسقفية حتى مطلع القرن السادس، حيث رفعها الامبراطور انسطاسيوس الى مصاف ميتروبوليس ( ام عدة مدن) بتغيير اسمها من الرصافة الى سرجيوبوليس، وذلك
من كنائس الرصافة
عندما جرى نقل ابهام القديس سرجيوس منها الى القسطنطينية بين سنة 514 م ومنحت وقتها حقوق الميتروبوليس، وعُدَّتْ في المرتبة 11 بين المتروبوليتات الانطاكية الكبرى، وتضمنت منطقتها الفراتية الجنوبية. وخضعت لها خمسة مراكز اسقفية تمتد رقعتها على مايبدو على طول الفرات من زنوبيا (حلبية) حتى اوزارا (دير الزور)، وكذلك النقطة التي تصل الى رأس المثلث المكوَّن من سرجيوبوليس-أوريزا-دير الزور. وقد شك البعض في ان هذه الأسقفيات الخمس كانت موجودة في عهد البطريرك ساويرس اليعقوبي، ومنه نفهم ماورد في السجل الأنطاكي الذي يُسمّي زنوبيا وأوريزا (الطيبة)، اي بعض المدن الواقعة على الفرات والمجاورة لها. ونجد اسماء هذه الاسقفيات في “السجل الأنطاكي” لأنسطاسيوس، بطريرك أنطاكية المؤرخ في سنة 570 م، وكذلك نظيره في القرن 11م،
لكن ومن الطبيعي بعد استشهادها على يد المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري في 1264م ان لانجد لها ذكراً كمتروبوليتية ارثوذكسية انطاكية من عداد متروبوليتات الكرسي الانطاكي المقدس في القرنين 17 و18 م. وليس غريبا ان تكون مركزاً اسقفياً للسريان اللاخلقيدونيين(6) لمدة قرنين من السنة 800م الى حوالي 980م وذلك لوجود تداخل في اطار انطاكية بين الارثوذكسية الخلقيدونية ومركزها كمتروبوليتية ارثوذكسية خلقيدونية منذ احداثها وحتى استشهادها في مابعد العقد السابع من القرن 13 كما مر، وكونها اسقفية سريانية لاخلقيدونية في القرنين 9 و10 م فقط اي كانت الاستمرارية رومية خلقيدونية حتى استشهادها مع قناعتنا باستمرار وجودها الكنسي بشكل ضعيف الى تلاشيها نهائيا قبيل عهد البطريرك الانطاكي الارثوذكسي مكاريوس بن الزعيم في القرن 17 لذلك لم يعدها وابنه الشماس بولس من عداد ابرشيات الكرسي الانطاكي بتصنيفهما وكان هذا التصنيف هو الاول في القرون الخمسة الماضية بعد طول انقطاع رافق المستجدات السياسية والحربية…
ويؤكد الاب متري هاجي اثناسيو(7) انها لم تكن ابداً من اسقفيات النساطرة لكنه اضاف:” هذا وقد عُثر في الكنيسة الكبرى البازليكية على كتابة ورد فيها اسم شمعون مطران الرصافة، مؤرخة من سنة 1092/3، وهو الذي جدد إحدى كنائسها.”
(وهذا برأينا محل نظر) حيث كان فيها كنائس لكل المذاهب المسيحية وقتئذ، ولربما تمدد النساطرة بعد اللاخلقيدونيين في تلك الهنيهة نتيجة انحسار الحضور الرئاسي الارثوذكسي الخلقيدوني والرسمي الرومي بسيادة الحكم العباسي، وتلاشي الحضور اللاخلقيدوني ايضاً السنة 980م ووضعوا اليد على الكاتدرائية ممثلة بشمعون المذكور حيث كان للنساطرة حضورهم في منطقتي الفرات والخابور… اضافة الى تأثيرهم في البلاط العباسي!
من أساقفتها
– مارينيانوس (او مارينوس، ماريانوس): وهو اول اسقف نعرفه لسرجيو بوليس، رسمه يوحنا بطريرك انطاكية سنة 434م.
– سرجيس او جاورجيوس وكان مع الوفد الرومي الخلقيدوني الذي ارسله الامبراطور يوستنيانوس الى المنذر في كانون الثاني السنة 524م.
– كنديدوس وقد سجنه كسرى 542م وضربه بالسوط لأنه لم يدفع فدية (مدينة سورا).
– ابراهيم الرصافي وقد حضر مجمع القسطنطينية الخامس المسكوني ومجمع انطاكية المحلي السنة 565م .
تبعت ميتروبوليتية سرجيو بوليس الانطاكية الارثوذكسية الخلقيدونية الاسقفيات الخمس التالية
اغريباس، زينوفياذا (زنوبيا)، اوريسا/ اوريزا وهي الطيبة بحسب دوسو ورد اسم اسقفها سرجيس لأوريسا عضوا في مجمع منبج السنة 630م وهو الاسقف الوحيد المعروف بين اساقفة الاسقفيات الخمس. ايريجنس، أورثالا.
وصف سرجيو بوليس ( الرصافة)
تضم مدينة الرصافة التي شيدت فوق منطقة مرتفعة قليلاً الكثير من المنشآت والأبنية المهمة إضافة إلى سورها الضخم وكنائسها والبازيليك والكاتدرائية والقصور وخزانات المياه الشهيرة الضخمة (صاريج)تحت الأرض تشتهر الرصافة بأنها تملك أكبر خزانات للمياه من العهد البيزنطي في سورية و هي لا تزال (مع بعض الترميمات و التنظيفات) محافظة على حجمها.
خزانات المياه او الصهاريج
صهاريج الرصافة او خزانات الماء الضخمة
يقف العقل البشري امام اعجاز بناء هذه الصهاريج واسلوبه وهندستها وضخامتها واتساعها ومتانتها ومعظمها سليم الى اليوم تقع الخزانات في نهاية الطريق من البوابة الشمالية. يظهر من مخطط المدينة ان هناك منحدرات من سائر انحائها تتجه رأساً الى الصهاريج او الخزانات، فتصب فيها بعد ان تصفى بين طبقات الأرض. ويعتقد الكثيرون ان المدينة كلها اقيمت فوق خزانات متصلة بعضها ببعض، حيث توجد بين مسافة واخرى فتحات خاصة لضخ المياه حين اللزوم. وهذه الخزانات الكبيرة يمكن تشبيهها بصهاريج مدينة القسطنطينية في العصر ذاته. وكانت قادرة على ارواء ستة آلاف من السكان ولمدة سنة كاملة بمعدل 20 ليتراً للشخص الواحد يومياً. وكان تقسيم هذه الخزانات الضخمة الى اربعة مجموعات رئيسة تختلف من حيث الحجم.
يقول الأثريون أن هذه الخزانات كانت تملأ بمياه الأمطار التي كانت تجمع في سد تجميعي بالقرب من المدينة بأحد الأودية و كانت تجر لخزانات المدينة عبر أقنية. تقع صهاريج المدينة العظيمة في القسم الجنوبي الغربي من المدينة، جنوبي الكنيسة التي كانت تحتوي على رفات القديس الشهيد سرجيوس ، وعددها اربعة سعة الصهريج الرئيس 16000 متر مكعب وسعة كل من الصاريج الاخرى 2000متر مكعب، وقام الامبراطور يوستنيانوس بترميمها بمعنى انها تعود الى عهد سابق، انها مقسومة الى جملة اقسام، كالكاتدرائيات الكبرى سقوفها معقودة قائمة فوق ركائز ضخمة. وتوجد مجموعة اخرى من خزانات الماء الكبيرة بالقرب من الاسوار في الزاوية الغربية الشمالية من المدينة. وكانت المياه تأتيها من خزان واسع يقع غربي المدينة وخارجها لتمر بقناة حجرية الى الخندق ومن خلال الاسوار لتصل صالحة للشرب بعد مرورها بطبقات التصفية الارضية قبل ان تصل الى الصهاريج لحفظها.
كنائس سرجيو بوليس
لما اصبحت هذه المدينة صغيرة المساحة مقدسة ومركز حج مسيحي عظيم شُيدَ فيها ست كنائس ارثوذكسية خلقيدونية اضافة الى ثلاث كنائس للمذاهب المسيحية واحدة لكل مذهب وهي مختلفة الهندسة والتخطيط والزخارف والحجم، وتجمع بين عناصر هندسية وزخرفية تمثل الفن المعماري الذي كان شائعاً في سورية وبلاد الرافدين.
وكانت هذه الكنائس مزارارات لفروع المسيحيين حيث تشبه كنيسة القيامة في اورشليم ودير القديس سمعان العمودي في جبل سمعان.
من كنائس سرجيو بوليس
وجدير ذكره ان كنائس المدينة اقيمت بتمويل اسقفيتها وشعبها المؤمن، بدون تدخل من الدولة الرومية او بتمويل منها وفي ذلك دلالة وافية عن مدى ايمان شعب سرجيو بوليس…
1- الكنيسة المسماة المارتيريون او كنيسة الشهداء
هي كنيسة القديس سرجيوس، وهي كنيسة صغيرة نسبياً، لكنها تعد أحد أهم المكتشفات الأثرية في المدينة، ويعتقد أنها بنيت في السنة 354م وتقع في وسط المدينة الى الشمال وتمتاز بتيجانها الكورنيثية المحورة وأحد هذه التيجان مزين بأكاليل منحوتة وتعتبر فريدة من نوعها،وتتقدم هذه الكنيسة ساحة مرتفعة تكتنفها الاعمدة، بلاطها من الحجر البلوري اللماع الابيض. شيدت في الموقع الذي فيه هامة القديس سرجيوس، وبنيت تذكاراً لاستشهاده دلالة على مكان هذا الاستشهاد، وهي على اسمه.
وُجهة الكنيسة الى الشرق، اطوالها 42م/34م فهي ليست مستطيلة بل تأخذ شكل صليب على وجه التقريب ابرازاً لرمز صليب الرب.
وقد توخى المهندسون في اختيار هذا الشكل تسهيل التطواف على المؤمنين حول الكنيسة. ومن هنا انطلقت فكرة بناء الكنائس على شكل صليب فيما بعد.كما في كنية القديس سمعان العمودي. وقد غلب على كنيسة المارتيريون الشكل المستدير ذو التخطيط المركزي للكنيسة اضافة الى ان كل من جدرانها الغربية والشمالية والجنوبية لاتتبع خطاً مستقيماً، إنه خط نصف دائري في الوسط ومستقيم عند طرفيه، وكذلك في صفوف الأعمدة الداخلية.
قدس الاقداس
هي الحنية نصف الدائرية في الداخل والمتعددة الزوايا في الخارج. ولكل من دار الشمامسة ودار الشهداء حنية نصف دائرية في الداخل ومربعة في الخارج، والحنايا الثلاث المذكورة اعلاه اقواسها وعقودها من النوع الذي سُمّي فيما بعد “القوس العربي”.
ومن ابدع مازخرفته يد هي القنطرة المتصدرة حنية المذبح والمتصدرة حنية دار الشمامسة، والقنطرة الأخيرة ببروازها مشابهة لمثيلها في قنطرة كنيسة قلب لوزه.
استخدم المسيحيون رموز هذه النقوش في هذه الكنيسة وكل مانراه من الكنائس قديمها وحديثها للرمز على المسيح والمسيحية فالكرمة ترمز الى دم المسيح، والسنابل الى جسد المسيح في سر الافخارستية، والبيض الى القبر والقيامة والحياة، وثمة زخارف في قناطرها تنفرد بها كنيستنا هذه ولاشبيه لها في اي من الكنائس والمعابد الوثنية، وفي مدخل دار الشمامسة ناووس من المرمر الوردي مزين بصليب.
كنيسة الشهداء
لهذه الكنيسة سوق وسطى وحنية باتجاه الشرق. وتحتوي على اضخم الأعمدة التي يقال انها جُلبت من اسوان أو من مناجم الحجر الوردي القريبة من المدينة، والاعمدة قطعة واحدة، وقد رُفعت على الأعمدة تيجان محلاة بالزخارف والنقوش الرائعة وأقيمت على قواعد في منتهى الضخامة مما ليس له مثيل بين الآثار. وكانت جدران الكنيسة مكسوة ببلاط من المرمر الوردي. وربما استعمل المرمر الوردي في هذه الكنيسة وغيرها من كنائس الرصافة للاشارة الى دم الشهداء، وخاصة القديس سرجيوس ورفيقيه باخوس وجوليا. فأرضها مبلطة بالحجر الوردي، وكذلك اعمدتها وجدرانها الداخلية، وحجارتها بيضاء بلورية لماعة تكاد تكون شفافة.
“انها آية في الجمال ومتعة للناظر، تتوهج تحت الشمس المحرقة. هذا كله يجعل من هذه الكنيسة وشقيقاتها كنائس الرصافة دُرّة وهاجة في وسط تلك الصحراء. وهذه الكنيسة المعمدة ليست سليمة سلامة البناء المركزي”(الاب متري هاجي اثناسيو-موسوعة انطاكية ص254-255)
2- الكنيسة التي كانت تحتوي على رفات القديسين سرجيوس وباخوس وجوليا
تقع جنوبي كنيسة المارتيريون، يقدر انها احتوت على رفات الشهداء، او قسماً منها، ويستدل على ذلك وجود صناديق ذخائر مقدسة، وهذه الكنيسة تشبه في هندستها كنائس مصر وبعض كنائس ارمينية ولاتشبه كنائس سورية، لم يبق الكثير من هذه الكنيسة البائدة…
3- الكنيسة الشمالية
تقع في شمال المدينة قبالة وسط السور، وهي بائدة بشكل شبه تام. ويبدو أنها كانت من الطراز الباسيليكي السوري…
تقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة، وتبعد عن كنيسة الشهداء 150 متراً وعن قصر هشام 50 متراً. انها احدى الكنائس الثلاث التي لاتزال سليمة الى علو ملحوظ، وهي اكبر كنائس المدينة وقد وُضِع تحت مذبحها رفات القديس الشهيد سرجيوس، وصفها ابن بطلان الطبيب البغدادي المسيحي في القرن العاشر بقوله:”بيعة عظيمة ظاهرها بالفَص المذهب”.
يدل النقش المكرس الذي عثر عليه في مكانه الاصلي ان من بناها هو الاسقف ابراهيم من سرجيوبوليس وقد نذرها للصليب المقدس في شهر ايار من عام 559م ولاشك ام الامر يتعلق هنا بأول بناء كبير مؤرخ تأريخاً محدداً في سرجيو بوليس، تحول كما يبدو بعد فترة طويلة الى كاتدرائية بقيت حتى زوال المدينة. وقد رممت في القرن 11م.
طرازها واقسامها
تشكل مجمعاً كنائسياً مع ملحقاته الوسيعة في مساحة 120م/90م، وهي تحتل نواة هذا المجمع، وهي كنيسة من الطراز الباسيليكي المستطيل مؤلفة من 5 اسواق، حولت الشمالية منها الى جامع …
تأتي هذه الباسيليكا في الصف الاول مع كنائس القديس سمعان العمودي وقلب لوزه وبيزوس في رويحة من حيث الاهمية من الناحية الهندسية الفنية.
يتالف قدس الاقداس فيها بشكله الحالي من 3 اقسام ، اما صحن الكنيسة فيفصل بين السوق الوسطى والسوقين الجانبيين صفان من القناطر…الكبيرة والصغيرة والاعمدة من المرمر الوردي مع وجود 18 شباكاً…وفيها المنبر او البيما في وسط السوق الوسطي ولاتزال منصتها ماثلة للعيان وسليمة بالكامل تقريباً ويبلغ طولها 14 م وعلى شكل نعل الدابة فسيح ومرتفع عن الارض متر واحد وعليه 12 مقعد…
هندسة المنبر مستوحاة من مائدة العشاء السري. فالاسقف وحوله الكهنة جالسون يشبهون السيد المسيح له المجد وحوله الرسل جالسون وهم ينشدون للرب ويسبحونه. والهدف من هذه الهندسة فسح المجال للاكليروس والشعب للاشتراك معا في الصلاة والاناشيد الدينية.
يؤكد البحاثة جان لاسوس ان مذبح الكنيسة هذه كان في وسط الكنيسة ليتسنى للشعب المشاركة في الافخارستية.
” امام هذه المشاهد الخلابة وعظمة الابنية الجميلة وأناشيد المسيحيين في كنائس الرصافة كان الخليفة هشام يطرب، كما ذكر المؤرخ ساويرس بن المقفع:”ان الخليفة هشام كان يطرب لسماعه أناشيد الكنيسة الكبرى القريبة من قصره ويصغي الى الأنغام بانبساط وفرح”.(8)
المسجد الكبير
بني في ايام هشام في الباحة الشمالية من الكنيسة الكبرى وكان معداً سابقاً لتجمع الحجاج المسيحيين، وقد احرق القرامطة هذا المسجد في السنة 902م وكان العيش بظل هشام اخوياً بين المسيحيين والمسلمين.
دير الرصافة وهو دير رهباني ومنه الرهبان الشهداء سرجيوس ورفقته وكان الرهبان يقومون بخدمة مركز الحج في سرجيو بوليس كما في دير مارسمعان واديار منطقة قورش والرهبنة جاءت متممة للاستشهاد الدموي لذا كان هؤلاء الشهداء. ولكن الوثائق في علم التاريخ وعلم العاديات نادرة…
وقد شهد بعض المسلمين عن هذا الدير الرهباني والرهبنة في سرجيوبوليس منهم الشاعر الشهير ابو النواس لما اجتازدير الرصافة فقال فيه
ليس كالدير بالرصافة دير ……………..فيه ماتشتهي النفوس وتهوى
بتّه ليلة فقضيت اوطا………………را ويوما ملأت قطريه لهو
ومر الخليفة العباسي المتوكل 822-861 بالرصافة وأقام في دير الرصافة بعض الوقت، ووجد في حائط من حيطانه رقعة مكتوبة فيها قصيدة جاء فيها:
ليالي هشام بالرصافة قاطن………….وفيك ابنه يادير وهو امير…
ذكره الطبري في تاريخه وكذلك ابو الفداء وياقوت الحموي فكتب عنه:”دير الرصافة هو في رصافة هشام…واما الدير فأنا رأيته وهو من عجائب الدنيا حسناً وعمارة…وفيه رهبان ومعابد وهو في وسط البلد”.
ظل دير الرصافة عامراً حتى منتصف القرن 13، ثم هدمه بيبرس البندقداري كمافعل ببقية المباني المسيحية في المدينة …
كنز الرصافة
بنيت مع الزمن في الباحة الشمالية من كنيسة الصليب المقدس اماكن للسكن، وهنا خبأ مواطن في المدينة كنزاً فضياً في وعاء فخاري، تؤرخ النقود المكتشفة هذا الكنز بين الاعوام 1243-1259م وعثر خلال التنقيب الذي جرى السنة 1982 على خمس اوانٍ فضية كانت سابقاً تخص كنزاً كنسياً وقد عولجت فنياً في المانيا ثم اعيدت الى المتحف الوطني بدمشق السنة 1988.
احتوى الوعاء الفخاري كأساً للمناولة المقدسة وقاعدة كأس منفردة وصينية مقدسة لها قاعدة وقنديلاً للتعليق ، وكلها مصنعة من الفضة وجزء منها مذهب او مخطط بالأسود او منقوش باللون النيلي.
مع انجيل الرصافة التاريخي باللغة السريانية وهو محفوظ في بطريركية السريان الارثوذكس بدمشق.(9)
قصر المنذر بن الحارث
يقع خارج أسوار مدينة الرصافة إلى الشمال الشرقي من بوابة المدينة الشمالية وأبعاده 20*17مترا وكان مقرا لاجتماع القبائل ويعتقد أن رفات القديس سرجيوس دفنت فيه ونقلت في ما بعد إلى كنيسة الشهادة ثم إلى حيث تقوم كاتدرائية القديس سرجيوس حاليا ويقال إن المنذر بن جبله الغساني دفن في هذا القصر .
هندستها الطوبوغرافية
ويعد تخطيط مدينة سرجيو بوليس الغنية بالأبنية المعتمدة على الرخام الوردي المزين بالجص أنموذجا للمدن الهيلينية من حيث كونها مستطيلة الشكل، الأمر الذي استعمله الرومان بعد ذلك كثيرا في مدن الإمبراطورية الواسعة وتابعت به امبراطورية الروم الشرقية المعروفة بالبيزنطية، وأهم صفات هذا التخطيط وجود الأسوار والشارعين المتقاطعين بشكل متعامد ليوصلا بين البوابات (كما في الشارع المستقيم في دمشق والمتقاطع معه وكان من باب الصغير جنوباً الى باب الفراديس شمالاً ويتقاطعان عند قوس النصر التترابيل بجوار دار بطريركية الروم الارثوذكس والكاتدرائية المريمية)، إضافة إلى الشوارع الثانوية المتقاطعة بشكل شطرنجي مع مجموعة من الأقنية المائية والأبنية المختلفة، وتأخذ أسوار المدينة شكلا مستطيلا غير منتظم الأضلاع وقد بنيت هذه الأسوار على طبقتين بارتفاع 5،13 متر تتخللها الأبراج الدفاعية وعددها 54 برجا تنتهي زواياها بأبراج دائرية وقامت داخل جسم السور طريق دائرية تمكن الجنود من الانتقال بسرعة للدفاع عن النقاط الضعيفة في جهات المدينة الأربع .
كان المهندسون في هذا العصر، يقيمون المعسكرات على شكل مربع، أو مستطيل، قريب من المربع، مما يساعد حسب رأي يوليوس الافريقي على إجبار العدو المهاجم، على توزيع جنوده موجهاً القوى الكبرى نحو الواجهة، وأول ما يلاحظ في الداخل، عندما تشرع في الدخول إلى المدينة، من الباب الشمالي، تشاهد كنيسة الشهداء، المارتيريوم، والى الجنوب تقوم بازيليكا القديس سرجيوس، وهي من أضخم أبنية الرّصافة المتبقية، وأوقعها في النفس، ولا تزال تحتفظ بأكثر أجزائها الأصلية، وفي الزاوية الجنوبية الغربية من السور تقوم منشآت صهاريج أربعة جبّارة معقودة السقوف، ولا تزال في حالة سليمة تدعو للإعجاب، وتوحي بصلاحيتها للاستخدام، لولا تهدم أقسام صغيرة من سقوفها، وكانت تفيد في اختزان كميات احتياطية من ماء المطر، تكفي لظروف الحصار.
اسوارها
السور والقصر القديم
شارع الرصافة المستقيم
أقام الإمبراطور يو ستنيانوس أسوار الرّصافة لحمايتها من الهجمات، بالأحجار الجصّية المتبلورة التي بنيت بها أسوارها، وتمتد هذه الأسوار على شكل مستطيل يتجه باتجاه الجهات الأصلية، ويبلغ طول ضلعه باتجاه الشمال 536 متراً، وباتجاه الجنوب 550 متراً، وطول الضلع الشرقي 350 متراً، والغربي 411 متراً، ولها في منتصف كل ضلع من هذه الأضلاع باب، والبابان الرئيسان هما الشمالي والجنوبي، ويعتبر الباب الشمالي أجمل الأبواب الباقية، في الرّصافة، حالياً، بزخارفه ومداخله، وأعمدته وتيجان نقوشه النباتية، الرائعة فوق العَمَد، كما تزيّن الإفريز الأعلى نقوش حيوانية، تمثل ثوراً وأسدين وكباشاً.
أما سور الرصافة فيبلغ سمكه ثلاثة أمتار، وله أبراج متعدّدة مضلعة الشكل، وأبراج الزوايا الأربع في السور مستديرة، وداخل هذه الأسوار مزدوج، استعملت فيه الأكتاف، أو الدعامات بدل الأعمدة، لإقامة أروقة ذات أقواس مدوّرة جميلة، تحتوي على نوافذ تقذف النبال، وهذا يدل على أهميتها في أغراض الدفاع، كما انه يوجد في السور أماكن خاصة لتخزين الذخيرة والعتاد الحربي، ولايزال السور منتصباً الى اليوم لامثيل له في تمامه ووضعه. وتبلغ مساحة الرصافة 1،5 كم مربع اي مايعادل مساحة حي باب توما بدمشق داخل الاسوار.
ولا تزال الأسوار في وضع سليم وتعد واحدة من أجمل العناصر المعمارية في المدينة، ويبلغ عرض السور ثلاثة أمتار، ولهذه الأسوار أربع بوابات رئيسة، ويوجد فيها واحد وخمسون برجا ذات أشكال مستطيلة أو مستديرة أو خماسية الأضلاع وتحتل الزوايا الأربع أبراج مستديرة، وتبلغ المساحة المحصورة بين هذه الأسوار واحداً وعشرين هكتارا، وتدعم الأسوار من الداخل أعمدة ضخمة بنيت بحجارة كبيرة، وقد تم اكتشاف جزء من الشارع المستقيم الذي يصل بين البوابة الشمالية والجنوبية ويبلغ طوله 135 مترا ويراوح عرضه بين 1 .2 متر و8 .2 متر ويقع على جانبيه رصيفان، وتحيط به الحوانيت التي لا تزال بقاياها قائمة على ارتفاع متر واحد
وقامت داخل جسم الاسوار طريق دائرية تمكن الجنود من الانتقال بسرعة للدفاع عن النقاط الضعيفة حيثما وُجدت، فلدى اجتياز البوابة يرى الزائر يميناً ويساراً الممر المحاذي للسور في الداخل على الجهات الاربع ضمن صف من القناطر المهيبة المنظر.
الشارع المستقيم
على غرار الشارع المستقيم في دمشق وافامية كما اسلفنا وهي هندسة يونانية قديمة ثم هلنستية وتابعها الرومان ثم الروم يمتد الشارع المستقيم الذي يخترق المدينة في وسطها ويتجه مباشرة من الشمال فيه الباب الشمالي او باب الرقة، الى الجنوب، فيه الباب الجنوبي او باب تدمر، بين صفين من الاعمدة عبر طريق طويلة يُطلق عليها اسم الشارع المستقيم، وقد أُقيمت كما قلنا على جانبيه الحوانيت والمتاجر وأماكن الكنائس ومراكز التبادل التجاري. وقد ضيق سكان المدينة في القرون الوسطى هذا الشارع كي لاتمر به العجلات الكبيرة.
أما إذا ترك زائر المدينة، من ثغرة إلى الشمال الشرقي، من السور على بعد مئتي متر تقريباً، فانّه يلتقي ببقايا قصر أموي كان بدون شك، قصر هشام بن عبد الملك، الذي كشفت عنه البعثة الألمانية برئاسة دورن، والقصر مربع الشكل، طول كل جانب منه قرابة 80 متراً، ويحمي كل جانب برجان مستديران يرتكز كل منهما على قاعدة مربعة، ولقد تم تشييد أسوار الرّصافة الضخمة في العهد الرومي، وكذلك بناء الصهاريج العميقة لجمع المياه كما تركزت حامية تتناسب مع أهمية المدينة، وأثناء تولي الامبراطور أناستازيوس، عرش بيزنطية، دعيت الرّصافة أناستازيابوليس، على اسم هذا العاهل المؤمن، الذي شيّد فيها بناء الباسيليكا الضخم، ويمكن للمؤرخ أن ينسب للعاهل بناء أسوارها وصهاريجها الضخمة، فكل شيء يدل على أنها تسبق زمن يوستنيان الذي أصطلح على نسبتها لعهده.
زيارة المدينة التاريخية تبدأ زيارة المدينة الأثرية عادة عند البوابة الشمالية و هي واحدة من أربع بوابات رئيسة للمدينة. للمدينة شكل مربع تقريبا يبلغ طول السور 1800 م تقريباً. مازالت المدينة محافظة على بقايا مهمة من الأبنية الدينية و التجارية و صهاريج الماء كما لا تزال البعثة الأثرية السورية – الالمانية المشتركة تعمل بمواسم تنقيب مهمة للكشف عن المزيد من الكنائس و الأبنية الآخرى لها.
البوابة الشمالية و سور المدينة
تعتبر البوابة الشمالية من أجمل البوابات التي تعود للفترة الرومية في سورية وهي مبنية على مخطط مربع الشكل له باب أولي لم يتبق منه شيء و بوابة ثلاثية المداخل تؤدي إلى داخل المدينة.
يلاحظ الزائر أن للبوابة أعمدة و تيجان كورنثية، وتشير فتحات السهام و المخطط العام للبوابة على أنه كان لها وظيفة دفاعية.
عند الدخول للمدينة نشاهد السور الدفاعي للمدينة من الداخل ونرى أنه مبني من طابقين، يرتبطان بسلالم حجرية و فتحات و يحويان غرفاً للسلاح و المؤن. يرتفع الطابق الأول للسور حوالي سبعة أمتار، و الثاني حوالي أثني عشر متراً من مستوى المدينة الأساس. دعّم السور بأبراج نصف دائرية و مربعة و بوابات ثانوية أربع.
كنيسة الشهداء المار تيريون
لدى المسير بإتجاه مركز المدينة يصادف الزائر اليوم أول بناء تاريخي للمدينة، ألا وهو كنيسة الشهداء. تعود هذه الكنيسة الى القرن السادس المسيحي على الأغلب و هي من أولى الكنائس الرئيسة التي بنيت في المدينة و يعتقد أنها حوت رفات القديس سرجيوس كما اسلفنا.
للكنيسة مخطط االباسيليكا (ثلاثة اروقة و قدس الأقداس وحنية الهيكل في المنتصف) و هي مميزة بأعمدتها الوردية اللون و لا تزال هنالك الجهة الشرقية للكنيسة محافظة على شكلها.
إن ما يميز هذه الكنيسة هو الرواق الوسطاني الذي يتسع في المنتصف ليشكل دائرة من ثمانية أعمدة ما زال بعضها ملقى في مكانه.
حواشي البحث
1- سرجيو بوليس فالمدينة باليونانية هي بوليس.
2- الامبراطور يوستنيانوس الموصوف بالحسن العبادة وهو الذي ظهرت عليه العذراء وامرته ببناء دير لها للمتعبدات الراهبات وفق الهندسة التي وضعتها وقد بنى دير سيدة صيدنايا وواضاف ببناء دير القديس حنانيا الرسول في جنوبي دمشق ( كنيسة القديس حنانيا الرسول في الميدان حارة القوره شي حالياً)
3- فطريق او بطريق تعني قائد عسكري كبير في جيوش الروم، من هنا اسمي باب توما من ابواب دمشق لأن قائداً عظيماً هو توما في العهد الرومي كان يحميه.
4-كما فعل بيبرس المملوكي لاحقاً عام 1268 م في انطاكية وقد دمرها وحرث ارضها بعدما دك اسوارها الحصينة بحجة حربه ضد الفرنج والمدينة كانت فار غة منهم حيث خرجوا منها قبيل حصاره لها وانتقلوا الى ثغر طرابلس، ولكن حبه وشبقه بالتنكيل بالمسيحيين ناشيء عن مخيلته المريضة بأنهم يشتركون بالايمان المسيحي مع الفرنج ويتوجب قتلهم وهذا مافعله بتدمير معظم كنائس مصر والشام …
ونقول مع المؤرخين المسلمين المعاصرين الذين استخدموا تسمية الافرنج بدلاً من الصليبيين اولاً وثانياً هذا مخالف لتأريخ هؤلاء المؤرخين المعاصرين من المسلمين حصراً ان ماعاناه المسيحيون على يد الفرنج في مشرقنا من دائرة بطريركية انطاكية وبطريركية اورشليم من قتل للبطاركة والاساقفة والشعب ومافعلوه حين اجتياحهم القسطنطينيةلينتموا الى الكنيسة الغربية برئاسة البابا وهذا معروف واكثر بكثير بكثير ممايُشيعه مؤرخو ايامنا وماندرسه في مناهجنا التربوية …
لقد ارتكب بيبرس مجازر تقشعر لها الابدان بحق المسيحيين معتمداً سياسة التطهير الديني كما فعل الفرنجة بحق اخوتهم المسيحيين الشرقيين لقلب انتمائهم بالحديد والنار في انطاكية قتل الشعب المسيحي البالغ عددهم مائة الف ونقل من بقي منهم حياً الى مصر واحل مسلمين بدلاً عنهم احضرهم من اماكن اخرى وهذا السبب المباشر لنقل مقر بطريركية انطاكية من انطاكية الشهيدة بعد حوالي ثلاثة ارباع القرن الى دمشق، لقدبقي الكرسي الانطاكي المقدس خلال هذا الزمن من 1268 بذبحه انطاكية وشعبها الى عام 1344 متشردا في آسيا الصغرى والقسطنطينية وقبرص الى ان استقر في دمشق عام 1344م…الامرذاته الذي فعله حين تدميره انطاكية فعله بالقرى القلمونية قارة ودير عطية والنبك…)
5-كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة 830-913م
6- كما افاد الاب متري هاجي اثناسيو استناداً على المجلة البطريركية السريانية بدمشق -“كرسي الرصافة” العدد 30كانون الثاني السنة 21
7-في كتابه القيم موسوعة بطريركية انطاكية المجلد الثاني ص 244
8- المصدر السابق
9- المصدر ذاته
من المصادر
د. اسد رستم، تاريخ كنيسة انطاكية
خريسوستوموس، تاريخ كنيسة انطاكية، تعريب الاسقف استفانوس حداد
الاب د. متري هاجي اثناسيو، موسوعة بطريركية انطاكية…ج2
الاب بطرس ضو ، تاريخ الموارنة ج2
مذكراتنا في الحركة الكشفية برحلتنا الكشفية لها السنة 1982 وما كتبناه آنئذ.
لامجال للشك في ان علمنا الدكتور جميل صليبا كان من ابرز رجال العلم والفكر والتربية والفلسفة والادب، ليس في سورية فحسب بل في العالم العربي كله لما امتاز به من سعة الثقافة وغزارة الانتاج، والدقة في البحث، والاخلاص في العمل والصدق في التحري والتدقيق والايمان بالقيم السامية…
كان علمنا رائداً طليعياً فقد اسس عدداً من المعاهد والكليات والمجلات التربوية والادبية في سورية، وكان اول من ادخل تدريس الفلسفة الاسلامية في مناهج التربية في سورية، وعَّرَّفَ الغرب بهذه الفلسفة، وعمل مع ساطع الحصري على تطوير المناهج التربوية ورفع مستواها، كما شغل عدداً من المناصب العلمية والتربوية والادارية في سورية، وكان آخرها عمادة كلية التربية، ورئاسة جامعة دمشق عام 1968.
السيرة الذاتية
جميل بن حبيب بن الخوري داود صليبا”مربٍ وتربوي سوري. ولد في قرية القرعون في محافظة البقاع. كان والده حبيب يعمل متعهداً لأعمال البناء في بلدته والمنطقة البقاعية وهو ابن الخوري داود صليبا وقد نشأت العائلة منذ اجيالها الاولى وجدها الاكبر “صليبا” منذ القرن 16م في كنف الكنيسة الارثوذكسية وخدمتها من خلال رجال الاكليروس والترتيل والتعليم في المدارس والكائنة في اروقة الكنائس اذ كان ممنوعاً على المسيحيين” افتتاح مدارس والتعليم خارج الكنائس
تخرج من اسرة الجد المؤسس صليبا عدد كبير من المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات كان منهم مثلثي الرحمات متروبوليت نيويورك السابق فيليبس صليبا ومتروبوليت حماه السابق ايليا صليبا ومتروبوليت اوستراليا السابق بولس صليبا… وعدد لايحصى من الاكليروس..خدموا ابرشيات الكرسي الانطاكي في المشرق والمهجر.
رب سائل يسأل عن السبب في انتقال حبيب صليبا باسرته الى دمشق وليس الى بيروت… واكيد كان السبب في الانتقال هو ضيق الاحوال المعيشية في المنطقة، ونجيب حيث ان الشائع ان اهل سورية هم من ينتقل الى بيروت (تحديداً) منذ مابعد مذبحة 1860 في دمشق، لكن في واقع الامر ومن يتتبع الحركة الديمغرافية منذ ذاك التاريخ وماقبل الى اواخر القرن المنصرم ثمة تساوي في حجم الهجرات والهجرات المعاكسة في ارجاء الشام الكبرى، إذ لم يكن الامر مستغرباً ان ترتحل عائلات محسوبة اليوم لبنانية الى دمشق وبقية المناطق وتقيم فيها وتكتسب جنسيتها السورية، ولنا أعظم مثل في اسرة الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي ان ينتقل والده من بيروت الى دمشق ويتزوج منها ويعمل بحرفة تسدية الحرير وابنه يستشهد ذبحاً في فتنة دمشق الطائفية 1860… واسرتنا آل زيتون مثلاً هي اساساً من حوران ازرع ولكنها انتشرت منذ القرن 15 اما فرعنا فكان من حاصبيا وراشيا وامتد الى زحلة وبيروت واتى كبير احد الفروع هذه والد جدي نقولا الى دمشق من راشيا ومعه عائلته … وعمل واستقر بدمشق وكانت اسرة زيتون الشامية المتأصلة بجذورها الراشانية ونعتزنحن بدمشق وبلبنان…
والكثير الكثير من العائلات المسيحية الحرفية، لكون فرص العمل الحرفي كانت اكبر في دمشق على ارض الواقع،بينما تتأصل التجارة في بيروت وخاصة عند المسيحيين الارثوذكس بعكس الشوام الحرفيين…
ودمشق كانت تفتح ذراعيها للوافدين فالاقامة و الاندماج بالمحيط المرحب بكل لاجىء وحتى الآن سهلة جداً…ومن كل الارجاء السورية ايضاً ومن (اللاجئين اليونان وبلغاريا وروسيا نتيجة الحروب والازمات السياسية في بلادهم) وكيليكيا وديار بكر الابرشيتان الشهيدتان بالغدر التركي- الكردي ولواء الاسكندرون السليب وعاصمته انطاكية وحلب وحمص واللاذقية وعكار ووادي النصارى والشمال الشرقي…
في التاريخ الحاضر والمعاصر انتقلت الكثير من العائلات اللبنانية المسيحية الى دمشق خصوصا وبقية المدن السورية عموماً واعرف كثيرين ومنهم من اقاربنا وانسبائنا أتوا الى دمشق من زحلة وراشيا وحاصبيا والبقاع ومشغرة وحتى من بيروت واستقروا وعملوا بأعمالهم الاصلية كالدباغة وحازوا الجنسية السورية اضافة الى الجنسية اللبنانية من المعاصرين الحاليين.
انتقل حبيب والد علمنا بعائلته إلى دمشق في عام 1908. وسكن كالعادة في حي “آيا ماريا” المسيحي بصبغته الارثوذكسية المطلقة (القيمرية) وتابع العمل في مهنته كمعماري وكان كما كل آل صليبا يربي اولاده منتمين الى الكنيسة الارثوذكسية لذلك كان علمنا يقوم بالخدمة طفلاً في المريمية كنيسة القديس يوحنا الدمشقي فأحبه البطريرك غريغوريوس الرابع وكان والده قد صار من المقربين من غبطته والمجلس الملي الدمشقي نظراً لاندفاعه للخدمة في مرافق البطريركية في كل مجال يُطلب منه وخاصة في تخصصه بالبناء، ووضع اولاده في مدرسة الآسية الارثوذكسية الدمشقية، حيث التحق علمنا بالآسية كأقرانه وكان ذلك في عهد مديرها القدير العلامة الاستاذ عيسى اسكندر المعلوف(1910-1913)، (1)وقد عاد الى موطنه زحلة، وتولى خلفاً له في عام 1913 الاب اثناسيوس كليلة الدمشقي العائد وقتئذٍ من روسيا والحائز الدكتوراه في اللاهوت من جامعة موسكو حيث لفت انتباههما (الأول والثاني) وبقية الاساتذة نبوغ علمنا منذ حداثته فاعطياه ثقتهما وافهماه بأنه سيكون له شأن في التربية والتعليم في المستقبل القريب. لذلك كنا نرى علمنا ينهل العلوم والمعارف بشغف وحقق رؤية من علمه بهذه المكانة العلمية والفلسفية العظيمة التي حققها.
وفي عام 1914 مع بدء الحرب العالمية الاولى تخرج بتفوق من مرحلة الدراسة في الآسية وحاز شهادتها، ثم تابع دراسته الإعدادية في المكتب السلطاني العثماني(مكتب عنبر) /وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة في سوريةآنذاك/ في اختصاص الإدارة وبقي فيه حتى عام 1918. انتسب بعدها إلى مدرسة التجهيز الرسمية بدمشق لإكمال دراسته الثانوية وتخرج فيها بتفوق عام 1921.
ايفاده الى فرنسا
د. صليبا رئيساً للجامعة السورية
أوفدته وزارة المعارف السورية إلى فرنسا لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، وهناك حصل على إجازة في الآداب (فلسفة) عام 1924 ودبلوم التربية وعلم النفس عام 1925 وإجازة في الحقوق 1926، وتوج دراسته بأطروحة الدكتوراه الموسومة «دراسة في ميتافيزيقية ابن سينا»، وفي عام 1927أنجز أطروحته المكملة «النظرية الاجتماعية في المعرفة» وصار أول من حمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة في الجمهورية السورية.
العودة الى دمشق
فور عودته إلى دمشق عام 1927، عين مدرساً لمادة الفلسفة في مدرسة التجهيز الرسمية بدمشق وكانت هي التجهيزية الدمشقية الرسمية الوحيدة، ( اضافة الى بعض المدارس التجهيزية الخاصة كالآسية) وكان أول عمل قام به هو تعريب مادة الفلسفة وتدريسها لطلاب التجهيز الرسمية باللغة العربية بدلاً من الفرنسية.
وفي سنة 1930م انتخبه المجلس الملي البطريركي الأرثوذكسي الدمشقي (باقتراح من لجنة المدارس الارثوذكسية بالاجماع) مديراً عامّاً للمدارس التجهيزية الارثوذكسية الشهيرة ب(الآسية) فتولى ادارتها وتدريس مادة الفلسفة وباللغة العربية(2) إضافة إلى عمله في مدرسة التجهيز الرسمية. وحقق القفزة المرجوة في مدارس الآسية من االنواحي الادارية والعلمية وتطوير المناهج لكل المراحل من الطفولة الى الشهادة الثانوية، وزادت موارد المدارس لكثرة الطلاب المنتسبين اليها من كل الاديان والطوائف من الذين تسلموا ارفع المناصب العلمية والوظيفية والسياسية في سورية والذين فاخروا بتخرجهم من الآسية، إضافة لإشرافه على المدارس الدمشقية الارثوذكسية الاخرى (القديس يوحنا الدمشقي الابتدائية، ومدرسة القديس نيقولاوس (داخل الصرح البطريركي)، اضافة الى مدارس الآسية للبنات (قبل ان تُضم الى المدرسة الكبرى) وانتخب عضواً عاملاً في المجلس الملي البطريركي الارثوذكسي الدمشقي بالاجماع، وكان خير مستشار للشؤون التربوية للبطريرك الكسندروس الثالث المعروف عنه عشقه للتربية والتعليم، وللجنة المدارس الارثوذكسية التابعة للمجلس الملي.
في التعليم
عُين مديراً للتعليم الثانوي والفني والإكمالي في وزارة المعارف عام 1935، فمديراً لدار المعلمين في السنة 1944م، فرئيساً للجنة التربية والتعليم في 1945م في وزارة المعارف ( التربية) السورية، فأميناً عامّاً لوزارة المعارف في 1949م. ثم انتقل إلى جامعة دمشق، وشغل منصب عميد (كلية التربية) من 1950م إلى 1964م، وعُين في أثناء ذلك نائباً لرئيس الجامعة سنة 1958م ثم رئاسة الجامعة اضافة الى عمله التدريسي وانشطته العلمية الاخرى.
الدكتور جميل صليبا المجمعي
انتُخب الدكتور جميل صليبا عضوًا عاملًا في المجمع العلمي العربي في 26 كانون الثاني 1942م، وصدر مرسوم تعيينه في 28 شباط 1942م عن رئيس الجمهورية محمد تاج الدين الحسني.
عُين الدكتور صليبا عضوًا في لجنة المجمع الإدارية (مكتب المجمع) في 22 تشرين الثاني 1944م، وجُدّد تعيينه في 20 آب 1950م، ثم في 15 كانون الثاني 1955م، ثم في 3 تشرين الثاني 1960م، وظل يشارك في أعمال هذه اللجنة إلى حين إحالته على التقاعد سنة 1964م، فقدَّم استقالته منها في 9 تموز 1964م بسبب ظروف عمله في وظيفته الجديدة في بيروت، وانتقل إلى بيروت، لكنه بقي على صلة بالمجمع إلى حين وفاته.
تجلَّت أعمال صليبا خلال عضويته في المجمع في مجموعة من الدراسات في الفلسفة والمنطق والتربية والنقد وعلم النفس والتراجم وغيرها.. وفي تحقيق المخطوطات، ووضع المصطلحات، وتمثيل المجمع في عدد من المؤتمرات والمهرجانات.
نشر الدكتور صليبا زهاء 100 مقال في مجلة المجمع في المدة (1925 – 1977م)؛ فقد كان ينشر في مجلة المجمع قبل أن يكون عضوًا فيه. ومن جملة هذه المقالات:
في الفلسفة: (الاصطلاحات الفلسفية – 36 مقالًا)، و(الطريقة الرمزية في الفلسفة العربية)، و(الغزالي وزعماء الفلسفة)، و(موقفنا من الفلسفة)، و(نظرية الخير عند ابن سينا)، و(معاني العقل في الفلسفة العربية)، و(حدود العقل عند الغزالي)، و(الغزالي وعلم الكلام)، و(بين ابن سينا وابن رشد) و(فكرة الخير عند الفارابي)، و(الإنتاج الفلسفي).
في البحوث والدراسات: (دراسات عن مقدمة ابن خلدون)، و(تعريب الاصطلاحات العلمية)، و(المدينة العادلة)، و(الحدس والفكر)، و(الاتجاه القومي في التربية العربية).
في التقارير: (التقرير السنوي عن سير المعارف في العراق)، و(مؤتمر اليونسكو الثالث)، و(المهرجان الألفي لذكرى مولد ابن سينا).
في التعريف بالكتب: (تهذيب الأخلاق)، و(فيلسوف العرب والمعلم الثاني)، و(علم الاجتماع الديني)، و(تاريخ حكماء الإسلام)، و(شخصية الحيوان)، و(عمر الخيام)، و(أشباح ورموز)، و(تحت قناطر أرسطو)، و(مستقبل المرأة العربية في البيت والمجتمع).
انشطته العلمية
وكان في عام 1931قد أصدر مع مجموعة من زملائه مجلة تربوية باسم «المعلمين والمعلمات» توقفت عن الصدور عام 1935 لأسباب مادية. وفي عام 1933 اشترك مع مجموعة من الأدباء في تأسيس وإصدار مجلة «الثقافة» استمرت في الظهور عاماً واحداً، ثم توقفت لأسباب مادية أيضاً. وفي عام 1936 اشترك مع لفيف من زملائه في إصدار مجلة «التربية والتعليم» ولكنها لم تلبث أن احتجبت بعد سنة للأسباب نفسها. وفي عام 1948 أسس مجلة «المعلم العربي» وهي مجلة لاتزال تصدر عن وزارة التربية حتى اليوم.
كتابه المعجم الفلسفي
أنشطته في الميدان الدولي
مثَّل الدكتور صليبا بلاده سورية في كثير من المؤتمرات والمهرجانات والندوات الدولية في كل من دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة والكويت وطهران وموسكو وروما… منها: مؤتمر الأدباء العرب، ومؤتمر المجامع العلمية العربية، والمؤتمرات الثقافية لجامعة الدول العربية، ومؤتمر اليونسكو لدراسة الحاجات التربوية في العالم العربي، وحلقة نظم التعليم في العالم العربي، وحلقة إعداد المربي، ومهرجان المتنبي، ومهرجان المعري، ومهرجان ابن سينا، واحتفال المجمع العلمي السوفييتي بمرور 40 عاماً على تأسيسه.
وألقى سلسلة من المحاضرات في جامعة باريس في موضوع الفلسفة العربية وتطورها.
نُدب الدكتور صليبا ليحاضر في المركز الاقليمي لليونسكو في بيروت لتدريب كبار موظفي التربية العرب من عام 1964 الى عام 1970، ومنذ انتخابه عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1942 كما مر معنا، عمل منذ ذاك الوقت على احياء التراث العربي، ووضع المصطلحات العلمية التي تحتاجها اللغة العربية لتستطيع الوفاء بمتطلبات العصر، ثم عضواً في اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية التابعة لليونسكو عام 1955
الهيئات العلمية التي انتسب إليها
عضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية
عضو اللجنة المركزية للجمعية الدولية لعلوم التربية
ممثل اليونسكو في اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية
حيث انتخب في لجان عربية ودولية عديدة، ومثَّل سورية في مؤتمرات عديدة على المستويين العربي والدولي منها: مؤتمرات اليونسكو كما مر، ومؤتمرات الجامعة الأمريكية في بيروت ومؤتمر أوسلو لتدريس علوم التربية ومؤتمر الأدباء العرب في روما وغيرها.
تقاعده ووفاته
ظل الدكتور صليبا يحمل نفسه فوق طاقتها، ويعيش فكره وعلمه على حساب صحته الى ان اعتلت…واقعده المرض عن متابعة العمل.
أحيل على التقاعد في 1964، فانتقل إلى بيروت حيث ندبه المركز الإقليمي لليونسكو في بيروت لتدريب كبار موظفي التربية في العالم العربي وبقي حتى1970.
توفي جميل صليبا في بيروت في 12 تشرين الاول 1976 ثم نقل إلى مثواه الأخير في دمشق، تلك المدينة المضيافة التي احتضنته طفلاً ويافعاً، ورعته شاباً وكهلاً، وشهدت ولادة معظم آثاره المتنوعة التي ستبقى ذخراً للأجيال العربية لأنها خلاصة فكره النير، وعلمه الواسع، وآرائه السديدة.
صُلي على الجثمان برئاسة مثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع وبحضور عدد من مطارنة الابرشيات وكل الاكليروس البطريركي، وغصت الكاتدرائية المريمية بدمشق بالمشيعين يتقدمهم وزراء التربية والتعليم العالي والثقافة واعضاء مجمع اللغة العربية والموسوعة العربية في سورية، ووفد من اليونسكو واساتذة المدارس الارثوذكسية الدمشقية، ورفاق دربه في الفكر والادب والفلسفة. والقيت كلمات التأبين بداية من الخطيب المفوه البطريرك الياس الرابع الذي عاشر الفقيد وعاصره في المحافل العلمية وتلته الكلمات الآسفة فكأننا في مباراة بالادب والشعر والعلم بسوق عكاظ حديث شهدت له مريمية الشام… ثم نقل الجثمان بموكب كنسي وشعبي حافل سيراً على الأقدام الى مقبرة القديس جاورجيوس الارثوذكسية ودُفن فيها.
ترك علمنا ثروة ضخمة من المؤلفات القيمة التي تتوزع بين تأليف وتحقيق وترجمة، إضافة إلى مقالات عدة للصحف، وبحوث كثيرة للمؤتمرات، وإشرافه على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه.
دوره في التربية وعلم النفس والفلسفة
يعد جميل صليبا من خبراء التربية والتعليم في الوطن العربي، إذ ضمَّن مؤلفاته ومحاضراته الكثير من آرائه الشخصية، التي تنم على تفكير ثاقب في مجال التربية والتعليم، كمعالجة مشكلة الأمية عن طريق التعليم الإلزامي. ومن أجل تحقيق الإلزامية في التعليم، دعا صليبا إلى مجانية التعليم، لأن «المجانية نتيجة ضرورية للإلزامية، لأنه لا يمكن فرض التعليم على جميع أفراد الشعب إلا إذا قُدم إليهم مجاناً، وهذا واجب اجتماعي مطلق ينبغي على الدولة أن تقوم به حفاظاً على المصلحة العامة وتحقيقاً لمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، ليس فقط بين الأغنياء والفقراء، بل بين الرجال والنساء أيضاً».
كما دعا إلى إعداد المناهج إعداداً علمياً وتربوياً، بحيث تعكس الأهداف العامة للمجتمع في الوحدة والتقدم، وتضع طرائق تدريس فعّالة تؤمّن تطبيق المنهاج على أفضل وجه. وهذا يتطلب إعادة تأهيل المعلم في معاهد لإعداد المعلمين.
ويعدّ كتاب جميل صليبا «مستقبل التربية في العالم العربي» من أبرز كتبه في مجال التربية، عالج في جزئه الأول أهداف التربية في الوطن العربي وموقعها بين التربية العربية وبين القومية والعالمية. كما عالج الاتجاهات الثقافية في الشرق العربي، فتكلم على تطور الثقافة وعلى العلاقة بين الثقافة والحضارة ومستقبل الثقافة العربية، وفي الجزء الثاني من الكتاب ذاته، عالج المشكلات التربوية في التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي وإعداد المعلمين. ويعد هذا الكتاب من أهم مراجع التربية في الوطن العربي.
أما في علم النفس، فكان من أبرز ما كتب صليبا في هذا المجال، كتابه القيّم «علم النفس» (1936). كان هذا الكتاب أول كتاب حديث في علم النفس يظهر في سورية، تناول فيه بالبحث المدقق الشامل كل أبحاث علم النفس المتعارف عليها آنذاك. وبذلك شقّ جميل صليبا طريقاً في التأليف السيكولوجي وطرح للتداول عدداً من المفردات لم تكن موجودة باللغة العربية والتي مايزال استعمالها جارياً حتى اليوم بوصفها خير ما يمكن التعبير به عن المفاهيم السيكولوجية العلمية الدقيقة. ويرى بعضهم أن هذا الكتاب كان بداية تاريخ علم النفس الحديث في سورية، على الأقل، وإليه يرجع الفضل في كل تقدم لاحق.
أما في مجال الفلسفة فيعدّ جميل صليبا من أبرز المهتمين بالفلسفة عموماً، والفلسفة العربية خصوصاً، على الصعيدين المحلي و العربي، إذ قدّم خدمات جليلة للفلسفة العربية من خلال اهتمامه بإظهار معالمها وإبراز رجالها وكشف أصالتها وعالميتها وتوضيح مصطلحاتها، فكانت دراسته الأولى حول «فلسفة العالم ابن سينا» التي حصل من خلالها على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون بباريس. وبعد عودته إلى دمشق انكبّ على دراسة أعلام الفلسفة العربية والإسلامية، منهم ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد والمتنبي والمعرّي.
كتابه تاريخ الفلسفة العربية
ولتعزيز علوم الفلسفة، قام جميل صليبا بإدخال مقرر «الفلسفة العربية الإسلامية» على منهاج طلاب المرحلة الثانوية 1933التي عرّفت الأجيال على الفكر الفلسفي العربي وأعلامه. وأصدر كذلك المعجم الفلسفي، الذي وطّد المصطلح الفلسفي، والذي يعدّ قمة أعمال صليبا، وهو أقرب إلى الموسوعات الفلسفية منه إلى مجرد معجم ألفاظ، ويقع المقرر في مجلدين ويحتوي على 1160 مصطلحاً فلسفياً عربياً، وإلى جانب كل مصطلح منها وضع مقابله باللغات الفرنسية والإنكليزية واللاتينية، وقد شرح كل مصطلح مبيّناً أصله اللغوي ومعانيه في المنطق والأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وما وراء الطبيعة والدين وعلم الكلام واللاهوت.
تآليفه
الف علمناخلال حياته التي امتدت 74 عاما 33 كتابا في التربية وعلم النفس والمنطق والادب والنقد والفكر القومي، وقد صدرت هذه الكتب كلها عن مجمع اللغة العربية بدمشق.
منها
1ـ ابن خلدون: درس وتحليل منتخبات 2ـ من أفلاطون إلى ابن سينا 3ـ الإنتاج الفلسفي خلال المائة سنة الأخيرة والفلسفة العامة وفلسفة العوام 4ـ الدراسات الفلسفية 5ـ تاريخ الفلسفة العربية 6ـ المنطق 7ـ علم النفس 8ـ مشاهير الرجال في تاريخ التربية العربية 9ـ الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام 10ـ اتجاهات النقد الحديث في سورية.
الا ان اهم عمل توج به مؤلفاته القيمة هو المعجم الفلسفي الذي صدر 1971 في مجلدين كبيرين، ويضم حوالي ثلاثة آلاف مصطلح بالعربية والفرنسية والانكليزية شرح كل واحد منها شرحاً وافياً وهذا المعجم اقرب الى الدراسات الموسوعية منه الى قوائم المصطلحات المختصرة ولم يقدم على تأليف هذا المعجم الا بعد ان لمس ان المصطلحات الفلسفية المترجمة عن اللغات الاجنبية، لاتخلو من اللبس والغموض، وكل مؤلف أو مترجم يختار من الاصطلاحات مايرضيه، حتى انك لتجد للمعنى عند بعض المؤلفين الفاظاً مختلفة، او تجد للفظ الواحد عدة معانٍ.
اما آراؤه في التربية فقد بسطها في كتاب ” مستقبل التربية في الشرق العربي” الذي ألفه عام 1962 ويرى فيه ان معالم التربية يجب ان تقوم على العروبة وقومية التربية، والاهتمام باللغة العربية الفصحى، والدعوة للوحدة الثقافية، وعلى الديمقراطية وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وتعميم التعليم، وعلمية التربية والتجريب فيها…
ومن اهداف التربية أيضاً تنشئة افراد اقوياء الأجسام مثقفي العقول، حسني الأخلاق وإعداد أجيال عربية واعية مؤمنة تحب التعاون والتكامل والعدل والنظام والتقدم وتراعي الحق والواجب وتقدس الوطنوتعتز بتراثه، وتؤمن بأصالته، وتخلص لوحدة الامة العربية.
بقي ان نقف وقفة ولو قصيرة عند كتابه” من الخيال الى الحقيقة” فقد بحث في هذا الكتاب مسألة المَثل الأعلى الذي يجب ان يتجلى في الحياة الاجتماعية بثلاث صور هي الخير والجمال والحقيقة، اما الخير فيظهر في القوانين والشرائع والاخلاق، واما الجمال فيتجلى في الفنون الجميلة من شعر وتصوير وموسيقى، واما الحقيقة فتبدو في العلوم النفسية والتاريخ والفلسفة، لأن الهيئة الاجتماعية جسد، والمثل الأعلى روحها.
كان د. صليبا يهدف في كتاباته عامة الى ان يصلح الانسان ويرشده الى طريق الخير فيسير فيها والى طرق الشر فيحيد عنها…
1ـ المنقذ من الضلال (لأبي حامد الغزالي) 2ـ حي بن يقظان لـ (ابن طفيل) 3ـ الرسالة الجامعية 1 و2 لـ (المجريطي).
أمّا المقالات التي كتبها فهي كثيرة جداً، نشرها في المجلات الآتية
1ـ مجلّة الحديث الحلبية 2ـ مجلّة الطليعة الدمشقية 3ـ مجلّة الطريق البيروتية 4ـ مجلة المعلم العربي 5ـ مجلّة العربي 6ـ مجلّة المعرفة السورية 7ـ مجلّة الايمان الدمشقية 8ـ مجلّة المجمع العلمي العربي 9ـ مجلّة كلية التربية.
الخاتمة
هذا غيض من فيض من حياة العلامة جميل صليبا وأعماله. لقلد عاش الدكتور جميل صليبا مع ربه بايمان مسيحي ارثوذكسي نقي وقد طوع الفلسفة ايمانياً وعاش بها حياة ايمان وممارسة للصلوات سواء في الكنائس او في خلواته…وبلاشك ان حالة الخير والمثل العليا التي جسدها في تآليفه عاشها عملياً مع السيد المسيح له المجد من خلال الكتاب المقدس بعهديه وبالاخص العهد الجديد فيسوع كان اكبر من اكبر فيلسوف من خلال الامثال الواردة عن لسانه في الانجيل المقدس ومن خلال التطويبات على الجبل ومعجزاته وماقاله فيها، ومن عاصردكتور جميل كان يراه دوماً مصلياً في كنيسة المريمية وانا وقتها عرفته في بدء الشباب عرفته من ذلك الارتياد للكنيسة والورع في الصلاة من رجل متقدم في العمر والهيبة، وكنت اشعر بالارتجاف كلما وقعت عيني على عينه فلا اتردد من الانحناء والتحية له، ويرد بكل مودة علي تحيتي الخجولة امام عظمته فهو الدكتور صليبا الشهير، ولكنه الدمث واللطيف الذي لاتفارق الابتسامة ثغره وكان المؤمن المصلي بايمان حقيقي…
عاش حياة مليئة بالعمل، غنية بالنشاط المتواصل والعطاء الدائم مقتدياً بقول الرب له المجد” مَن عَمِلَ وعَّلَّمَ دُعيَ عظيماً في ملكوت السماوات”
كانت لا تلهيه مباهج الدنيا ومفاتها عن الانصراف للبحث والتأليف والابداع، يصل نهاره بليله وليله بنهاره ليقرأ ويكتب ويترجم ويحقق ويبحث في العلم والفلسفة والادب والنقد والتربية وعلم النفس بمنتهى التجرد والموضوعية والنزاهة، فقد وهب نفسه للعلم وتفانى في تحصيله، حتى غدا علماً بارزاً من اعلام النهضة الفكرية في سورية وسائر الوطن العري ورائداً عظيماً من رواد الفكر الحر، وداعية الى التجديد والتقدم، اذ انه كان يؤمن بأن لاسبيل الى الاصلاح الا عن طريق البحث العلمي.
لقد زرع في جميع من تتلمذ عليه في الفترة من مطلع الثلاثينات الى منتصف السبعينات حب البحث والشوق الى تحصيل المعرفة ومنهج التثقيف الذاتي.
يكفي الوطن فخراً بهذا العالم الفيلسوف والمربي والعروبي الاصيل والمؤمن الفذ بالله الخالق والممارس لايمانه المسيحي بنقاء ملفت ويكفيه هو فخراً انه كان من اوائل من نقلوا الاجيال الجديدة من عالم التقليد والجمود الى عالم المعاصرة والاخلاق.
حواشي البحث
1- جوزيف زيتون، كتابنا الآسية مسيرة قرن ونصف 1840-1990
2- المصدر ذاته
من المراجع
– د.جميل صليبا موقع الموسوعة العربية
– د.جميل صليبا /موقع مجمع اللغة العربية
ـ حسان بدر الدين الكاتب، الموسوعة الموجزة (مطابع ألف باء، دمشق1973).
ـ عمر رضا كحالة، المستدرك على معجم المؤلفين (مؤسسة الرسالة، بيروت 1985).
ـ جميل صليبا، وسائل تخرج المعلمين، مؤتمر الثقافة العربي الأول (جامعة الدول العربية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1948).
ـ عاقل فاخر، ما أسهم به المؤلفون العرب في المائة سنة الأخيرة في علم النفس (هيئة الدراسات العربية،الجامعة الأمريكية، بيروت 1960).
– عيسى فتوح، شموع في الضباب ( المنارة بيروت ودمشق 1992)
ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي (دار الكتاب اللبناني، بيروت 1971).
-جوزيف زيتون الآسية مسيرة قرن ونصف 1840-1990 البطريركية 1992
اشتهر حكام العرب في العقود الماضية بكثرة الإنجاب سعياً لتكوين أُسر حاكمة قوية ترسّخ استمرار تداول السلطة في نسلهم، أو أتى ذلك نتيجة طبيعية لتعدد الزيجات التي كانت إحدى وسائل تدعيم الصلات مع ممالك ودول أخرى.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن لقب “أكثر الرجال إنجاباً في العالم” في التاريخ -وفق الأرقام المثبتة- يحتفظ به حاكم عربي نسب إليه أكثر من ألف اٍبن وابنة.
أحدهم أنجب أكثر من 1000، وأجريت دراسة لإثبات ذلك والكشف عن عدد مرات ممارسته الجنس يومياً ودُرّسَ في علم التطور…
في سبيل توطيد حكمهم بين ذريتهم، ونتيجة لكثرة زيجاتهم بغية تعزيز صلاتهم بممالك ودول أخرى، أنجب حكامٌ عربٌ أبناءً كثراً. لكن عدد ذرية بعضهم صادم جداً…!
سلطان المغرب: أكثر الأشخاص إنجاباً
يعد سلطان المغرب إسماعيل بن الشريف (بين عامي 1672 و1727) الشهير بـ”مولاي إسماعيل”، أكثر الحكام إثارةً للجدل في التاريخ من حيث عدد الأبناء. وتشير مراجع علمية أجنبية عدة إلى دخوله موسوعة غينيس للأرقام القياسية لكونه أكثر رجال العالم إنجاباً وخصوبةً بين الأرقام المثبتة (بـ888 ثم 1024 من الأبناء)، ودراسة حالته في ضوء علم النفس التطوري.
يشاع أن مولاي إسماعيل أنجب 1171 ابناً وابنةً من أربع زوجات و500 جارية (محظية) خلال 32 عاماً (منذ كان في الـ25 عاماً من العمر حتى بلوغه الـ57).
وكثيراً ما شكك علماء في إمكان إنجاب السلطان الراحل أو أي شخص كل هذا العدد من الأبناء لاعتبارات عدة، منها عدم قدرة الحيوانات المنوية على تخصيب جميع البويضات واحتمال العقم وضعف الخصوبة لدى بعض النساء…
لكن دراسة نشرت عام 2014 في مجلة “بلوس ون” العلمية لاثنين من الباحثين في جامعة فيينا، بالاعتماد على المحاكاة الحاسوبية، وجدت أن السلطان كان قادراً على إنجاب 1171 طفلاً من عدد أقل من النساء مما هو متداول (بين 65 و110 نساء)، وبمعدل ممارسة جنسية يراوح بين 0.83 و1.43 مرة يومياً. وذلك مع مراعاة القيود الدينية التي تمنع مضاجعة النساء في فترة الحيض.
ورجّحت الدراسة أن يكون السلطان قد أنجب عدداً أكبر من الأبناء بناءً على ما هو مثار حوله بشأن إصداره أوامر للقابلات تقضي بخنق أي مولودة أنثى من محظياته فور ولادتها، على أن يحتفظ منهم بالمواليد الذكور فقط.
الملك سعود بن عبد العزيز
يعتبر العاهل السعودي الراحل الملك سعود بن عبد العزيز أكثر حكام المملكة إنجاباً إذ بلغ عدد أبنائه 115.
حكم الملك سعود المملكة بين عامي 1953 و1964. وهو الابن الثاني للملك عبد العزيز مؤسس المملكة، والوحيد إلى الآن من حكام آل سعود، الذي انتهى حكمه بالعزل وليس الوفاة.
عُدت له نحو 45 زوجة، بينهن نساء غير معروف نسبهن.
سلطان عُمان: سعيد بن سلطان
يُنظرإلى سعيد بن سلطان البوسعيدي (حكم بين عامي 1806 و1856) على أنه أقوى وأشهر سلاطين عمان عبر التاريخ ومؤسس الإمبراطورية العمانية، وفق مصادر تاريخية محلية.
وتتفق المصادر على أنه خلّف ذرية كبيرة وإن اختُلف في تحديد عدد أبنائه،فالشائع أن له 18 ابناً و17 ابنة. لكن آخرين قالوا إن عددهم 120 ابناً وابنة من زوجاته وجواريه اللواتي لا يُعرف عددهن، وهن من جنسيات عربية وإيرانية وجورجية وشركسية.
وكانت صحيفة “الأثير” العمانية قد رصدت من بنات الحاكم الراحل 19 واحدة، لافتةً إلى أن أبنائه الذكور جميعاً غير أشقاء، وأن ذلك كان سبباً في التنازع على الحكم عقب رحيله.
ولفتت صحيفة “الشبيبة” العمانية المستقلة إلى أن “أبناء السيد سعيد بن سلطان الذين تذكرهم بعض المراجع التاريخية هم جزء لم يتجاوز النصف من مجموع أبنائه وبناته الذين لا يُعرف عن سيرتهم الكثير” لاختلاف جنسيات أمهاتهم ولوفاة الكثير منهم في سن صغيرة.
الأب المؤسس للسعودية
أنجب الملك عبد العزيز آل سعود 36 ابناً (37 في رواية أخرى) و27 ابنة، بينهم العاهل السعودي الحالي الملك سلمان بن عبد العزيز.
وليس معروفاً عدد زيجاته التي بدأت وهو في الـ17 من العمر. وقيل إن له 30 زوجة على الأقل.
حاكم دبي ونحو 30 من الأبناء
يُعد الأمير محمد بن راشد حاكم دبي من أكثر أمراء الدولة إنجاباً بعد ست زيجات. يُقدَّرْعدد أبناء الأمير السبعيني وبناته بنحو 30.
أما مؤسس الدولة الراحل، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (حكم منذ عام 1971 حتى عام 2004)، فتزوّج ثماني نساء، أبرزهن “أم الإمارات” الشيخة فاطمة بنت مبارك التي أنجبت له ستة أبناء وابنتين. وبلغ عدد بناته 11 وعدد أبنائه 19.
العاهل الأردني الراحل الملك حسينمن أربع زيجات، أنجب العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال (حكم بين عامي 1952 و1999) ست فتيات وخمسة أبناء، فضلاً عن ابنة بالتبني اسمها عبير وهي فلسطينية.
ولم يجمع الملك حسين بين زوجتين في وقت واحد، وهو والد العاهل الحالي الملك عبد الله الثاني.
فلسطين هي القطعة الاقدس من ارض سورية لأنها هي ارض المسيح بالجسد له المجد ووطنه الارضي…
في بيت لحم ولد وكبر وترعرع في الناصرة…وعلم في المجمع باورشليم مذ كان عمره 12 سنة…
اعتمد من يوحنا في نهر الاردن… ومن محيطها انتقى تلاميذه وكانوا كلهم من صيادي السمك الفقراء واعدهم ليكونوا نواة كنيسته… وصل الى مشارف الجولان، ركب السفينة في بحيرة طبريا واكل من سمكها مع الجموع الجائعة واشبعهم وكانوا بالآلاف من خمسة ارغفة وسمكتين…
ساح في هذه الارض المقدسة التي تقدست بنعليه وتبعته الجموع المتعطشة الى تعليمه الخلاصي، أطعم الجياع وشفى المرضى والبرص وجبر خواطر المنكسرين والمتألمين، اقام الاموات…
في اورشليم وفي بستان الزيتون القي القبض عليه ثم حوكم في دار الولاية وحكم عليه بيلاطس بالموت صلباً وغسل يديه من جريمة صلبه وكانت الجموع تصرخ اصلبه اصلبه…عذبوه وجلدوه وصلبوه ومات على الصليب ودفن لثلاثة ايام وقام من بين الاموات بقيامته الظافرة ثم صعد الى السماء ومن هناك وفي يوم الخمسين لقيامته ارسل الى تلاميذه عنصرته واعطاهم موهبة الروح القدس واطلقهم الى المسكونة…
كنيسة فلسطين هي ام الكنائس واتباعها هم احفاد المسيحيين الفلسطينيين الاوائل الذين عاصروا الرب يسوع وآمنوا به رغم العذاب والقهر والاضهادات الدموية، هم ابناء فلسطين موطن الرب يسوع الارضي، والتي هي مهد المسيحية، ويعيشون اليوم في فلسطين 1948، بلغ عدد المسيحيين في فلسطين المحتلة عام 2016 حوالي 170 ألف… ويشكل المسيحيون العرب الفلسطينيون 80% من مسيحيي فلسطين المحتلة والباقي يتوزعون بين مسيحيين مهتدين من اليهودية ومن الفئات الاخرى، بينما تصل أعداد مسيحيي الضفة الغربية او ارض السلطة الفلسطينية 51,000 إلى جانب 3,500 مسيحي في قطاع غزة.
في التعريف الأوسع للمسيحيين الفلسطينيين، بما في ذلك اللاجئين الفلسطينين والشتات والأشخاص الذين لديهم أصول مسيحية فلسطينيَّة كاملة أو جزئيَّة، يُمكن تطبيق ذلك على ما يُقدّر بنحو 500,000 إلى 2,600,000 شخص في جميع أنحاء العالم اعتباراً من عام 2000 وتتراوح نسبة المسيحيين بحسب تقديرات مختلفة بين 6.5 – 20% من مجمل فلسطيني العالم. ولكن بكل اسف بات يتواجد معظمهم خارج فلسطين التاريخية بسبب الهجرة المسيحية واسعة النطاق منذ عقود والمضايقات بحقهم نتيجة التمييز العنصري ويهودية الدولة في اسرائيل وعدم الاستقرار في الشرق الاوسط بسبب مايسمونه “الصراع العربي الاسرائيلي”. لاسيما ان المسيحيين الفلسطينيين هم الطليعة الوطنية الفلسطينية المناضلة لاحقاق حقوق الشعب الفلسطيني ومنها حق العودة الى ارضه وحق اقامته دولته الفلسطينية المستقلة، ويشهد على قوميتهم ووطنيتهم كوادرهم الوطنية المناضلة…
خارج فلسطين التاريخية يتواجد المسيحيون الفلسطينيون من اللاجئين وغير اللاجئين في الغالب في دول الشرق الاوسط سورية ولبنان ومصر والاردن والعراق… وفي الأميركيتين واوربة واوستراليا… وبقية الشتات الفلسطيني.
اما الكنائس التي ينتمي اليها المسيحيون الفلسطينيون فهي كما في كل المشرق العربي فالاغلبية مكونة من الكنائس: الارثوذكسية الخلقيدونية حيث اقيمت بطريركية ارثوذكسية منذ القديس يعقوب الرسول شقيق الرب، واللاخلقيدونية من ارمن ولهم بطريركية وسريان ولهم ابرشية تتبع للبطريركية في سورية، واقباط ولهم ابرشية ويتبعون البطريركية في مصر…
ثم تسربت اليهم الكثلكة وكانت نواتها من خلال حملات الافرنج المسماة صليبية حيث استولوا على كرسي اورشليم الارثوذكسي واقاموا عليه بطاركة لاتينيين ولما تم تحرير فلسطين والمشرق من حملات الفرنج بعد قرنين من الزمن تقريباً وذلك في الثلث الاخير من القرن 13م…
مجدداً تسربت الرهبنات التبشيرية كاليسوعية والكرملية و…ومايسمى حراس القبر المقدس وبدأ الاقتناص فنشأت جماعة لاتينية فأحدث لها البابا بطريركية لاتينية منتصف القرن 19دارت في فلكها كنائس الطوائف الكاثوليكية التي كانت بسبب التبشير اللاتيني المحكي عنه قد انشقت عن امهاتها قمن الكنيسة الارثوذكسية انشق الروم الكاثوليك وعن السريان انشق السريان الكاثوليك وكذلك عن الارمن والاقباط… و صار لها بطريركيات خاصةخارج فلسطين عدا اللاتين فبطريركهم في القدس ولكن كلها تحت رئاسة بابا رومية وكانت قد بدأت في الظهور في المشرق منذ القرن 17، وتبعتها في القرن 19 اقامة كنائس بروتستانتية متعددة وتنتمي الى بريطانيا وايرلندا والمانيا واميركا…
الاغتراب المسيحي الفلسطيني
نشط الاغتراب المسيحي في القرنين 18 و19 وتسارعت وتيرته مع القرنين 20 و21 بعد نكبة فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل حيث شهدت حينها هجرة كبيرة جداً من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة والتوجه نجو يهودية الدولة، والتي كانت سبباً رئيساً لتهجير المسيحيين الى التيه العالمي وكان هذا الشتات قد بدأ مع تنفيذ وعد بلفور 1917.
بدأت الهجرة المسيحية الفلسطينية العارمة منذ سلب فلسطين بعد نكبة 1948 ثم تزايدت في اعقاب حرب5 حزيران 1967. كانت أولى وجهات المغترب المسيحي الفلسطيني هي اميركا الجنوبية، بالإضافة إلى اميركا الشمالية وكندا واستراليا واوربة، واليوم يعيش أغلب الفلسطينيين المسيحيين خارج وطنهم التاريخي فلسطين، وبالمقابل فإن أكبر تجمع مسيحي فلسطيني يتواجد في تشيلي بأميركا الجنوبية، وقد سطع نجم عدد كبير من الشخصيات الفلسطينية المسيحية المهجريّة في مناصب سياسية واقتصادية بارزة، علماً أن المسيحيين الفلسطينيين يحتفظون بهويتهم الأصلية ويفاخرون فيها، وهم والانطاكيون والاسكندرانيون ابناء الكراسي الارثوذكسية الخلقيدونية برعاية ابرشيات البطريركية الانطاكية الارثوذكسية التي نظمت الوجود الانطاكي اساساً وكل الوجود الارثوذكسي في الشتات، واجتذبت كل الارثوذكس العرب.
من الناحيّة العرقيّة، فإن المسيحيين الفلسطينيين بشكل عام ينحدرون في الأصل من خليط من ابناء فلسطين الاصلاء بجذورهم الكنعانية، والهلينية، والآرامية والقبائل العربية، والعبرانيين المهتدين.
وهم من أقدم الجماعات المسيحية في العالم فكنيسة اورشليم هي ام الكنائس المسيحية، ولهذا السبب يُطلق على المسيحيين الفلسطينيين اسم الحجارة الحية.
الريادة الوطنية والقومية
لعب المسيحيون الفلسطينيون دورا بارزاً في المجتمع الفلسطيني، خلال النهضة العربية ضد التتريك خاصة في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، كما اصبح لهم اليوم دور فاعل في مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتبؤا مراكز ريادة، ويدير المسيحيون سواء في ارضهم التاريخية او في الشتات كونهم طليعة ثقافية عددا انهم تبؤا الريادة في النواحي المحكي عنها ومراكز النشاط الاجتماعي والمستشفيات والجامعات، ومراكز الابحاث بمافي ذلك وكالة الفضاء الاميركية ناسا لقد نجحوا بفرض هويتهم الفلسطينية من خلال ريادتهم الثقافية والعلمية والفنية، ويُعتبر المسيحيون الفلسطينيون الاكثرية الثقافية والعلمية والاقتصادية في داخل فلسطين 1948 و اراضي السلطة الفلسطينية فهم بلا منازع الاكثر تعلماً كمسيحيي المشرق العربي وفقاً للنسبة المسيحية العددية في المشرق العربي، وأوضاعهم الاقتصادية-الاجتماعيّة أفضل مقارنة بباقي السكان.
النجمة الفضية، تحت المذبح في مغارة بيت لحم حيث ولد يسوع
يسوع وفلسطين
تعتبر الأناجيل الاربعة (متى مرقس لوقا ويوحنا) المصدر الرئيس لتتبع حياة الرب يسوع على الارض. هناك بضعة مؤلفات أخرى تذكره يطلق عليها عامة اسم الأناجيل المنحولة، وقد ورد ذكر الرب يسوع أيضاً بشكل عرضي في بعض مؤلفات الخطباء الرومان كشيشرون.
ولد الرب يسوع في بيت لحم خلال حكم ملك اليهودية هيرودس الكبير، ولا يمكن تحديد تاريخ ميلاده بدقة، بيد أن أغلب الباحثين يحددونه بين عامي 4 إلى 8 قبل الميلاد.
يتفق الرسولان متى ولوقا أنه ينحدر من سبط يهوذا، السبط الرئيس في اسباط اسرائيل الاثني عشر. كذلك يتفقان أن هذه الولادة قد تمت بشكل إعجازي دون مشيئة رجل بمايفوق الطبيعة، ويعرف هذا الحدث الفائق الطبيعة في الكنيسة باسم “الولادة من عذراء”. ورغم أنه ولد في بيت لحم إلا أنه قد قضى أغلب سنوات حياته في الناصرة لذلك دُعي “يسوع الناصري”
كانت دعوة الرب يسوع منذ اعتماده في نهر الاردن بيد سابقه الصابغ يوحنا المعمدان” توبوا وآمنوا فقد اقترب ملكوت السماوات” هي ثورة للعودة الى الله لنيل الخلاص، وعلى اهمية المحبة وهي اعظم الوصايا…
لقد ركزله المجد بشكل أساسي على أهمية ترك أمور الجسد والاهتمام بأمور الروح، وشجب بنوع خاص مظاهر الكبرياء والتفاخر البشري، وحلل بعض محرمات الشريعة اليهودية، وجعل بعضها الآخر أكثر قساوة كالطلاق، وركز أيضاً على دور الايمان في نيل الخلاص…
تسرد الأناجيل سيرة حياته واعماله، والموعظة على الجبل بتطويباتها الالهية، والامثال التي ضربها والمعجزات التي اجترحها، اختار الرب يسوع تلاميذه الاثني عشر من الفقراء وصيادي السمك البسطاء واهلهم ليكونوا صيادي الناس ومنطلق عنصرته الى الكون معمدين بالماء والروح وكان هؤلاء الإثني عشر مختارين من حلقة أكبر كانت تتبعه وتشمل نساءً والرسل السبعين الذين صاروا بغلية صهيون في اورشليم في يوم العنصرة بالآلاف وطفقوا يتكلمون بلغات كثيرة.
في حياته الارضية بيننا لثلاث سنين بشر الرب يسوع خاصته، وخاصته لم تعرفه لذا وخلال تواجده في اورشليم ضمن احتفالات عيد الفصح الناموسي، قرر اليهود قتله ورتب له مجمعهم شهادات الزور، ولكن كل ذلك كان خوفًا من تحوّل حركته الداعية الى العودة الى الله إلى ثورة سياسية تستفز السلطات الرومانية لتدمير الحكم الذاتي الذي يتمتعون به لذلك ردوا بصوت واحد على بيلاطسلما سألهم:أأصلب لكم ملككم؟ فردوا عليه:” ليس لنا ملك الا قيصر”. وتذكر الأناجيل الاربعة المفدسة بشيء من التفصيل أحداث محاكمة الرب يسوع أمام مجمع اليهود ثم أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي، ودرب آلامه وصلبه، حيث صلب له المجد خارج المدينة في الجلجلة وقد تبعه ليشهد عملية الصلب جمع كثير، وبعد نزع دام ثلاث ساعات مات المسيح بالجسد، وقد رافقت موته حوادث غير اعتيادية في الطبيعة فانشق حجاب الهيكل من وسطه واظلمت الشمس وتزلزلت الارض وتفتحت القبور وخرج الكثير من اجساد القديسين وتراؤوا للناس، حتى ان قائد المائة كرينيليوس قال:” حقاً كان هذا ابن الله”.
أُنزل الجسد الالهي من على الصليب ودفن على عجل لأن سبت الفصح اليهودي كان قد اقترب. باجماع الانجيليين الاربعة، قامت بعض النسوة “الحاملات الطيب” من أتباعه فجر احد الفصح بزيارة القبر ليطيبن الجسد المقدس حسب الشريعة فوجدنه فارغاً، بيد أن ملاكاً كان في القبر بحلة بيضاء أخبرهنّ أن يسوع قد قام، “إذهبن وأخبرن التلاميذ بذلك…”
وما لبث أن ظهر لهم مرّات عدة عندما دخل العلية والابواب مغلقة وارى تلاميذه آثار الحربة والمسامير وطلب الطعام فأكل معهم، ثم اثبت لتوما بالحس والمظاهر الجسدية انه هو “طوبى للذين آمنوا ولم يروا” لقد اجترح لتلاميذه عجائب كثيرة بعد قيامته أكد لهم فيها قيامته من بين الاموات.
عليّة صهيون، حيث تم العشاء الاخير والعنصرة، وكانت مركز المسيحية الاساس الأول.
تأسيس الكنيسة في اورشليم
تأسست الكنيسة الأولى في اورشليم السنة34مسيحية، واختير القديس يعقوب شقيق الرب أسقفاً لها من قبل المسيحيين الأوائل وجلهم من اليهود المتنصرين. ولقد تعرض المسيحيون إلى اضطهاد اليهود لهم منذ البداية واشتدت حدة هذه الاضطهادات،وكان اول الشهداء استفانوس، ومن ثم تكليف شاول بالتوجه الى دمشق على رأس قوة عسكرية ومعه كتاب توصية الى نائب الملك الحارث لضبط اتباع هذه الطريقة الجديدة في دمشق وارسالهم مخفورين بيد شاول الى اورشليم لتتم محاكمتهم وانزال اقصى العقوبات بهم.
ثاروا ضد الحكم الروماني لنيل استقلالهم، وبعد حصار كبير فتح القائد الروماني تيطس السنة 70 للمسيح اورشليم وهدم بعض اسوارها وهيكل سليمان واستباحها وساق اليهود اسرى الى روما. ثم ثار اليهود ثورة باركوخبا التي أعلنها اليهود ضد الرومان وقد نجحوا من خلالها ولفترة قصيرة بالاستقلال عن روما. انتهت الثورة بفتح اورشليم على يد الامبراطور هادريان السنة 134م وفقد اليهود خلالها أعداداً كبيرة وغادر المسيحيون من أصل يهودي المدينة. حتى هذا العام كان اليهود المتنصرون هم أصحاب الشأن في ادارة شؤون كنيسة اورشليم، بعد ذلك تغلب العنصر الأممي على رئاسة اورشليم ام الكنائس مع انتخاب الأسقف مرقس. سرعان ما تعرضت هذه الجماعة المسيحية الاولى للاضطهاد مما اضطرها إلى التشتت في نواحي أخرى من فلسطين شمالاً وجنوباً. فمن اورشليم غادر المسيحيون إلى السامرة في الشمال، حيث بشّر هناك الرسول فيليبس وذلك بحسب اعمال الرسل، وإلى الجنوب، وغزة وقيصرية واللد ويافا حيث تحّول للمسيحيّة أول شخص من أصول وثنيّة وهو كرنيليوس الذي كان قائد مائة في الجيش الروماني عند المعجزات التي رافقت موت المسيح على الصليب.
تعرضت الكنيسة في فلسطين بداية للاضطهاد على يد مجمع اليهود والأباطرة الرومانيين، وكان أشدها اضطهاد داقيوس (291-249)، وفاليروس 238، وديوقليسانيوس (303-313م) أشد هذه الاضطهادات كان في عسقلان وقيصرية وغزة.
براءة ميلانو 313م
جبل الزيتون حيث بنت القديسة هيلانة العديد من الكنائس.
اعتنق الامبراطور قسطنطين الكبيرالمسيحية في بداية القرن الرابع، ومن ميلانو بايطالية بعد انتصاره على خصمه ليكيانوس اطلق مرسومه الشهير بحرية العبادة في الامبراطورية، وبذا انتهى رسمياً عصر الاضطهادات مما أفسح المجال للكنيسة في كل المسكونة كي تنظم نفسها وتنتشر وتزداد نشاطاً تبشيرياً،فبنيت الكنائس الكبرى في الأماكن المقدسة، وذلك على يد الإمبراطورة هيلانة والدة الامبراطورحسن العبادة قسطنطين التي عثرت على خشبة الصليب المقدس، ومنها كنيسة القيامة سنة 334م، وجبل الزيتون، وجبل صهيون، وكنيسة المهد وغيرها، ممّا مهّد حركة الحج المسيحية للأماكن المقدسة الخاصة بها. وقد برز في تلك الفترة الاسقف كيرلس الأورشليمي (313-387م) الذي بقي أسقفاً على مدينة اورشليم لمدة 48 عاماً، وقد ازدهرت في زمانه الحياة الليتورجيّة في فلسطين واماكنها المقدسة.
انتعشت الحياة الروحية المسيحية في فلسطين؛فقد اشترك في المجمع المسكوني الاول في نيقية الذي عقد سنة 325مسيحية 18 أسققًا من فلسطين، أمّا في مجمع خلقيدونية سنة 451م فقد اعتُرفَ بأورشليم كرسياً بطريركياً، وقد وصل عدد الأساقفة في القرن 6 إلى 49 أسقفاً. وشهدت المنطقة بناء العديد من الكنائس والاديرة الرهبانية.
انتشرت الحياة الرهبانية في فلسطين بكثافة، فبعد أن بدأت في مصر على يد ابو الرهبنة والرهبان القديس انطونيوس الكبير وباخوميوس، سرعان ما انتشرت في فلسطين بفضل القديس هيلاريون ينوع خاص، والذي عاش في صحراء غزة سنة 328م، والقديس خاريطون الذي قضى قسماً كبيراً من حياته في دير القلط. ومن أشهر الرهبان في فلسطين أفتيموس والذي توفي سنة472م والقديس ثيوذوسيوس الذي توفي سنة 592م ودير القديس سابا الرهباني الذي توفي سنة 532م. ولا تزال الأديرة التي بنوها في صحراء شرقي بيت لحم قائمة حتى اليوم. وقد وصل تعداد الرهبان إلى عشرات الآلاف في نهاية القرن السادس…
دخول المسلمين
رسم إفرنجي يُظهر بناء مسجد عمر بالقدس بعد الفتح الإسلامي.
في بداية القرن السابع انتشر الاسلام في جزيرة العرب، وما لبث أن امتد إلى أجزاء واسعة من العالم، منها سورية الكبرى وسواها وقد كانت معركة اليرموك السنة 636م فاتحة دخول المسلمين إلى كل فلسطين وسورية تالياً فقد دخلوا دمشق سنة 636م، واورشليم سنة 638م بعدما فاوض البطريرك صفرونيوس الخليفة عمر بن الخطاب في تسليم المدينة صلحاً وتم ذلك وسلم البطريرك ابن الخطاب مفاتيح المدينة، ثم فُتحت مصر عام 639م بما فيها مدينة الاسكندرية سنة 641م حيث فاوض كذلك البطريرك كيرلس عمرو بن العاص وسلمه مفاتيح المدينة، حيث فتحت هذه الأحداث الباب أمام مرحلة جديدة من تاريخ المسيحية الشرقية.
قامت العلاقة بين المسيحيين اصحاب الارض والمسلمين القوة الحاكمة في بلاد الشرق على أساس عهود أبرمت بينهم وقضت بأن يدفع المسيحيون الجزية مقابل التعهد بالمحافظة على دينهم وحياتهم وأرزاقهم. وأشهر هذه العهود العهدة العمرية بين البطريرك الاورشليمي صفرنيوس والخليفة عمر بن الخطاب، الذي أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم. ولقد اتسمت هذه العهود بالسماحة مما أتاح للمسيحيين أن يحافظوا على دينهم بالرغم من تقلص أعدادهم مع الوقت. ولقد ساهم المسيحيون في تثبيت أركان الحكم العربي الإسلامي إذ ساهموا في إدارة الدواويين بصفتهم الطليعة المثقفة العارفة باللغة اليونانية وهي لغة الادارة والدواوين.
بشكل عام، نَعِم المسيحيون بقسط من الحرية في ظل الخلافة الاسلامية وتحديداً في الخلافة الاموية ما عدا في أزمان معينّة كفترة الخليفة العباسي المتوكل (847-861م) الذي اضطهدهم وضيّق عليهم. كذلك فقد لقي المسيحيون الاضطهاد على يد الحاكم بأمر الله (996-1020م)، الذي هدم كنيسة القيامة في القدس سنة 1009 وكذلك كنيسة المريمية بدمشق وكنيسة السيدة في مصر القديمة…وتم حظر المواكب الدينية والزياحات واستعمال النبيذ في سر الافخارستيا، وبعد بضع سنوات صار ان جميع الأديرة والكنائس في فلسطين وسورية وخاصة بدمشق ومحيطها قد دُمرت أو صودرت وكان هدم كنيسة القيامة اقدس المواقع المسيحية على الإطلاق أحد الأسباب الرئيسة لنشوءحملات الفرنجة عند بعض المؤمنين ومنهم الراهب بطرسوالتقت النوايا عند الكرسي البابوي من اجل اجتذاب ابناء الكنائس الارثوذكسية واللا خلقيدونية لطاعة البابا، ومع رغبة الملوك والامراء باحتلال الشرق العربي كونه الشريان في طريق الحرير الواصلة الى الصين وغالبا ما كان يتأثر وضع المسيحيين بالعلاقة بين المسلمين والامبراطورية الرومية، حيث كان انتصار الإمبراطورية البيزنطية في الحروب المستمرة ينعكس على علاقة المسلمين بهم.ثم في غزوة الافرنج التي دامت قرنين من الزمان وكانت نسبة المسيحيين في بلاد الشام قبل قيام هذه الغزوة اواخر القرن 11م 60% من مجموع السكان لتنخفض بعد طرد الفرنجة الى اقل من 20% بسبب اعتناق الاسلام خوفاً والهجرة وردات الفعل الدموية بحقهم من المسلمين لأنهم على دين الخصوم…!
العصر الذهبي
صورة للصفحتين الأولتين من “المخطوط الفاتيكاني عدد 250″، وهو عبارة عن ترجمة عربية لإنجيل الدياسطرون، ويرقى للعصر العباسي.
جرت في عصر الخلافتين الاموية والعباسيين تطورات وتفاعلات مهمة أعطت للمسيحيين الوجه الذي نعرفه لهم اليوم. اذ بالرغم من تقلص أعدادهم لم يكتف المسيحيون بالاستمرار في الوجود بل راحوا يساهمون مساهمة فعالّة في بلورة الحضارة في مجال العلوم والثقافة والسياسة والعمران وكافة المجالات فبرزت هويتهم الكيانية كرواد في الحضارة العربية.
إن هذا التفاعل الحضاري جعل من المسيحيين جزءاً هاماً من الثقافة العربية ولم يقتصر الأمر على المجالات العلميّة بل دخل الفقهاء المسلمون واللاهوتيون المسيحيون في جدالات دينيّة صريحة بحضرة الخلفاء وبالتسامح المثمر وفي مجالس العلم. وقد بقيت العديد من هذه النقاشات حتى اليوم محفوظة في المكتبات الكبرى وخاصة المخطوطات التي اقتنصتها حملات الفرنجة و ارسلتها الى اوربة وصارت من ركائز الاديرة التي تحول العديد منها الى جامعات رائدة الى اوربة وكانت هذه المخطوطات التي تحمل ليس فقط تراث العرب بل كل تراث من سبقهم وقد عملوا عليه وطوروه، هذا صار من ركائز عصر النهضة الاوربية.
وسرعان ما أصبحت اللغة العربية لدى المسيحيين في بلاد الشام لغة طقوسهم بيد الشماس ابو الفضل الانطاكي الذي عرب الطقوس الليتورجية الرومية في القرن العاشر و اللغة المعتمدة نطقاً وكتابة في معاملاتهم اليوميّة، ونشأ عن ذلك، ما بين القرنين الثامن والرابع عشر، ما يُعرف باسم التراث المسيحي العربي الذي يشمل مؤلفات في جميع مجالات الفكر المسيحي والتي توجد في عشرات الآلاف من المخطوطات. وهو التراث الذي راح العلماء يعملون على تحقيقه ونشره في السنوات الأخيرة. ومن اللاهوتيين البارزين في هذا المجال كان ثاودوروس أبو قرة أسقف حران الملكي، وسعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية الملكي، والشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي المطران الملكي المحكي عنه، ويحيى بن عدي، وابن العسال، وساويروس بن المقفع، والطبراني وغيرهم. ونشأ الأدب العربي المسيحي في أديرة فلسطين ومنه انتقل إلى باقي ارجاء سورية ومصر ومابين النهرين، ومن أعلامه إسحاق الصابيء وإبراهيم الطبراني وسليمان الغزاوي الذي ألف مجموعة شعرية دافع فيها عن الدين المسيحي، وإسطفان الرملاوي الذي ترجم الانجيل إلى اللغة العربية، وثيودوروس أبو قرة اسقف حران الارثوذكسي الانطاكي الملكي الذي نقل اللاهوت المسيحي إلى اللغة العربية في آواخر القرن الثامن حيث قبلها كان مقتصراً على اللغتين اليونانية والسريانية بصفتهما لغة عامة السوريين الارثوذكس في دائرة الكرسي الانطاكي تحديداً، وليست محصورة بأبناء الطائفة السريانية.
حملات الفرنجة (1099 إلى 1291)
غي دي لازينيان في معسكر صلاح الدين، بعد معركة حطين، بريشة سعيد تحسين، القرن 20.
كان السبب الرسمي المعلن لحملات الفرنج الصعوبات التي تعرض ويتعرض لها الحجاج المسيحيون في الوصول إلى الأماكن المسيحيّة المقدسة وهدم كنيسة القيامة. غير أن دوافع هذه الحملات الغازية كانت متعددة منها دوافع دينية لقلب ارثوذكس الشرق وابناء الكنائس اللاخلقيدونية الى البابوية، ودوافع اقتصاديّة، وتوسعيّة، واجتماعيّة رغب القيام بها ملوك وامراء اوربة للامساك بطريق الحرير الواصل الى الصين والقبض على تجارته. اضافة الى بعد ديني عند قلة على رأسهم الراهب بطرس الناسك بتخليص القبر المقدس من يد المسلمين.
قام الفرنجة بثمان حملات في فلسطين والشرق. فاحتلوا مدينة بيت المقدس سنة 1099، ومنها اجتاحوا سائر مناطق فلسطين. عندما دخلوا اورشليم وأسسوا مملكة اورشليم اللاتينية، وقعوا في خلاف حول طبيعة الحكم، فقد نادى بعض الفرسان وعلى رأسهم البطريرك بإعلان المملكة دولة دينية كاثوليكية يرأسها البطريرك اللاتيني، ومن ثمّ تحوّل النقاش واستمرّ خلال القرن 11م إلى مملكة مزدوجة يرأسها الملك والبطريرك معاً. أياً كان فقد كان الحكم في المملكة مدنياً، غير أنه كان للكنيسة قوتها كحال جميع الممالك في أوربة خلال القون الوسطى، ومن صلاحيات الكنيسة النظر في وراثة العرش وعزل الملك والمحاسبة عن “المفاسد الأخلاقية” وترتيب أحوال الزواج والطلاق والإرث وما إلى ذلك من الاحوال الشخصية في المملكة. وإلى جانب بطريرك المدينة المقدسة، كان هناك سبعة مطارنة في بيت لحم وحبرون والناصرة وقيسارية واللد وصور والكرك. وقد أثار هذا التقسيم حيرة عدد من المؤرخين، إذ إن مدناً صغيرة حازت على تصنيف مطرانية بينما مدن كبرى مثل يافا وعكا لم تحصل على مثل هذا الامتياز، وربما يعود السبب في ذلك لضياع التنظيم والخلط بين النموذج الذي أراد الفرنجة استحداثه من ناحية، والنموذج الرومي البيزنطي والأرمني الذي كان قائمًا أصلاً في المدينة خلال حكم العباسيين، حيث كانت أغلبية المسيحيين في القرى والمدن الصغرى لا في المدن الكبرى. كان من بين رعايا المملكةالعدد الاكبر من المسيحيين هم من الروم الارثوذكساضافة الى الارمن والسريان الذين اختلف قادة الفرنجة في الطريقة المثلى للتعامل معهم، غير أن الرأي الذي خلص إليه ومن عشية الحملة الصليبية الاولى تمخض عن “قبول العيش بسلام مع جميع معتنقي الديانة المسيحية على وجه الخصوص”ولكن المسيحيين يتبعون للرئاسة الروحية لبطريرك المدينة المقدسة اللاتيني كما في تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى للدكتور اسد رستم حيث وكما في تاريخ انطاكية ومختصر تاريخ انطاكية في موقعنا هنا ومافعلوه من منكرات وقتل مع البطريرك الانطاكي والاكليروس والحال ذاته في اورشليم …
وقد انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين سنة 1187م. وفي السنة عينها استرجع مدينة القدس. وفي 1104م سيطر الصليبيون على مدينة عكا، وأصبحت الميناء الرئيسي والحصن المنيع لهم، وقسمت إلى أحياء، حيث تركزت كل جالية منهم بحيّ خاص بها، وضمت المدينة أيضاً على أحياء للمجتمعاتالمسيحية الارثوذكسية الفلسطينية والإسلامية المحليَّة. وواصلت عكا خلال الحقبة الصليبية ازدهارها كمركز تجاري رئيس لشرق المتوسط، وكانت مدينة ثرية نسبياً نابضة بالحياة التجاريًّة. وانتهى الوجود الفرنجي في فلسطين سنة 1291م بسقوط عكا، آخر معاقلهم وحصونهم في بلاد الشام، وقام السلطان المملوكي الأشرف خليل بإسترجاع عكا من الفرنجة وطردهم منها سنة 1291م في ما عرف بـ “قتح عكا”، ومع دخول المماليك للمدينة حُرق وقتل كل سكانها ومن ضمنهم البطريرك اللاتيني وكل الاكليروس وناب الوبال كل المسيحيين الفلسطينيين كونهم على دين الفرنجة. وقام المملوكي الظاهر بيبرس كعادته بتدمير القرى والبلدات المسيحية في منطقة عكا سواء كانت افرنجية خاصة او مسيحية عامة.كما وأصدر مرسوماً يمنع المسيحيين واليهود من دخول الحرم الابراهيمي في الخليل، وأصبح المناخ اكثر تشدداً مع المسيحيين واليهود مما كان عليه في ظل الحكم الايوبي السابق.
الفترة العثمانية (1615 إلى 1917)
مسيحيون يحتلفون بعيد مار الياس في جبل الكرمل، حيفا: إظهار الاحتفالات الدينية لم يكن مسموحاً به قبل إصلاحات السطان عبد المجيد الاول.
بعد الفرنجة خضعت فلسطين لحكم المماليك بين السنوات 1291-1516،بعد القضاء على المغول في معركة عين جالوت، أصبح المسيحيين هدفاً لانتقام المماليك كالعادة في سورية بدءاً من تدمير انطاكية الى المدن المنسية الى قارة ومعلولا وبقية البلدات القلمونية المسيحية، حيث تعرض المسيحيين لعمليات ذبح وقتل في الناصرة وبيسان وصفد وقيسارية،إلى جانب عمليات هدم الكنائس والاسلمة القسرية، وهربت أعداد منهم إلى المدن الساحليّة التي كانت لا تزال بيد القرنجة. وعمّت الفوضى السياسية في زمنهم حيث عانى السكاّن المسيحيون بشكل خاص في ظل حكم المماليك مع بعض الإستثناءات خاصة في ظل حكم الناصر، حيث وصل في ظل حكمه رهبان من الرهبنة الفرنسيسكانية سنة 1333م والذين لعبوا دوراً هاماً في المحافظة على المواقع المسيحية التي كان قد بناها الفرنج خلال حكمهم المشرقي وأصحبوا يحملون تسمية:”حراس الأماكن المقدسة”!!! بالنسبة للعالم الكاثوليكي وكانوا السبب لاعادة احياء بطريركية اللاتين منتصف القرن 19 بعد انهائها بطرد الفرنجة.
إتبعّ المماليك سياسة اتسمت بالقسوة المفرطة تجاه من بقي من المسيحيين في فلسطين كما في كل سورية، حيث دمرت الكنائس وتعرض المسيحيون لكافة أشكال القمع والاضطهاد، وفرضت عليهم ضرائب باهظة، كما أُجبر المسيحيون على لبس عمامة زرقاء والبسة خاصة بهم تميّزهم عن المٌسلمين. ومنعوا من لبس الالوان المخصصة للمسلمين كالأخضر، ومنعوا من ركوب الجياد… دفعت هذه السياسات إلى اعتناق الكثير منهم للإسلام أو النزوح من البلاد شرقاً هرباً من السياسات التعسفيّة التي اتبعها المماليك. وكانت مدينة الخليل ذات طابع “بدوي وإسلامي”، و”محافظة بشكل كبير” في نظرتها الدينيَّة، واشتهرت بالحماسة الدينية في حماية مواقعها بغيرة من اليهود والمسيحيين، لكن يبدو أن المجتمعين اليهودي والمسيحي كانا مُندمجين جيداً في الحياة الاقتصادية للمدينة. ومنذ الحقبة المملوكية حتى القرن التاسع عشر، ضمت المدينة “حارة للنصارى” والتي استمرت بالوجود حتى الفترة العثمانية، لتختفي بعدها بسبب تعرض المجتمع المسيحي في الخليل للمضايقات والفتن الطائفية بحق هذا المجتمع وخاصة في عصر الانحطاط العثماني.
وضع العثمانيون حدًا لحكم المماليك المتخلف والجائر عندما دخل السلطان العثماني سليم الاول فلسطين عام 1516 م مبتدئاً حكماً دام ما يقرب 400 عام. وفي العهد العثماني سقطت القسطنطينية عام 1453م وبالرغم من منح البطريرك القسطنطيني لقب “بطريرك ملة باشي” اي زعيم روحي وزمني للروم الارثوذكسيين وبقية المسيحيين الا ان العسف والغدر ونظام الاذلال المذهبي بمايسمى اهل الذمة بحق المسيحيين، ومصادرة اموال الاغنياء المسيحيين واعدامهم بتهم مفبركة وفرض الضرائب الباهظة على عامة المسيحيين ومنعهم لبس الاخضر والخروج في النزهات الى البساتين المحيطة بدون اذن، وركب الجياد والتسخير والاهانة ووجوب ان يكون لكل المهن والكارات (وكلها كانت مسيحية) “شيوخ الكار” من المسلمين ويمتنع كما في السابق منذ دخول المسلمين بلاد الشام على المسيحيين بناء كنائس جديدة، او حتى ترميم الكنائس بدون سلسلة طويلة من الاجراءات المعقدة من المفتين وانتهاء بشيخ الاسلام في اسطنبول والصدر الاعظم، تحت طائلة اشد العقوبات بما في ذلك الاعدام كما حصل باعدام ثلاثة من وكلاء كنيسة مريم (المريمية) بدمشق كونهم قاموا بترميم حائط آيل لسقوط من حيطان المريمية بدون اذن تحت جنح الظلام ليلة الفصح فكانت النتيجة اعدامهم شنقاً على الحائط المرمم، جتى ان كل كنائس القسطنطينية صودرت وتحولت مساجد وكل ماكان السلطان يسمح للبطريركية ببناء كاتدرائية ودار بطريركية تُصادر وتحول الى جامع بعد بنائها، وكان ان سمح لهم بالبناء في الفنار وهي ارض مزبلة وتم بناء دار البطريركية وكاتدرائية البطريركية، وتم اعدام ثلاثة من البطاركة اغراقاً في مياه البوسفوربتهمة الخيانة والتواصل مع الروس لنجدة المسيحيين من الظلم والاذى.
خلال حكم الأميرفخر الدين المعني الثاني الذي تقرباً من الامارات الايطالية والتبادل التجاري معها وخاصة امارة توسكانا أعطى للرهبان الفرنسيسكان حق اعادة بناء بازيليك لهم في حرم كنيسة البشارة الارثوذكسية في الناصرة، والتنقيب حول الأماكن المسيحية الارثوذكسية في منطقة الجليل، وإقامة المدارس وشجع الوالي ظاهر العمرالتسامح الديني والهجرة المسيحية واليهودية إلى منطقة الجليل، وأدى التدفق المسيحي إلى نمو عددي كبير للمجتمعات المسيحية في عكا والناصرة، وساهم المسيحيون في تلك الحقبة بتطوير الاقتصاد بسبب السهولة النسبية في التعامل مع التجار الأوروبيين، وشبكات الدعم التي حافظ عليها الكثير منهم في دمشق أو اسطنبول، ودورهم في صناعات الخدمات. تغيرت الأحوال خلال حقبة الطاغيةوالي عكا احمد الجزار، حيث تعرض المسيحيين لإعتداءات وهجمات متكررة في الناصرة والقدس، في حين تعرض المسيحيين في اللد والرملة إلى القتل والنهب وأجبر الكثير منهم على الفرار وفتك بالكثيرين من الاغنياء المسيحيين وصادر ممتلكاتهم.
نظام الملة
عاش المسيحيون إبان الحكم العثماني في ظل نظام الملّة، الذي أعطى لرؤساء الدين خاصة البطاركة سلطة دينيّة ومدنيّة واسعة على رعاياهم، فكانت الطوائف المسيحيّة تدير نفسها بنفسها وفق القوانين الخاصة بكل طائفة. وهذا ما يدعى بقانون “الأحوال الشخصيّة” الذي لا يزال معمولًا به في المحاكم الكنسيّة حتى اليوم في بعض الدول العربية. ومع الزمن تضعضعت الدولة العثمانية حتى راحت تُدعى في القرن التاسع عشر “الرجل المريض”، وهذا ما حمل الدول الاوربية على أن تتدخل في الشؤون الداخليّة للإمبراطورية العثمانيّة. ففرضوا أنفسهم كحماة للفئات المسيحيّة في الشرق فنجم عن ذلك “نظام الحماية والامتيازات”، الذي بموجبه تحمي كل دولة أوروبيّة الرعايا المسيحيين الذين يدينون بملتها. وكان كاثوليك الدولة العثمانية قد وُضعوا تحت حماية فرنسا والنمسا، إذ اعتبر آل هابسبورغ حكام الامبراطورية النمساوية حماة الكاثوليكية، في حين وضع الأرثوذكس تحت حماية الامبراطورية الروسية وقامت انجلترا بحماية البروتستانت والدروز.
القبر المقدس في كنيسة القيامة
التسهيلات للرهبنات البابوية و للارساليات التبشيرية البروتستانتية
اعتبارا من مطلع القرن 17 سمحت الدولة بدخول الرهبنات البابوية الى القسطنطينية بدعم من الفرنمسيين والنمساويين وفي منتصف القرن19 سمحت بدخول الارساليات البروتستانتية من المانية وايرلندية واميركية ودانماركية وانكليزية بدعم من حكومات بلادهم، واعطت الفريقين التسهيلات اللازمة وبناء معابد وشراء الاوقاف راحت الكنائس الغربية من كاثوليكية وبروتستانتية عبر موفديها تمارس التبشير لمسيحي المشرق واستطاعت استلاب الكثيربسبب قيامهم بالتعليم المسيحي، وكان بالمقابل ان سمحت الرئاسات الارثوذكسية لهؤلاء الرهبان بالتبشير سيما وانهم يمتلكون المعرفة اللاهوتية وهم في معظمهم اطباء وصيادلة و… وكانت الارضية الاجتماعية المسيحية مهيئة لاكتساب المعارف فقاموا بفتح المدارس وارسلوا النوابغ الى المعاهد اللاهوتية في روما والفاتيكان، وقد تمخض عن هذه الحركة قيام كنائس جديدة في الشرق، منها الكنائس الكاثوليكية الشرقية الخارجة من رحم امهاتها والملتحقة برئاسة بابا رومة ورئاساتها من هؤلاء الذين تم تأهيلهم واعدادهم وهذا كان الهدف الرئيس للحملات الفرنجية كما اسلفنا وتابعت هذه الرهبنات واستطاعت اقامة كنائس جديدة ومذابح كنسية جديدة مقابل كنائس امهاتها الارثوذكسية والكنائس الشرقية الاخرى فضعف الوجود المسيحي المشرقي اكثر بسبب التشرذم الذي تم بفعل ممارسات اخوة في الايمان شقوا الكنائس الارثوذكسية والشرقية وكانت قد سمحت لهم الرئاسات الروحية خدمة رعية المسيح فاستلبتها…بكل اسف ، وعيّن بطريرك لاتيني في مدينة القدس فتأسست البطريركية اللاتينية في اورشليم السنة 1847 وربطت بها كل المدن الكبرى كدمشق وحلب، وتم بسط اليد على الكثير من الكنائس الارثوذكسية كبيت حنانيا الرسول في دمشق السنة 1848 بدعم من قنصلي فرنسا والنمسا والبطريركية اللاتينية في القدس ودفع الاموال الوفيرة لوالي دمشق…
وكذلك فعلت الارساليات البروتستانتية وقد نشطت الإرساليات الأجنبيّة وافتتحت الكثير من المدارس والمعاهد والجامعات ولكنها كانت تابعة للبعثات والقنصليات الأوروبية وانحصر تأثيرها في علية القوم وطبقتهم الغنية من رعايا المسيحيين، فضلًا عن المستشفيات وفنادق الحجاج والمؤسسات الدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ووفدت العديد من الجمعيات الرهبانيّة اللاتينية وحتى القرن 20 إلى فلسطين.
لعبت الأماكن المسيحيّة المقدسة في فلسطين دوراً هاماً في حياة المسيحيين، وكانت مصدر نزاع دائم بين الكنائس المسيحية إلى أن حدد العثمانيون سنة 1856 بعد حرب القرم بين كل الدول الاوربية ومعها الدولة العثمانية ضد روسيا التي طالبت بحق حماية الارثوذكس وبعد هذه الحرب التي خسرتها روسيا ودفعت انكلترا تكاليف هذه الحرب تم الاتفاقبين هذه الدول على حقوق كل طائفة وواجباتها في الأماكن المقدسة وفق الوضع الذي كان جاريا في ذلك العام. وهو ما يُعرف بنظام الستاتيكو أو الوضع الراهن، الذي لا تزال الطوائف المسيحية تسير عليه فيما يتعلق بتفاصيل حقوقها في الأماكن المقدسة خاصًة في كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم ويعود تاريخ هذا التفاهم إلى العهد العثماني في فلسطين، حيث التزمت الدولة العثمانية منذ القرن الثامن عشر ومن ثم جميع القوى المتعاقبة التي سيطرت على المنطقة بدعم مجموعة الأنظمة والتفاهمات هذه التي اكتسبت وضع الواجب القانوني الدولي، والذي يُلزم المحتلّين الحاليين والمستقبليين بذلك الجزء.
ازدهرت أحوال الملل المسيحية القاطنة في السلطنة العثمانية اقتصاديا واجتماعيا، في بداية القرن 19 ومع حركة الإصلاح العثمانية التي تتوجت في التنظيمات العثمانية، وبعد الحملة المصرية لبلاد الشام التي اعطت المسيحيين حقوقهم كمواطنين وليس كذميين، وارتدى الرعايا المسلمون والمسيحيون واليهود الطربوش الاحمر كعلامة على المواطنة العثمانية الحديثة المشتركة، رافقه تنامى الحس القومي لدى العرب في الدولة العثمانية منذ أواسط القرن19، وهو ما يعرف باسم النهضة العربية بوجهها السياسي والثقافي كضارة ساهم بها المسيحيون مع المسلمين، وكان ارباب عصر النهضة من المسيحيين وهم القوة الغالبة قد اطلقوها للخلاص من الوصاية الاسلامية التي كان يمارسها الخلفاء العثمانيون. ولقد ساهم المسيحيون ومعظم اعضاء مجموعة المتنورين الشوام الذين نادوا بالاستقلال عن الدولة العثمانية او كحد ادنى الاستقلال الذاتي واللامركزية وكانوا كلهم تقريباً من المسيحيين من ارجاء سورية الكبرى ومنهم عدد من الفلسطينيين وقد اشتركوا في الحركة القومية العربية وإحياء اللغة العربية، وتجديد الثقافة العربية وإحياء تراثها وبعثت المدارس المسيحية وخاصة الوطنية منها كمدارس البطريركية الارثوذكسية الانطاكية كالآسية في دمشق اعيد تنظيمها عام 1836، والغسانية في حمص والارثوذكسية في اللاذقية ونظيرتها في حماة ومدرسة الاقمار الثلاثة في بيروت، وهو ما أعدّ الوطن العربي لدخول العصر الحديث بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وطرد الاتراك.
العصر الحديث
شبيبة مسيحية أمام مبنى جمعية الشبان المسيحيين فيالقدس عام 1938.
انتهى العهد العثماني سنة 1918، فبدأت فترة جديدة للمنطقة وللمسيحيين أيضًا. في تعداد عام 1922 أيام الاستعمار البريطاني لفلسطين كان هناك حوالي 73,000 فلسطيني مسيحي منهم 46% روم ارثوذكس اتباع بطريركية اورشليم للروم الارثوذكس، وحوالي 20% من أتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وحوالي 20% من أتباع الكنائس الملتحقة بالكثلكة كالروم الكاثوليك والسريان الكاثوليك والارمن الكاثوليك… وسجل التعداد أكثر من 200 بلدة تضم سكان مسيحيين. وبحسب التعداد ضمت الكنيسة الأرثوذكسية حوالي 33,369 عضواً، وكنيسة السريان الارثوذكس813 عضواً، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية 14,245 عضواً، و الروم الكاثوليك 11,191 عضواً، والسريان الكاثوليك 323 عضواً، والارمن الكاثوليك 271 عضواً، والموارنة 2,382 عضواً والارمن الارثوذكس 2,939 عضواً والاقباط الارثوذكس 297 عضواً، والاثيوبيين الارثوذكس 85 عضواً، والانكليكان البروتستانت 4,553 عضواً، والمشيخين البروتستانت361 عضواً، واللوثريين البروتستانت 437 عضواً.
وفي عشية عام 1945 قدرت أعداد المسيحيين في فلسطين الانتدابية بحوالي 145,060 نسمة، أي 8% من مجمل السكان. وضمّ قضاء القدس أكبر عدد للمسيحيين مع حوالي 46,130 نسمة، تلاه قضاء حيفا مع حوالي 33,710 نسمة، وقضاء يافا مع حوالي 17,790 نسمة، وقضاء عكا مع حوالي 11,800 نسمة، وقضاء الناصرة مع حوالي 11,770 نسمة. وضمّ قضاء الناصرة أعلى نسبة للسكان المسيحيين مع حوالي 24% من السكان، تلاه قضاء القدس (18%)، وقضاء رام الله (17%)، وقضاء عكا (16%) وقضاء حيفا (13%). وضمّ كل من قضاء الخليل وقضاء بئر السبع وقضاء طولكرم أقل أعداد من المسيحيين.
أطلال كنيسة في صفد، وهي مدينة فلسطينيّة هُجر سكانها عام 1948.
تعتبر الهجرة والتهجير إحدى اهم النكبات التي أصابت مسيحيي جنوب بلاد الشام عموما، فعلى سبيل المثال، في أعقاب نكبة 1948 وقيام اسرائيل، مُسحت عن الوجود قرى مسيحية بأكلمها على يد العصابات الصهيونية وطرد أهلها أو قتلوا، حيث جرى تهجير سكان بعض القرى ذات الأغلبية المسيحية مثل كفر برعم واقرت والبصة، حيث دمرت القرى تدميراً كاملاً وصودرت أراضيها. كذلك الحال بالنسبة للسكان المسيحيين في بعض القرى المختلطة مثل المجيدل ومعلول والدامون والبروة والتي جرى تدميرها وتهجير أهلها، كما صودرت أراضي لمسيحيين في قرى لم يهجرها سكانها أسوة بالمُسلمين بما في ذلك الآف الدونمات في مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. خلال الحرب اضطر حوالي 40% من المسيحيين الفلسطينيين مغادرة أماكن سكناهم أثناء الحرب، وهاجرت أعداد كبيرة منهم إلى الغرب خاصةً الولايات المتحدة واميركا الجنوبية. وهكذا فإن كنائس اللد وبيسان وطبرية وصفد من اراضي 1948 او داخل إسرائيل حاليًا إما دمرت أو أغلقت بسبب عدم بقاء أي وجود لمسيحيين في هذه المناطق، يضاف إلى ذلك وضع خاص للقدس فأغلبية سكان القدس الغربية كانوا مسيحيين قامت العصابات الصهيونية بتهجيرهم ومسح أحيائهم وإنشاء أحياء سكنية يهودية مكانها لتشكيل “القدس الغربية اليهودية”. وهكذا، فكما يقول المؤرخ الفلسطيني سامي هداوي أن نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين، مقابل ذلك ظهر رعايا جدد في الشتات الفلسطيني، فكنيسة عمان التي كانت تعد بضع مئات وصلت إلى عشرة آلاف نسمة نتيجة التهجير، ونشأت تسع كنائس جديدة في الزرقاء للاتين وحدهم. شطرت الحرب أيضاً سبل إدارة البطريركية ولجأ منذ عام 1949 إلى تقسيمها إلى ثلاث فئات: نائب بطريركي يقيم في الناصرة لإدارة شؤون من تبقى من المسيحيين العرب في اراضي 1948 والخاضعة للاحتلال، ونائب آخر في الأردن، واقتصرت سلطة البطريرك الفعلية على القدس وجوارها فقط سجلت أيضًا في أعقاب حرب 1967 مصادرة أملاك مدارس وكنائس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومزيد من التهجير، في حين استمرت الهجرة نحو اوربة والعالم الجديد كإحدى أبرز موبقات المسيحية في جنوب بلاد الشام خلال المرحلة الراهنة، ومن المؤكد ان التدهور الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية إلى جانب الاحتلال كان أحد أبرز عوامل الهجرة.
في عام 1952، أعلن الاردن ان الاسلام هو الدين الرسمي للمملكة بعد ضم الضفة الغربية الى امارة شرق الاردن، وتم تطبيق ذلك ايضاً في القدس التي كانت تحت السيطرة الاردنية.وفي عام 1953، قام الأردن بتقييد حق الجماعات المسيحية من امتلاك أو شراء الأراضي بالقرب من الأماكن المقدسة، وفي عام 1964، منعت المزيد من الكنائس من شراء الأراضي في القدس. وتم الإستشهاد بهذه الأفعال، بالإضافة إلى قوانين جديدة أثرت على المؤسسات التعليمية المسيحية، من قبل كل من المعلق السياسي البريطاني بات يور وعمدة القدس تيدي كوليك كدليل على أن الأردن سعى إلى ” اسلمة” الحي المسيحي في البلدة القديمة في القدس. ومن أجل مواجهة تأثير القوى الأجنبية، والتي أدارت المدارس المسيحية في القدس بشكل مستقل منذ العهد العثماني، شرّعت الحكومة الأردنية عام 1955 بوضع جميع المدارس تحت إشراف الحكومة الاردنية، وسمح لهم باستخدام الكتب المدرسية المعتمدة فقط والتعليم باللغة العربية وكان يُطلب من المدارس الإغلاق في أيام العطل الوطنية والجمعة بدلاً من الاحد، ولم تعد الأعياد المسيحية مُعترفاً بها رسمياً، وأصبح يوم الأحد كعطلة مقيداً فقط بالموظفين المسيحيين. وكان يمكن للطلاب، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، أن يدرسوا دينهم فقط. وصفت صحيقة جيرازوليم بوست الصهيونية هذه الإجراءات بأنها “عملية أسلمة للحي المسيحي في المدينة القديمة”. بشكل عام، تم التعامل مع الأماكن المقدسة المسيحية باحترام، على الرغم من أن بعض العلماء والباحثين يقولون أنها عانت من الإهمال. خلال هذه الفترة، تم إجراء تجديدات لكنيسة القيامة، والتي كانت في حالة من الإهمال الخطير منذ الفترة البريطانية بسبب الخلافات بين المجموعات المسيحية التي تدعي وجود حصة فيها وفي حين لم يكن هناك تدخل كبير في تشغيل وصيانة الأماكن المقدسة المسيحية، إلا أن الحكومة الأردنية لم تسمح للمؤسسات المسيحية بالتوسع. ومُنعت الكنائس المسيحية من تمويل المستشفيات وغيرها من الخدمات الاجتماعية في القدس. في أعقاب هذه القيود، غادر العديد من المسيحيين الفلسطينيين القدس الشرقية.
المطران عطا الله حنا مطران سبسطية للروم الارثوذكس مناضل في وجه السلطات الصهيونية
بهزيمة 5حزيران 1967 استولى الكيان الصهيوني على اجزاء واسعة حيث استولى على كل القدس والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة وكان تحت السيادة المصرية، ومعظم محافظة القنيطرة والجولان السورية.
وقد أعلنت حكومة إسرائيل عن ضم القدس الشرقية والقرى المجاورة لها إلى إسرائيل عند انتهاء الحرب. ساعد المستوى الثقافي والتعليمي للمسيحيين وتواجدهم في المدن وانتماؤهم للطبقة الوسطى والعليا في المجتمع العربي إلى زيادة إمكانياتهم لتسلم وظائف خصصت للعرب، فكانت نسبة المسيحيين في قطاعات الإدراة العامة، الخدمات الطبية والمصرفية، التعليم والتجارة أعلى من نسبتهم السكانية. فمثلًا سنة 1955 شكل المعلمون المسيحيون نسبة 51% من مجمل المعلمين العرب في حين كانت نسبة المعلمات المسيحييات 74% من مجمل المعلمات العربيات. وذلك الأمر بالنسبة للسياسة فقد كان المسيحيون وراء إنشاء حزب الجبهة الديمقراطية، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي في اسرائيل. ويدير المسيحيون في فلسطين التاريخية عدداً من المدارس ومراكز النشاط الاجتماعي ومستشفيات وسواها هي ثلث الخدمات الطبية في الضفة الغربية على سبيل المثال، وبرز عدد وافر من الشخصيات التي انخرطت في الساحة الفلسطينية السياسية امثال المناضل جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمناضلة السيدة حنان عشراوي والمناضل الشهيد كمال ناصر.
أدى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى أنخفاض ناتج القطاع السياحي والتي أثرت على الأقلية المسيحية وعلى أصحاب الفنادق في الضفة الغربية وخصوصاً في بيت لحم الذين يقدمون الخدمات المُلبية لإحتياجات السياج الأجانب. أشير تحليل إحصائي لتزايد هجرة المسيحيين من الضفة الغربية منذ عام 2000لانعدام الفرص الاقتصادية والتعليمية، خصوصا هجرة الطبقة الوسطى والمتعلمة منهم. ففي عام 2002 فرضت القوات الإسرائيلية حصاراً على كوادر الثورة الفلسطينية اللاجئين الى كنيسة المهد في بيت لحم (منذ2 نيسان عام 2002 لغاية 10 ايار 2002) في فترة الانتفاضة الثانية بالمقابل اسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الاوسط التي ازداد فيها عدد السكان المسيحيين منذ عام 1948، حيث ارتفع عددهم بنسبة تجاوزت 400%. على الرغم من وجود حرية الدين في إسرائيل وهناك حرية في التبشير في المسيحية كما أن اعتناق المسيحية قانوني، الا عدة تقارير أشارت إلى اعتداءات اليهود المتدينين واليهود اليمينيين على كنائس ومقابر مؤسسات مسيحية، خاصًة من قبل المجموعة اليمينية الصهيونية.
الانتفاضة في البطريركية الارثوذكسية الاورشليمية
منذ احتلال العثمانيين لفلسطين استولت رهبنة القبر المقدس اليونانية على البطريركية وابرشياتها وكنائسها واوقافها، ولم تعد تسمح بأن يكون البطاركة والمطارنة والارشمندريتية الا من اتباعها من الرهبنة اليونانية، وصار تسريب للأوقاف الارثوذكسية الى شركات صهيونية وكانت الرعية العربية منذ تاريخ 1517 وهي تناضل لاعادة البطريركية الى الفلسطينيين بدون نتيجة والى منع بيع الاوقاف لليهود افراد ومؤسسات، وفي عام 2005 عزل المجمع المقدس للبطريركية الاورشليمية إيرينيوس بطريرك القدس الأرثوذكسي من منصبه الديني عقب قضية صفقة بيع ثلاثة عقارات تابعة للكنيسة الأرثوذكسية في القدس إلى جمعية عطيرت كوهاني الاستيطانية، والتي تمت بدون علم المجمع المقدس وبطرق غير قانونية. وتمتلك بطريركية القدس نحو 20% من أراضي بلدة القدس القديمة ونسبة كبيرة من اراضي فلسطين، “وتكمن مشكلتها كما تدعي البطريركية في أن لديها القليل من الدخل النقدي في حين تحتاج شهرياً مداخيل كبيرة لدفع الرواتب وتمويل المؤسسات التربوية وصيانة عدد كبير من الكنائس والأديرة التابعة لها. وانها اي هذه البطريركية مستقلة عن اليونان ولا تحصل على دعم مالي من الحكومة اليونانية كما البطريركيات الأرثوذكسية بالرغم من وحدة العقيدة الارثوذكسية، ولا أحد يدعمها بعكس الكنيسة الكاثوليكية التي يقف الفاتيكان وراءها ويمول مشاريعها الدينية والتعليمية والخدمات كافة. ومنذ نكبة فلسطين 1948 وقيام الكيان الاسرائيلي وطرد السكان العرب اصحاب الارض، تدهور وضع هذه البطريركية المالي بسبب تهجير وطرد وهجرة أتباعها، ولذلك، راحت البطريركية تموّل أنشطتها من خلال بيع أو تأجير ممتلكاتها على حد تبريرات بطريركية اورشليم والبطريركين المعزول والحالي ثيوفيلوس. و احتج العرب والمسيحيين بشكل خاص على قضية بيع عقود إيجار فندقي البتراء وإمبريال لمنظمة “عطيرت كوهانيم” اليهودية اليمينية، وهي منظمة تلتزم بتوطين يهود في جميع أنحاء البلدة القديمة.”( المصدر مسيحيون فلسطينيون) وقامت حركات احتجاجية ضخمة من الارثوذكس العرب شعباً ومؤسسات ارثوذكسية” كفى ياثيوفيلوس” وساندهم كل الشعب الفلسطيني لوضع حد لتصرفات ثيوفيلوس ببيع وتسريب الاوقاف.
في شباط من عام 2018 أغلقت كنيسة القيامة في القدس أبوابها احتجاجاً على إجراءات ضريبية فرضتها إسرائيل ومشروع قانون حول الملكية يطال أملاك الكنائس المسيحية. وأعلن بطاركة ورؤساء كنائس القدس إغلاق الكنيسة، وأعلن البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك القدس وسائر اعمال فلسطين والاردن، هذا الإجراء الاحتجاجي غير مسبوق، خلال مؤتمر صحفي في القدس، باسم جميع بطاركة ورؤساء كنائس القدس، مشيراً أنه جاء احتجاجاً على الممارسات الإسرائيلية بحق الكنائس حسب قوله. ورفضت الكنائس مشروع قانون تدرسه لجنة التشريعات في الحكومة الإسرائيلية يقضي بفرض ضرائب على أملاك الكنائس المسيحية. يذكر أن مشروع القانون سيعد خرقا لاتفاقات سابقة تعفي هذه الأملاك من ضريبة البلدية، وتخشى الكنائس أن تؤدي تكاليف هذه الضريبة إلى زيادة الضغوط المالية عليها. وأضافوا أن الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة تبدو “محاولة لإضعاف الوجود المسيحي” في القدس. واتهموا إسرائيل بشن هجوم “ممنهج لم يسبق له مثيل على المسيحيين في الأرض المقدسة”. ويخشى الزعماء الدينيون من أن التشريع الذي تدرسه الحكومة الإسرائيلية سيسمح بمصادرة ممتلكات الكنيسة. وأعيد افتتاح كنيسة القيامة في القدس بعد إغلاق دام ثلاثة أيام، وجاء فتح الكنيسة بعد ساعات من تراجع إسرائيل عن قرار جبي الضرائب عن أملاك كنائس المدينة وفي تموز من عام 2018 قالت اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين أن ” قانون الدولة القومية لليهود في اسرائيل” هو قانون عنصري اقصائي، يقصي الديانتين المسيحية والإسلامية كما يقصي المسيحيين بكل كنائسهم الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية وجميع الكنائس الأخرى.
المسيحيون في فلسطين التاريخية
رسم يُصّور داخل منزل أسرة مسيحيّة فلسطينيّة من القدس، تعود لسنة 1850.
يدير المسيحيون في ااراضي السلطة الوطنية الفلسطينية ومركزها في رام الله واراضي 1948 الخاضعة لاسرائيل عددًا من المدارس ومراكز النشاط الاجتماعي ومستشفيات وسواها هي ثلث الخدمات الطبية في الضفة الغربية على سبيل المثال، في اراضي السلطة الفلسطينية يخصص 10% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني للمسيحيين الذين يرتكزون في ما يُعرف بالمثلث المسيحي في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وبدرجة أقل في رام الله وبير زيت والبيرة ونابلس وجنين واريحا وطولكرم ونصف جبيل وعابود وعين عريك والقبيبة وسائر المدن الفلسطينيةوتعتبر قرى الزبابدة والطيبة وجفنا من القرى في الضفة الغربية ذات الأغلبية المسيحية الساحقة. يقطن معظم المسيحيين في الضفة الغربية في محافظات بيت لحم والقدس ورام الله والبيرة، وبدرجة أقل في محافظات جنين ونابلس واريحا، وتضم محافظة طوباس ومحافظة طولكرم ومحافظة الخليلعلى أعداد صغيرة أو محدودة من المسيحيين، ولم يتبق مسيحيون في محافظة سلفيت ومحافظة قلقيلية بسبب الهجرة.
أمّا في قطاع غزة فالتركيز المسيحي فيها يقع في محافظة غزة ومدينة خان يونس وخاصة في ظل التعصب الاسلامي واسلمة القطاع كلياً مع حركة حماس مغتصبة السلطة في القطاع وداعمتها حركة الجهاد الاسلامي ، ومع ذلك تمتلك 10 عائلات مسيحية ثلث اقتصاد قطاع غزة، وفق ما صرح به المونسنيور الأب منويل مسلم لقناة العربية، كما ان معظم مسيحيي غزة يهتمون بتحصيل الدرجات العالية في العلوم المختلفة حيث يعمل 40% منهم في مجالات المهن العلمية كالطب والتعليم والهندسة والقانون كما تمتلك الكنائس الفلسطينية بمدينة غزة مؤسسات تعليمية وخدماتية، وإلى جانب المؤسسات التعليمية تمتلك كنائس غزة مؤسسات صحية وإغاثية ومهنية مهمة للمجتمع الغزي وتقدم خدماتها للمسيحيين والمسلمين من دون تمييز، ومنها مؤسسات تتبع مجلس الكنائس العالمي ومنها جمعية الشبان المسيحية التي تأسست عام 1952 والتي تقدم العديد من الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية، والرياضية. أدت ممارسات حماس الاخوانية الى فرض الاسلمة بكل شيء عندما استولت بالقوة على قطاع غزة في حزيران 2007 إلى وضع ضغوطا متزايدة على الأقلية المسيحية في قطاع غزة.
وفقاً لكتاب حقائق العالم يُشكل المسيحيون حوالي 2.5% فقط من سكان الضقة الفلسطينية الغربية وحوالي 0.5% من سكان قطاع غزة وتتراوح أعدادهم وفقًا لدراسة عام 2005 بين 40,000 إلى 90,000 في الضفة الغربية، إلى جانب حوالي 5,000 في قطاع غزة. في حين أنّ وفقًا لإحصائية مركز بيوللأبحاث بلغت نسبة المسيحيين في اراضي السطة الفلسطينية نحو 2.4% من السكان سنة 2010 أي حوالي 100,000 شخص، حوالي نصفهم من أتباع الكنيسة الأرثوذكسيَّة.ووفقاً لتقديرات معهد فهم الشرق الأوسط عام 2012 حوالي 2% من سكان الضفة الغربية من أتباع الديانة المسيحية، ويضم قطاع غزة حوالي 3,000 مسيحي. لا توجد أرقام رسمية عن عدد المسيحيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية، ولكن وفقًا للمؤسسة اللوثرية المسكونية كونسورتيوم ديار، يوجد 51,710 مسيحي في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة . وتتركز الجماعات المسيحية بشكل رئيسي في القدس الشرقية ورام الله ونابلس وبيت لحم وضواحيها. وفقاً لتقرير رويترز 2009 يعيش حوالي 50,000 مسيحي في الضفة الغربية والقدس الشرقيَّة إلى جانب 3,000 مسيحي في قطاع غزة، ويتبع حوالي 33,000 مسيحي في الضفة الغربية الكنيسة الارثوذكسية والطوائف الشرقية الأخرى، و 17,000 كاثوليكي فلسطيني في الضفة الغربية. وبحسب دراسة جامعة سانت ماري عام 2015 فان حوالي 200 مسلم تحولوا الى المسيحية في اراضي السلطة الفلسطينية
وفقاً لدراسة عن الهجرة المسيحية الفلسطينية قام بها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية عام 2020وبناءاً على عينة، يعيش حوالي 88% من المسيحيين في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وحوالي 10% في قطاع غزة في حين أنَّ 2% هم مواطنون من غزة يعيشون في الضفة الغربية، ويعيش حوالي 43% من المسيحيين في الأراضي الفلسطينيَّة في محافظة بيت لحم وحوالي 24% في محافظة رام الله والبيرة وحوالي 17% في محافظة القدس وحوالي 12% في محافظة غزة وتتوزع النسب المتبقية على باقي المحافظات الفلسطينية ، وحوالي 49% من المسيحيين في الأراضي الفلسطينية حاصلين على تعليم عالي وشهادة جامعية، ويعمل ثلث المسيحيين في القطاع الخاص. وبحسب الدراسة حوالي 48% من مسيحيين الأراضي الفلسطينية يتبعون بطريركية القدس للروم الارثوذكس ويتبع حوالي 38% بطريركية القدس للاتين وحوالي 6%كنيسة الروم الكاثوليك، ويشكل أتباع الكنائس البروتستانتية (الأسقفية واللوثرية) حوالي 4%،ويشكل أتباع الكنيسة السريانية ( الكنيستان الارثوذكسية والكاثوليكية حوالي 2% وحوالي 1% على التوالي.
في عام 1922 شكل المسيحيين حوالي 9.5% من سكان فلسطين الانتدابية، إنخفاض نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية يرجع إلى حقيقة أن أعداد مواليد العائلية المسيحية هي أقل من العائلات الفلسطينية المسلمة عموماً، والهجرة المسيحية واسعة النطاق منذ عقود ارتفعت في السنوات الأخيرة أعداد المهاجرين المسيحيين من الضفة الغربيّة لأسباب شتى واهمها ازدياد حدة الكقاح الفلسطيني وقمع اسرائيل؛ حيث يُعتبر المسيحيين من بورجوازية المدن المتعلمة ممن يعملون في مجالات أعمال الزراعة الحديثة، والصناعة والتجارة والمهن العائلية ذات التخصصات التعليمية والوظائف ذوي الياقات البيضاء، وبالتالي إتجَّهت أعداد كبيرة منهم إلى بلدان المهجر لإعادة بناء حياتهم. كما أدت اسلمة قطاع غزة منذ عام 2007 إلى هجرة مسيحية واسعة النطاق هرباً من الضغوطات المتزايدة السلطة الفلسطينيةغير قادرة على إحصاء دقيق لعدد المهاجرين المسيحيين، لكن في تشيلي وحدها تُقدر أعداد المسيحيين من أصول فلسطينيَّة بحوالي 350,000 نسمة.
المسيحية في الاراضي الفسطينية 1948
تشير إحصاءات دائرة الإحصاء المركزية للعام 2016 أن عدد المسيحيين في اسرائيل بلغ 170 ألف، ويشكلون حالياً نحو 2.2% من عدد السكان البالغ أكثر من ثمانية ملايين. حوالي 80% من المسيحيين إسرائيل هم هم مسيحيون فلسطينيون عرب، الباقي يتوزعون بين مسيحيين يهود القادمين من الدول الاوربية خاصًة دول الاتحاد السوفييتي السابق، أو من معتنقي المسيحية، ويُضاف اليهم 200,000 من الأجانب ممن يتحدثون العبرية، الذين جاءوا للعمل أو الدراسة. وهناك ما يقرب من 300 شخص تحولوا من الاسلام الى المسيحية وفقًا لأحد التقديرات التي تعود لعام 2014، وينتمي معظم هؤلاء المتحولين إلى الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية واستناداً إلى البيانات الرسمية التي وردت من المحاكم الدينية الدرزية، حوالي 10% من 145 حالة للدروز الذين تركوا العقيدة الدرزية بين عام 1952 إلى عام 2009 تحولوا إلى الديانة المسيحية.
يعيش أغلب المسيحيين العرب في إسرائيل في المنطقة الشمالية ومنطقة حيفا وتضم مدينة الناصرة أكبر تجمع مسيحي عربي وتليها مدينة حيفا، ويعيش المسيحيون في عدد من قرى الجليل الأخرى إما بشكل منفرد أو اختلاطًا بالمسلمين والدروز، مثل ابو سنان، والبعنة، والبقيعة، وجديدة-المكر، والجش، وحُرفيش، ودير حنا، والرامة الجليلية، والرينة، وسخنين ، وشفا عمرو، وطوعان، واعبلين، وعرابة، وعسفيا، وعيلبون،وكسرى- كفر سميع،وكفر كنا، وكفر ياسيف،والمغار،والمقيلبة، والمزرعة، ويافة الناصرة وغيرها،مع وجود نسب أقل في سائر المدن سيّما القدس ويافا – تل أبيب والرملة واللد وعكا والناصرة العليا ومعالوت ترشيحا. يذكر أنَّ جميع سكان معليا وفسوطة من المسيحيين. اسم العائلة الأكثر شيوعًا في الأوساط المسيحيَّة في إسرائيل هو خوري يليها آل حدّاد وشحادة وإلياس وعوّاد.
التمييز بحق المسيحيين
يعاني المسيحيون العرب في الكيان الاسرائيلي من التمييز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من أوجه متعددة وتشرف على شؤونهم الحكومية وزارة الأديان الإسرائيلية، ويعتبرون الأكثر تعلماً بالمقارنة مع اليهود ككل والمسلمين والدروز حيث اعتبارًا من عام 2010 كان حوالي 63% من المسيحيين العرب في إسرائيل من حملة الشهادات الجامعية،كما ولدى المسيحيين العرب أعلى نسبة أطباء والطلاب الذين يدرسون في مجال الطب، وأعلى نسبة نساء أكاديميات مقارنة ببقية شرائح المجتمع ، وهم الأقل إنجابًا للأولاد،كما أن مستوى المعيشة الاقتصادي والاجتماعي بين المسيحيين العرب أكثر مماثلة للسكان اليهود من السكان العرب المسلمين والدروز.
المسيحيون العرب هم واحدة من أكثر المجموعات تعليماً في إسرائيل. كذلك لدى المسيحيين العرب حضور بنسبة عالية في العلوم وفي مهن ذوي الياقات البيضاء، ويُصور المسيحيون العرب على أنهم أقلية عرقية – دينية متعلمة من الطبقة الوسطى.
وقد برز من مسيحيي عرب 48 عدد من رجال الدين أمثال المطران الارثوذكسي عطا الله حنا والبطريرك اللاتيني السابق ميشيل صباح والياس شقور وبطرس المعلم والأسقف منيب يونان البروتستانتي والسياسيين من أمثال رستم بستوني واميل توما وتوفيق طوبى وصليبا خميس واميل حبيبي وداوود تركي… الذين طالبوا بحقوق العرب داخل الخط الأخضر. وقد نشط المسيحيون على وجه الخصوص في الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي كما أن كل من جورج القرا وسليم جبران وهم قضاة في المحكمة الاسرائيلية العليا، من المسيحيين العرب. ولعبت بعض الأسر المسيحية العربيّة دوراً اقتصادياً واجتماعياً وديبلوماسياً بارزاً في حياة المجتمع العربي. ومن الشخصيات المسيحية العربية البارزة في العلوم والتقنية العليا تشمل حسام حايك الذي لديه اكتشافات عالمية في مجالات الإلكترونيات الجزيئيه، وجوني سروجي، وهو نائب رئيس شركة آبل لتقنيات الأجهزة.
كنيسة مريم العذراء الأرثوذكسية الأنطاكية، ميشيثان. تخدم الكنيسة مختلف الجاليات المسيحية الشامية.
المسيحيون الفلسطينيون في المهجر
هاجر العديد من المسيحيين الفلسطينيين إلى بلدان في اميركا الجنوبية (خاصة ا الارجنتين وتشيلي)، وكذلك إلى استراليا والولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى الدول المجاورة لفلسطين التاريخية مثل سورية ولبنان والاردن. السلطة الفلسطينية غير قادرة على إحصاء دقيق لعدد المهاجرين المسيحيين. اما انخفاض نسبة المسيحيين ليس في فلسطين وحدها بل في كل المشرق يرجع أيضاً إلى حقيقة أن أعداد مواليد العائلة المسيحية هي أقل من العائلات الفلسطينية المسلمة عموماً. ومن الصعب تقدير عدد المغتربين المسيحيين، خاصةً وأنّ المعطيات الرسمية لا تُشير إلى الدين. هناك دلائل تشير إلى خطورة حجم ظاهرة الهجرة المسيحية ليس في فلسطين وحدها بل في كل منطقة الشرق الاوسط وهو نزيف خطير وتكاد معه ان تفرغ دول المنطقة من المسيحيين وخاصة الشباب المثقف ومن اصحاب المهن والحرف ، ففي فلسطين وفي الفترة بين عام 1968 وعام 1993 غادر الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي 13,000 مسيحي أي ما يعادل ربع عددهم الإجمالي حالياً. وفي السابق كانت اميركا اللاتينية محط أنظار المهاجرين المسيحيين خاصةً من مناطق بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا، أما المهاجرين المسيحيين من منطقتي رام الله والقدس فقد استقروا بشكل عام في الولايات المتحدة وكندا واستراليا.
اعتمد المهاجرون المسيحيون الأوائل ليس من فلسطين وحدها بل من كل الديار الشامية على التجارة لكسب معيشتهم، الا أن هذا الإتجاه تغير وأصبحوا أكثر انخراطاً في قطاعات العمل المختلفة بما في ذلك المناصب الأكاديمية. يعيش اليوم حوالي ثلاثة أرباع مجمل المسيحيين التي تعود أصولهم إلى مدينة بيت لحم في المهجر، كما أنَّ عدد المسيحيين المقدسيين في مدينة سيدني باستراليا أكبر بالمقارنة مع القدس الشرقية، كما أنَّ عدد المسيحيين الفلسطينيين في الولايات المتحدة والذي تعود أصولهم إلى مدينة رام الله أكبر بالمقارنة مع رام الله.
تُثار نقاشات جديّة حول أسباب هذه الهجرة المسيحية وتتعدد الأسباب والطروحات حولها. الغالبيّة العظمى من المسيحيين الفلسطينيين وذريتهم في الشتات هم أولئك الذين فروا أو طردوا أثناء حرب النكبة 1948. ذكرت وكالة رويترز أنّ الهجرة كانت بشكل أساسي من أجل تحسين مستوى المعيشة بسبب وجود نسبة عالية من المتعلمين بين المسيحيين. ووفقًا لبي بي سي كان التدهور الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية، وكذلك الضغوط العنصرية سببا للهجرة. ذكر تقرير شمل سكان بيت لحم أن كلًا من المسيحيين والمسلمين يرغب في ترك البلاد لكن بسبب امتلاك المسيحيين اتصالات مع أقارب في المهجر، ومستويات أعلى من التعليم كان يسهل للمسيحيين طريق الهجرة.تُلقي رئاسات الكنائس اللوم على الاحتلال الإسرائيلي والتضييق الذي يمارسه الاستيطان لهجرة المسيحيين من الاراضي المقدسة وووجود الكيان الصهيوني وحالة الحرب الدائمة واخيرا مادُعي بالربيع العربي وهو عبارة عن حرب طائفية استهدفت المسيحيين في سورية حيث تعاني سورية منذ 2011 وحتى الآن من الارهاب التكفيري الضارب المغذى صهيونيا ودولياً واقليمياً والآن مع العقوبات الاقتصادية الظالمة وتفشي الفقر بشكل كبير وكذلك في لبنان والعراق ومصربشكل عام. ذكرت الصحيفة الإسرائيلية جيروزليم بوست أن “تقلص أعداد الطوائف المسيحية الفلسطينية في الأراضي المقدسة جاء كنتيجة مباشرة بسبب انتمائها إلى الطبقة المتوسطة”. هذه الحالة في كل الدول العربية التي يتواجد فيها المسيحيون وقد صاروا من الطبقة الفقيرة اضافة الى فقدان الشعور بالأمان يذكر أن المسيحيين لديهم صورة عامة كنخبة متعلمة وذات امتيازات طبقية، وكذلك عدم لجوئهم إلى العنف، مما يجعلهم أكثر عرضة للتعرض لأعمال عنف. وهذا ماحصل لهم في سورية والعراق ومصر وقد عزا حنا سنيورة، أحد أبرز الناشطين في مجال حقوق الإنسان في فلسطين، أن التحرش ضد المسيحيين يعود إلى “مجموعات صغيرة” من “السفاحين” وليس من الحكومات مثل حماس وفتح.
رام الله الصغرى في باترسون نيو جيرسي. تضم المنطقة واحدة من التجمعات الفلسطينيَّة المسيحيَّة الكبرى في الولايات المتحدة.
وفقًا لتقرير في صحيفة الاندبنديت، فإنّ الآلاف من الفلسطينيين المسيحيين “هاجروا إلى اميركا اللاتينية في سنوات 1920 عندما تعرضت فلسطين إلى الجفاف والكساد الاقتصادي الشديد”. وتتواجد اليوم أكبر جالية فلسطينية وفلسطينية مسيحية خارج العالم العربي خصوصا تلك الموجودة في اميركا اللاتينية وتصل أعدادهم إلى نصف مليون فلسطيني في أمريكا اللاتينية والوسطى منهم 80 إلى 85% من المسيحيين الفلسطينيين. وتضم تشيلي أكبر جالية فلسطينية مسيحية ارثوذكسية في العالم خارج منطقة فلسطين، حيث تصل أعدادهم إلى 350,000 وتعود أصول غالبيتهم إلى بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ويعتبرون من الأقليات الناجحة جدًا، فغالبيتهم ينتمون إلى الطبقة العليا والوسطى وترعاهم ابرشية تشيلي الانطاكية الارثوذكسية وكرسي انطاكية هو الذي وحد الاغتراب المسيحي العربي في جالياته في العالم برئاسة مطارنة اكفاء. كما وقد برز من كل المغتربين المسيحيين العرب عموماً بمن فيهم ابناء فلسطين اقطاب كثر في السياسة والاقتصاد والثقافة. هناك جاليات كبيرة أيضًا في السلفادور، هندوراس، البرازيل، كولومبيا، الارجنتين، فنزويلا، الولايات المتحدة وغيرها من الدول.يُذكر أنّ 46% من فلسطينيي اميركا ذووي الغالبيَّة المسيحيَّة هم من حملة الشهادات الجامعية وعلى هذا تُعتبر الجالية المسيحيّة الشرق اوسطية او العربية في المهجر من “الأغنياء والمتعلّمين وذوي النفوذ”.
الطوائف
داخل كاتدرائية القديس يعقوب للارمن الارثوذكس في حارة الارمن في القدس.
أكثر من نصف المسيحيين في الاراضي الفلسطينية يتبعون بطريركية اورشليم الارثوذكسية في القدس(52%)، وهي إحدى ابرشيات الكنائس الارثوذكسية ويترأسها البطريرك والمجمع المقدس. وغالبيّة أتباع هذه الكنيسة فلسطينيون عرب يتكلمون بالعربية، ويرعاهم كهنة عرب متزوجون وكذلك أعضاء أخوية القبر المقدس. ومنذ قرون، ترعى أخوية القبر المقدس مصالح الأرثوذكس اليونانيين في الأرض المقدسة، وتهيمن على الاوقاف والكنائس وتدعي انها تحافظ على مكانة الكنيسة الأرثوذكسية في الأماكن المقدسة بينما هي تحافظ على الطبيعة الهيلينية للبطريركية ومنذ 1517. تمتلك بطريركية القدس الأرثوذكسية عدداً كبيراً من الأراضي والمباني، فهي تمتلك حوالي ثلث الأبنية السكنية في القدس الشرقية. يأتي في المرتبة الثانية المجموعة الكاثوليكية، وتشكل الطائفة الرومانية الكاثوليكية حصة الأسد من طوائف الكاثوليك؛ وتتمثل في كنيسة اللاتين في القدس، ويشكل أتباع هذه الكنيسة 30.5% من مسيحيي الأراضي الفلسطينية، من ثم الروم الكاثوليك ويُشكلون حوالي 5.7% من مسيحيي فلسطين. كما أنّ هناك العديد من الطوائف الأخرى مثل الموارنة والسريان بشقيهم الارثوذكسي والكاثوليكي والاقباط ، ولهذه الكنائس وجود تاريخي في فلسطين التاريخية ويتركز أتباع الكنيسة السريانية بشقيها في القدس وبيت لحم واريحا وهناك وجود حديث نسبياً للطوائف البروتستانتية من الانكليكان… حوالي 70% من مسيحيي غزة هم من الروم الأرثوذكس ويتبعون ابرشية غزة الارثوذكسية المنتمية الى بطريركية الروم الارثوذكس في القدس، أما الباقي فهم من اللاتين الكاثوليك ويتبعون مرجعية روما. يقوم النائب حسام فؤاد كمال يعقوب الطويل المنتخب عن دائرة غزة والذي يشغل منصب أمين سر مجلس وكلاء الكنيسة العربية الأرثوذكسية بغزة بتمثيل المسيحيين في المجلس التشريعي الفلسطيني.
دير القديس سابا الارثوذكسي، وهو من أقدم الأديرة في فلسطين التاريخية.
هناك وجود تاريخي للكنيسة الارمنية الارثوذكسية ويعود وجودها إلى إقامة الطائفة الأرمنية في القدس منذ القرن الخامس. ويتضح من مراجع أرمنية أن البطريركية الأرمنية الأولى تأسست عندما منح الخليفة عمر بن الخطاب امتيازًا للأسقف أبراهام عام638م، وقد كان للارمن حي خاص بهم في عهد الفرنجة.ومن أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة خلال وبعد الحرب العالمية الاولى، ازداد عدد أبناء الطائفة المحلية بسبب تدفق اللاجئين إليها هربًا من المذابح الارمنية بيد الاتراك، وبعد قيام دولة إسرائيل هاجر 90% من الأرمن إلى الخارج حيث يصل عددهم اليوم إلى ألفين، يتمركزون في حارة الأرمن في القدس وينشطون تجاريا واجتماعيًا. الكنيسة الأرمنية واحدة من الكنائس الثلاث الكبرى التي تمتلك معظم المواقع الدينية في فلسطين التاريخية. ويتركز الأرمن في القدس الشرقية ومدينة حيفا والناصرة، وعكا، والرملة ويافا.
التجمعات المسيحية التاريخيةالقدس
نعجزة فيض النور من القبر المقدس يوم سبت النور
يجلّ المسيحيون القدس فهي قدسهم وهي رمزهم هي ام الكنائس
ورد ذكرها في العهد القديم ولعبت الدور المحوري في المسيرة الخلاصية للرب يسوع على الارض، ينص العهد الجديد أن يسوع أًحضر إلى المدينة بعد ولادته بفترة قصيرة، وانه علم الشيوخ في المجمع وهو ابن ال12 سنة وأنه قلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ولم يدع أحدًا يجتاز الهيكل بمتاع.
صورة تذكارية تعود لعام 1922 تُصوّر رؤساء الطوائف المسيحيّة في مدينة القدس.
في علية صهيون تناول السيد المسيح وتلاميذه العشاء الاخير فيها ، تقع على جبل صهيون في ذات المبنى حيث يقع ضريح الملك داود.ومن المواقع المسيحية المقدسة في المدينة أيضاً، التلّة المعروفة باسم الجلجلة”، وهي موقع صلب الرب يسوع. يصف انجيل يوحنا هذه التلّة بأنها تقع خارج القدس،إلا أن بعض الحفريات أظهرت مؤخراً أنها تقع على بُعد مسافة قليلة من البلدة القديمة داخل حدود المدينة الحاليّة وهو امر طبيعي قي ظل توسع المدن. أمّا كنيسة القيامة وبها القبر المقدس فهي اقدس الاماكن المقدسة ليس في فلسطين وحدها بل في كل العالم، يحج إليها المسيحيون من مختلف أنحاء العالم منذ حوالي ألفيّ سنة، ويؤكد الخبراء والمؤرخون أنها شُيدت على الجلجلة.
أدى التنافس على المواقع المسيحية بين الطوائف خاصة في كنيسة القيامة إلى اصدار السلطان العثماني عبد المجيد (1839-1861)وبعد حرب القرم فرماناً وضع فيه بالتفصيل حقوق الطوائف المسيحية ومسؤولية كل منها في القبر المقدس. أصبحت هذه الوثيقة المعروفة باسم الوضع الراهن، ولا يزال الأساس لبروتوكول تقسيم وكيفة عمل الطوائف المسيحية في كنيسة القيامة. وتم الإبقاء على الوضع الراهن خلال الانتداب البريطاني والأردن. بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، ومع سقوط البلدة القديمة في أيدي الإسرائيليين، أقر الكنيست قانون لحماية الأماكن المقدسة. تتقاسم اليوم كنيسة القيامة الارثوذكس واللاتين والاقباط الارثوذكس والارمن الارثوذكس وتشترك ستة طوائف مسيحية حالياً في الإشراف على كنيسة القيامة وهيبطريركية الروم الارثوذكس وبطريركية اللاتين وبطريركية القدس الأرمنية الأرثوذكسية والكنيسة القبطية الارثوذكسية والكنيسة السريانية الارثوذكسية وكنيسة التوحيد الارثوذكسية الاثيوبيةوتطورت المناطق السكنيّة المسيحية في مدينة القدس مع زيادة النفوذ الغربي الأوروبي فبتنيت مدارس الإرساليات والمشافي والمعاهد العلمية، فازدهر حي النصارى مقارنة بالأحياء الأخرى التي عانت من فقدان هذه الخدمات، كما نشطت حارة النصارى اقتصاديًا خاصًة مع ازدهار أحول سكانه الذين عملوا بالتجارة، ومع هجرة مسيحيي القدس أرسل أثرياء المهجر أموالاً لدعم أهالي الحي. في عام 1898وافقت الدولة العثمانية على طلب من الدول الأوروبية وفتحت بوابة جديدة في أسوار البلدة القديمة، في منطقة جديدة للتنمية. كانت تسمى بوابة “باب جديد”.
كان عدد المسيحيين في القدس سنة 1947 نـحو 27 ألفاً، يٌذكر أنّ أغلبية القدس الغربية كانت من مسيحيين. قامت العصابات الصهيونية بمسح أحيائها وتهجير سكانها وإنشاء أحياء سكنية يهودية فيها لتشكيل “القدس الغربية اليهودية”. وهكذا، فكما يقول المؤرخ الفلسطيني سامي هداوي أن نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين، سجلت أيضًا في أعقاب حرب 1967 مصادرة أملاك ومدارس وكنائس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومزيد من التهجير، في حين استمرت هجرة المسيحيين نحوالشتات. وفقًا لإحصائيّة دائرة الإحصاء المركزية في 31كانون الاول 2015 وجدت أنّ عدد المسيحيين في مدينة القدس يصل إلى حوالي 12,300. وعلى الرغم من أن الأرمن منفصلون رسميًا عن المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك العرب في القدس، فإن الأرمن يعتبرون أن حي الأرمن جزء من الحي المسيحي في المدينة. وعبرت البطريركيات المسيحية الثلاث في القدس وحكومة ارمينيا علناً عن معارضتها لأي انقسام سياسي في الحارتين. إن الأسباب الرئيسية لوجود حي أرمني منفصل هي المذهب المونوفيزي واللغة والثقافة المميزة للأرمن، والذين، على عكس غالبية المسيحيين في القدس، ليسوا عرباً.
وفقًا لمعهد القدس للدراسات السياسية عام2019 بلغ عدد المسيحيين في القدس حوالي 15,000 ويشكلون 2% من مجمل سكان المدينة. في عام 1946 كان عدد المسيحيين في المدينة 31,00 نسمة وكانوا يُشكلون حوالي 19% من سكانها، ويعود تناقض الأعداد بسبب الهجرة المسيحية واسعة النطاق. كما أشار استعراض معهد القدس لأبحاث السياسة أيضًا إلى أن حوالي 44% من المسيحيين في القدس يعيشون في البلدة القديمة، حيث يبلغ عددهم حوالي 6,500 نسمة، ويتركز حوالي 4,000 منهم في الحي المسيحي وحوالي 2,500 في الحيين الارمن والاسلامي.
بيت لحم
صورة لأربعة نساء مسيحيات من بيت لحم تعود لعام 1911.
مدينة بيت لحم هي من اقدس الاماكن المسيحية في العالم كونها المدينة التي فيها وُلِدَ الرب يسوع في مغارة بيت لحم، وبسبب قدسية مدينة بيت لحم يتواجد في المدينة عدد كبير من الكنائس والأديرة فضلًا عن المواقع المسيحية المقدسة، بالإضافة إلى المؤسسات المسيحيّة المختلفة من مدارس ومستشفيات شتى، وكونها مدينة ميلاد يسوع تحظى المدينة بشعبية واسعة، وترتبط بعيد الميلاد كانت كنيسة المهد هي الأولى بين الكنائس الثلاث التي بناها الإمبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع الميلادي حين أصبحت المسيحية ديانة الدولة الرسمية، وكان ذلك استجابة لطلب الأسقف ماكاريوس في المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325 للميلاد. دخلت كنيسة المهد سنة 2012 قائمة مواقع التراث العالمي، كنيسة المهد هي أول موقع فلسطيني يدرج ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو. وتتسم العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في المدينة بالإيجابية والتعايش، ووفقًا للاستطلاع الذي أجراهُ المركز الفلسطيني للبحوث والحوار الثقافي في عام 2006 في مدينة بيت لحم تبيَّن أن 90% من المسيحيين قالوا أن لديهم أصدقاء مسلمين، ووافق 73.3% منهم على أن السلطة الوطنية الفلسطينية تُعامل التراث المسيحي في المدينة باحترام ونسبة 78% منهم عزت سبب هجرة المسيحيين إلى القيود الإسرائيلية التي تفرُضها على السفر.
تعتبر مدينة بيت لحم أحدى أقدم المجتمعات المسيحية في العالم. بعد دخول المسلمين في عام 630م، وقد تعرب المسيحيون المحليون على الرغم من أن أعداداً كبيرة منهم كانوا عرباً بالأصل وتعود أصولهم إلى عشيرة الغساسنة. وتعود أصول أكبر عشيرتين مسيحيتين في بيت لحم إلى الغساسنة، بما في ذلك الفرحية والنجاجرة. وتنحدر العشيرة الأولى من الغساسنة الذين هاجروا من اليمن ومن منطقة وادي موسى في الاردن الحالية، وينحدر النجاجرة من نجران وتعود أصول عشيرة مسيحية أخرى في بيت لحم، وهي العناترة، إلى الغساسنة.
بدأت الهجرة المسيحية من الدولة العثمانية ومن منطقة ما يعرف بالمثلث المسيحي خلال القرن التاسع عشر، حيث كانت اميركا اللاتينية تاريخياً محط أنظار المهاجرين المسيحيين خاصةً من مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، أو ما يُعرف ب”المثلث المسيحي”
تراجعت أعداد المسيحيين في مدينة بيت لحم بشكل مُطرد منذ متصف القرن العشرين، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الهجرة، ويمثل انخفاض معدل مواليد المسيحيين أيضًا سببًا آخر لهذا التراجع.في عام 1947 بلغت نسبة المسيحيين حوالي 85%، ولكن بحلول عام 1998 انخفضت النسبة إلى 40%. في عام 2005 وضح رئيس بلدية بيت لحم فيكتور بطارسة أن “نتيجة للتوتر سواء الجسدي أو النفسي والحالة الاقتصادية السيئة، كثير من الناس يهاجرون، سواء مسيحيين أو مسلمين، لكن الهجرة أكثر انتشارا بين المسيحيين، لأنهم بالفعل أقلية”ذكرت الصحيفة الإسرائيلية جيوزاليم بوست أن “تقلص أعداد الطوائف المسيحية الفلسطينية في الأراضي المقدسة وبشكل خاص في بيت لحم جاء كنتيجة مباشرة بسبب انتمائها إلى الطبقة المتوسطة والعليا”. وأدى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى انخفاض ناتج القطاع السياحي والتي أثرت على الأقلية المسيحية وعلى أصحاب الفنادق في بيت لحم الذين يقدمون الخدمات المُلبية لاحتياجات السياح الأجانب. أشار تحليل إحصائي لهجرة المسيحيين من المدينة لانعدام الفرص الاقتصادية والتعليمية، خصوصًا بسبب انتماء المسيحيين إلى الطبقة الوسطى وارتفاع المستوى التعليمي بينهم.مُنذ اندلاع النتفاضة الفلسطينية الثانية غادر 10% من السكان المسيحيين المدينة. صرح آمون رمنون الباحث في معهد القدس لأبحاث السياسات، أن سبب هجرة المسيحيين بالمقارنة مع هجرة المسلمي هو بسبب سهولة إندماج المسيحيين العرب في المجتمعات الغربية مقارنة بالمسلمين العرب، حيث أن العديد منهم يحضرون يدرسون في المدارس التبشيرية، حيث يتم تدريسهم اللغات الأوروبية على مستوى عاليكما أنَّ نسبة عالية من المسيحيين في المنطقة هم من سكان الحضر وذوي مستوى تعليمي عالي، مما يسهل عليهم الهجرة والاندماج بين السكان الغربيين.
تُعتبر الناصرة قاعدة للمجموعات المسيحية المختلفة لوجود العديد من الأماكن المقدسة فيها، والتي أقيمت عليها الكنائس، كما أقيمت بقربها الأديرة والمؤسسات الخيرية والتعليمية، والنزل والفنادق للحجاج. وتشير بيانات عام 1949 إلى أن نسبة المسيحيين من السكان قد بلغت 60%، ولكنها انخفضت في عام 1972 إلى 53%، وأصبحت في عام 1983 حوالي 40%. ووفقًا لبيانات عام 2015 يشكل المسيحيون اليوم 30.0% فقط من السكان. يعود الانخفاص المستمر لنسبة المسيحيين أساسًا إلى انخفاص نسبة المواليد بين المسيحيين وإلى الهجرة المسيحية إلى المدن المجاورة مثل حيف والناصرة العليا وإلى خارج البلاد خصوصًا إلى الاميركيتين، يٌذكر أن 70,000 مسيحي من أصول نصراويَّة يقطن في الولايات المتحدة.
غالبًا ما يعتبر المسيحيون في مدينة الناصرة أغنياء نسبيًا، ومتعلمين، ومعتدلين سياسيًا حيث يميلون إلى التصويت للأحزاب اليساريًَّة وهم نشيطون بشكل خاص في حزب الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. ويدير المسيحيون في المدينة عدداً كبيراً من المدارس ومراكز النشاط الاجتماعي والمستشفيات وسواها. ويُقسم السكان المسيحيون في الناصرة إلى طوائف مختلفة تحافظ على إطارها المستقل، كما تضم عددًا من الجماعات والفئات الطائفية المختلفة التي نشأت نتيجة تطور تاريخي طويل. الفئة الاولى من المسيحيين في البلاد عامة يرجع تاريخها للشعوب التي تواجدت في فلسطين عشية دخول المسلمين، كالهلينيين والآراميين والسامريين واليهود المتنصرين والعرب وأبناء شعوب أخرى. ومنذ ذلك الحين اُضيفت طبقات سكان جديدة أثناء الحج إلى الأماكن المقدسة عند المسيحيين. وفي عهود مختلفة تجمع في البلاد أبناء طوائف مسيحية أجنبية، كالأرمن والاقباط والحبش. ثم تعاقبت أفواج المستوطنين المسيحيين من اوربة أثناء حملات الفرنجة، إلا أنهم فقدوا هوياتهم القومية ولغاتهم وعاداتهم.
المسيحيون العرب هم واحدة من المجموعات الأكثر تعليما فيفلسطين المحتلة حيث يطلق عليهم اقلية نموذجية. وقد وصفت صحيفة معاريف المسيحيين العرب بأنهم “الأنجح في نظام التعليم”، حيث يحظى العرب المسيحيون بمستوى تعليم أفضل بالمقارنة مع أي مجموعة دينية أخرى في إسرائيل.كما لدى المسيحيين العرب واحدة من أعلى معدلات النجاح في شهادة الثانوية العامة أو ما يسمى بالبجروت مع نسبة (73.9%) في عام 2016، بالمقارنة مع المسلمين والدروز وبالمقارنة مع جميع الطلاب في نظام التعليم اليهودي، كما أنّ المسيحيين العرب في الطليعة من حيث التوجه للتعليم العالي اعتبارًا من عام 2012 كان حوالي 63% من المسيحيين العرب في فلسطين المحتلة من حملة الشهادات الجامعية كما أنّ نسبة المسيحيين الحاصلين علىالاجازات الجامعية والدكتوراة أكثر من متوسط النسبة بين السكان الإسرائيليين.
النهضة في فلسطين
خليل السكاكيني من أعلام النهضة الادبية العربية في فلسطين.
شارك المسيحيون العرب في العصر الحديث في أداء أدوار تكوينية وبناءة في عمليات التحول من الأبنية التقليدية إلى المؤسسات الحديثة، لسابق تعرفهم واتصالهمبالثقافة الاوربية، ومن ثم لعبوا دور الوسيط بين اوربة والغرب والمجتمعات العربية، وساهموا في تطوير النخب الثقافية العربية من خلال الترجمات عن اللغات الأوروبية عموماً، والفرنسية على وجه الخصوص. سبقُ اهتمام ومشاركة بعض المثقفين المثقفين العرب في عملية تجديد اللغة العربية وآدابها من خلال الدراسات اللغوية والنقدية،التي استعارت وطبقت بعض المناهج الحديثة، بالإضافة إلى دورهم الإبداعي في كافة مرافق الادب والمسرح والسرديات الحداثية عموماً على اختلاف أجناسها ونصوصها.الأدوار الفكرية والإبداعية للمبدعين والمفكرين والنقاد المسيحيين العرب شكلت أحد أبرز وجوه الاستعارات الحداثية العربية التي ساهمت في تفكيك البنيات الأدبيّة والفكرية التقليدية والمحافظة.
في عام 1854 أنشأت بطريركية الروم الارثوذكسي المقدسية اول مطبعة عربية في فلسطين هي مطبعة القبر المقدس او مطبعة دير الروم، وفي عام 1882فتحت الجمعية الامبراطورية الفلسطينية- الروسية الارثوذكسية دارين للمعلمين في الناصرة والمعلمات في بيت جالا وذلك للتدريس في مدارسها التي غطت كل سورية الكبرى وذلك للمساهمة في تدريس ابناء الارثوذكس ووقفاً لأزمة الكثلكة من خلال دراستهم في المدارس الكاثوليكية حيث أدى التنافس بين الامبراطورية الروسية ودول اوربة الغربية إلى اقامة شبكة واسعة من المدارس، خصوصاُ بعد تأسيس لجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية عام 1882، حيث أقامت الجمعية 23 مدرسة للذكور والإناث، ومعهداً لتدريب المعلمين في الناصرة تخرج منه أدباء ومعلمين مسيحيين كان لهم تأثير على النهضة العربية أمثال الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، وبندلي الجوزي، والمحاضرة الجامعية كلثوم عودة، والشاعر اسكندر الخوري البيتجالي، والكاتب والأديب والمترجم خليل بيدس وفارس نمر والاديب سليم قبعين، ونسيب عريضة. وخلق توثيق العلاقات مع العالم الغربي ووجود الإرساليات التبشيرية في فلسطين نقطة إستقطاب جذبت عدداً من المسيحيين للهجرة إليها من البلدان المجاورة، مما أدى إلى زيادة عددهم وإعلاء شأنهم، حيث أصبح المسيحيون يكونون الطبقة الوسطى المثقفة بين السكان المحليين، إضافة إلى تخصصهم في المهن، رغم محافظتهم حتى نهاية العهد العثماني على بروفيل منخفض في الحياة العامة خاصةً السياسية، كما آثروا السكن في أحياء خاصة بهم.وأسس المرسلون الألمان مدرسة شلنر في القدس والناصرة بهدف التدريب المهني. تبع ذلك اقامة المعاهد التعليمية.
بدأت النهضة الثقافية العربية في القرن 19، وذلك في عام 1840 أعقاب خروج الحملة المصرية من بلاد الشام التي تركت اكبر اثر تنويري وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم “الجمعيات” رافقها ميلاد فكرة القومية العربية، والمطالبة بإصلاح الدولة العثمانية ثم بروز فكرة الاستقلال عنها مع تعذر الإصلاح والمطالبة بتأسيس دول حديثة على الطراز الأوروبي؛ كذلك وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة، فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان. وملخص الحال أنّ النهضة الثقافية التي قام بها العرب أواخر الحكم العثماني كانت نقلة نوعية لهم نحو حقبة ما بعد الثورة الصناعية، ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط، إذ أنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته، ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة، سواء في دمشق وبقية سورية وجبل لبنان أو مصر أو فلسطين ولقبهم” المتنورون الشوام”، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضاً. إذ كون المسيحيون في العصر الحديث النخبة المثقفة والطبقة البورجوازية مما جعل مساهمتهم في النهضة الاقتصادية ذات أثر كبير، على نحو ما كانوا أصحاب أثر كبير في النهضة الثقافية، وفي الثورة على الاستعمار بفكرهم ومؤلفاتهم، وعملهم.
يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوي مؤسس «مرآة الشرق» عام 1879، وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق، وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888، وإسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الاهرام المصرية وفي فقه اللغة العربية يذكر ابراهيم وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الأدب يذكرمي زيادة وخليل السكاكيني وسليم قبعين. وفي المجال الاقتصادي، برز عدد من العائلات المسيحية ومنهم رجل الأعمال والمصرفي حبيب السكاكيني ورجال الأعمال من آل صابات الفلسطينيّة الأصل في مصر.
منذ الانتداب البريطاني وحتى اليوم، اشتهر عدد كبير من الشعراء والأدباء والمفكرين المسيحيين؛ في الأدبوالادب المقارن والمسرح والقصة والموسيقى والتأريخ… وخرج منهم معظم الرواد في النضال ضد الغزو اليهودي وهم من اسس جماعة الارض ولهم المكانة في المؤسسات الفكرية والريادة في حمل الاجازات الجامعية والماجستير والدكتوراة…
العلوم الإنسانية: الأبعاد التاريخية والمعرفيةالعلوم الإنسانية
هي مجموع العلوم والاختصاصات التي تتناول النشاط البشري. تجمع العلوم الإنسانية اختصاصات من العلوم الاجتماعية إضافة إلى الانسانيات بما فيها الفنون.
بدرجة أو بأخرى يمكن اعتبار العلوم الإنسانية مكافئة للإنسانيات، لكن في مواقع أخرى تعتبر العلوم الانسانية فروعا من الفلسفة أو الأدب.
تُعتبر العلوم الإنسانية فرعاً من فروع المعرفة المختصة بدراسة البشر و ثقافتهم بطريقة علمية باستخدام المناهج النقدية والتحليلية للتساؤلات المرتبطة بالقيم الإنسانية وقدرة الإنسان عى التعبير عن نفسه، وتمتاز العلوم الإنسانية عن غيرها من التخصصات الأكاديمية بمضمونها و منهجها المختلف، وتُوصف العلوم الإنسانية بأنّها دراسة تحليلية لخبرات وأنشطة البشر، و معرفة آليات معالجتهم للتجربة البشرية وتوثيقها
مدخل
تشهد الساحة الفكرية المعاصرة حَرَاكاً فكريّاً ومعرفيّاً كبيراً، انطلاقاً من الأفكار والأسئلة التي أصبحت منتشرة، التي مفادها إشكالات جوهرية من شأنها أن تقدم النموَّ والازدهار الفكري والمعرفي للعلوم الاجتماعية والإنسانية في آن، ولعل من أبرز هذه الأسئلة والإشكالات الجوهرية السياق التاريخي للعلوم الإنسانية:
هل نشأت باستقلالية ذاتية أو أنها نشأت في ارتباط مع حقل معرفي آخر؟
كل هذا يُعَدُّ حقلاً خصباً للدراسات الفكرية والمعرفية، إذ إنه يفتح أمام الباحثين مجالات عدة للبحث، والغوص في ثنايا وخبايا هذا الإشكال المعرفي.
“فالعلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية هي دراسات تستخدم المنهج العلمي في دراسة مظاهر الفعل الإنساني على مستوى الفرد، أو الجماعة، أو المجتمع، وهي تشتمل على علم الاجتماع، وعلم الإنسان، وعلم الاقتصاد، وعلم النفس”.
تعريف العلوم الإنسانية
تُعتبر العلوم الإنسانية فرعاً من فروع المعرفة المختصة بدراسة البشر، وثقافتهم بطريقة علمية باستخدام المناهج النقدية والتحليلية للتساؤلات المرتبطة بالقيم الإنسانية وقدرة الإنسان على التعبير عن نفسه، وتمتاز العلوم الإنسانية عن غيرها من التخصصات الأكاديمية بمضمونها و منهجها المختلف.
تُوصف العلوم الإنسانية بأنّها دراسة تحليلية لخبرات وأنشطة البشر، ومعرفة آليات معالجتهم للتجربة البشرية وتوثيقها.
مجالات العلوم الإنسانية
مجالات العلوم الانسانية
في ضوء المفهوم الواسع للعلوم الإنسانية يُمكن فهم سبب شمولها لمجموعة ضخمة ومتنوعة من الفروع الأكاديمية المتاحة للدراسة، حيث تشمل دراسة العلوم الإنسانية المجالات الآتية
علم الآثار
يختص علم الآثار بدراسة البقايا الماديّة التي خلّفها الإنسان قديماً وحديثاً، فقد يدرس علماء الآثار أحافير يبلغ عمرها ملايين السنوات من الأجيال البشرية القديمة في أفريقيا، أو قد يدرسون مخلفات البشر المادية من القرن الحالي في إحدى المدن الكبرى مثل نيويورك، و يهدف علم الآثار إلى دراسة وتحليل البقايا المادية للوصول إلى فهم واسع وشامل للثقافة الإنسانية، ويدرس علماء الآثار منطقةً جغرافيةً محددةً من العالم أو موضوعاً محدداً؛ فالتخصص بمنطقة معينة أو موضوع محدد يسمح لهم ببناء وتطوير خبرة تراكمية في ذلك، ويُعدُّ علم الآثار حقلاً أكاديمياً يشمل عدّة أنواع من الدراسات كالآتي:
علم الآثار الحيوية الذي يدرس البقايا البشرية.
علم الآثار الحيوانية الذي يدرس بقايا الحيوانات.
علم الحفريات القديمة الذي يدرس بقايا النباتات القديمة.
دراسة بقايا الصخور والأحجار.
دراسة الأدوات والتقنيات التي تُساعد على تحديد المواقع الأثرية.
الدين المقارن
يُشير مصطلح الدين المقارن إلى أحد فروع دراسة الأديان التي تهتم بدراسة جميع التقاليد والممارسات في أديان وعقائد العالم المختلفة، ويمتاز هذا الفرع بأنّه لا يدرس دين واحد وإنّما يتناول الاهتمامات والأسس الفلسفية للأديان المختلفة و يدرسها من منظور عالمي وبشكل علمي وأكاديمي؛ ليُحدّد القواسم المشتركة ونقاط الاختلاف فيما بينها.
التاريخ
تُقدّم دراسة التاريخ مؤشّرات للأفراد والمجتمعات حول سبل وآليات تحقيق التطوّر والتقدّم مستقبلاً من خلال فحص ودراسة الأحداث و التداعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالمجتمع الإنساني، والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومن هنا تكمن أهمية دراسة التاريخ بكونها تُلهم الأفراد والأمم والمجتمعات للأفضل بخصوص مستقبلهم، وذلك بالاستفادة من الماضي والخبرات السابقة للمجتمع البشري في إحداث التغييرات التاريخية.
العلوم الإنسانية: الأبعاد التاريخية والمعرفية
فنون الأداء
تشمل فنون الأداء مجموعةً متنوعةً من الفنون، مثل: الموسيقى، والغناء، والرقص، والمسرح، تُعبّر عن التراث الثقافي غير المادي لأيّ مجتمع، كما تعكس الثقافة الشعبية وتُظهر عنصر الإبداع البشري، وبشكل عام يوجد مساران من الدرجات العلمية والشهادات الأكاديمية في فنون الأداء:
يعتمد المسار الأول على جانب التطبيق والممارسة إذ يقوم على درجة كبيرة من الأداء الفعلي منذ اليوم الأول، أمّا المسار الثاني فهو المسار الأكاديمي الذي يدمج بين التطبيق العملي والتحليل العلمي والأكاديمي للموضوع قيد الدراسة؛ لذلك غالباً يتمّ تدريس فنون الأداء في الجامعات والمؤسسات المختصة من خلال مزيج من المحاضرات التدريسية وورش العمل.
الفلسفة
تُعتبر الفلسفة علماً يقوم على استخدام أدوات المنطق والعقل لتحليل الطرق التي يختبر بها الإنسان عالمه، وتطرح الفلسفة بمختلف مجالاتها مجموعةً من الأسئلة الفلسفية أهمّها: هل تصف حواسنا الحقيقة بدقة؟ ما الذي يجعل الخطأ خطأ؟ كيف يجب أن نعيش؟ وفي ضوء هذه الأسئلة الفلسفية تُركّز الفلسفة على تزويد دارسيها بطرق الإجابة من خلال إكسابهم مهارات وأدوات التفكير النقدي، والقراءة الدقيقة، والكتابة الواضحة، والتحليل المنطقي؛ ليتمكّن الفلاسفة من توظيف تلك المهارات والأدوات في وصف العالم وتحديد مكان الإنسان فيه. الأدب
يُطلق مصطلح الأدب على مجموعة الأعمال الشعرية والنثرية المكتوبة التي يتّسم مؤلفّوها بقدرة عالية على التعبير والتصوير الجمالي لمشاعرهم وخواطرهم وعكسها بأرقى أساليب الكتابة، ويُصنّف الأدب وفقاً لمجموعة متنوعة من الأنظمة، بما في ذلك اللغة، والأصل القومي، والفترة التاريخية، والنوع، والموضوع.
وتشمل الدراسات الأدبية جميع الأعمال المكتوبة التي تتضمّن عنصر الخيال، كالشعر، والدراما، والسرد الأدبي.
اللغات
تهدف دراسة اللغات أو لغة محددة كتخصص أكاديمي إلى تحسين كفاءة الطالب وفهمه في هذه اللغة، وعادةً تختلف الخطة الدراسية عند دراسة اللغات كتخصص من لغة لأخرى ومن مؤسسة أكاديمية لأخرى، إلاّ أنّ هناك قاسم مشترك بين دراسة اللغات المختلفة يتمثّل في كون معظم الدرجات العلمية والشهادات الأكاديمية المتخصصة باللغات تُركّز بشكل أساسي على تحسين طلاقة الطالب وقدرته على القراءة والكتابة والتحدّث بلغة أخرى غير لغته الأم، كما أنّها تُغطّي التاريخ والسياسة والأدب والثقافة المرتبطة باللغة المختارة.
الإعلام
ودراسات التواصل يشمل تخصّص الإعلام ودراسات التواصل دراسة التواصل الجماهيري، ويتطرّق أحياناً لدراسة بعض القضايا المرتبطة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وعلاقتها بالإعلام، كما تتحدّث دراسات التواصل والإعلام عن نشأة وتاريخ وتأثيرات أشكال وسائل الإعلام المختلفة على المجتمع بالإضافة إلى الطريقة المثلى التي يُمكن استخدامها لتوصيل رسائل مختلفة، وعند دراسة الإعلام ودراسات التواصل كتخصص فإنّ الموضوعات التي يتمّ دراستها تختلف من جامعة لأخرى، لكن عموماً يجب أن تشمل دراسة التخصص عدداً من المواضيع و القضايا المهمّة، أهمّها ما يأتي: دراسة النظريات التي تتناول دور وسائل الإعلام في المجتمع خلال العام الأول. تناول تأثير وسائل الإعلام على بعض الظواهر الاجتماعية و السياسية المهمة خلال العامين الثاني والثالث، كدراسة تأثير وسائل الإعلام على المرأة، والحروب، والجرائم، وغيرها. التعرّف على أهم التقنيات المستخدمة في صناعة الأفلام، والأفلام الوثائقية، وبرامج الراديو، وألعاب الفيديو، و غيرها.
فن الاستوديو
يشمل فن الاستوديو جميع الفنون المرئية التي قد تكون مصنوعةً في استوديو، مثل: التصوير الفوتوغرافي والتصميم، أو فنون مشابهة لحدّ كبير للفنون المصنوعة باستديو، كالفنون المبتكرة من الرسم، والتلوين، والأعمال اليدوية، كالسيراميك، و النحت، والرسم على الزجاج، كما يُستخدم مصطلح فن الاستوديو لوصف الفن الرقمي، ويُعدّ فن الاستوديو الطلاب للعمل في مجالات عديدة ومتنوعة أبرزها مهن الفنون، والإعلام، والهندسة المعمارية، وتصميم وصناعة الرسوم المتحركة وألعاب الفيديو، وصناعة الأفلام، والتصميم الجرافيكي، وتصميم المواقع الإلكترونية والمنصات الإعلامية، وغيرها العديد من المجالات، وتتوقع الإحصائيات الرسمية لمكتب إحصاءات العمل (BLS) أن يزيد التوظيف في مهن الفنون والتصميم في العام 2028م بنسبة 3% عمّا كانت عليه عام 2018م، وهذا يعني أنّه ستكون هناك حاجة لمزيد من المختصين بهذا المجال لتلبية الطلب المتزايد على التأثيرات المرئية في ألعاب الفيديو، والأفلام، والتلفزيون، والهواتف الذكية.
فوائد دراسة العلوم الإنسانية
تكمن فوائد دراسة العلوم الإنسانية في أنّها تُشكّل قاعدةً أساسيةً للعديد من الوظائف، حيث يكتسب دارسوها مهارات التفكير النقدي و التحليلي، الأمر الذي يمنحهم قدرةً كبيرةً ومميزة للتعبير عن أنفسهم بوضوح؛ ممّا يُكسبهم درجةً عاليةً من المرونة و التكيّف على الصعيد المهني، كما تُقدّم العلوم الإنسانية فرصةً مميزةً لإكمال التعليم العالي، حيث تُهيّئ الظروف لدارسيها لاستمرارهم بالتعليم على مستوى درجات علمية متقدمة كالماجستير و الدكتوراة، كونها تُكسبهم العديد من المهارات التي يُمكن تطبيقها في مجالات واسعة ضمن حقل الآداب و العلوم الإنسانية، فمثلاً يستطيع الطالب الحاصل على درجة البكالوريوس في التاريخ تحصيل درجة علمية في مجال القانون، أو علوم المكتبات، وهكذا.
الخيارات المهنية لدارسي العلوم الإنسانية
تُشير إحدى الدراسات المتخصصة إلى مؤشرات تُفيد بأن خريجي التخصصات الإنسانية يتمتعون بنسبة عالية من الرضا الوظيفي في سوق العمل مقارنةً مع خريجي التخصصات الأخرى؛ حيث أفادت الدراسة أنّ حوالي 87% من الموظفين الحاصلين على درجة البكالوريوس في العلوم الإنسانية راضون عن وظائفهم، ويمتاز طلاب العلوم الإنسانية بمجموعة من السمات أهمّها أنّهم يتمتّعون بعلم ومعرفة كافية في مجال تخصصهم، كما أنّهم يتميّزون بمهارات تواصل قوية، ولا شكّ أنّ هذه الصفات تُتيح المجال أمامهم ليكونوا موظفين مميزين في مجالات متنوعة، و فيما يأتي بعض خيارات العمل المتاحة لدارسي العلوم الإنسانية:
التدريس
خرّيجو العلوم الإنسانية مؤهّلون ليكونوا مدرّسين، خاصةً أنّهم يمتلكون الحدّ المطلوب من مهارات الكتابة، والخطابة، كونه يتم التركيز على ذلك ضمن تخصصات العلوم الإنسانية.
التحرير
من المناسب جداً لدارس العلوم الإنسانية العمل كمُحرّر لمجلّات أو أبحاث علمية. الصحافة: في حال كان يمتلك خريج العلوم الإنسانية المهارة والرغبة بالكتابة فيُمكن بسهولة أن يعمل كصحفي في إحدى الصحف، حيث سيكون لديه مهارة عالية في التقصّي والبحث عن الموضوعات، و هو أمر يؤهّله ليكون صحفياً في القسم الخاص بالأخبار التلفزيونية مثلاً.
خبير لغوي
يُمكن العمل كمدقق أو خبير لغوي – باللغة الأم أو لغة أجنبية أخرى يتقنها- في إحدى المؤسسات الحكومية أو التعليمية أو حتّى المنظمات الدولية.
تقديم الاستشارات
تُعتبر درجة البكالوريوس في العلوم الإنسانية مقدمةً جيدةً لمن يرغب بأن يكون مستشاراً خاصةً إذا كانت هذه الاستشارات مناسبةً له من حيث موضوعها وطبيعة المؤسسة، فمثلاً إذا كان متخصصاً بالقانون فيكون الأفضل له تقديم استشارات قانونية و التعامل مع مؤسسات ذات علاقة بذلك.
تنظيم الفعاليات
بالاستفادة من مهارات التخطيط والتنظيم وترتيب الأولويات التي يملكها خريجي العلوم الإنسانية بإمكانهم توظيف هذه المهارات لبناء علاقات عمل مع شركات وعملاء مختلفين لغايات ترتيب وتنظيم فعاليات ومؤتمرات خاصة بهم. إدارة العلاقات العامة: العلاقات العامة مجال عمل يتطوّر باستمرار و يتزايد الطلب عليه مؤخّراً، ويتطلّب هذا المجال مهارات قراءة وكتابة ومهارات شخصية مميزة، وهي سمات تتوافر غالباً لدى خرّيجي العلوم الإنسانية.
تعريفات عند البعض
عرَّفها الاستاذ علي عبدالمعطي بأنها “تلك التي تدرك العالم على أنه ينطوي على معانٍ، وتكوِّن معرفتنا بتلك المعاني، هذا يعني أن علوم الإنسان تحاول النفاذ إلى الأفكار والمشاعر، والمعاني والمقاصد التي تقف وراء الواقع أو التغيرات المختلفة، وإدراكها إدراكًا كيفيًّا”.
ومن جهة أخرى، نجد أن جون ستيورات ميل يعرِّفها بالأخلاق، من أجل التمييز بينها وبين العلوم الطبيعية، و”لقد نحت (جون ستيورات ميل) مصطلح العلوم الأخلاقية Moral science الذي يقابله مصطلح Geisteswissen schafien في اللغة الألمانية، لكي يدل على تلك العلوم التي نمت نموّاً كبيراً في القرن التاسع عشر، وتمايزت عن باقي العلوم الطبيعية”.
إن الناظر في معاني هذا التعليم، المتبصر في دلالاته، يجد أن العلوم الإنسانية أو الاجتماعية هي العلوم التي تُعنَى بدراسة الإنسان من جميع الجوانب والمستويات، لا على مستوى الفرد، ولا على مستوى الجماعة، لكن الإشكال المطروح في ساحة التداول الفكري في تحرير المعنى الدلالي المعرفي لكلٍّ من العلوم الإنسانية والاجتماعية: هل لها نفس المعنى أو أن هناك اختلافًا منهجيّاً ومعرفيّاً بينهما؟ “وهو إشكال لا يستدعي المقامُ بسطَ ما تداول فيه، خصوصًا وأن الدراسات المعاصرة في مجال الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم لم تَعُدْ تهتم كثيرًا بهذا الإشكال، وذلك على اعتبار أن ما هو إنساني هو اجتماعي بالأساس، كما أن ما هو اجتماعي هو اجتماعي، هو بالضرورة إنساني، ولا يمكن الفصل بين الصفتين إلا على مستوًى نظريٍّ محضٍ، أما على المستوى الواقعي، فهما متداخلان ومتكاملان معًا”.
غير أنه يوجد مَن يعْتَبِرُ هذا الطرح حول العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية يثير إشكالية تعريفها، والتخصصات العلمية التي تدخل ضمنها، واستشكال العلاقة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن عَمَدَ البعض إلى الأخذ بالتطابق بينهما، فعندما نسأل ابن خلدون، وأوغست كونت، وكارل ماركس، وكدروف، وبياجي، وفوكو – عما هي العلوم الإنسانية، فإن الجواب لن يكون واحداً، والمبدأ العام المفسِّر لهذا الاختلاف واضح، وهو أن التصنيفات التي قدمها هؤلاء المفكرون أو الرؤية التي اقترحوها للعلوم الإنسانية متعلقة من جهة أولى بالوضعية الإبستيمولوجية العامة لمجموع المعارف الإنسانية، عند تقديم كل مفكر لتصنيفه أو اقتراحه لرؤيته، كما أنها متعلقة من جهة ثانية بالموقف الإبستيمولوجي لكل مفكر من نسق المعارف المعاصر له.
نرى
أن العلوم الإنسانية والاجتماعية عبارة عن وحدة معرفية متكاملة، ولا يمكن الفصل بينها لا على مستوى التنظير، ولا على مستوى الواقع، إذ إن الحديث عن أحد هذه العلوم والتنظير له يستدعي الحديث عن العلم الآخر، ولو بغير قصد، وهذا ما يبين النظرة والوحدة التكاملية بينهما في دراسة الإنسان وتقلبات حياته فرديًّا وجماعيًّا، تفاعله الذاتي، وتفاعله مع محيطه الاجتماعي، وتفاعله مع الله مهما كانت ديانته وانتماؤه العرقي، وهذا ما يفتح لنا الباب لطرح إشكال معرفي؛ ألا وهو: أين تكمن وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية في دراسة الإنسان، وعلاقته بواقعه المعيش؛ إذ إن هذه العلوم تسعى “جميعها إلى التوصل للمعرفة العلمية، وتحاول أن تستقيَ هذه المعرفة من الواقع، ويمثل الواقع السياق الذي تقع فيه الوقائع الطبيعية والظواهر الاجتماعية والإنسانية؛ فالواقع موجود قبل أي تصور له أو إدراك؛ فهو خارج أي معرفة، ولا يمكن لأي معرفة أن تَزْعُمَ أو تدَّعِيَ أنها هي الواقع”.
أي: إن هذه العلوم ليست هي الواقع، ولكن وظيفتها العلمية والمعرفية هي دراسة الواقع، والإحاطة ببعض جوانبه، ورصد ظواهره وتحولاته اقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً، ودينيّاً.
هذا ما يوحي بعظم هذا الحقل المعرفي في دراسة الظواهر الإنسانية في أبعادها المختلفة، باحثًا عن العِلَلِ والسُّنَنِ التي تدير حركة التاريخ والإنسان، فهذا تخصص علمي له دراية كبرى بأبعاد الإنسان السيكولوجية والإبستمولوجية والديموغرافية، ويحدد العلاقات الترابطية بين هاته الأطراف، وهذا ما يعطي لهذه العلوم غنًى وتنوُّعاً.
هي تفاعلات تتميز بأن أطرافها أو وحداتها السلوكية هي وحدات دولية، وحينما نذكر كلمة دولية فإن ذلك لا يعني اقتصار الفاعلين الدوليين على الدول وهي الصورة النمطية أو الكلاسيكية التي كان ينظر بها للفاعلين الدوليين في العقود الماضية.
تخصّص العلاقات الدوليّة
يركّز تخصّص العلاقات الدوليّة في دراسته على البحوث متعدّدة التخصّصات التي تشمل مجالات الاقتصاد، والتاريخ، والعلوم السياسيّة، لدراسة مواضيع تتعلّق بالقضايا المعاصرة من الفقر العالميّ، وحقوق الإنسان، والبيئة وغيرها، والتي بمضمونها تتناول بحث قضايا مشاكل السياسة العامة، وتتوقّع ما يمكن حدوثه في هذا السياق، بالإضافة لوضع الحلول المناسبة لها؛ فالتكامل الاقتصاديّ والتهديدات غير المسبوقة لمواضيع السلام والأمن، والتركيز العالميّ على مواضيع حقوق الإنسان وحماية البيئة، أدّت بمجملها إلى تطور وتعقّد العلاقات الدوليّة في القرن الواحد والعشرين. فتسعى العلاقات الدولية لفهم أصول الحرب وإحلال السلام، ودراسة طبيعة السلطة والحكم في النظام العالميّ، وفهم الطابع المتغيّر للجهات المشاركة في صنع القرار الدّولي. تعتمد دراسة العلاقات الدوليّة بشكل أساسيّ على طبيعة عمل وأهداف المنظمّة، فقد تعمل بعض المؤسّسات على دراسة التفكير النفسيّ، والنفسيّ الاجتماعيّ المتسبّب في أفعال صانعي القرارات السياسيّة الخارجيّة، بينما قد تركّز مؤسسات أخرى على العمليات السياسيّة التي من شأنها المساهمة في أهداف وسلوكيّات الدّول.
الاطراف الدولية بجانب الدول هناك نوعان من الأطراف الدولية الأخرى التي تتشابك وتتفاعل في محيط العلاقات الدولية لدرجة لا يمكن معها تجاهلها طبقاً للنظرة التقليدية للفاعلين الدوليين…
والنوع الأول: من الفاعلين الدوليين هم أطراف أو فاعلين دون مستوى الدول في بعض الأحيان مثل الجماعات ذات السمات السياسية أو العرقية التي قد تخرج عن إطار الدولة لتقيم علاقات مع وحدات دولية خارجية بغض النظر عن موافقة أو عدم موافقة الدول التي ينضمون تحت لواءها مثل الجماعات الانفصالية وجماعات المعارضة المسلحة، فضلاً عن العلاقات الدولية لحركات التحرر التي لم ترق بعد إلى مرتبة تكوين أو تمثيل دولة.
أما النوع الثاني: من الفاعلين فهو يتمثل في التنظيمات التي تخطت إطار الدولة لتضم في عضويتها عدة دول، سواء كانت هذه المنظمات هي منظمات دولية أو إقليمية، وسواء كانت تلك المنظمات هي منظمات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو حتى تلك التي تقوم بغرض تعزيز روابط الآخاء الديني.
والعلاقات الدولية هي تفاعلات ثنائية الأوجه أو تفاعلات ذات نمطين النمط الأول هو نمط تعاوني والنمط الثاني هو نمط صراعي إلا أن النمط الصراعي هو النمط الذي يغلب على التفاعلات الدولية برغم محاولة الدول إخفاء أو التنكر لتلك الحقيقة، بل أننا يمكننا القول أن النمط التعاوني الذي قد تبدو فيه بعض الدول هو نمط موجه لخدمة صراع أو نمط صراعي آخر قد تديره الدولة أو تلك الدول مع دولة أو مجموعة دول أخرى، فعلى سبيل المثال نجد أن الأحلاف والروابط السياسية بين مجموعة من الدول هي في صورتها الظاهرية قد تأخذ النمط التعاوني بين تلك الدول برغم حقيقة قيامها لخدمة صراع تلك المجموعة من الدول ضد مجموعة أخرى.
أكثر من ذلك فإن النمط التعاوني للعلاقات بين دولتين (مثل تقديم العون والمساعدات الاقتصادية والعسكرية) قد يحمل في طياته محاولة من إحداهما التأثير على قرار الأخرى وتوجيه سياستها بما يخدم مصالحها أو تكبيلها بمجموعة من القيود التي تتراكم كنتاج للتأثير والنفوذ.
لذلك نجد أن معظم التحليلات والنظريات في العلاقات السياسية الدولية تركز كلها على النمط الصراعي منها انطلاقاً من دوافع ومحددات مثل القوة والنفوذ والمصلحة فضلاً عن الدوافع الشخصية.
ويعد الصراع بمثابة نمط تحليلي خصب من أنماط العلاقات السياسية الدولية، فهو مليء بالتفاعلات متعددة الأبعاد، بل أنه يجمع في طياته النمط التعاوني نفسه والذي يعاد توظيفه في معظم الأحيان لخدمة النمط أو البعد الصراعي للتفاعلات الدولية
العلاقات الدولية هي فرع من فروع العلوم السياسية ويهتم بدراسة كل الظواهر التي تتجاوز الحدود الدولية. علما بأنه لا يقتصر على دراسة أو تحليل الجوانب أو الابعاد السياسية فقط في العلاقات بين الدول وانما يتعداها إلى مختلف الابعاد الاقتصادية والعقائدية والثقافية والاجتماعية……الخ.كما أنه لا يقتصر على تحليل العلاقات بين الدول وحدها وانما يتعدى ذلك ليشمل كثير من الاشكال التنظيمية سواء كانت تتمتع بالشخصية القانونية الدولية أو لاتتمتع بذلكبرغم أن العلاقات الدولية كممارسة وتفاعلات قد وجدت مند القدم ومنذ بداية انتظام التجمعات البشرية في شكل دول- إلا أن العلاقة الدولية كعلم- تعتبر من العلوم حديثة النشأة نسبيا – حيث بدا ياخد حيزا منذ بداية القرن 19، وقد تأكدت أهميته كعلم قبيل واعقاب الحرب العالمية الاولى
وعلم العلاقات الدولية بات من أهم فروع العلوم السياسية التي من خلالها يمكن دراسة وتحليل الظاهرة السياسية بكل أبعادها النظرية والواقعية، وبرغم أن دراسة العلاقات الدولية كمادة قائمة بذاتها من مواد العلوم السياسية لم تتخذ طابعا عملياً إلا عقب الحرب العالمية الثانية- إلا أنها قد اتخذت خلال تلك الفترة الوجيزة نسبياً مكانة هامة طغت على الأفرع الأخرى للعلوم السياسية، ويرجع ذلك إلى الحيوية والديناميكية التي تتسم بها موضوعات تلك المادة، فضلا عن الأهمية التي اكتسبتها تلك المادة جراء التقدم التكنولوجي الهائل في كافة المجالات خاصة في مجال الاتصال والمعلومات والمواصلات والتسلح.
وعلم العلاقات الدولية لم يعد مقتصرا الآن على استقراء علاقات الدول والأحداث الدولية كما كان في السابق والذي كان يقترب من دراسة التاريخ الحديث، كما أنه لم يعد يركن إلى الاكتفاء بتفسير الظواهر الدولية الحالية وإيجاد المبررات أو التبريرات للسلوك الدولي.
بل تخطى ذلك كله لينفذ إلى قلب الحدث أو السلوك الدولي مستعينا بأدواته التحليلية المستمدة من فروع العلوم السياسية والاجتماعية الإنسانية وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأجناس البشرية والجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي والاقتصاد، يضاف ذلك أساليب التحليل الكمي والإحصائي والقياس واستطلاعات الرأي والتي من خلالها ومعها يتحقق ليس فقط تحليل العلاقات الدولية بصورتها الراهنة – بل يمكن التنبؤ أو استشراف أو الوقوف على طبيعتها المستقبلية من خلال المعطيات المتاحة في حالة تحقق شروط أو افتراضات التحليل دون حدوث أحداث قاهرة أو فوق مستوى التوقع، مع وضع وتحديد البدائل في حالة تغير الظروف والأحوال أو الافتراضات التي بنيت على أساسها تلك التحليلات. في محاولة لتحسين عملية التنبؤ في العلاقات الدولية ذكر “مورتن كابلان” (Kaplan)في خمسينيات القرن المنصرم:”إننا نحتاج إلى نماذج لفحص التعميمات التي تتبناها نظريات العلاقات الدولية التي توظف على مستوى النظام الدولي؛ لأنه لا يوجد منهج أو أسلوب محدد لتحليل مثل هذه التعميمات، كما أن هناك مشكلة أخرى متعلقة بدقة الفهم لكيفية تحليل التعميمات” (Kaplan,1961:6). وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، وتحديدًا في عام 1992, نشر “جون لويس جيدز” (Gaddis, John Lewis) مقالاً بعنوان نظرية العلاقات الدولية ونهاية الحرب الباردة، انتقد فيه منظري العلاقات الدولية لفشلهم في التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، ورأى أن هذا الفشل يطرح بدوره أسئلة حول المناهج والاقترابات التي تم تطويرها لمحاولة فهم السياسات العالمية (انظر(Gaddis,1992. ويعد هذا المقال المحرك الرئيس في الكشف عن ضرورة دراسة المستقبليات كعلم، لما أثاره من نقاشات حول كيفية تطوير نظريات السياسة الدولية. وفي الحقيقة، لم يكن المقال سوى انعكاس للواقع، وقد نجم عن سقوط حائط برلين طرح سؤالين مهمين هما: لماذا كانت نهاية الحرب الباردة بهذه الطريقة المفاجئة؟ وماذا يعني هذا لنظرية العلاقات الدولية؟ ولقد حاولت الكثير من الدراسات البحث في الإجابة عن هذه الأسئلة، فبينما بحث الواقعيون الجدد() عن طريقة لفهم انهيار الاتحاد السوفيتي السلمي بما يتلاءم وافتراضاتهم، وبخاصة فيما يتعلق بالقيمة العليا للدولة وبقائها؛ إذ فسّر البنائيون الأمر بشكل واسع ومختلف كدليل على صواب معتقداتهم ونجاحها، بالإضافة إلى ما يتعلق بتأثير الأفكار والمعايير حول السياسات الدولية وقد مثّل هذا الاتجاه “كراتشويل” Kratochwil, Koslowski))، و”ايكنبيري” Ikenberry) (،و”نيد ليبو” (Ned Lebow)، و”هيرمان” (Herman)، وشعر الكثيرون منهم ـ أي منظري البنائيين ـ أن سقوط الثنائية القطبية لم يأت ليعلن فقط عن حدوث تحولات وتغيرات نظامية، وإنما ليعلن أيضًا عن حدوث تغيير أساسي في الطريقة التي تعالج بها السياسات الدولية، أما الواقعيون فلم يميلوا بشكل عام لمنح أي مجال لإمكانية تغيير النظام الأساسي.
نظريات العلاقات الدولية
النظرية المعياريةضمن اختصاص العلاقات الدولية الأكاديمي، حاجج سميث، وبايلز وأوينز (2008) أن الموقف المعياري أو النظرية المعيارية هو تحسين العالم كمكان للعيش، وأن هذا المنطلق النظري لرؤية العالم يهدف إلى القيام بذلك عن طريق، أولاً، إدراك الافتراضات الضمنية والافتراضات الصريحة التي تشكل موقفًا غير معياري، وثانياً، وضع المعيار أو توجيهه باتجاه بؤر اهتمام نظريات مفتاحية أخرى، اجتماعية سياسية، مثل الليبرالية السياسية، الماركسية، التوجه السياسي المحافظ، الواقعية السياسية، المثالية السياسية، والعولمة السياسية.
النظرية الإبستمولوجيةتنقسم نظريات العلاقات الدولية عمومًا في أحد معسكرين معرفيين: «الوضعي» و «ما بعد الوضعي». تهدف النظريات الوضعية إلى تطبيق طرق العلوم الطبيعية من خلال تحليل تأثير القوى المادية. وعادة ما تركز على مميزات العلاقات الدولية مثل تفاعلات الدولة وحجم القوات العسكرية وتوازن القوى. ترفض نظرية المعرفة ما بعد الوضعية فكرة أنه يمكن دراسة العالَم الاجتماعي بطريقة موضوعية ومجردة من القيم. وترفض الأفكارَ المركزية للواقعية الجديدة / الليبرالية، كنظرية الاختبار العقلاني مثلًا، على أساس أنه لا يمكن تطبيق المنهج العلمي على العالَم الاجتماعي وأن “علم” العلاقات الدولية مستحيل.
يكمن الاختلاف الرئيسي بين الموقفين في أن النظريات الوضعية، كالواقعية الجديدة مثلًا، تقدم تفسيرات سببية (مثل لماذا تمارَس السلطة؟ وكيف؟)، بينما تركز النظريات ما بعد الوضعية بدلًا من ذلك على الأسئلة البنيوية، على سبيل المثال ما المقصود بـ «السلطة»؟ مم تتكون؟ وكيف يتم إدراكها؟ وكيف تُتداول؟ غالبًا ما تعزز النظريات ما بعد الوضعية بشكل علني نهجًا معياريًا للعلاقات الدولية، من خلال النظر في الأخلاقيات. هذا أمر تم تجاهله في كثير من الأحيان في سياق العلاقات الدولية “التقليدية” إذ تميّز النظريات الوضعية بين “الحقائق” والأحكام المعيارية أو “القيم”. خلال أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أصبح الجدل بين الوضعيين وما بعد الوضعيين الجدل السائد ووُصف بأنه يمثّل «الجدل العظيم الثالث».
المدارس الفكرية
الواقعيةتركّز الواقعية على أمن الدولة والسلطة قبل كل شيء. جادل أوائل الواقعيين مثل ادوارد هاليت كار وهانز مورغنتا أن الدول هي جهات فاعلة عقلانية تسعى إلى السلطة وتحقيق المصلحة الذاتية وزيادة أمنها وفرصها في البقاء.يُعدّ التعاون بين الدول طريقة لزيادة أمن كل دولة على حدة (بالمقارنة مع الأسباب الأكثر مثالية). وبالمثل، يجب أن تستند أي حرب على المصلحة الذاتية، وليس المثالية. وجد العديد من الواقعيين في الحرب العالمية الثانية إثباتًا لنظريتهم.
يجادل الواقعيون بأن الحاجة للبقاء تتطلب من زعماء الدولة أن ينأوا بأنفسهم عن الأخلاقيات التقليدية. علّمت الواقعية القادة الأمريكيين التركيز على المصالح بدلًا من التركيز على الأيديولوجية، والسعي لتحقيق السلام من خلال القوة، والاعتراف بأن القوى العظمى يمكن أن تتعايش مع بعضها حتى لو تبنّت قيمًا ومعتقدات متناقضة.
يُعدّ كتاب تاريخ الحرب البيلونزية الذي ألّفه ثوديريس، النص التأسيسي للمدرسة الواقعية في الفلسفة السياسية. هناك جدل حول ما إذا كان ثوسيديديس نفسه واقعيًا؛ ناقش نيد ليبو بأن اعتبار ثوسيديديس واقعيًا هو تفسير خاطئ للرسالة السياسية الأكثر تعقيدًا في عمله. ساهم فلاسفة مثل مكيافيلي وهوبز وروسو، من بين آخرين، في الفلسفة الواقعية. على الرغم من أن أعمالهم قد تدعم المذهب الواقعي، من غير المحتمل أنهم كانوا ليصنفوا أنفسهم على أنهم واقعيون بهذا المعنى.
تعتقد نظرية الواقعية السياسية أن السياسة، مثل المجتمع، تحكمها قوانين موضوعية تتأصل جذورها في الطبيعة البشرية. للارتقاء بالمجتمع، من الضروري أولًا فهم القوانين التي تحكمه. إن تطبيق هذه القوانين المنيعة تجاه تفضيلاتنا، سيدفع الأفراد إلى تحديها لمجرّد توقُّع الفشل. يجب أن تؤمن الواقعية أيضًا -كما تؤمن في موضوعية قوانين السياسة- بإمكانية تطوير نظرية عقلانية تعكس هذه القوانين الموضوعية، وإن كان بشكل غير كامل ومنحاز. وتؤمن أيضًا بالتالي بإمكانية التمييز بين الحقيقة والرأي في السياسة -بين ما هو حقيقي موضوعيًا وعقلانيًا، ومدعوم بالأدلة ومضاء بالمنطق، وما هو مجرد حكم ذاتي منفصل عن الحقائق ويبلَّغ بتحيّز وتمنٍ.
لكن وضع الواقعية تحت الوضعية مثير للجدل. كان كتاب إدوارد هاليت كار بعنوان ما التاريخ؟ نقدًا متعمدًا للوضعية، وسعى هانتز مورغنتاو في كتابه الرجل العلمي مقابل سياسة القوة إلى هدم أي تصوّر بأن السياسة الدولية/ سياسة القوة يمكن دراستها علميًا. إن اعتقاد مورغنثاو في هذا الصدد هو جزء من سبب تصنيفه على أنه «واقعي كلاسيكي» بدلًا من واقعي.
ومن بين المنظرين الرئيسيين: ادوارد هاليت كار وروبرت غيليبين وصامويل هنتنغتون وستيفن والت وجون ميرشايمر وكينيث والتس وتشارلز كيندلبيرغر وكيفن د. كراسنر.
اليارسانية، أو الكاكائية، و التي تسمى أيضا بـأهل الحق من قبل الإيرانيين والعرب ،هي عبارة عن أحد فروع الديانة اليزدانية القديمة (كلمة يزدان تعني الرب أو الخالق أو الله)، التي كانت معتنقة من قبل معظم الأكراد قبل المد الإسلامي في إيران، والتي يقسم في الوقت الحاضر إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي اليزيدية، اليارسانية، علويو تركيا.
هناك اعتقاد شائع بأن معظم الأكراد كانوا معتنقين للديانة الزردشتية قبل اعتناقهم الإسلام، و لكن الوثائق التاريخية تشير إلى أن معظم الأكراد كانوا من أتباع الديانة اليزدانية، والتي اختلطت كثيرا مع الزرادشتية، و لكنها حافظت على خطها العام المستقل عن الزردشتية.
في الواقع ان اليارسانية، أو كما تسمى الكاكائية، هي عقيدة ذات جذور ميثرائية، تختلط بها معتقدات إبراهيمية، متأثرة بالاسلام بالمذهب الشيعي، ومنتشرة بين جزء من الكُرد في العراق وإيران، وتعني كلمة يارسان عشاق الله (أو أحباب الله)، ويمكن القول ”يارستان“ في إشارة للبقعة الجغرافية لتواجد اليارسانيين، أما تسمية الكاكائية فهي قادمة من الكلمة الكُردية كاكا، التي تقال للاحترام بمعنى أخي الاكبر، ونظراً لكثرة استعمال تلك الكلمة لمخاطبة بعضهم، فقد أشار اليهم الآخرون اسم ”الكاكائيون“.
ويطلقون أيضا عليهم أسماء لا يحبذونها مثل تسمية ”أهل الحق“ في إيران، والتسمية جاءت جراء التقسيم الديني في إيران، حيث يقال أهل التشيع رمزاً للشيعة، وأهل التسنن رمزاً للسنة، وأهل الحق رمزاً لليارسانيين الكاكائيين
غالبية الكاكائيون يعتقدون انهم مجرد فرقة اسلامية، وقلة منهم يقول أنهم ديانة خاصة، لكن وبعد استعراض أفكارهم ومعتقدهم يمكن للقارئ أن يكشف ماهية اليارسانية الكاكائية ويجيب نفسه هل هي دين مستقل أم طائفة اسلامية، وقد صرح الكثير من الأدباء (من غير اليارسانيين)، بخصوص إستقلالية الفكر اليارسانية، وأن هناك خوف ذاتي لاشعوري رافق الانسان اليارساني، جعله لا يلجئ إلى تقديم أفكاره ككيان عقائدي مستقل.
من هم الكاكائيون؟
شهادات الباحثين
يجزم كثيرون ان الكاكائية هي طائفة مسلمة شيعية (شيعة الامام علي) مالت إلى المغالاة في محبة الإمام (علي بن أبي طالب)، فعمدوا الى تأليهه (العلي الهية) وبنفس الوقت تأثروا بالأديان المحيطة بهم.
وجد بعض الباحثين في تاريخ الكاكائية صلة بين الكلمة الكردية كاكا (الأخ الأكبر) وتنظيم الفتوة البغدادي، والمعروفة بـ (الأخية)، التي شجعها الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت 622 هـ) الذي جعل من نفسه الفتى أو الأخ الأول، فيذكر أن حفيده المستنصر قد لبس سراويل الفتوة بمرقد الإمام علي بن أبي طالب بالنجف. وبهذا المعني قصد المستشرق الروسي (فلاديمير مينورسكي) الكاكائية في ما قاله حول العلي إلهية:
” من طريف عاداتهم المؤآخاة. وعلي بن أبي طالب عند الأخيين (الكاكائيين) مثال الفتى أو الكاكا الأول، وتأريخياً لهذه الفكرة صلة بالقول المشهور: لا فتى الاّ علي، ولا سيف إلاّ ذوالفقار.”
ويفسر الأب انستاس الكرملي (ت 1948م) الكاكائية، كمصطلح وكيان، لفظة كاكائي ليست أسم قبيلة، أو أمـّة، أو قوم، أو بلد، إنما هي لفظة كردية الأصل، معناها: الأخ، فقالوا في واحدها العائد إلى هذه الجمعية السرية: (كاكا) على الطريقة الآرامية العراقية، ومنهم من يلفظها (كاكائي)، مفرداً وجمعاً. فانظر كيف جمعوا في لفظة واحدة الكردية والآرامية، وهم يريدون بذلك الأخ في المذهب.
وفي رأي آخر، ورد في تقرير الاستخبارات البريطانية:” أن الكاكائية بالأصل طريقة صوفية، (“دروشة” من الدراويش)، سواء من ناحية التنظيم أو المنشأ التاريخي، ومؤسسها حسب التقرير هو سلطان إسحاق بن عيسى البرزنجي. وينقل عباس العزاوي، عن كاكائيين شفاهة، أنهم عدّوا إسحاق أول ظهور بعد علي بن أبي طالب. بمعنى أنه المؤسس للكاكائية ومرقد إسحاق لازال مزاراً كاكائياً في جبل هاورامان”.
يصف مينورسكي مكان المزار، أثناء رحلته العام 1914م، بقوله: “استطعت أن أزور قبلة مقدسة للعلي إلهيين، قرية بيرديور في هاورامان، وهي قابعة وراء قمم وصخور وعرة، وتعتبر هذه البقعة من الأماكن الرائعة الجميلة الخلابة من حيث المناظر الطبيعية. وقيل ان أحد رؤساء الكاكائية المؤسسين كان من السادة البرزنجية في أنحاء السليمانية، فبنى تكية في قرية برزنجية، وضعت لسقفها العمد، ولكنها قصرت عن جدار البناء، فقال لأخيه: مدها أيها الأخ، كاكا، ومن ثم مدّها فطال الخشب كرامةً، وصاروا يدعون بالكاكائية لهذه الحادثة.
مزارات الكاكائية
وقال الاب انستاس الكرملي، مستنتجاً من شهادة كاكائي صبأ عن ملته، تعرف عليه في العام 1896م ببغداد، يدعى بسعو بن جمو، أن الكاكائية: “طائفة خفية المعتقد والمذهب، مبثوثة في كركوك وأنحائها، ولهذا لم يذكر وجودهم أحد من الكتبة والمؤرخين، لأنهم يخفون رأيهم الديني على كل إنسان”.
وخلاف ما ذكر الكرملي من أن الكاكائيين اختاروا النصرانية على كل دين سواه أكد عباس العزاوي، أثناء تجواله بالمنطقة، إسلامية عقائد الكاكائية، مع وجود الغلو فيها، على حد زعمه، المتصل بالحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ)، وأنهم يحرمون الخمر، ويحترمون يومي الاثنين والجمعة، ويقرؤون الأدعية الخاصة فيهما، ويقرون الطلاق، ولكن برضا الرجل والمرأة، فهو عندهم كعقد الزواج، لا يجوز إلاّ برضاء الاثنين، لكنهم لا يبيحون تعدد الزوجات، وأن لا يتزوج الشيخ ابنة مريده، ولا يتزوج المريد ابنة شيخه. خلا ذلك ردّ رئيس الكاكائية على سؤال عباس العزاوي حول حبهم لعلي، بسؤال أحرج الأخير، قال: وأنتم هل تكرهونه؟، ثم أردف قائلاً حول ما يشاع عنهم: ليس لنا من هذا النوع أكثر من أننا مسلمون، نؤمن بالقرآن. ومن أهم كتب الكاكائية، المشتركة مع أهل الحق والعلي إلهيين خطبة البيان..”
قال حاجي خليفة (ت 1067 هـ): “منسوبة إلى علي بن أبي طالب، وهي سبعون كلمة، أولها: الحمد لله بديع السموات وفاطرها.. ألخ، قيل انها من المختلقات، ولها شرح بالتركية. ومن كتبهم أيضاً جاودان عرفي وهو كتاب الطريقة الحروفية، وكتاب حياة والتوحيد لسلمان أفندي الكاتبي، وسرانجام. إضافة إلى دواوين شعرية تتلى كأدعية وابتهالات. حدد تقرير الاستخبارات البريطانية حول المنطقة، حدود تواجد الكاكائية كالآتي: شمالاً بارون داغ والتلال المجاورة، جنوباً الطريق الرئيسي الواصل بين تازه وطوز خورماتو، وشرقاً منطقة حويجة، وغرباً السهل الممتد شمال جبل حمرين، وقره على داغ. وأشار التقريرالى موطنهم الرئيس بالعراق بناحية طاووق بكركوك وبين خانقين وقصر شيرين على الحدود العراقية الإيرانية، وعلى ضفاف الزاب الكبير، ويعرفون هناك بالصارلية، كما لهم تواجد ملحوظ بتلعفر.”
أما مزاراتهم التي اشترك فيها أغلب العلي إلهيين بما فيهم (أهل الحق)، فهي: (مزار سلطان إسحاق) في جبل هاورامان، (ومزار سيد إبراهيم) بين مقبرة الشيخ عمر والباب الأوسط ببغداد، و(دكان داوود) وصاحب المزار المذكور خليفة السلطان إسحاق يقع بين سربيل وباي طاق، في كهف جبل. و(مزار زين عابدين) في داقوق، وأصل محله كنيسة. و(مزار أحمد) بكركوك، بمحلة المصلـّى، و(مزار عمر مندان) بكفري، وهو غير عمر مندان الواقع في طريق كركوك – أربيل.
والكاكائية مذهب علوي عراقي. وهناك من وجد في كتابيهما سرانجام و فرقان الأخبار مذهباً فلسفياً لهم، مع الاعتراف بأن هذا المذهب لا يتعدى الاعتقاد بمجموعة من القصص البسيطة التي وردت في الكتاب الأول، وجوهر فلسفتهم: أن الإله يتجسد في صور متعاقبة عددها سبع (ادناه)، وهم يشبهون تجسيد الإله بثياب يلبسها، فالتجسيد معناه عندهم الظهور أو الحلول في لباس.. والإله يظهر في كل مرة ورائه أربعة أو خمسة من الملائكة، وهو يؤلف معهم فئة متحدة.
تواجدهم
يعيش اليارسانيون أو أهل الحق في غرب إيران وبالتحديد محافظة کرمانشاه، وأيضاً في منطقة كركوك في شمال العراق، بينما اليارسانيون أو أتباع أهل الحق من الأكراد يعيشون في مندلي وخانقين وبعقوبة في محافظة ديالى، و كذلك في أربيل والسليمانية والموصل وبغداد، وتقدر أعدادهم في العراق بأكثر من مليون نسمة.
يعتقد أهل الحق أن الألوهة (الحق) تتجلَى بنفسها في سلسلة من المظهريات تُسمَى أدواراً وتكتمل بالرقم سبعة، الدور رقم أربعة هو السلطان إسحق البرزنجي مؤسس الديانة في القرن الرابع عشر، وخمسة هو المسيح وستة هو الإمام علي، ويعتقدون أن الإمام المهدي سيأتي لإتمام الأدوار السبعة. يؤمن أتباع اليارسانية بتناسخ الأرواح ولا يعتقدون بعذابات القبر، ولا يلعنون أياً من المخلوقات، ومن بينها الشيطان. يطلقون شواربهم، ويحرَمون حلاقتها أو تشذيبها إذ يعتقدون أنهم يتوارثونها من الإمام علي نفسه. ويؤمنون أن الخالق الأعظم لايدير شؤون العباد بصورة مباشرة بل عن طريق تجسدات ومنها ستة لحد هذا العصر . يطلق على الكتاب المقدس لأهل الحق “سه ر ئه نجام (سنچنار)” و هو كتاب باللغة الكردية و تعني بالعربية النتيجة العظمى .
اطلاق الشوارب
أصل كلمة يارسان…
كلمة يارسان : مفردة مركبة من كلمة (يار)و يعني المحبوب أو العاشق أو المتصوف و (سان) و يعني ذو الشأن أو ذو الوزن أو ذو المكانة. و هناك رأي آخر يقول بأن كلمة (سان) يعود أصلها إلى (سان سهاك) و هي مختصر كلمة (سلطان إسحاق) و عليه فإن أصل الكلمة تعني أتباع وأحباب و مريدوا وعشاق (سلطان إسحاق البرزنجي بن شيخ عيسى بن بابا علي الهمــداني). و له من أبنائه (7) أبناء وهم السيد (محمد) ويدعون بـــ (شاه إبراهيمي) و الثاني هو السيد (عبد الوفاء) و يدعون بــ (الخاموشيين) و الثالث هو السيد (مير احمد) أو (مير سوور) و يدعون بـــ (الميريين) و الرابع هو السيد (مصطفى) ويدعون بـــ (المصطفايين) والخامس هو السيد (شهاب الدين) ((الذي أنجب أربع بنات اشتهرن بورعهن وهن، أولا زوجة سيد مصطفي المعروف ببير شهريار، والثانية هي زوجة شيخ محمد المعروف ببابا مردوخ وهي والدة ابنه مولانا كوشايش ناشر الدين في هورمان والبنت الثالثة والرابعة هن زوجتا بير محمد وبير شمام)) ، والسادس هي السيدة (حبيبه شاه) و هي أيضاً مجردة ليست لها أولاد لعدم دخولها الحياة الدنيوية والسابع هو السيد (باويسي) و يدعى بـــ (علمدار) أو (الباويسيين) .
و يعتبر هؤلاء السادة مشايخ وسادات اليارسانيين ويدعون بــ (پیر) أي الشيخ الديني ويديرون المراسم الدينية في طقوس خاصة لا يشارك فيها غير الأتباع أو المريدين ويصنفون بالمرتبة الثانية (صف هفتوانه) أي السبعة.
و يأتون بالمرتبة الثانية بعد صف (هفتن) أي الأجساد السبعة وهم (پیر بنيامين (الرسول)، داوود (الدلیل)، پیر موسي (دفتر دار)، كاكه مصطفا (كماندار)، يادگار (زردوبام) – أي الشمس المتوهجة. ئيوت (هوشيار – أي الذي يوقض الناس يوم الحشر بنفخهِ الصور.
و المرتبة الثالثة هم صف (هفت خليفة) وهم خليفة محمد وخليفة عزيز وخليفة شاشا وخليفة شابدين وخليفة باپیر وخلیفه جبار وخلیفة أمير. و هؤلاء مساعدو الپیر في أداء الطقوس والمراسم الدينية. و يليه هؤلاء المرتبة الرابعة (72 پیر) و هم مرشدو المريدين.
من هم الكاكائيون؟؟؟ طقوسهم وعاداتهم…
الكاكائية نسبة إلى كلمة (كاكا) ية وتعني “الأخ الأكبر” وبهذا تكون الترجمة الحرفية لكلمة الكاكائية (الأخوية) وهي إحدى المجموعات الكردية التي تحيط عقائدها الغموض والسرية والرمزية، ويتبعون الجانب الروحي والتصوفي الإسلامي وموطنها الرئيس هو مدينة كركوك، وعلى ضفاف نهر الزاب الكبير في منطقة الحدودالعراقية الإيرانية و خانقين ومندلي وجلولاء واربيل وسليمانية وهورامان وبغداد، وكذلك في إيران في قصر شيرين وصحنة وكرماشان وسربيل زهاو. وهم في تلعفر والكاكائية اغلبهم طريقة صوفية أو روحية ظهرت إلى الوجود على يد فخر العاشقين سلطان اسحاق البرزنجي المولود سنة 671 للهجرة. و هو مؤسس ومجدد هذه الطريقة الصوفية.
تقوم معتقدات الأقلية الكاكائية على أربعة أركان أو شروط هي: الطهارة والصدق والفناء والعفو، وهي تؤمن بتناسخ الأرواح، ومن الكتب التي تعدّ مقدسة بحسب معتقدهم: كلام الخزانة أو “سرانجام” الذي يعود إلى القرنين السابع والثامن الهجري، ويتكون من ستة أجزاء، بيد أنّ هذا الكتاب غير متوفر إلا لدى أبناء الطائفة فقط، ولم يُطبع أو يُتداول.
وتتعدد المزارات الدينية للطائفة الكاكائية ومن بينها: مزار سلطان إسحاق الموجود في جبل هورامان بإقليم كردستان العراق، ومزار سيد إبراهيم ببغداد، والباب الأوسط ببغداد، إضافة إلى دكان داود بقصر شيرين بإيران، ومزار باوة محمود في خانقين.
ويخضع الزواج في الطائفة الكاكائية لشروط القانون المدني في العراق، وهم ملتزمون به، ولا يختلف كثيرا في شروطه وإجراءاته وطقوسه عن الزواج في الإسلام. وهناك بعض الأمور العقدية المعروفة عنهم، مثل: تحريم الخمر، ومنع تعدد الزوجات، ورفض الطلاق إلا إذا كان برضى الطرفين.
ويتميز الكاكائيون بالشارب الطويل الذي يعد إرثاً ثقافياً ودينياً، يحافظون على استمراريته، إضافة إلى زيهم المميز الذي يتكون مما يعرف محليا بـ”الصاية”(القنباز)، وهو رداء طويل يشبه العباءة البدوية، و”الجاكيت”، وربطة الرأس التقليدية.
الفلسفة العقائدية اليارسانيةاليارسانية عهدين، عهد قديم يمتد لـ(٥٠٠٠ ق.م – ٣٠٠٠ ق.م)، تصل جذوره للميثرائية، والميثرائية من الاسم ميثرا، حيث كلمة ميثرا الهندواوروبية أصلها ميهر، ومنها كلمة Mercy أي الرحمة، فأتباع الميثرائية كان يقصد بهم اتباع إله الرحمة.
من الموروثات الميثرائية المتنقلة بشكل لاإرادي هي نار نوروز، ويبين المقطع الديني اليارساني المترجم للعربية احد الموروثات، حيث يقول المقطع: ”عندما تجلس في بيت النار الزرادشتي، وكأنما أنت جالس في المعبد“؛ أما العهد الجديد فيعود إلى أيام الخلافة العباسية، أي بعد ظهور المعتقدات الإبراهيمية كافة.
والفكر اليارساني يقسم الأديان والمعتقدات والطوائف والأفكار على أسس معينة، وهي:
أديان وأفكار الشريعة: و مثالها الديانة اليهودية والاسلامية وما شابهها.
أديان وأفكار الطريقة: مثالها البكتاشية والإسماعيلية وما شابهها.
أديان وأفكار المعرفة: وتشمل الجانب المُجدد في كل معتقد، مثل الطائفة الإنجيلية البروتستانتية في المسيحية.
أديان وأفكار الحقيقة: وتشمل الاديان النورانية، معتقدات وطوائف وأفكار اهل جبال زاكروس مثل الزرادشتية والايزيدية ويضاف إليها اليارسانية (وهنا جاء أصل تسمية أهل الحق في إيران).
مناسبات خاصة باليارسانية (الكاكائية)
عيد نوروز: ٢١/٣ من كل عام، وهو لديهم بمثابة عيد عرقي اثني وعقائدي، ويصادف يوم تجلي (ميلاد) السلطان سهاك.
عيد خاوندكار: يعتمد على التقويم القمري، ويقع ضمن الأشهر الثلاثة الشتوية.
عيد قول تاس ”عيدي شاهي“: يعتمد على التقويم القمري، ويقع ضمن الأشهر الثلاثة الشتوية أيضاً، لكنه يأتي بعد عيد خاوندكار. ويسبق كلا المناسبتين (خاوندكار و عيدي شاهي)، صوم لثلاثة أيام غير ملاصقة بالمدة الزمنية للمناسبتين.
الكتاب المقدس اليارساني والمراتب الدينيةيسمى كتابهم كتاب ”سَرئَنجام/سهرئهنجام“، أي كتاب النتيجة العظمى، باللغة الكُردية، وباللهجة الگورانية، ويتكون كتاب ”النتيجة العظمى“ من مجموعة من الأناشيد والتعاليم الدينية لليارسانية الكاكائية. وترتيب الطبقات الدينية والدنيوية من الأعلى الى الأسفل هي:
پير (و يطلق على بعض الپيرات تسمية باوه).
دليل.
العامة من الناس.
المرتكزات اليارسانية الأساسية
الصدق و العدل.
النظافة و الطاهرة.
التواضع و نكران الذات.
الرضى والقناعة.
وتمتد قراهم من أقصى شرق العراق في مناطق حلبجة والسليمانية بإقليم كردستان العراق، وغربا نحو مناطق طوزخورماتو وخانقين وهورامان وداقوق وحتى سهل نينوى في أقصى شمال غربي مدينة الموصل ، وتنتشر الكاكائية في مدينة كركوك، التي تعد موطنها الأصلي، وعلى ضفاف نهر الزاب الكبير، على الحدود العراقية الإيرانية ، وينتمي أغلب أتباعها لمنطقة كردستان الجنوبية، بحسب الباحث العراقي المتخصص في علم تاريخ الأديان والحضارات، الدكتور خزعل الماجدي.
وضع اليارسانية
الانتماء الكردي
اليارسانيون (الكاكائيون) مسالمون بطبيعة الحال، وقد تعرضوا لهجمات ضدهم وتم اتهامهم بالكفر، وقد كانوا أيضاً ضحية لهجوم تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق سهل نينوى، وتم تفجير مزارات خاصة بهم؛ التي تمتاز بقبابها الخضراء.
وكانت قوات البشمركة الكردية مسؤولة عن أمن هذه المناطق حتى منتصف تشرين الأول 2017، لكن الواقع تغيّر بعد تنفيذ عملية “فرض القانون” من قبل الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي، وفرض سيطرتهما على المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى وصلاح الدين ونينوى، والذي جاء ردا على الاستفتاء في إقليم كردستان بتاريخ 25 ايلول من العام ذاته .
وأخيراً.. ليس للكاكائيين نشاط سياسي كبير، بيد أنّهم حاولوا بشكل عفوي وغير منظم البحث عن تمثيل سياسي لهم في البرلمان العراقي، وحاولوا منذ اجتياح العراق من اميركا وقوات التحالف في العام 2003، الحصول على بعض الحقوق والامتيازات القانونية والمدنية في المجتمع وحمايتهم كأقليات، كما شكلوا ميليشيات عسكرية مع القوات الكردية، إثر التهديدات التي مثلتها لهم داعش. وقبل أعوام قليلة؛ تعرضت طائفة الكاكائية، لمصير مشابه لطائفة الايزيدية من ذبح من قتل وذبح واغتصاب، ناهيك عن أسواق بيع النساء، وقد احدثت صدمة مدوّية للإنسانية، حيث كشفت نادية مراد، الفتاة الإيزيدية، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، إحدى الناجيات من قبضة التنظيم الإرهابي، ما تعرضت له من تنكيل وتعذيب، وعنف جنسي، إضافة إلى العثور على مقبرة جماعية للإيزيديين، تضمّ رفات أبناء طائفتها، الذين قتلهم تنظيم داعش في قرية تل عزير، بمدينة سنجار، شمال العراق، والتي تضاف إلى عشرات المقابر الجماعية التي تم اكتشافها، منذ العام 2014. حيث استهدفها تنظيم داعشبفتاوى تبيح قتلهم، وممارسة شتى صنوف العدوان عليهم واضطهادهم، فقُتل عدد منهم، ونزح آخرون من قراهم ومدنهم، بلغوا نحو 10 آلاف شخص، ونسفت مزاراتهم الدينية، الموجودة بمدينة نينوى، بعدما أصدرت ما تعرف بـ “المحكمة الشرعية”، التابعة لتنظيم داعش في مدينة الحويجة، غرب كركوك، فتوى تبيح قتل أتباع الطائفة التي ينتسب إليها الأكراد، ويتمركزون في جنوب وغرب كركوك، وسهل نينوى
زرادشت هو مؤسس ديانة وثنية قديمة تعرف باسم الزرادشتية أو الماجوسية ، وقد عاش هذا الرجل في بلاد فارس (إيران الحالية )، وقد سيطرت تلك الديانة على بلاد فارس حتى منتصف القرن السابع الميلادي، عندما بدأ الإسلام في الانتشار في تلك المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية وهي أخر إمبراطورية فارسية قبل الإسلام.
من هو زرادشت
إن المصادر التاريخية لم تحتوي على أي إشارة موثقة للفترة الزمنية التي عاش فيها زرادشت بالتحديد ، وقد عاشزرادشت في بلاد فارس الشرقية وقد أشارت بعد الدراسات إلى أنه قد عاش في آسيا الوسطى في منطقة السهوب الآسيوية الداخلية في كازاخستان ، ويقال أن زرادشت كان كاهنًا وأنه كان أحد أبناء عائلة سبتميد وهو ابن بوريساسبا الفارسي النبيل ، وقد ادعى زرادشت وهو في سن الثلاثين أنه قد تلقى الوحي الإلهي وأنه شاهد عدد من الرؤى من الله ، وقد حاول أن ينشر ديانته ولكنه لم ينجح .
وكان قبل ظهور هناك دين وثني أخر في بلاد فارس له عناصر تنطوي على عبادة الأصنام والحيوانات والأرض والشمس وكانت لها قواسم مشتركة مع الديانة الفيدية في الهند ، وكانت طقوس تلك الديانة تنطوي على ذبح الحيوانات ، وقد رآى زرادشت أن ذلك العمل غير أخلاقي ، فأكسبه ذلك عداوة من يطلق عليهم اسم الكاربان ، وهم مجموعة الكهنة المكلفين بأداء طقوس الديانة القديمة في بلاد فارس .
كما اكتسب أيضاً عداوة مجموعة من النبلاء في بلاد فارس أطلق عليهم اسم الكاويين ، وقد صورتهم الكتب الزرداشتية بأنهم كانوا أصحاب القوة الاجتماعية والنفوذ في ذلك الزمن ، وأن زرادشت أضطر أن يهرب من موطنه خوفًا منهم ، وتقول الأسطورة أن زرادشت أثناء سفره قابل حاكم محلي يدعى فيشتاسبا وأن زرادشت استطاع أن يشفى حصان الحاكم بطريقة تبدو مثل المعجزة ، فسمح له هذا الحاكم بنشر ديانته بحرية ، وبدأ زرادشت يكتسب اتباع جدد وانتشرت أفكاره بسرعة ، وظل ينشر أفكاره لعقود حتى تم اغتياله وهو في السابعة والسبعين من عمره بينما كان يصلي في المذبح على يد كاهن لديانة أخرى منافسة للزرادشتية.
رأى زرادشت أن الآلهة الفارسية القديمة لم تكن تستحق العبادة، وقد بنى دعوته على فكرة وجود صراع افتراضي بين إله الخير “أهورامزدا ” وبين الخصم الشرير لأهورا واسمه “أنغراماينيو” ، وأهورا مازدا من وجهة نظر زرادشت هو إله خير وحكيم، وأن الإنسان يجب أن يجب أن يدعم هذا الكفاح من الخير عن طريق عيش حياة فاضلة لأن هذا يدعم أهورا ضد خصمه، وقدبشر زرادشت أن أهورامازدا هو الإله الأعلى خالق الكون ومع ذلك فإنه لم يكن يتمتع بقدرات غير محدودة، ولكن قدراته كانت متكافئة مع أنغوا ماينيو على مدار آلاف السنين حتى ظهر زرادشت، فبدأت المعركة تحسم لصالح أهورا مازدا.
زرداشت
وقد روج زرادشت أن أهورا مازدا في النهاية سوف يحسم الأمر وينتصر على عدوه في معركة نهائية وسوف يدمر كل الشر ويعيد ترتيب الكون ويجمع بين السماء والأرض، وقد شدد زرادشت فكرة الإرادة الحرة وعلى المسؤولية الأخلاقية للفرد وأن اي قرار يتخذه يجب أن يكون فرصة لتدعيم الخير ضد الشر لذلك من المهم أن يعرف الإنسان ما هو الخير وما هو الشر وأن قدرة البشر على التفريق بينهما هي التي تميزهم عن الحيوانات.
وقد أنشأ زرادشت كتاب ديني أو مدونة أخلاقية تسمى أبستاق أو أفيستا وقد تضمنت تعاليم زرداشت قول الحقيقة والإحسان إلى الزملاء ومحبتهم والاعتدال في تناول الطعام والصدق في التعامل مع الآخرين والوفاء بالوعود، ووفقًا للأفيستا فإن واجب الفرد له ثلاثة جوانب: وهي تكوين الصداقات من بين الأعداء وجعل الأشرار صالحين وتعليم الجاهل، ولكن من الصعب الآن معرفة إذا ما كانت تلك التعاليم قد طورها زرادشت بنفسه أم ابتكرها اتباعه من بعده.
أساطير حول زرادشت
يرى بعض المؤرخين أن زرادشت لم يكن شخص حقيقي موجود، ومع ذلك لم يتوقف اتباع زرادشت عن نسج الأساطير حوله، ومن بين تلك الأساطير أن هناك ملاك دخل إلى الأض ثم دخل إلى جسد الكاهن زرادشت من خلال العصير الذي كان يشربه في أحد الاحتفالات الدينية، وفي نفس الوقت دخل مجد السماء في صورة شعاع من الضوء إلى صدر خادمة ملكية، وقد تزوجت تلك الخادمة من كاهن وأنجبا زرادشت وهو نتيجة تزاوج الملاك مع مجد السماء.
ومن أجل السعي للوصول لنهاية الحكمة انسحب زرادشت من المجتمع وعاش في البرية، فقام الشيطان بإغوائه ، ولكن زرادشت لم يستجيب للإغواء، وقام بعدها بزيارة أهورا مازدا الذي سلمه الكتاب المقدس للزرادشتيه وطلب منه أن ينشر ديانته الجديدة.
شعار الزرداشتية
وقد استمدت الزرادشتية شرعية في عهد الدولة الإخمينية ببلاد فارس في القرن السادس قبل الميلاد، كما تبنتها الأسرة البارثية والإمبراطورية الساسانية، ومنحت الكهنة الزرداشتيين قدراً كبيراً من النفوذ والقوة حتى سقوط الزرداشتية بدخول الاسلام إلى بلاد فارس بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية.
ماهي الديانة الزرادشتية
الزرداشتية دين فارسي قديم يؤمن بالثنائية، أسسه زرداشت كما ورد واكتمل تكوينه في القرن السابع قبل الميلاد. كان له تأثيره البالغ على عقائد الديانة اليهودية والبدع والهرطقات المسيحية، وتتمتع الزرادشتية بأخلاق اجتماعية قوية إيجابية، فالعمل هوملح الحياة ولكن خلق الشخص لا يعبر عنه فقط فيما يفعل ويقول، بل بأفكاره، فلا بد للناس أن يقهروا بعقولهم الشكوك والرغبات السيئة وأن يقهروا الجشع بالرضا، والغضب بالصفاء والسكينة، والحسد بالإحسان والصدقات، والحاجة باليقظة والنزاع بالسلام، والكذب بالصدق.
ولم يبق من تعاليم زرادشت إلا سبع عشرة ترنيمة تسمى الجاثات GA-THAS.
احتفال الزرداشتيين بمنتصف الشتاء
أما الكتاب المقدس عند الزرادشتيين فهو الابستاق Avesta وهي كلمة فارسية تعني الأصل أوالمتن، والأرجح أن تدوينه تمَّ بعد القرن الخامس الميلادي، ولم ينج الابستاق من التخريب إذ لم يبق منه إلا الأناشيد والترنيمات المذكورة وترنيمات «اليشتا» Yashts والصلوات.
والله في الزرادشتية هوالموجود الأعظم والأفضل والأسمى، لايصدر عنه إلا الخير أما الشر، فيرجع إلى الشيطان «اهريمان» Ahriman،الروح المسؤولة عن كل شرور العالم وعن الأمراض والموت والغضب والهمّ. وبهذا تصور الزرادشتية تاريخ العالم أنه تاريخ الصراع بين الله والشيطان الذي ينقسم إلى أربع فترات تمتد كل منها ثلاثة آلاف سنة… يتأكد في نهايتها دوام الخلق الطيب وهزيمة الشيطان.
وترى الزرادشتية العالم كصراع مستمر بين القوى الكونية المستقلة. وفي معتقدات هذه الديانة فإن اهورمزدا هو رب الخير أو الحكمة وخالق العالم المادي، وانجرامينو هو رب الموت وروح الشرّ، وأن الإنسان هو كائن حرّ وعليه واجب مساعدة الانتصار لأهورا مازدا. انتشرت هذه الديانة في ايران خصوصاً بعد ثمانية قرون من موت زرادشت، وبعد أن انحسرت إلى حد ما، ديانة الماجي المجوسية التي اقتصرت حينها على الملوك والكهنة.
بشّر زرداشت بالقوة الشافية للعمل البنّاء، و قدّم مذهباً أخلاقياً يتألف القسطاس فيه من العدل والصدق والاعمال الجيدة. النار والشمس هما رمزا اهورامزدا، ولذلك ترتبط هذه الديانة بما يشبه عبادة النار.
افستا هو مختارات من الكتاب المقدس لهذا الدين، ولا تزال باقية حتى الان. كتبت هذه المختارات باللغة الأفيستانية، وهي لغة وثيقة بالفارسية القديمة والسنسكريتية الفيدية. جُمع هذا الكتاب بعد وفاة زرداشت بزمن طويل، وتعرض للضياع عدة مرات. ويشمل خمس قصائد قديمة.
احتفال زرداشتي في ايران
ورغم انحسار الزرداشتية كديانة كانت واسعة الانتشار، إلا أن آثارها ظلت واضحة على العهدين القديم والجديد.
من هم الماجوس او المجوس
المجوس لا هم شعب، ولا هم إثنية فارسية تعبد النار كما يتصوّر بعض الجهال اليوم. وكلمة «مجوس» أطلقها العرب في جاهليتهم على جيرانهم من أتباع الديانة الزرادشتية في بلاد فارس. وهي كلمة مشتقة من لفظة «مگوس» بالفارسبة التي تعني الحكماء الذين یفسرون الأحلام والمنامات والرؤى. وهذا الذي ورد من ترقب المجوس لمولد السيد المسيح كما في كتبهم، واستدلوا من ولادة نجم كبير مضيء على اعتبار ان لكل انسان في الكون نجم في السماء، هذا النجم المضيء قادهم بما يشبه المعجزة من بلاد فارس الى مغارة بيت لحم في فلسطين للسجود له وتقديم الهدايا اللائقة بهذا المولود العظيم. فقدموا هداياهم للطفل يسوع من ذهب كونه ملك عظيم ولبان او بخور كونه الكاهن الاعظم ومرللدلالة على الالام التي كان مزمعا ان يتعرض لها وصلبه وموته.
رموز الزرداشتية
للزرادشتية رموز دينية، كالهنود والسيخ، يعبرون بها عن الإيمان بمعتقداتهم، وتعد جزءاً من زيهم اليومي، أهمها:
1ـ الكوشتي Kushti وهوجعل فيه اثنان وسبعون خيطاً ترمز لأسفار «اليسنا» Yasna وهي تعقد مرات عديدة في اليوم تعبيراً عن تصميم الدين والأخلاق معاً.
2ـ ارتداء قميص «الساندر» Sandre منذ سن البلوغ، ويرتدي الكهنة رداء أبيض وعمامة بيضاء وقناعاً على الفم أثناء تأدية الطقوس تجنباً لتلويث النار المقدسة بأنفاسهم.
3ـ صلاة الصبح «كاه هاون» وصلاة الظهر «كاه رقون» وصلاة العصر «كاه أزيرن» وصلاة الليل «كاه عيون سرتيرد» وصلاة الفجر «كاه اشهن: وهناك احتفالات وصلوات خاصة لجميع المناسبات الكبرى في الحياة : الميلاد والبلوغ والزواج والإنجاب والموت.
4ـ وضع الجثة فوق «أبراج الصمت» لتأكلها الطيور الجارحة وهناك طقوس وأعمال عبادة وتطهر.
كان أكبر الآلهة في الدين السابق للدين الزردشتي مثرا إله الشمس ، وأنينا إلهة الخصب والأرض ، وهَوْما الثور المقدس الذي مات ثم بعث حياً ، ووهب الجنس البشري دمه شراباً ليسبغ عليه نعمة الخلود. وكان الإيرانيون الأولون يعبدونه بشرب عصير الهَوْما المسكر وهو عشب ينمو على سفوح جبالهم. وهال زردشت ما رأى من هذه الآلهة البدائية ، وهذه الطقوس الخمرية ، فثار على المجوس أي الكهنة الذين يصلون لتلك الآلهة ويقربون لها القرابين، وأعلن في شجاعة لا تقل عن شجاعة معاصريه عاموس واشعيا عند العبرانيين في العهد القديم أن ليس في العالم إلا إله واحد هو في بلاده أهورا- مزدا إله النور والسماء، وأن غيره من الآلهة ليست إلا مظاهر له وصفات من صفاته. ولعل دارا الاول حينما إعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً ملهماً لشعبه، ودعامة لحكومته، فشرع منذ تولى الملك يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس ، وجعل الزردشتية دين الدولة.
كعبة زرداشتية
وكان الكتاب المقدس للدين الجديد هو مجموعة الكتب التي جمع فيها أصحاب “النبي المؤسس” ومريدوه أقواله وأدعيته. وسمى أتباعه المتأخرين هذه الكتب الابستا( الابستاق)، وهي المعروفة عند العالم الغربي بإسم الزند- أبستا، بناء على خطأ وقع فيه أحد العلماء المحدثين. ومما يروع القارئ غير الفارسي في هذه الأيام أن يعرف أن المجلدات الضخمة الباقية – وإن كانت أقل كثيراً من كتاب التوراة – ليست إلا جزءاً صغيراً مما أوحاه إلى زرسترا إلهه.
وهذا الجزء الباقي يبدو للأجنبي الضيق الفكر كأنه خليط مهوش من الأدعية، والأناشيد، والأقاصيص، والوصفات، والطقوس الدينية، والقواعد الخلقية، تجلوها في بعض المواضع لغة ذات روعة، وإخلاص حار، وسمو خلقي، أو أغانٍ تنم عن رقي وصلاح. وهي تشبه المزامير ونشيد الانشاد في العهد القديم من الكتاب المقدس فيما تثيره في النفس من نشوة قوية. وفي وسع الدارس أن يجد في بعض أجزائها ما يجده في الرج- فدا من آلهة وآراء، ومن كلمات وتراكيب في بعض الأحيان. وتبلغ هذه من الكثرة حداً جعل بعض علماء الهنود يعتقدون أن الأبستاق ليست وحياً من عند أهورا- مزدا ، بل هي مأخوذة من كتب الفِدا. ويعثر الإنسان في مواضع أخرى منها على فقرات من أصل بابلي قديم، كالفقرات التي تصف خلق الدنيا على ست مراحل (السماوات ، فالماء ، فالأرض ، فالنبات ، فالحيوان ، فالإنسان)، وهي قصة الخليقة في التكوين بالعهد القديم وتسلسل الناس جميعاً من أبوين أولين، وإنشاء جنة على الأرض، وغضب الخالق على خلقه، واعتزامه أن يسلط عليهم طوفاناً يهلكهم جميعا إلا قلة صغيرة منهم. ولكن ما فيها من عناصر إيرانية خالصة يشتمل على كثير من الشواهد التي تكفي لصبغ الكتاب كله بالصبغة الفارسية العامة. فالفكرة السائدة فيه هي ثنائية العالم الذي يقوم على مسرحه صراع يدوم اثني عشر ألف عام بين الإله أهور- مزدا والشيطان أهرمان، وأن أفضل الفضائل هما الطهر والأمانة وهما يؤديان إلى الحياة الخالدة، وأن الموتى يجب أن لا يدفنوا أو يحرقوا، كما كان يفعل اليونان أو الهنود القذرون، بل يجب أن تلقى أجسامهم إلى الكلاب أو الطيور الجارحة. وكان إله زردشت في بادئ الأمر هو: “دائرة السماوات كلها” نفسها. فأهورا مزدا “يكتسي بقبة السماوات الصلبة يتخذها لباساً له، … وجسمه هو الضوء والمجد الأعلى، وعيناه هما الشمس والقمر”. ولما أن انتقل الدين في الأيام الأخيرة من الأنبياء إلى الساسة صُوّر الإله الأعظم في صورة ملك ضخم ذي جلال مهيب. وكان بوصفه خالق العالم وحاكمه يستعين بطائفة من الأرباب الصغار، كانت تصور أولا كأنها أشكال وقوى من أشكال الطبيعة وقواها- كالنار، والماء، والشمس، والقمر، والريح، والمطر. ولكن أكبر فخر لزردشت أن الصورة التي تصورها لإلهه هي أنه يسمو على كل شيء. وأنه عبَّر عن هذه الفكرة بعبارات لا تقل جلالاً عما جاء في سفر أيوب: “هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا: من ذا الذي رسم مسار الشموس والنجوم؟- ومن ذا الذي يجعل القمر يتزايد ويتضاءل؟ … ومن ذا الذي رفع الأرض والسماء من تحتها وأمسك السماء أن تقع؟- من ذا الذي حفظ المياه والنباتات- ومن ذا الذي سخر للرياح والسحب سرعتها- ومن ذا الذي أخرج العقل الخيّر يا أهورا مزدا؟”
وليس المقصود “بالعقل الخير” عقلاً إنسانياً ما، بل المقصود به حكمة إلهية لا تكاد تفترق في شيء عن “كلمة الله” يستخدمها أهورا مزدا واسطة لخلق الكائنات.
بارسي جاشان و هو طقس مجوسي لتبريك البيت الجديد
صفات أهورا مزدا
وكان أهورا مزدا كما وصفه زردشت سبعة مظاهر أو سبع صفات هي: النور ، والعقل الطيب ، والحق ، والسلطان ، والتقوى ، والخير ، والخلود. ولما كان أتباعه قد إعتادوا أن يعبدوا أرباباً متعددة فقد فسروا هذه الصفات على أنها أشخاص (سموهم أميشا إسبننا أو القديسين الخالدين) الذين خلقوا العالم ويسيطرون عليه بإشراف أهورا مزدا وإرشاده. وبذلك حدث في هذا الدين ما حدث في المسيحية فانقلبت الوحدانية الرائعة التي جاء بها مؤسسه شركا لدى عامة الشعب.
الملائكة والشياطين
الملائكة
الزرادشتيون هم أوّل من اعتقد بأنّ لله ملائكة، أو مساعدين للاله اهورامزدا. واعتبروا أنّ عددهم ستة، ويعرفون بـ «أميشا سبنتاس»، ومعناها «الخالدون المقدسون».
الملاك الحارس
وكان لديهم فضلاً عن هذه الأرواح المقدسة كائنات أخرى هي الملائكة الحرّاس. وقد إختص كل رجل وكل امرأة وكل طفل – حسب أصول اللاهوت الفارسي- بواحد منها. وكان الفارسي التقي يعتقد (ولعله كان في هذا الاعتقاد متأثراً بعقيدة البابليين في الشياطين) أنه يوجد إلى جانب هؤلاء الملائكة والقديسين الخالدين الذين يعينون الناس على التحلي بالفضيلة سبعة شياطين (ديو) أو أرواح خبيثة تحوم في الهواء، وتغوي الناس على الدوام بإرتكاب الجرائم والخطايا. وتشتبك أبد الدهر في حرب مع أهورا- مزدا ومع كل مظهر من مظاهر الحق والصلاح.
وكان كبير هذه الزمرة من الشياطين أنكرا – مينيوما أو اهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهريمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهريمان هو الذي خلق الأفاعي، والحشرات المؤذية، والجراد، والنمل، والشتاء، والظلمة، والجريمة، والخطيئة، واللواط، والحيض، وغيرها من مصائب الحياة. وهذه الآثام التي أوجدها الشيطان هي التي خربت الجنة حيث وضع أهورا مزدا الجدين الأعليين للجنس البشري.
ويبدو أن زردشت كان يعد هذه الأرواح الخبيثة آلهة زائفة، وأنها تجسيد خرافي من فعل العامة للقوى المعنوية المجردة التي تعترض رقى الإنسان. ولكن أتباعه رأوا أنه أيسر لهم أن يتصوروها كائنات حية فجسدوها وجعلوا لها صوراً مازالوا يضاعفونها حتى بلغت جملة الشياطين في الديانة الفارسية عدة ملايين.
الحور
أصل الاعتقاد بوجود هؤلاء الحوريات اللي بيشتغلوا مضيّفات استقبال في الجنة، مقتبس مما زعمه الزرادشتيون القدماء عن وجود نسوة غانيات حسناوات بيضاوات البشرة منيرات في السماء. وأن ممارسة الجنس معهنّ ( ومع ولدانهنّ.. أي «الولدان المخلّدون») ستكون مكافأة أبطال الحرب بعد مقتلهم في ساحة الوغى. – كلمة «حوري» في لغة أوستا (وهي من لغات الفرس القديمة) تعني النور، وكذلك المرأة المنيرة لشدة بياضها. والكلمة تنطق في اللغة الفارسية الحديثة «حُنور».
واستلهاما من هذه العقيدة الزرادشتية ( أو المجوسية ، كما يسميها المسلمون)، وأيضا اقتباسا من اللغة الفارسية، صاغ اجدادنا العرب عبارة «حور»، ويقصدون بها النساء الشديدات البياض. وقد استعمل القرآن هذا اللفظ ( في سورة الرحمن آية 72) {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ} .. {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُون} (سورة الواقعة آية22)
الثنائية
ولقد كانت هذه العقائد وقت أن جاء بها زردشت قريبة كل القرب من عقيدة التوحيد، بل إنها حتى بعد أن أقحموا فيها أهريمان والأرواح ظل فيها من التوحيد بقدر ما في المسيحية بإبليسها وشياطينها وملائكتها. ولعل الفكرة الزردشتية عن الإله كانت ترضي عقلاً يهتم بدقائق الأشياء وتفاصيلها كعقل ماثيو آرنلد. ذلك أن أهورا مزدا ، كان جماع قوّى العالم التي تعمل للحق، والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالتعاون مع هذه القوى. هذا إلا أن في فكرة الثنائية بعض ما يبرر ما تراه في العالم من تناقض والتواء وانحراف عن طريق الحق لم تفسره قط فكرة التوحيد وإذا كان رجال الدين الزردشتيون يحاجون أحياناً كما يحُاجّ متصوفة الهنود والفلاسفة المدرسون، بأن الشر لا وجود له في حقيقة الأمر ، فإنهم في الواقع يعرضون على الناس ديناً يصلح كل الصلاحية لأن يمثل لأوساط الناس ما يصادفهم في الحياة من مشاكل خلقية تمثيلاً يقربها إلى عقولهم وتنطبع فيها انطباع الرواية المسرحية ، وقد وعدوا أتباعهم بأن آخر فصل من هذه المسرحية سيكون خاتمة سعيدة- للرجل العادل. ذلك أن قوى الشر ستُغلب آخر الأمر ويكون مصيرها الفناء بعد أن يمر العالم بأربعة عهود طول كل منها ثلاثة آلاف عام يسيطر عليه فيها على التوالي أهورا مزدا وأهرمان. ويومئذ ينتصر الحق في كل مكان وينعدم الشر فلا يكون له من بعد وجود. ثم ينضم الصالحون إلى أهورا مزدا في الجنة ويسقط الخبيثون في هوة من الظلمة في خارجها يطعمون فيها أبد الدهر سُمَّاً زعافاً.
الطقوس
هناك نوعان من الطقوس المركزية: طقوس النار وطقوس القربان «الهوما» Haoma والنار رمز أهورامازدا وابنه، ولابد أن تحفظ بعيداً عن التلوث في معبد النار، فلا تراها الشمس ولاعيون غير المؤمنين، وهناك عدد من النيران المقدسة يسهر عليها أوعلى خدمتها الكهنة. والنار الرئيسة هي «بهرام» Bahram أوملك النيران الذي يتوج على العرش وعند زيارة النار يضعون على جباههم علامة بالرماد رمزاً للتواضع والمساواة والقوة. والهوما نبات وإله على الأرض، وفي طقوس الهوما يسحق هذا الإله ومن عصيره يستخرج شراب الخلود. وفي هذه القرابين الخالية من الدماء يكون القربان في آن معاً هو الإله والكاهن والضحية يقوم المؤمن بتناوله مستبقاً بذلك القربان الذي سيقام في نهاية العام ويجعل جميع البشر خالدين.
بارسي نافجوت , مراسم دخول الزرادشتية(التعميد)
ولما كان زرادشت من عبدة النار، فقد انتشرت بيوت النار في كل أنحاء الإمبراطورية الفارسية، ومن ثم أصبحت المجوسية اسماً لكل الديانات الفارسية ومنها الزرادشتية.
وقد قضى الإسلام على الزرادشتية في القرن السابع الميلادي، فمع الفتح الإسلامي لبلاد فارس (635م) تبنى الإيرانيون ديانة الفاتحين، ولكن مجموعة من النبلاء لاذوا بالجبال والتصقوا بالعقيدة الوطنية ـ الزرادشتية رمزاً للاستقلال، وقد هاجر بعضهم إلى الهند ويصل عددهم إلى أكثر من مئة ألف يعيشون في قسمها الشرقي وحول بومباي ويدعون البارسيين، وهوتحريف لاسمهم الأصلي الفارسيين.
وكان للزرادشتية تأثير عميق على تطور اليهودية منذ الخروج وما بعده، إضافة إلى تطوير بعض المعتقدات حول مملكة الله والحساب الأخير، والقيامة وابن الإنسان وأمير العالم والمخلص والكلمة وموت يسوع.. وقد أدت الزرادشتية في الواقع دوراً رئيسياً على مسرح التاريخ الديني للعالم، فقد عرفت اليونان زرادشت واحترمته في عصر أفلاطون، وانتشرت عبادة «مترا» وأثارت الزرادشتية فكرة المخلص في الديانة البوذية في صورة «مترا بوذا»، كما أثرت في تطور الإيمان اليهودي وصبغته بصبغتها، كما كان للزرادشتية تاثير كبير في الطوائف الباطنية من قرامطة وغيرهم، واعترفت بها البهائية وادعت أنها عثرت في «الزندافستا» على بشارات بظهور الباب والبهاء.
ولابد من التنويه إلى أن كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» لايحوي آراء زرادشت، وإنما يعبر عن آراء الفيلسوف الألماني، أوردها على لسان زرادشت.
الفلسفة الأخلاقية
لمّا صوّر الزردشتيون العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظوا بعملهم هذا في خيال الشعب حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة عن القوى البشرية، يحض على الأخلاق الفاضلة ويصونها. وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة، وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً ، أراد ذلك أو لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو يغفله يرجح قضية أهورا مزدا أو قضية أهرمان.
وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين – إذا سلمنا بأن الناس في حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليه النظرة العالمية القائلة بأن الإنسان ليس إلا حشرة دنيئة لا حول لها ولا طول (كما كان يقول أهل العصور الوسطى) ، أو آلة تتحرك بنفسها كما يقول أهل هذه الأيام. ذلك أن بني الإنسان حسب تعاليم زردشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية، بل كانت لهم إرادة حرة، لأن أهورا مزدا، كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهريمان هو الكذبة المخلدة، وكان كل كذاب خادماً له.
ونشأ من هذه الفكرة قانون أخلاقي مفصل رغم بساطته يدور كله حول القاعدة الذهبية وهي أن “الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيراً له هو نفسه” . وتقول الأبستاق أن على الإنسان واجبات ثلاثة. “أن يجعل العدو صديقاً وأن يجعل الخبيث طيباً ، وأن يجعل الجاهل عالماً”. وأعظم الفضائل عنده هي التقوى ، ويأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً. وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً. ورأس الخطايا كلها (في الشريعة الأبستاقية كما هي في الشريعة الموسوية) هو الكفر. ولنا أن نحكم من العقوبات الصارمة التي كانت توقع على الملحدين بأن الإلحاد كان له وجود بين الفرس، وكان المرتدون عن الدين يعاقبون بالإعدام من غير توان. لكن ما أمر به السيد من إكرام ورحمة لم يكن يطبق من الوجهة العملية على الكفار، أي على الأجانب، لأن هؤلاء كانوا صنفاً منحطاً من الناس أظلهم أهورا- مزدا فلم يحبوا إلا بلادهم وحدها لكي لا يغزو بلاد الفرس. ويقول المؤرخ اليهودي هيرودوت أن الفرس: “يرون أنهم خير الناس جميعاً من جميع الوجوه”. وهم يعتقدون أن غيرهم من الأمم تدنوا من الكمال بقدر ما يقرب موقعها الجغرافي من بلاد فارس، وأن ” شر الناس أبعدهم عنها”. إن لهذه الألفاظ نغمة حديثة وإنها لتنطبق على جميع الأمم في هذه الأيام. ولما كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق فإن أول ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد الله بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزردشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدسة على قمم الجبال، وفي القصور، أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لأهورا- مزدا أو لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمونها أنار ، ويعتقدون أنها إبن إله النور. وكانت كل أسرة تجتمع حول موقدها ، تعمل على أن تظل نار بيتها متقدة لا تنطفئ أبدا ، لأن ذلك من الطقوس المقررة في الدين. وكانت الشمس نار السماوات الخالدة تعبد بوصفها أقصى ما يتمثل فيها أهورا- مزدا أو مثرا كما عبدها اخناتون في مصر. وقد جاء في كتابهم المقدس: “يجب أن تعظم شمس الصباح إلى وقت الظهيرة وشمس الظهيرة يجب أن تعظم إلى العصر ، وشمس العصر يجب أن تعظم حتى المساء … والذين لا يعظمون الشمس لا تحسب لهم أعمالهم الطيبة في ذلك اليوم” ، وكانوا يقربون إلى الشمس ، والى النار ، والى أهورا- مزدا القرابين من الأزهار ، والخبز ، والفاكهة ، والعطور ، والثيران ، والضأن ، والجمال ، والخيل ، والحمير ، وذكور الوعول. وكانوا في أقدم الأزمنة يقربون إليها الضحايا البشرية شأن غيرهم من الأمم. ولم يكن ينال الآلهة من هذه القرابين إلا رائحتها، أما ما يؤكل منها فقد كان يبقى للكهنة والمتعبدين، لأن الآلهة- على حد قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية. وظلت العادة الآرية القديمة عادة تقديم عصير الهوما المسكر قرباناً إلى الآلهة باقية بعد إنتشار الدين الزردشتي بزمن طويل، وإن كان زردشت نفسه جهر بسخطه على هذه العادة، وإن لم يرد لها ذكر في الأبستاق. وكان الكهنة يحتسون بعض هذا العصير المقدس، ويوزعون ما بقي منه على المؤمنين المجتمعين للصلاة. فإذا حال الفقر بين الناس وبين تقديم هذه القرابين الشهية، إستعاضوا عنها بالزلفى إلى الآلهة بالأدعية والصلوات. وكان أهورا مزدا كما كان يهوه عند العبرانيين يحب الثناء ويتقبله، ومن ثم فقد وضع للمتقين من عباده طائفة رائعة من صفاته أضحت من الأوراد المحببة عند الفرس. فإذا ما وُهب الفارسي حياة التقى والصدق كان في وسعه أن يَلقى الموت في غير خوف، ومهما يكن من الأغراض التي يهدف إليها الدين فإن هذا المطلب كان أحد مطالبه الخفية. وكان من العقائد المقررة أن أستواد إله الموت يعثر على كل إنسان أيا كان مقره، فهو الباحث الواثق، الذي لا يستطيع الإفلات منه آدمي ولو كان من أولئك الذين يغوصون في باطن الأرض. كما فعل أفرسياب التركي الذي شاد له تحت أطباق الثرى قصراً من الحديد يبلغ إرتفاعه قدر قامة الإنسان ألف مرة ، وأقام فيه مائة من الأعمدة ، تدور في سمائه النجوم والقمر والشمس تغمره بأشعة النهار. وكان في هذا القصر يفعل كل ما يحلو له ويحيا أسعد حياة. ولكن لم يستطع رغم قوته وسحره أن يفر من أستواد … كذلك لم يستطع النجاة منه من حفر الأرض الواسعة المستديرة التي تمتد أطرافها إلى أبعد الحدود كما فعل دهاق إذ طاف بالأرض شرقاً وغرباً يبحث عن الخلود فلم يعثر عليه. ولم يفده بأسه وقوته في النجاة من أستواد…ذلك أن أستواد المخاتل يأتي متخفياً إلى كل إنسان، لا يعظّم شخصاً، ولا يتقبل الثناء ولا الإرتشاء، بل يهلك الناس بلا رحمة. ولما كان من طبيعة الأديان أن ترهب وتنذر ، كما تأسو وتبشر ، فإن الفارسي رغم هذا كله لم يكن ينظر إلى الموت في غير رهبة إلا إذا كان جندياً يدافع عن قضية أهورا مزدا. فقد كان من وراء الموت، وهو أشد الخفايا كلها رهبة، وجحيم، وأعراف، وجنة. وكان لا بد لأرواح الموتى بأجمعها أن تجتاز قنطرة تصفى فيها، تجتازها الأرواح الطيبة فتصل في جانبها الثاني إلى “مسكن الفناء” حيث تلقاها وترحب بها “فتاة عذراء ، ذات قوة وبهاء ، وصدر ناهد ، مليء”، وهناك تعيش مع أهورا- مزدا سعيدة منعمة إلى أبد الدهر. أما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز القنطرة فتتردى في درك من الجحيم يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب. ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب إليها كل الأرواح طيبة كانت أو خبيثة كما تصفها الأديان الأقدم عهداً من الدين الزردشتي، بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين. فإذا كانت حسنات الإنسان ترجح على سيئاته قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنوب، وإذا كان قد إرتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل الخير، لم يلبث في العذاب إلا إثني عشر ألف عام يرفع بعدها إلى السماء. ويحدثنا الزردشتيون الصالحون بأن العالم يقترب من نهايته المحتومة، ذلك بأن مولد زردشت كان بداية الحقبة العالمية التي طولها ثلاثة آلاف سنة ، وبعد أن يخرج من صلبه في فترات مختلفة ثلاثة من النبيين ينشرون تعاليمه في أطراف العالم ، يحلّ يوم الحساب الأخير، وتقوم مملكة أهورا- مزدا، ويهلك أهرمان هو وجميع قوى الشر هلاكاً لا قيام لها بعده. ويومئذ تبدأ الأرواح الطيبة جميعها حياة جديدة في عالم خال من الشرور والظلام والآلام: “فيُبعث الموتى، وتعود الحياة إلى الأجسام، وتترد فيها الأنفاس … ويخلو العالم المادي كله إلى أبد الدهر من الشيخوخة والموت والفساد والإنحلال”. وهنا أيضاً نستمع، كما نستمع في كتاب الموتى المصري، إلى التهديد بيوم الحساب الرهيب، وهو تهديد يلوح أنه انتقل من فلسفة الحشر الفارسية إلى الفلسفة اليهودية أيام أن كانت للفرس السيادة على فلسطين – ألا ما أروعه من وصف خليق بأن يرهب الأطفال فيصدعوا أوامر آبائهم! ولما كان من أغراض الدين أن ييسر ذلك الواجب الصعب الضروري ، واجب تذليل الصغار على يد الكبار، فإن من حق الكهنة الزردشتيين أن نقرّ لهم بما كانوا عليه من مهارة في وضع قواعد الدين. وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً رائعاً أقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان المعاصرة له، وكان خليقاً بألا يُقضى عليه هذا القضاء العاجل. وأتى على هذا الدين حين من الدهر في عهد دارا الأول كان فيه المظهر الروحي لأمة في أوج عزها. ولكن بني الإنسان يولعون بالشعر أكثر من ولعهم بالمنطق، والناس يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير. ومن أجل هذا ظلت عبادة مثرا وأنيتا- إله الشمس وإلهة الإنبات والخصب والتوالد والأنوثة- ظلت هذه العبادة قائمة إلى جانب دين أهورا- مزدا الرسمي تجد لها أتباعاً مخلصين، وعاد إسماهما إلى الظهور من جديد في النقوش الملكية أيام أرت خشتر الثاني، وأخذ إسم مثرا بعدئذ يعظم ويقوى، كما أخذ أهورا- مزدا يضمحل. وما أن وافت القرون الأولى من التاريخ الميلادي حتى انتشرت عبادة مثرا الإله الشاب ذو الوجه الوسيم- الذي تعلو وجهه هالة من نور ترمز إلى الوحدة القديمة بينه وبين الشمس- في جميع أنحاء الدولة الرومانية، (ويزعم البعض إنتشارها هذا من أسباب الإحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين. بينما الواقع فان 52 كانون الاول هو عيد ميلاد الشمس والمسيح هو شمس الوجود) ولو أن زردشت كان من المخلدين لتوارى خجلاً حين يرى تماثيل أنيتا أفرديتي الفرس، تقام في كثير من مدن الإمبراطورية الفارسية بعد بضعة قرون من وفاته. وما من شك في أنه كان يسوئه أن يجد صحفاً كثيرة من صحف وحيه قد خصها المجوس بطلاسم لشفاء المرضى والتنبؤ بالغيب والسحرز وذلك أن “الرجال العقلاء” أي كهنة المجوس قد غلبوا زردشت على أمره ، كما يغلب الكهنة في آخر الأمر كل عاتٍ عاصياً كان أو زنديقاً ، وذلك بأن يضموه إلى دينهم أو يستوعبوه فيه ؛ فسلكوا أولاً في عداد المجوس ، ثم لم يلبثوا أن نسوا ذكره. وما لبث هؤلاء المجوس بزهدهم وتقشفهم ، وإقتصارهم على زوجة واحدة ، ومراعاتهم لمئات من الطقوس المقدسة ، ومن تطهرهم بمئات الأساليب اتباعا لأوامر الدين وطقوسه ، وبإمتناعهم عن أكل اللحوم ، وبملبسهم البسيط الذي لا تكلف ولا تظاهر فيه ، ما لبث هؤلاء أن إشتهروا بالحكمة بين الشعوب الأجنبية، ومنهم اليونان أنفسهم، كما أصبح لهم على مواطنيهم سلطان لا تكاد تعرف له حدود. لقد أصبح ملوك الفرس أنفسهم من تلاميذهم ، لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد إستشارتهم فيه ، فقد كانت الطبقات العليا منهم حكماء، والسفلي متنبئين وسحرة، ينظرون في النجوم ويفسرون الأحلام، وهل ثمة شاهد على كعبهم اكبر من أن اللفظ الإنجليزي المقابل لكلمة ” السحر” Magic مشتق من إسمهم. وأخذت العناصر الزردشتية في الديانة الفارسية تتضاءل عاماً بعد عام، نعم إنها إنتعشت وقتاً ما أيام الأسرة الساسانية (226- 651 ب. م)، ولكن الفتح الإسلامي وغزو التتار قضيا عليها القضاء الأخير. ولا يوجد أثر للديانة الزردشتية في هذه الأيام إلا بين عشائر قليلة العدد في ولاية فارس، وبين البارسيين من الهنود الذين يبلغ عددهم تسعين ألفاً. ولا تزال هذه الجماعة حفيظة على كتبها المقدسة، تخلص لها وتدرسها، وتعبد النار والتراب، والأرض والماء، وتقدسها، وتعرض موتاها في “أبراج الصمت” للطيور الجارحة كي لا تدنس العناصر المقدسة بدفنها في الأرض أو حرقها في الهواء. وهم قوم ذوو أخلاق سامية وآداب رفيعة، وهم شاهد حي على فضل الزرداشتية كما يقول البعض وما له من أثر عظيم في تهذيب بني الإنسان وتمدينهم.
تواجد الزرادشتية المعاصر
انحسرت الديانة الزرادشتية بشكل كبير حيث لم يبقى من أتباعها في العالم سوى 200 الف نسمة، ينتشرون في:
69,601 زرادشتي في الهند حسب احصاء 2001.
5000 زرادشتي في باكستان يتركزون في مدينة كراتشي.
مابين 18 إلى 25 الف زرداشتي في قارة اميركا الشمالية.
جالية كبيرة في ايران, حيث يتواجدون بشكل خاص في مدن يزد وكرمان أضافة إلى العاصمة طهران كما يوجد لهم نائب في البرلمان الايراني.
جالية صغيرة ان لم تكن معدومة في منطقة آسيا الصغرى (بلخ , و طاجيكستان) والتي كانت موطن الديانة الرادشتية سابقا.
كان يوجد تواجد زرادشتي في اليمن في منطقة عدن خصوصا .
أعياد الديانة الزرادشتية
لدى الديانة الزرادشتية العديد من الاعياد منها:
النوروز .
الزواج في الزرادشتية
يعتبر الزرادشتيون ان زرادشت يفضل المتزوج على الأعزب و الوالد على من ليس لديه أولاد.كما ان الطلاق محرم في الديانة الزرادشتية.
الموت في الزرادشتية
يعتبر الزرادشتيون ان الروح تهيم لمدة ثلاثة ايام بعد الوفاة قبل ان تنتقل إلى العالم الأخر، يؤمن الزرادشتيون بالحساب حيث انهم يعتقدون ان الزرادشتي الصالح سيخلد إلى جانب زرادشت في حين ان الفاسق سيخلد في النار إلى جانب الشياطين.
للزرادشتيين طقوس خاصة عند الوفاة حيث انهم يعتبرون الجسد نجسا لذا يجب عدم اختلاطه مع عناصر الحياة الثلاثة: الماء، التراب، والنار حتى لا يلوثها، لذا وجب على الزرادشتيين عند وفاتهم ان يُتركوا للطيور الجارحة على أبراج خاصة تسمى ابراج الصمت أو (دخنه) باللغة الفارسية حيث يقوم بهذه الطقوس رجال دين معينون ثم بعد ان تاكل الطيور جثة الميت يتم رمي العظام في فجوة خاصة في هذا البرج دون دفنها. ألا انه مؤخرا منذ نحو 50 عاما و عملا بنصيحة زرداشت وهي أن يتكيف الزرادشتيون مغ أي مجتمع يعيشون فيه فقد أبتكر الزرداشتيون طريقة جديدة في دفن موتاهم و هي ان يوضع جثمان الميت في صندوق معدني محكم الاغلاق و يدفن في قبر عادي مما يضمن عدم تلويثه لعناصر الحياة الثلاثة.
لغات الزرادشتيين
يستعمل الزرادشتيون لغة الداري (مختلفة عن الداري الأفغانية) والتي تسمى أحيانا في ايران لغة “غابري” أو “بيهديان”، كما أن الزرادشتيون في الهند يتحدثون اللغة الكجراتية أيضا ويسمون في الهند بالبارسيين.
شرب بول البقر في الزرادشتية
يحدثنا الفصل التاسع من ال ونديادو، وهو الجزء الذي يتناول الحلال والحرام، والطاهر والنجس، والأرواح الشريرة في كتاب الابستاق (الأفستا Avesta) المقدس عند الزرادشتيين عن أهمية التداوي بشرب بول البقر، وكيف يقوي شرب بول البقرة جسم الانسان ويحميه من الأمراض والأرواح الشريرة، وأهمية التطهر ببول البقر. كما أكد زرداشت النبي على ضرورة تطهر المرأة الحائض ببول البقر، نفس الامر ينطبق على المرأة التي مات الجنين في بطنها.
المصادر
المعرفة عبد الحميد صالح.”زرداشت”. الموسوعة العربية. Retrieved 2011-07-14
استشهاد الكنيسة الرومية الانطاكية والقسطنطينية في آسيا الصغرى بالمجازر التركية…شهادات وثبوتيات
أشارت الإحصاءات، إلى أن الروم هم الذين دفعوا الفاتورة الأكبر للإجرام التركي
الروم: 2,100,000 رومي أرثوذكسي بين عامي 1897و1923 تم قتلهم …
وهذه إثباتات من الأرشيف على إبادتنا نحن ابناء الكنيسة الرومية …
لمن يسأل عن “إثباتات من الأرشيفات” على قيام الأتراك بإبادة الروم والأرمن والآشوريين والسريان، إليكم هنا في هذا التدوينة، بعض الوثائق المهمة، منها شهادات مسؤولين اتراك.
مع بعض الوثائق الموجودة في ارشيف وزارتي الخارجية الألمانية والنمساوية، الدولتين “الحليفتين” لتركيا العثمانية آنذاك. وهذه الوثائق تكتسب أهمية خاصة لأنها موجودة لدى دول كانت “حليفة” لتركيا آنذاك، ولا يهمها طبعا “تشويه صورتها وصورة حليفتها” … وهي إثبات يجوز فيه القول الشهير:” وشهد شاهد من أهله”.
هذه الوثائق تدين الأتراك بشكل مباشر بارتكاب أبشع الجرائم، وهي طبعا التي أدت إلى “الاعتراف الألماني”الرسمي بالإبادة يوم 23 نيسان 2015 ، والاعتذار علناً عن “المسؤولية غير المباشرة” لألمانيا في تلك المأساة، هذا ناهيك عن الوثائق التي تزخر بها خارجيات الدول التي كانت تحارب تركيا آنذاك.
1- شهادات من الأتراك أنفسهم
“مصطفى كمال أتاتورك” في مقابلة مع الصحافي السويسري اميل هلدربراند في 1 آب 1926 منشور في مجلة los angeles examiner ، يقول : “إن جماعة تركيا الفتاة يتحملون المسؤولية المباشرة عن التهجير الجماعي والمجازر الوحشية المنظمة التي تعرض لها “الملايين” من رعايانا المسيحيين تحت حكمهم”.
2- من ارشيف وزارة الخارجية النمساوية
ارنست كفياتكوفسكي ernest kwiatkovski، القنصل النمساوي في” سمسون”، يرسل تلغرافاً إلى خارجيته مؤرخاً في 26 تشرين الثاني 1916 يقول فيه إن المتصرف التركي في تلك المنطقة قال له :”يجب أن نفعل بالروم ما فعلناه بالأرمن”، وفي 28 تشرين الثاني يقول :” يجب ان ننتهي من الروم. أرسلت اليوم فرقة مسلحة لقتل كل رومي يرونه في طريقهم”.
الابادة الجماعية للروم بيد الاتراك
أما في 9 كانون الثاني 1917، يرسل القنصل لخارجيته برقية تضمنت وصفاً لما حدث في مكان وجوده:
“حتى الآن في منطقة سمسون، قامت القوات التركية بإحراق 16 قرية رومية، 890 منزلاً، 17 كنيسة، 16 مدرسة. القوات نفسها أحرقت أيضاً في الجوار 22 قرية، 341 منزلاً وكنيستين. 75 شخصاً قتل، بينهم 3 كهنة، و69 امرأة تم اغتصابهن”.
هذا طبعاً غير الفظائع الكثيرة التي حدثت في الأناضول وازمير وغيرها بحق الأرمن والروم والسريان والآشوريين.
من الأرشيف نفسه هناك برقية مهمة جداً ، موقعة من “طلعت بك” وزير الداخلية التركية بتاريخ 14 أيار 1914 موجهة إلى والي إزمير “رحمي بك” وفي نصها:” يجب أن ننقل جميع الروم المقيمين في آسية الصغرى من قراهم إلى ولاية أرضروم وشمال العراق. إذا رفضوا، فعليكم إعطاء التعليمات “الشفهية ” “لإخواننا المسلمين” كي يجبروا الروم على ترك قراهم ، عبر ترهيبهم بسبل مختلفة” .
وبالتعليمات “الشفهية” نتفادى أي دليل لمساءلة سياسية قد تنجم عن ذلك فيما بعد” .
(وعلى الرسالة توقيع كل من طلعت بك، وابراهيم حلمي مدير وزارة الداخلية، وختم مدير المراسلات “علي رضا”) .
3- من أرشيف وزارة الخارجية الألمانية
كوكهوف kukhoff ، نائب القنصل الألماني في “سمسون” (منطقة البنط شمال تركيا)، يبعث تقريراً إلى حكومته في برلين في 16 تموز 1916 يقول:” لقد علمت من مصادر موثوقة أن كل روم “سينوب”و”كاستاموني” تم تهجيرهم وسبيهم … الذين لم يقتلوا، ماتوا بمعظمهم بسبب الأمراض والجوع”.
الجنرال شوكت باشا ، قال للبطريرك المسكوني يواكيم الثالث في حزيران 1909:” سنقطع رؤوسكم ونبيدكم، إما أن نبقى نحن أو أن تبقوا أنتم”. ( سجلها دبلوماسي الماني في اسطنبول في 26 حزيران 1909 وأرسلها للمستشار الألماني برنارد فون بولو Bernard von bulow.
ريتشارد فون كولمان Richard von kuhlmann، السفير الألماني في تركيا يرسل برقية إلى حكومته في 16 ايلول 1916 يقول:”عائلات الروم المهجرة، معظمهم من الأطفال والنساء، تم ترحيلهم إلى سبسطية بأعداد ضخمة”.
هذا بالنسبة لبعض الإثباتات ضد الأتراك من ارشيف الدول “الحليفة لها”.
4- وسنذكر أيضاً شهادة جوهانس ليبسيوس Johannes lepsius رئيس بعثة تبشيرية بروتستانتية إلى تركيا: فقد كتب في 31 تموز 1915: “هناك استهداف لكل المسيحيين في تركيا” .
– وشهادة لأحد المرسلين الأميركيين لأورفا (منطقة سريانية) يقول:” خلال 6 اسابيع شاهدت أبشع الفظائع ترتكب بحق الآلاف الذين جاءوا من الشمال ليعبروا مدينتنا، لقد قتلوا جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة ، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب والسرقة والاغتصاب”، “شاهدنا بأعيننا هذا الشيء يحدث علناً في الشوارع”.
و يروي رافايل دي نوغاليس مينديز، وهو ضابط فنزويلي كان يحارب بإمرة العثمانيين، انه لدى وصوله إلى “سعرت” شاهد ما يلي:
كان بالإمكان مشاهدة آثار المجازر في التلال المطلة على الطريق الرئيسي، والتي غطت سفوحها الكئيبة آلاف الجثث شبه العارية والمدماة ، ملقية في كوم أو متعانقة خلال شهقات الموت الأخيرة. تمكنت مع رجالي من دخول سعرت بصعوبة، لتراكم الجثث التي اعترضت سبيلنا في الطريق. وهناك شاهدنا كيف قام بعض سكانها بمرافقة الشرطة المحلية بسلب بيوت المسيحيين. لدى وصولنا إلى السراي التقينا بالحكام المحليين الذين كانوا مجتمعين بجودت باشا ومن حديثهم استنتجت أن المجزرة تم التخطيط لها البارحة من قبل جودت باشا شخصيا.
ويروي دي نوغالس كذلك أنه لدى حديثه مع محمد رشيد باشا والي ديار بكر، ابلغه الأخير أنه استلم أوامر الإبادة من خلال برقية من طلعت باشا وزير الحرب تحتوي على ثلاث كلمات: أحرق – دمر – أقتل (Yak-Vur-Öldür).
(Gaunt & Beṯ-Şawoce 2006, p. 251)
5- ويقدر الصليب الأحمر الأميركي عدد الشهداء الذين قضوا بسبب حصار العثمانيين لجبل لبنان عام 1916 ب 250 الفاً ، اي ما يوازي حوالي ثلث سكان الجبل .
علينا ان لاننسى ان اكبر مذبحة طائفية بحق المسيحيين وقعت بين 1849 الى 1860 ضربت جبل لبنان وزحلة البقاع وراشيا وحاصبيا ودمشق والقلمون السوري معلولا… والزبداني ووادي بردى ودوما وعربين والغوطة الشرقية وحلب واكبر المجازر في دمشق وقضت على نصف الروم الارثوذكس وعددهم 13000 وهاجر الربع الى بيروت وبقي الربع كأقلية مرتاعة وقد تمت هذه المجازر بتدبير عثماني رسمي وبيد الدروز بداية ثم بقية المسلمين والاكراد للخلاص من نظام الامتيازات المذهبية عبر القضاء على المسيحيين في سورية وآسيا الصغرى ونزع الذرائع التي بيد الدول الاجنبية بحق حماية رعاياها
لم نتحدث عن يونان او روم البنطس ولم نأت على ذكر ابناء ارضروم وديار بكر وكيليكيا من الروم الارثوذكس وعدد البنطسين من الشهداء اكثر من 350 الفاً اما الابرشيات الانطاكية الثلاث ارضروم وديار بكر وكيليكيا فقد استشهدت واستشهد ابناؤها من الروم الانطاكيين (سوريين ويونان) ومن بقي من يونان كيليكيا فقد تم مبادلتهمع دولة اليونان مع اتراك دولة اليونان بنتيجة معاهدة لوزان 1923 بين تركيا واليونان اما الروم الانطاكيين فقد لجأوا الى سورية ولبنان وصودرت ممتلكاتهم ودمرت كنائسهم واديارهم…
هذا إضافة إلى علماء كثيرين وصفوا جرائم تركيا ب”الإبادة” بينهم البروفسور رودولف رومل الذي يقدر عدد ضحايا الإبادة بين 3500000 و 4500000 سقطوا بين العامين 1900 و 1923 .
الخاتمة الحزينة
الموجهة للعالم المدعي الحضارة واليوم نسأل بها: أليست الكنائس المهجورة في تركيا، والذاكرة الجماعية التي ما زال المهجرون يحملونها، اكبر دليل على حدوث الإبادة؟
لماذا عارض البابا غريغوريوس الكبير استعمال لقب “البطريرك المسكوني”
في القرن السادس المسيحي، صار أسقف القسطنطينية يُعرف رسمياً للمرة الأولى باسم “البطريرك المسكوني”. ما معنى هذا اللقب الذي يحمله رئيس كنيسة القسطنطينية حتى يومنا هذا؟-
-لماذا عارض القديس غريغوريوس الكبير، المعروف في البلاد السلافية باسم القديس غريغوريوس– الذيالوغوس، هذا الاسم بشدة؟
لقب “البطريرك المسكوني”
بدأ كل شيء في مجمع القسطنطينية عام 588 مسيحية الذي انعقد حول قضية البطريرك غريغوريوس الأنطاكي. الحق في أن يُدعى “البطريرك المسكوني” أُعطي في حينه لأسقف روما الجديدة. في الواقع، لم يكن هذا اللقب جديدًا على الإطلاق إذ قد تمّ استخدامه من قبل، ليس فقط لبطريرك القسطنطينية فحسب، بل للإشارة أيضًا إلى رؤساء الكنائس الأخرى. لذلك، أول مرّة استُخدم لقب “المسكوني” كان للأسقف ديوسقورس الإسكندري، الذي لعب دوراً محزناً في مجمع أفسس الثاني عام 449، المعروف أيضاً باسم “المجمع اللصوصي”. في وقت لاحق أُُعطي هذا اللقب لمتقدّم روما الجديدة في مجمع 518، لذا استخدمه الإمبراطور
كنيسة القديس جاورجيوس في القسطنطينية كاتدرائية البطريرك المسكوني ومقر البطريركية المسكونية
.يوستنيانوس لمخاطبة ميناس بطريرك القسطنطينية
تذكر بعض النسخ اللاتينية من أعمال المجمع المسكوني الرابع أيضاً اقتراحاً للتوجّه إلى القديس لاوون بابا روما بصفة “مسكوني”. في المراسلات بين الأساقفة، كعلامة على التبجيل الخاص، كان باباوات روما هرمسداس وأغابيتوس وبونيفاس الثاني يخاطبون بعضهم البعض أحياناً بهذه الصفة. والجدير بالذكر أن باباوات روما المذكورين أعلاه لم يطلقوا أبدًا هذا الاسم الفخري على أنفسهم
ومع ذلك، عندما أصبح هذا اللقب رسمياً لأسقف القسطنطينية، احتجّ البابا بيلاجيوس على هذا القرار ونهى مبعوثه إلى القسطنطينية عن الاشتراك في الخدمة مع البطريرك الرومي ما عنى في الواقع قطعاً في الشركة الإفخارستية. في حينه كان مبعوث روما غريغوريوس، بابا المستقبل العظيم المعروف باسم الذيالوغوس (المحاور). بعد اعتلاء عرش روما القديمة الرسولي، امتنع غريغوريوس لبعض الوقت عن معارضة اللقب الجديد لبطريرك القسطنطينية. لكن نفد صبره عندما انتهك بطريرك وإمبراطور القسطنطينية بشكل صارخ سلطة روما الكنسية، ورشحا مرشحهم لمنصب رئيس أساقفة سالونا (سبليت في كرواتيا الحالية) بعد طرد مرشح البابا غريغوريوس
ما كانت حجج البابا الروماني ضد اللقب الجديد؟
“المسكوني” بمقابل المزاملة
قد تكون إحدى الحجج الرئيسية عند بابا روما مماثلة لما يمكن سماعه عادة من شفاه المدافعين الأرثوذكس عن المجمعية، إذ يجادلون ضد المفهوم الكاثوليكي للسيادة البابوية الشاملة. أكد القديس غريغوريوس أن لقب “المسكوني” قد رفع حامله بشكل غير لائق، وبذلك أذلّ أساقفة آخرين لهم نفس السلطة الأسرارية. بحسب غريغوريوس، حتى الرسل لم يجرؤوا على اتّخاذ مثل هذه الألقاب النافرة. بالأحرى هم كانوا رؤساء الجماعات المسيحية التي أنشأوها وفي نفس الوقت استمروا “أعضاء متساوين تحت رأس واحد” (المسيح). في رسالته إلى الإمبراطور موريس، نادى غريغوريوس أنه حتى الرسول بطرس، الذي أُعطي “رعاية ورئاسة الكنيسة بأكملها”، لم يجرؤ على أن يُدعى رسولًا مسكونيًا. عبّر البابا عن أفكار مماثلة في رسائله إلى البطاركة الشرقيين الآخرين، مؤكداً حقيقة أن جميع البطاركة هم رعاة وإخوة
مسكوني بمقابل مَلَكي
ومع ذلك، لم يجد غريغوريوس أيّ دعم في هذا الأمر عند الرئاسات الشرقية، ولا حتى بين أولئك الذين جمعتهم صداقة شخصية مع البابا. اعتاد رؤساء الكنائس الشرقيون على الألقاب الطنانة ولم يهتّموا بها كثيرًا. كان التفسير التقليدي للقب “المسكوني” مرتبطًا بالقسطنطينية باعتبارها المدينة الرئيسية والأكبر في الإمبراطورية الرومية المسيحية، مدينة بالفعل، مركز الكون والعالم الروماني معاً. هذا أهّل بطريرك القسطنطينية أيضاً لأن يستحق أن يُدعى مسكونياً. كان لبطاركة القسطنطينية بلا شك وزنٌ وتأثير كنسيٌ أكبر من إخوتهم الشرقيين، بطاركة الإسكندرية وأنطاكية والقدس. وعلى الرغم من ذلك، فإن لقب البطريرك
المسكوني لم يحوّل حامله إلى رأس الكنيسة المطلق، كما صار البابا بعد تبني الفاتيكان لهذه العقيدة
لم تقبل الرئاسات الشرقية تحذيرات أخيهم الروماني، وصار لقب “البطريرك المسكوني” جزءًا من تقليد الكنيسة الأرثوذكسية. ومن المفارقات أن ما خشاه القديس غريغوريوس الكبير بالتحديد عادت وتبنّته كنيسة روما. فالإكليسيولوجيا الكاثوليكية تفترض مسبقاً الحاجة إلى وجود رأس كامل السلطة في الكنيسة الجامعة. في المقابل، بالمنطق الأرثوذكسي، البطريرك المسكوني الأرثوذكسي هو رئيس كنيسة القسطنطينية الكبرى، لكنه الأول بين متساوين، ما يمنحه صلاحيات وحقوق خاصة منصوص عليها في تقاليد الكنيسة والقانون الكنسي دون أن يجعل سلطته مسكونية. بهذا يتم الحفاظ على التوازن بين المجمعية والأولوية
“جون نيشيبوروك”
(“نقلتها إلى العربية مشكورة “أسرة التراث الأرثوذكسي)
لو كان أي منا يتمشى على ضفاف بركة ماء باردة في إحدى ليالي العام ٣٢٠ قرب مدينة سبسطية، لرأى مشهداً مذهلاً: أربعين جندياً رومانياً، من الفيلق المعروف بـ”الفيلق الصاعق”، يقفون عراةً في المياه المثلجة طوال الليل، يتجمدون ببطء. بالقرب، جنود رومان آخرون يقفون على الضفة يحرسونهم ويتأكدون من بقاء الرجال المحكومين في المياه المثلجة، ويجهزون حمام ماء ساخن لكل من يقرر الخروج من مياه الموت ليستدفئ ويعيش. كل ما كان على الرجال المحكومين أن يفعلوا هو أن ينكروا المسيح ويتخلوا عن ايمانهم المسيحي. الأربعون كانوا كلهم مسيحيين مؤمنين، واختاروا الموت على إنكار الرب
إلا أن واحداً وحيداً منهم خسر شجاعته في اللحظة الأخيرة. فأنكر المسيح، وترك رفقاءه من أجل دفء الحمام الساخن. واحد من الحرس، متأثراً بثبات الذين بقوا في البركة، إعترف بأنه مسيحي وتعرّى من ثيابه وإنضم إلى الرجال في المياه، فبقي العدد كاملاً: أربعون شهيداً. عند الفجر، معظمهم كان قد تجمد ورقد. أما أولئك الذين لم يموتوا بعد فقتلوا وأحرقوا ورُمي رماد جثثهم في النهر.ـ
قد نسأل: ما الذي منح الرجال القوة ليبقوا في مياه الموت فيما الحياة تنزف ببطء من أجسادهم؟
أمران
الأول أنهم كانوا يتطلعون إلى ما بعد عذاب تلك الليلة، إلى الملكوت المنير وأكاليل الظفر التي تنتظرهم، والثاني أنهم كانوا يتضامنون ويدعمون ويشجعون بعضهم البعض. كجنود، كانوا يدركون أهمية الوفاء للفيلق، وكإخوة، أن يصمد كل واحدٍ منهم من أجل الآخرين. إن هذه الوحدة العسكرية حفظتهم إذ كانت مسألة شرف أن لا يكسر أحد منهم الرتبة ويخون الآخرين.ـ
نحن أيضاً نعيش في فترة شتاء مميت، حيث “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (متى ٢٤:١٢). حكام هذا الزمن يعدون بجوائز أرضية لمن يترك الحقيقة، وحمام دافئ ينتظر الكفار/المرتدين. شهداء سبسطية يشجعوننا على أن نبقى ثابتين في الإيمان، على الرغم من برودة هذا الزمن والإضطهاد الذي نقع فيه، إذ انهم بعد ساعات قليلة فقط استُقبلوا بفرح الانتصار في ربوع السموات، ولم يكونوا بحاجةٍ لأي حمام روماني دافئ. الأمر ذاته سيحصل معنا: قريباً يمر هذا الزمن البارد، ونقف أمام ملكنا. إلى حين ذلك، فلنتشجع نحن أيضاً كوننا لسنا المجاهدين الوحيدين في سبيل الحقيقة. فلنقاوم التنازلات المقترحة من الشيطان، ونبقى “راسخين في الإيمان عالمين أن نفس هذه الآلام تجرى على اخوتكم الذين في العالم” (1 بطرس ٥:٩).ـ
أمر أخير: الجندي الذي فقد عزمه وكفر بالله وركض إلى الحمام الدافئ لم ينجُ تلك الليلة. من المؤكد أن حرارة جسمه قد هبطت كثيراً، وحتى دفء الحمام لم ينقذه. لقد مات بكل الأحوال، مع باقي “الفيلق الصاعق”. بكفره لم ينقذ حياته الأرضية بل خسر الحياة الأبدية وإكليل الظفر الذي كان بمتناول يديه. جوائز الكفر لا تبقى. بل تنتهي مع مجيء اليوم الأبدي. جائزة الثبات تبقى إلى الأبد.
الأب لاورنس فارلي)
(نقلها إلى العربية بول ملكي
وكان موقع بطريركية انطاكية وسائر المشرق والصفحة على الفيسبوك قد نشرت سيرة هذه الكوكبة من الشهداء وهي التالية وقد آثرنا على نقلها مع خاطرة الاب لاورنس فارلي المنشورة في مجلة التراث الارثوذكسي لنعم الفائدة الروحية.
-لا نعرف بالتّدقيق أصل هذه المجموعة الاربعينيّة ومنشأها. لكنّنا نعرف أنّهم كانوا قادةً في الفرقة الرومانيّة المشهورة والمعروفة بالناريّة. تمركزوا في عهد ليكينيوس (بداية القرن الرابع) في جبهات ارمينيا لحماية حدود الامبراطوريّة. طلب الامبراطور ان يقدّم الجيش ذبائح للأصنام، فاجتمع الجيش كلّه لتقدمة هذه الذبيحة. فامتنع اربعون من قادة الفرقة الناريّة عن الاشتراك في هذه التقدمة. واذ خالفوا بذلك الامر الامبراطوريّ، قادهم الجند الى الوالي في سبسطية.
لمّا مثلوا امام الوالي سألهم عن أسمائهم، فاجابوا كلّهم بصوت واحد “انا مسيحيّ”. حاول الحاكم إرضاءهم وإقناعهم بالرجوع الى ديانة آبائهم، ووعدهم بأنّ القيصر سيكافئهم على خدماتهم بأعلى الرتب. فكانوا يجيبون: لن نخون ملكنا الذي هو ملك السماوات والارض”. بعد ذلك أمر الحاكم بأن يُسجنوا لعلّهم مع الوقت يرجعون عن رأيهم، وطلب ان يُعَذّبوا بعذابات كثيرة، إلا أنهم لم يتراجعوا عن موقفهم. فصدر الحكم عليهم بالإعدام، وهو أن يُعذَّبوا وسط بحيرة تجمّد ماؤها من شدة البرد. فلمّا وصلوا الى ضفاف البحيرة أُمروا بنزع ثيابهم وأن ينزلوا في البحيرة، وكانوا يقولون بعضهم لبعض: “إنّ الجند نزعوا ثياب المخلّص واقتسموها بينهم، وإنّ يسوع احتمل ذلك لاجل معاصينا . فلننزع الآن ثيابنا لاجل حبّه، فنكفّر بذلك عن خطايانا”. إلا أنّ واحداً منهم خارت عزيمته فخرج من الماء البارد. وكان الحرّاس الواقفون ينظرون اليهم بإعجاب. فأمتلأ واحد من الحرّاس ايماناً، وصاح برفاقه وقال :”أنا مسيحيّ”. فأمر قائد الحرّاس بأن يُلقى في البحيرة، فعاد الشهداء الى عددهم الاوّل. وفي اليوم التالي أمر الحاكم بأن يُخرجوا من البحيرة لتُقطع اجسامهم، وليُقتل من كان لا يزال حياً منهم. فأخرجهم الحرّاس كلّهم، ووضعوا تلك الاجسام المائتة والمهشمة في عربة، وذهبوا بها ليحرقوها. هكذا استشهد الأربعون قائداً الذين ضحّوا بحياتهم وبمجد العالم وشبابهم في سبيل المسيح. تعيّد لهم الكنيسة المقدّسة في التّاسع من آذار.
لهم كنيسة تتجدّد في غرزوز (قرنـة الـروم في قضاء جبـيل)، وكنيسة شهيرة في مدينة حمص في سورية وهي كاتدرائية حمص للروم الارثوذكس.
في الأيقونة المقدّسة يستشهدون في بحيرة الجليد بينما نجد احدهم قد ضعف وخرج من الماء ولبس ثيابه ودخل الي قلب المبنى المظلم ، وأحد الحرّاس يهمّ بخلع ثيابه والنزول معهم ايماناً منه بالربّ يسوع الذي يستشهدون في سبيله.
هنا لمحة عن حياتهم و استشهادهم و أسمائهم: كانوا مختلفي الأوطان ومرتّبين بالجنديّة تحت يد قائد واحد ثم ألقي القبض عليهم لإيمانهم بالمسيح وامتُحنوا في المبدأ امتحاناً هائلاً ثم طُرحوا عُراة في البحيرة التي بالقرب من سبسطية في كبادوكية (إسم أُطلق قديماً على البلاد الواقعة غرب الأناضول ). كان البَرْدٌ قارساً والجليد قويّاً، فقضوا تلك الليلة كلّها على هذه الحال يشجّعون بعضهم بعضاً على الصبر إلى المنتهى وقد أشرفوا على الموت من شدّة البرد وعند الصباح كُسِّرَت سيقانهم فاستودعوا أرواحهم في يديّ الله وكان ذلك على عهد لِكينيوس سنة 320 م وهم : أنكياس – أغلائيوس – أيتيوس – أثناسيوس – أكاكيوس – الكسندروس – ببهانوس – غائيوس – غرغونيوس – وغرغونيوس أيضاً – دومتيانوس – ذُمنس – أكذيكيوس – أفنويكوس – أفتيشيس ( سعيد ) – أفتيشيوس – اليانوس – الياس – ايراكليوس ( هرقل ) – إيسيشيوس – ثاودولُس ( عبدالله ) – ثاوفيلُس – يوحنّا – كلاوديوس – كيرلُّس – كيريُّن – لسيماخُس – مليطُن – نقولا – أكسنثياس – والريوس – واليس – بريسكُس – ساكردون – سبريانوس – سيسينيوس – أزمارغدُس – يلوكتيمُن – فلابيوس – خوذيون.
حرائق من شمال فلسطين مروراً بلبنان حتى شمال سورية، التي تضررت كثيراً…
كالعادة بكاء كثير وكلام عاطفي وشتائم واتهامات على مواقع التواصل وبرداً وسلاماً وصلاة استسقاء سورية.
الحرائق لفّت وتلفّ العالم ، لا تكاد تنجو منها دولة حتى ولو كانت عظمى، وتذكرون أمريكا والأمازون رئة العالم، كل مكان تلفحه الشمس والريح الحارة مهدد بالحرائق…
لكن الدول التي تعاني من ارتفاع منسوب الفقر والتخلف وأيضاً من الحروب معرضة أكثر.
الدول التي لا تحترم شعوبها بيئتها، وتصبح أشجارها وغاباتها مكبّات للزبالة معرضة أكثر للحرائق.
الدول التي يرمي سكانها أعقاب سجائرهم من السيارات وزجاجات شربوها على جوانب الطرقات معرضة أكثر للحرائق.
الدول التي يرى البعض في أشجارها حطباً وفحماً للشتاء والشواء معرضة أكثر للحرائق.
الدول التي تضم بين ظهرانيها خونة وفردانيين وتجار أزمات معرضة أكثر للحرائق.
الدول التي لا تحتاط من خلال شراء طائرات وسيارات إطفاء ومعدات مكافحة الحرائق معرضة أكثر للحريق.
الدول التي يركب مسؤولوها سيارات يعادل ثمن كل عشرة منها طائرة هليكوبتر ..معرضة أكثر للحرائق.
الدول التي تتحول نسبة كبيرة من شعوبها إلى بكائين على الأطلال معرضة أكثر للحرائق ، ومن كل الأنواع.
في لبنان ،الحوت يشتري طائرات في زمن تقلص السفر فيما طائرات الإطفاء القليلة خارج الصيانة، والعام الفائت اندلع مئة حريق وهذا العام تسعون حريقاً.
في سورية، الخونة أبادوا الطائرات المخصصة في مطار تفتناز قبل سنوات ، وأشعلوا الحرائق في كل مكان.
قبل مدة كنت في الطريق إلى حلب ورأيت من يشعل حريقاً، ومثله كثير ، في أرض زرعت قمحاً بعد حصاده، وبقربها كرم زيتون، وعندما سألت أُجبت ببلاهة ” إنها طريقة للتسميد” وكانت شجيرات زيتون قد طالها الحريق..ومثل هذا كثير.
نعم حرائق كثيرة بفعل فاعل جاهل أو متعامل أو معمول فيه، ما همّ، لأن النتيجة هي احتراق الرئة في زمن الحاجة الماسة إلى الأوكسجين.
إن أي هاوٍ يمكنه معرفة ثمن طائرة إطفاء الحرائق عبر الانترنت، لكن بلداً مثل سورية مضطر لشراء نموذجها الروسي وربما الهندي، جراء العقوبات.
أقول هذا لأنه لا يمكن إطفاء الحرائق إلا بخطة استباقية دائمة وجاهزة لا استسقائية موسمية ، مع أنني لست ضد الصلاة ، لكنها في حالات الحرائق لا تفيد ، لأنه سبحانه وتعالى منذ زمان خارج التغطية عن مصائب بلادنا، وتركنا لنطفىء حرائقنا بأيدينا.
أما من يتوسل ويصلي برداً وسلاماً فهذا حق إيمانه، مع أن ذلك نصف الآية لأن المقصود بنصفها الآخر إبراهيم..وهل ما يحصل معنا إبراهيمي؟!.
بالمناسبة، صحوت فجر أمس على رائحة حريق الأحراج قرب المنزل، استطلعت، وكان الدفاع المدني قد تكفل ونحن نيام بإخماده، فقلت يمكن أن رائحة الحرائق في الجليل أو الجنوب وربما في طرطوس واللاذقية قد زارتنا، لتقول إن الاحتراق واحد.
سنظل نحترق ونزرع ..نحترق ونزرع، ما دمنا أمماً ضعيفة تتكىء على الغير..مادام الجهل والأنانية والتخلف واللاوطنية مسارات حياتنا..ومع فائق الاحترام لكل من رمى كمشة تراب أو سطل ماء على شجرة تحترق، وأعرف أنهم كثيرون وأبطال، والعزاء بالشجر لمن تعب عليه وسقاه من عرقه…