يثير مصطلح العلمانية الكثير من الجدل والالتباس، ولأجل الخروج من ذلك المأزق، تبنى فريق من تيار الاسلام السياسي في سورية مصطلحا أقل اثارة للجدل، لكنه – ربما – أكثر غموضا وهو مصطلح الدولة المدنية.
فماذا نريد نحن من الدولة أن تكون؟ تلك هي القضية وبعد أن نتفق على المضمون – هذا اذا اتفقنا – لن نختلف حول المصطلح.
أما انا فأريد أن تكون الدولة مبنية على أساس المواطنة. في سورية وطن الفسيفساء من الأديان والمذاهب وحتى الاعراق والمجتمع السوري تعددي لذا لا يمكن أن يقوم سلام وتعايش ووئام في المجتمع السوري بدون دولة المواطنة.
والدولة هنا هي الدولة بالمعنى العصري للكلمة، هي البناء الفوقي لمجتمع المواطنين الذي يحفظ وجوده وتماسكه، انها حارسة الدستور الذي هو أبو القوانين، الدولة ليست الحكم، وليست الحاكم، الدولة هي ارادة المجتمع في استمرار وجوده والحفاظ على مصالحه العليا.
وهي تنشأ بموجب عقد اجتماعي، لمواطنين أحرار، متساوين أمام القانون، بغض النظر عن أصولهم العرقية، وانتمائهم الديني أو المذهبي.
نحن المواطنين الذين نعيش ضمن بقعة معينة (سورية مثلا) قررنا أن نعيش معا ضمن دولة واحدة لا تفرق بين مواطن ومواطن.
لكن لابد هنا من تسليط الضوء على مصطلح الدولة العلمانية، ومصطلح الدولة المدنية لتبيان التشابه والتنافر بينهما.
ما هي العلمانية؟
العلمانية عبارة عن مفهوم يقصد به، الاهتمام والاختصاص بجميع الأمور الدنيوية والعمل على فصل الأمور الدينية عن الاتجاهات والآراء السياسية فكل واحدة مستقلة عن الأخرى.
العلمانية تعمل على القيام بالتخلص من جميع الأوامر التي تلزمها الحكومة لأفرادها كإجبارهم على اعتناق دين معين، أو الإلتزام بعادات وتقاليد معينة لا تروق لهم ، أي أنها لا تلزمهم بشيء فليس للدولة دين أو عرف أو تقاليد محددة لكل فرد الحرية في اختيارها.
أصول العلمانية متجذرة في آرائها القائلة بأن أي نشاط خاص بالأفراد في مجال كان، وقراراتهم في أمر كان لا يحق لأحد القيام بالتأثير أو التدخل فيها فهذا حق شخصي لجميع الأفراد من ذواتهم.
تعد العلمانية مرنة في معتقداتها، إذ ليس لها شروط أو أسس تلتزم بها إنما هي قابلة للتعديل والتطوير والزيادة وتتكيف في أي بيئة توجد فيها وفي أي مجتمع تظهر به وبين أي من الأفراد كانوا.
العلمانية هي في حد ذاتها ليست معارضة لأمور الدين ولا تتدخل به بل تقف محايدة دوماً تجاهه ، بل يعدها الكثيرون أنها هي التي حافظت على الدين من تدخلات الحكومات والدول فيها.
العلمانية الحديثة انبثقت في عصر التنوير في البلاد الأوروبية ، وكان لعدد من المفكرين الأوروبيين اليد الطولى في إخراجها ونشرها، ك (توماس وفولتير و جيفرسون).
لقد كانت عملية فصل الدين عن السياسة، التي قام بها العلمانيون، ناتجة عن ما تعرّض له العديد من الفقراء والمظلومين الذين كانوا ضحايا للقساوسة، الذين عملوا على الاستيلاء على الأراضي والأموال باسم الدين في اوربة، فكان الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم.
العلمانية تؤمن بالإيمان المادي المطلق في كل شيء، فهي تؤمن إيماناً تاماً بكل شيء محسوس وملموس، وتنكر كافة الأمور الغيبية.
العلمانية تنظر إلى كافة الأمور الاقتصادية والسياسية وحتى الدينية من ناحية عقلية فقط، وتقوم بإيجاد الحلول لها أيضاً بذات التفكير، فهي تجردها من القداسة أو الدين وكل شيء، وتحولها إلى قضية ملموسة بحتة.
تهدف العلمانية إلى توجيه اهتمام جميع الأفراد في الحياة الدنيا وفي النظر إلى المستقبل دوماً و إيقافهم عن التفكير في الآخرة وفي الأمور الغيبية وتحويل نظهرتهم من نظرة دينية إلى نظرة مادية. الأسس التي تقوم عليها العلمانية
أما بالنسبة للأسس التي تقوم عليها العلمانية فنوردها كالآتي
تعتبر العلمانية أساس الانتماء لأي بيئة أو مجتمع هو المواطنة، ولا تنظر للدين على أنه أساس مهم لتحقيق الانتماء، العلمانية تؤمن بأن أساس التشريع في الدولة يجب أن يعتمد على المصلحة العامة والمصلحة الخاصة فقط .
نظام حكم أي دولة عادل تكون شرعيته معتمدة على الدستور في ذلك كما يراه العلمانيون و يجب تطبيق القوانين الملزمة لتحقيق حقوق الإنسان . _ أن الأمور الدينية عند العلمانيين تعتمد على الإعتقاد بصحتها أو لا أو الإيمان بها أو لا ولا تحتاج لأدلة أو براهين .
يعتمد العلمانيون في أسس تربيتهم لأولادهم على التربية الدنيوية وتحقيق الذات والطموح للوصول إلى أعلى شيء في هذه الحياة دون النظر إلى الأسس الدينية ، أي التربية اللادينية .
يسعى العلمانيون دوماً للوصول إلى تحقيق حكومة تقود البلاد ، وتكون أهم ميزة لهذه الحكومة أن شرعياتها وأحكامها ونظرتها لجميع الأمور بأنها إنسانية لا دينية .
الفرق بين الدول العلمانية والدول المدنية
الدولة العلمانية هي الدولة التي تعتبر مرجعيتها في أحكامها مستنده الى العلم والماديات والديمقراطية، حيث ان الديمقراطية هي نابعة من العلم الإنساني، فهي ايضاً احد الوسائل والطرق التي توصل اليها فلاسفة الإغريق وقام بتطويرها العلماء والمفكرين عبر التاريخ الأوربي وتكون بعيدة عن الاستناد الى الحكم طبق المعتقدات الدينية سواء كان عرفياً غير مكتوب او معتمد على الامور القضائية السابقة مثل دول الانجلوسكسونيه او قانون مكتوب مثل دول اخرى حيث انه يشرع عبر المجالس التشريعية أي السلطة التشريعية.
اما الدولة المدنية فهي من التمدن وذلك يدل على التحضر والتطور وتعتبر اليوم هي الدولة التي تتكون من مؤسسات المجتمع المدني بسلطاتها الثلاث ويكون عندها الاعتبار للمواطنة حيث تطبيق القانون على جميع المواطنين بلا تفرقة وبدون اي أساس في الدين او عرق وذلك عبر السلطات الموكل بها تنفيذه فالجميع متساوي امام القانون وفي الواجبات وايضاً الحقوق حيث ان الميزان الوحيد للتفرقة بين الاشخاص كافة هي النصوص القانونية والمواطنة أي دستور الدولة حيث ان المواطن الصالح لا يخالف القانون.
في الغرب
ترتكز الدولة في المدنية الغربية الحديثة على دعائم ثلاث
1 العلمانية أو اللا دينية secularism
2 القومية أو الوطنية nationalism
3 الديموقراطية أو حكم الشعب democracy
الدولة المدنية الحديثة في الغرب هي دولة علمانية، والعلمانية تعني فصل الدين عن الحياة، وعدم الالتزام بالعقيدة الدينية ، فلا دخل للدين في شؤون الحياة المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وإنما للبشر أن يعالجوا شؤونهم المختلفة على أسس مادية بحتة، ووفق مصالحهم ووجهات نظرهم وميولهم.
وهذه الدولة العلمانية (المتجذّرة في معظم الدوّل المتقدّمة من أمريكا غرباً حتى اليابان شرقاً، مروراً بكلّ أوربة حتى تركيا التي اسسها كمال اتاتورك وكانت قبلاً المركز الأخير للخلافة الاسلامية) هي:”دولةٌ تفصل بين السلطات السياسية، والمالية، العلمية، والدينية. تُخضِعُها جميعاً للقانون المدنيّ الذي يحدِّدُ أدوارها وميثاق علاقاتها”.
كلمة “الفصل” هنا ليست شديدة الأهمية فقط، لكنها بيت القصيد… ثمّة مبدآن علمانيان جوهريان ينبثقان من هذا الفصل: المبدأ الأوّل: تفصلُ الدولة العلمانية بين مجالين مختلفين في حياة الناس: العام والخاص. المجال العام (الذي يضمّ المدرسةَ، والفضاءَ المدني عموماً) مكرّسٌ لما يخدم جميع الناس، بغضّ النظر عن أصولهم وألوانهم ومعتقداتهم الدينية أو ميولهم الإلحادية. لا مرجعية فيه لأي دينٍ أو فلسفةٍ إلحادية. أما المجال الخاص فيستوعب كلَّ المعتقدات والرؤى الشخصية، دينية كانت أم لا دينية أو إلحادية. المبدأ الثاني: تضمنُ الدولة العلمانية المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين أيضاً. تدافع عن حريتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (حريّة الضمير) وتحترمها بحق.
الدولة المدنية
هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية او الدينية او الفكرية.
في الدولة المدنية هناك عدة مبادئ ينبغي توافرها، والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة أهمها:
أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم .
من مبادئ الدولة المدنية الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، كذلك مبدأ المواطنةوالذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. أيضا من أهم مبادئها أن تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، حيث أن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطا حمراء لاينبغي تجاوزها.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لاتعادي الدين أو ترفضه فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
كذلك مبدأ الديمقراطية والتي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية.
ووفق رؤية البعض: تبني الدولة المدنية الحديثة معاملاتها الداخلية والخارجية وفق نظرة ضيقة تتعصب للوطن ولأبناء الوطن، وتسعى لاستعلاء هذا والوطن وأبنائه على غيرهم، وهذه الغاية تبرر اتخاذ كافة الوسائل لتحقيقها دون ارتباط بقيم أو مراعاة لمبادئ وإن كانت سماوية، وهذه النظرة القومية والوطنية المتعصبة ظهرت أيضاً كرد فعل لتسلط الباباوات والقياصرة على شعوب اوربة فجاءت الدعوة إلى القومية والوطنية رفضا للخضوع للسلطة الكنسية والسلطة السياسية للأباطرة في الدولة الرومانية، ثم لاحقا وبعد سقوط رومة للامبرطورية الجرمانية المقدسة، وظهور الحركات الدستورية وبوادر تشكل مفهوم الأمم والدول، ليكون ولاء كل شعب لوطنه لا لغيره، وصارت القومية والوطنية غاية تبرر الوسيلة، والويل كل الويل للشعوب المغلوبة من استعلاء الشعوب المنتصرة، وتحولت حياة الشعوب إلى صراع من أجل العلو في الأرض والزعامة الدنيوية.
الدولة المدنية الحديثة دولة ديمقراطية
تبنت الدولة المدنية الحديثة النظام الديموقراطي في الحكم، ليكون الحكم بمقتضى مصالح كل شعب ورغباته، فالحق والصواب ما يحقق منافع الأمة الدنيوية، والخطأ والباطل ما كان لا يحقق مصالحها، وتقدير المنافع والمصالح تحدده رغبات الشعوب وأهواؤها، وما كان مرفوضاً بالأمس يقبل اليوم، وما يقبل اليوم قد يرفض غداً، فلا ثوابت ولا قيم ولا مبادئ إلا المصلحة والمنفعة تحددها قيادات وزعامات من البشر تقود الجموع إلى ما ترى.
الدولة هنا هي الدولة بالمعنى العصري للكلمة، هي البناء الفوقي لمجتمع المواطنين الذي يحفظ وجوده وتماسكه، انها حارسة الدستور الذي هو أبو القوانين، الدولة ليست الحكم، وليست الحاكم، الدولة هي ارادة المجتمع في استمرار وجوده والحفاظ على مصالحه العليا.
وهي تنشأ بموجب عقد اجتماعي، لمواطنين أحرار، متساوين أمام القانون، بغض النظر عن أصولهم العرقية، وانتمائهم الديني أو المذهبي.
نحن المواطنين الذين نعيش ضمن بقعة معينة (سوريا مثلا) قررنا أن نعيش معا ضمن دولة واحدة لا تفرق بين مواطن ومواطن.
هكذا يتم الطرح وبهذه البساطة، وقد لا يعجب البعض هذا، وقد لا يكون مطابقا للمثال الذي في مخيلته للدولة، أو الذي عاش عليه سنين طويلة. هذا مفهوم، وهو سبب للاختلاف بالتأكيد. لكن لايمكن التفاوض حول مفهوم الدولة هذا، فاما أن تقبله أو ترفضه.
لكن ما موقف هذه الدولة من الدين؟
اذا كانت المسألة هي التمييز بين دين وآخر في الحقوق والواجبات المرتبطة بمفهوم المواطنة فالدولة هنا بالتأكيد حيادية بصورة مطلقة.
لكن ذلك لا يعني أنها ضد الأديان، بل على العكس، هي مع كل الأديان، وفوق ذلك لا يمكن لتلك الدولة أن تكون بمعزل عن تاريخ شعبها اوشعوبها بثقافتها ودينها هذا مستحيل.
اذن وظيفة دولة المواطنة هي اقامة العدل والحفاظ على حقوق ومصالح كل المواطنين بدون تمييز.
بهذا المضمون بالامكان الاتفاق على أية تسمية كانت. أو حتى ترك الأمر بدون تسمية ليس ذلك على درجة كبيرة من الأهمية.
الآن لم أعد بحاجة لمصطلح العلمانية اذا كان يثير جدلا وشبهات لحقته على يد علمانيين كان همهم محاربة الدين.
نعم ثمة علمانية كانت ولاتزال مهتمة بمحاربة الدين أكثر من اهتمامها بمضمون الدولة وشكلها.
وهنا العلمانية هي شكل من أشكال الايديولوجيا والمعتقد السياسي (كما في المنظومة السوفيتية سابقاً والتي فشلت بدليل ايمان الناس الجبار خلالها، بالرغم من القهر والقتل والنفي للاكليروس حتى البطاركة للرهبان والراهبات، والعودة العارمة من كل الناس الى الدين علنا وبكل قوة بعد زوالها) أكثر من كونها شكلا للدولة. الحل البديل هو في دولة المواطنة.
أما الدولة المدنية فان كانت شيئا آخر غير دولة المواطنة فعلى أصحاب ذلك المصطلح أن يوضحوه كي لا يكون مصطلحهم مجرد تقنية فكرية تتيح لهم التهرب من الاختيار بين دولة “الخلافة” ودولة المواطنة.
في سورية المستقبل
نحن نريد في سورية الغد ان تكون دولة المواطنة لجميع ابنائها بعدما نزف الكل من اجلها واسشتهد وجرج وتعوق مئات الألوف من اجلها، وامتزجت دماؤهم كما عبر التاريخ، دولة مواطنة بغض النظر عن الدين والمذهب دولة للكل فيها ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات.
قد لا يعجب البعض هذا، وقد لا يكون مطابقا للمثال الذي في مخيلته للدولة، أو الذي عاش عليه سنين طويلة. هذا مفهوم، وهو سبب للاختلاف بالتأكيد.
لكن وللأسف لايمكن التفاوض حول مفهوم الدولة هذا، فاما أن تقبله أو ترفضه.
لكن ما موقف هذه الدولة التي نريدها من الدين؟
اذا كانت المسألة هي التمييز بين دين وآخر في الحقوق والواجبات المرتبطة بمفهوم المواطنة كما في المادة الثالثة من الدستور السوري الحالي التي تنص على ان دين رئيس الجمهورية هو الاسلام، هذه تخل بمبدأ ومفهوم المواطنة فالدولة هنا بالتأكيد يجب ان تكون حيادية بصورة مطلقة.
وابطال التعليم الديني في المدارس واحلال كتب التربية الوطنية بدل كتب التربية الدينية، واعادة النظر في مناهج التاريخ وتداخلها في الدين لما في ذلك من سلبيات تثير الغرائز والنعرات وتبعد شقة الخلاف بين الاخوة في الوطن الواحد، بل التأكيد في هذه المناهج على ان كل السوريين وبكل اديانهم، اسهموا في بناء حضارة سورية وحتى الوقت الحاضر.
لكن ذلك لا يعني أن دولتنا (سورية المستقبل) التي ننشد هي ضد الأديان، على العكس،بل هي دولة المواطنة التي هي مع كل الأديان وتحض عليها الأديان،لأن الأديان اداة تربية وأخلاق وتهذيب للشعب اذا ما ابعدت عن السياسة، وفوق ذلك لا يمكن لتلك الدولة المنشودة أن تكون بمعزل عن تاريخ الشعب أو الشعوب التي تمثلها وثقافتها ودينها. هذا مستحيل. ويجب ان تتناول كل هذه التواريخ والثقافات لأن سورية مهد الأديان والثقافات وانسانها مطرح لها.
فكرة المواطنة عصرية بلا شك، وهي وليدة الثورة الفرنسية
ووظيفة دولة المواطنة هي اقامة العدل والحفاظ على حقوق ومصالح كل المواطنين بدون تمييز.
بهذا المضمون بالامكان الاتفاق على اية تسمية كانت. أو حتى ترك الأمر بدون تسمية ليس ذلك على درجة كبيرة من الأهمية.
في سورية دولة الأديان والطوائف والمذاهب والاثنيات، وفي مجتمع فسيفسائي غاية في التعقيد لا يمكن أن يقوم سلام في المجتمع بدون دولة المواطنة، ليس لدينا خيارات متعددة بل خيار واحد، والتقسيم ليس خيارا، انه وضع للأساس لحروب داخلية لا تنتهي، كما أنه دعوة للجماعات المذهبية المتشددة لانشاء اماراتها على حساب وحدة سورية الأرض والشعب.
المانوية هرطقة دخيلة من عشرات الهرطقات التي دخلت على المسيحية وحاولت تشويهها وانتهت خلال القرون الستة المسيحية الستة الاولى…
فما هي المانوية، من اين اتت ومن هو مؤسسها وماهي تعاليمها، وتاريخها؟؟؟
تعريف معجمي للمانوية
صورة لماني
-مذهب منسوب إلى ماني بن فانك وُلد بجنوبي بابل نحو سنة 216 ميلاديّة، ادَّعى النبوّة ، وهي فرقة غنوصيّة مسيحيّة كانت أخطر البدع التي تعرضت لها المسيحيّة وأطولها عمرًا، وتختلط فيها التعاليمُ المسيحيّة بالتعاليم اليهوديّة والبوذيّة والزرادشتيّة، وأهمّ أركانها القول بالثنائيّة، أي: إله للنور وإله للظلام
وهي ديانة فارسية زعم صاحبها ” ماني ” أنه الروح القدس. من تعاليمها الابتعاد عن عبادة الأصنام والكذب وشرب الخمرة وأكل الحيوان أو أذاه ، إلخ وفق (معجم المعاني الجامع) و(المعجم الوسيط)و(المعجم الرائد)
-المانوية -أو المنانية تنسب إلى ماني مؤسسها الذي ظهر في زمان شابور بن اردشير وقتله بهرام بن شابور/ بعدعيسى/ المولود في عام 216م في بابل وقيل أن الوحي أتاه وهو في الثانية عشر من عمره وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذاهب القوم، وكان يقول بنبوة المسيح ولا يقول بنبوة موسى، فنحى منحىً بين المجوسية والمسيحية. (وفق ابن النديم في الفهرست).
توطئة
حاول ماني إقامة صلة بين بدعته والمسيحية، وكذلك البوذية والزرداشتية، ولذلك فهو يعتبر كلاً من بوذا وزرداشت ويسوع أسلافاً له، وقد كتب ماني عدة كتب من بينها “إنجيله” الذي أراده أن يكون نظيرا لانجيل الرب يسوع.
علماً ان أتباع المانوية هم من تعارف عليهم أولا بإطلاق لقب الزنادقة…
والمانوية من “العقائد الثنوية” أي تقوم على معتقد، أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة، وكان النور هو العنصر الهام للمخلوق الأسمى، وقد نصب الإله عرشه في مملكة النور، ولكن لأنه كان نقيا غير أهل للصراع مع الشر فقد استدعى “أم الحياة” التي استدعت بدورها “الإنسان القديم” وهذا الثالوث هو تمثيل “للأب والأم والابن”، ثم إن هذا الإنسان والذي سمي أيضا “الابن الحنون” اعتبر مُخَّلِّصاً لأنه انتصر على قوى الظلام بجلده وجرأته، ومع ذلك استلزم وجوده وجود سمة أخرى له وهي “سمة المعاناة”، لأن مخلص الإنسان الأول لم يحقق انتصاره إلا بعد هزيمة ظاهرية. و يعد موضوع آلام الإنسان الأول وتخليصه، الموضوع الرئيس في الميثيولوجيا المانوية، فالإنسان الأول هو المخَّلِّص وهو نفسه بحاجة للافتداء اي الذي يجب ان يَخْلُصْ، والملاحظ من ذلك التشابه بين المانوية والغنوصية.
حاول ماني إقامة صلة بين ديانته والديانة المسيحية وكذلك البوذيةوالزرادشتية، ولذلك فهو يعتبر كلاً من بوذاوزرادشتويسوع أسلافاً له، وقد كتب ماني عدة كتب من بينها إنجيله الذي أراده أن يكون نظيرا لإنجيل المسيح. أتباع المانوية هم من تعارف عليهم أولا بإطلاق لقب الزنادقة. في الصورة تلك العلاقة مع اسلافه المسيح وزرداشت…
العرفانية
مصطلح عام يُطلق على سلسلة عريضة من نظم التأملات الدينية التي تتماثل في نظرتها إلى أصل الإنسان. وهي تعد هرطقة من الهرطقات المسيحية، وهي سابقة على المسيحية. وجميع الديانات الغنوصية تعتمد عقيدة الخلاص (الفداء) وأداة الخلاص هي (غنوص Gnosee) التي تعني المعرفة أو (العرفان) وهذه المعرفة تهتم بفهم الأشياء المقدسة وكيفية الخلاص، والغنطسة لا تتحصل عن طريق العقل وإنما من خلال نوع من الإلهام الداخلي.
و قوام الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي، فبذلك يمكنها أن تصعد لله، هذا وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان أصلها السامي أي سبب لها الجهل، والخلاص من الجهل هو المعرفة، ولذلك هو بحاجة للمخلص والذي سمى “ابن الله” أو “يسوع”. والجسد ورغباته شر لأنهما يمنعان الروح من الخلاص ولذلك تشجع المانوية على الزهد والرهبنة.
تحرم المانوية كل ما من شأنه تشجيع شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ من الشيطان فلذلك كان محرما، فالمانوية أُعدوا ليعيشوا على الفواكه وخاصة البطيخ ، كما أن الزيت مستحسن. أما الشراب فقد كان عصير الفواكه هو الاختيار الأول وفرض اجتناب تناول كمية كبيرة من الماء لأنه مادة جسدية، كما حرم عليهم قتل الحيوانات والنباتات ومن يفعل ذلك فإنه سيعاقب بولادته من جديد الشيء الذي قتله، فرض عليهم التخلي عن الزواج والمعاشرة الجنسية التي تعتبر شيئا شريرا كما عد الإنجاب أسوأ منها بكثير. وحدهم “المجتبون” هم الذين تمكنوا من تنفيذ هذه الوصايا، أما “السماعون” فقد أوكل إليهم القيام بالأعمال المحظورة على المجتبين وتزويدهم بالطعام، ويترافق تناول تلك الأطعمة بإعلان براءة المجتبين من ذلك الفعل. مثال على قول أحدهم عند أكله للخبز: “لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن بل فعل ذلك شخص آخر، وأحضرك إلي فأنا أتناولك دونما إثم.” كما أن ممارسة الاعتراف والتوبة قانون هام.
ذُكر أيضا وجود التعميد المانوي، والعشاء الرباني أو”الوليمة المقدسة” والتي كانت في نهاية الشهر الثاني عشر، أو نهاية شهر الصوم المانوي، وكان محور هذا العيد هو تذكر وفاة ماني وهذه المعتقدات تشبه مثيلاتها في المسيحية.
وصف المانوييين ب”الزندقة” وكلمة “زنديق” هي كلمة فارسية دخيلة مشتقة من “زنديك” وتعني أتباع “زند”، وتشير إلى النوع الخاص من التقاليد المكتوبة الثابتة التي تنتمي إلى الشكل المجوسي من شيز، وإنما اتى وصف المانوية بهذا الاسم كدلالة على أنهم أتباع تقاليد هرطقية، إذ أن كلمة “زنديق قد حازت على هذه الدلالة في العصور الساسانية- ولأنهم ربطوا مع ديانة المجوس.
صورة داخل كتاب هي ربما من القرن الثامن أو التاسع، فيها رسم صفين من الكهنة المانويين في ثيابهم الطقوسية، و يحتوي وسط الصورة على نص بالصفدية المتأخرة (الايغورية)
تقهقرت واندثرت العقيدة المانوية، أما في الغرب فبسبب عجز المانوية في مناقشاتها مع علماء اللاهوت المتدربين فلسفياً على عكس المانويين، وفي الشرق الأوسط فبانتشار الإسلام وفي الشرق الأقصى بمعارضة البوذيين والكنفوشيين والمغول لها. هناك رواية للكاتب أمين معلوف بعنوان (حدائق النور) تدور حول ماني والمانوية وهي مترجمة عن الفرنسية.
مدخل تاريخي
بعد سقوط بابل في 539 قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين، بسط الفرس نفوذهم على بلاد الرافدين حتى القرن السابع المسيحي، أي ما يقرب من 11 قرناً. تخلل هذه الحقبة ثورات وتمردات فاشلة قام بها أهل الرافدين، بالإضافة إلى حروب طاحنة بين الفرس من جهة والإغريق والرومان من جهة ثانية للسيطرة على أرض الرافدين. وقد تمكن الإغريق والرومان من انتزاع الرافدين من الفرس عدة مرات وفرض سيطرتهم على هذه مدة عقود وقرون متقطعة، لينتزعها الفرس منهم من جديد. وهذه الحقبة تشبه إلى حد بعيد الحقبة التي أعقبت سقوط الدولة العباسية ونشوب الصراع بين الأتراك والفرس للسيطرة على العراق.
خلال هذه القرون الطويلة تمكن أهل بلاد النهرين من الحفاظ على هويتهم السكانية والثقافية والدينية المتميزة عن فارس. وظل الانتماء السامي هو السائد وظلت اللغة الآرامية أولاً ثم فرعها السرياني منتشرين بين سكان بلاد النهرين، بل إن هؤلاء فرضوا لغتهم السريانية لتكون لغة الثقافة الأولى في الإمبراطورية الفارسية نفسها، (وتكلمت الارياف الشامية الآرامية ثم السريانية بتأثير التبادل التجاري في حين تكلمت المدن والحواضر اللغة اليونانية في ظل امبراطوريات المشرق اليونانية ( الاسكندر المقدوني) والهلنستية ثم الرومانية وكانت اليونانية فهي لغة العلم والثقافة والدواوين، والرومية البيزنطية ولغتها يونانية) بحيث فضلت اللغة الفارسية البهلوية استعمال الأبجدية السريانية، والتخلي عن نظام الكتابة المسمارية الذي سبق أن اقتبسوه أيضاً من أهل مابين النهرين، ثم إن هؤلاء ظلوا بعيدين عن الإيمان بالدين الزرادشتي الذي كان الدين القومي والرسمي للفرس، وحافظوا على ديانتهم البابلية الموروثة والقائمة على عبادة الآلهة الممثلة بالكواكب وقوى الطبيعة والمنقسمة عموماً إلى ثنائية قوى الخير والنور وقوى الشر والظلام. علماً أن هذه الثنائية البابلية هي التي أثرت في الفرس وديانتهم الزرادشتية، وليس العكس. كان هناك أيضاً تواجد مهم لطوائف يهودية نشطة في أنحاء الرافدين، منذ جلبهم من فلسطين على يد الكلدانيين. ومع انبثاق المسيحية في بلاد الشام في القرن الأول الميلادي، بدأت بالتدريج تتسرب إلى العراق من القسم الشمالي (الرها ونصيبين) ثم نينوى وكرخاسلوخ (الاسم السرياني لكركوك الحالية) حتى ولاية بابل ومنها إلى ولاية ميسان في الجنوب (وكانت تشمل كذلك البصرة والأهواز). وكانت المسيحية مصحوبة بتيارات عرفانية غنوصية وهرمزية صوفية، قادمة من الشام ومصر، مع بعض التأثيرات الإغريقية. وبدأت تتشكل طوائف مسيحية عدة في شمال ووسط بلاد الرافدين، بالإضافة إلى الصابئة في الجنوب الذين مزجوا المسيحية بالعرفانية مع أصول الدين البابلي.
راهب مانوي ايغوري، صورة جدارية من القرن العاشر أو الحادي عشر
المانوية ديانة هرطوقية عراقية
في مثل تلك الظروف السائدة في بلاد الرافدين في القرن الثالث المسيحي، نشأ ما يسمى “الدين المانوي”، حيث اشتق من اسم رجل بابلي أعلن النبوة يدعى ماني. جميع المصادر التاريخي فارسية وعربية وغربية تتفق على القصة التالية لسيرة هذا “النبي”: “ولد ماني عام 216 م في إحدى قرى ولاية بابل وكان دينه بابلي (وثني)، وفي سن الرابعة رحل أبوه إلى إحدى قرى ولاية ميسان في جنوب العراق. هناك نشأ ماني على “الدين الصابئي”. وفي سن الشباب أخذ ماني يتنقل في أنحاء الرافدين واستقر في بابل. أعلن ماني “نبوّته” وتكوينه “للدين المانوي” الذي انتشر خلال أقل من قرن من الصين حتى إسبانيا وبلاد الغال.”
“اديان” بلاد الرافدين
لا يمكن وضع المانوية ضمن الأديان القديمة لبلاد الرافدين، بل هي نشأت في القرن الثالث المسيحي، اي في المرحلة الثانية من تاريخ منطقة الرافدين، ونعني بها المرحلة الآرامية المسيحية، لذا هي هرطقة مسيحية بامتياز. لكننا فضلنا الحديث عنها ضمن نفس الفصل ، لأنها ديانة من ديانات الرافدين الأصيلة الوثنية والهرطوقية، وقد انبثقت من احضان المندائية (المعمدانية) البابلية ، وظلت نشطة حتى العصر الاسلامي، حيث تركت آثارها الواضحة في التصوف العراقي لاحقاً.
تعتبر(المانوية) واحدة من أبرز الأمثلة على التغريب والتشويه اللذَّين تمت بهما كتابة تاريخ المشرق، خصوصاً بالنسبة إلى الحقبة ” الآرامية السريانية ” التي وحدت ثقافياً ولغوياً بلاد الرافدين والشام او(بلاد الهلال الخصيب) خلال الألف عام التي سبقت دخول المسلمين الآتين من وسط شبه الجزيرة العربية الفاتحين للهلال الخصيب. ومن المثير للعجب إتفاق جميع المؤرخين العرب والأجانب على اعتبار المانوية ديناً آرياً فارسياً، رغم جميع الشواهد التي تدحض تماماً مثل هذا الرأي، وتبين بصورة قاطعة أن هذا المسمى “ديناً” (والأصح هرطقة وبدعة) هو عراقي الموطن، مؤسسه رجل بابلي، واللغة التي نطق وكتب بها هي السريانية، لغة أهل الرافدين، وبراري الشام واريافها خلال عدة قرون قبل ان يتمكن المسلمون من دخولهما، والتراث الديني الذي نهل منه ماني هو التراث السامي: البابلي، العرفاني، والمسيحي.
المندائيون المعمدانيون او الصابئة وطقس العماد بلباسهم الابيض
يبدو أن السبب الأول لهذا التشويه التاريخي، مرتبط بالفكرة الخاطئة التي سوق لها بعض كتَّاب التاريخ المسلمين سابقاً وحالياً، المتعصبين بدون مبرر وبكل اسف، والرافضين لأي وجود حضاري مشرقي قبل الاسلام، وفكرتهم هذه تعتبر أجنبياً، كل تراث الحقبة التي سبقت الوجود الاسلامي بهذه المنطقة الوافد من الجزيرة مطلع القرن السابع المسيحي ( تم دخول دمشق635مسيحية) وهي لسكانها الدمشقيين السوريين اساساً وليسوا اجانب مستوردين اليها، او غرباء عنها بل هم سكان الارض بكل اديانهم ومذاهبهم. فهو تراث محلي رافدي ( عراقي وفق تسمية اليوم) اصطبغ بالصبغة الفارسية فيما يخص بلاد مابين النهرين بسبب الخضوع المباشر للأمبراطوريات الفارسية، والهلنستية ورومانية والرومية فيما يخص سكان سورية ومصر وشمال أفريقيا. ايضاً بسبب خضوعهم للوجود اليوناني الشرقي ( الهلنستي) والروماني والرومي. إن التشويه الذي تعرض له تاريخ (المانوية) مثال ساطع على التجاهل والتشويه الشاملين المقصودين اللذَّين تعرضت لهما جميع تفاصيل سكان المشرق المسيحي وتراثهم السابق للوجود الاسلامي بستة قرون: منها التراث المسيحي الانطاكي الارثوذكسيخاصة، والمسيحي عامة، والتراث اليهودي السابق له ثم تراث الهرطقات المسيحية (الصابئية المندائية (المعمدانية) والعرفانية (الغنوصية) والمانوية والهرمزية). كذلك جميع الابداعات الثقافية واللغوية والحضارية في مجالات الفنون والعلوم والفلسفة واللغات والآداب اليونانية والآرامية والسريانية والقبطية. إذ بكل اسف تم احتساب تراث هذه الحقبة على تراث الدول المحكي عنها، التي كانت مسيطرة على المنطقة، واعتبر مشوهو التاريخ ان هؤلاء السكان وتراثهم اتى مع الغزاة…!
بعد سقوط بابل في (539) ق.م على يد الفرس الأخمينيين الذين بسطوا نفوذهم على بلاد الرافدين كلها حتى القرن السابع، أي ما يقرب من 11 قرناً. تخلل هذه الحَقَبة ثورات وتمردات فاشلة قام بها سكان الرافدين، بالإضافة إلى حروب طاحنة بين الفرس من جهة والاسكندر وجيشه اليوناني ثم الهلنستيين فالرومان والروم ( على التتابع تاريخياً) من جهة ثانية للسيطرة على بلاد الرافدين. وقد تمكن الأخيرون من انتزاع الرافدين من الفرس عدة مرات وفرض سيطرتهم عليه مدة عقود وقرون متقطعة، لينتزعه الفرس منهم من جديد. وكانت هذه هي بداية “المسألة الشرقية” (وتداعياتها التي نعاني منها حتى اليوم برد الغزو الشرقي الفارسي لليونان) منذ معركة الماراتون البرية وسلاميس البحرية في اليونان، وهذه الحقبة تشبه إلى حد بعيد الحقبة التي أعقبت سقوط الدولة العباسية ونشوب الصراع بين المرتزقة الأتراك والفرس للسيطرة على بلاد الرافدين.
طقس العماد يقوم به رجل الدين
ظروف نشوء الهرطقة المانوية
خلال هذه القرون الطويلة، تمكن أهل الرافدين من الحفاظ على هويتهم السكانية والثقافية والدينية المتميزة عن بلاد فارس. وظل الانتماء السامي هو السائد، وظلت اللغة الآرامية أولا،ً ثم فرعها السرياني، منتشرين بين سكان الرافدين، بل انهم بفضل التجارة انتشرت لغتهم، لتكون لغة الثقافة الأولى في الامبراطورية الفارسية نفسها، بحيث فضلت اللغة الفارسية (البهلوية) استعمال الأبجدية السريانية، والتخلي عن نظام الكتابة المسمارية الذي سبق ان اقتبسوه أيضاً من أهل الرافدين. ثم إن السكان ظلوا بعيدين عن الإيمان بالزرداشتية التي كانت الدين القومي والرسمي للفرس. حافظ سكان مابين النهرين على ديانتهم السامية – البابلية الموروثة، والقائمة على عبادة الآلهة الممثلة للكواكب وقوى الطبيعة والمنقسمة عموماً إلى ثنائية قوى الخير والنور وقوى الشر والظلام. علماً أن هذه الثنائية البابلية هي التي اثَّرتْ في الفرس وديانتهم الزرادشتية، وليس العكس كما توهم عادة المؤرخون . كان هناك ايضاً تواجد مهم لطوائف يهودية نشطة في انحاء الرافدين، منذ السبي الآشوري ثم البابلي الكلداني من فلسطين. ومع انبثاق المسيحية في بلاد الشام في الثلث الأول من القرن المسيحي الأول، بدأت بالتدريج تتسرب الى العراق من القسم الشمالي (الرها ونصيبين) ثم نينوى وكرخاسلوخ (الاسم السرياني لكركوك الحالية) حتى ولاية بابل ومنها الى ولاية ميسان في الجنوب (وكانت تشمل كذلك البصرة والأهواز) . وكانت هذه المسيحية المتسربة مصحوبة بتيارات هرطوقية عرفانية غنوصية وهرمزية صوفية، قادمة من الشام ومصرشوهتها. وبدأت تتشكل طوائف مسيحية عدة في شمال ووسط بلاد الرافدين، بالإضافة الى الصابئة (المعمدانيين) في الجنوب، الذين مزجوا المسيحية بالعرفانية مع أصول “الدين البابلي”.
صورة للمانويين من القرن التاسع مرتدين لثيابهم البيضاء الطقوسية و هم يقدسون ماني.
لكن مشكلة تحديد هوية هذه “الهرطقة المانوية المسماة عند البعض دينا”!!! ، تبدأ عند الحديث عن الشعب والحضارة اللذَّينْ ينتمي إليهما ماني المؤسس. جميع تفاصيل تاريخ المانوية تثبت بلا جدل بابلية “هذا الدين او الهرطقة” وعلاقته المباشرة بما سبق وبما لحق من تاريخ سكان الرافدين الفكري والديني حتى نهاية العصر العباسي.
تاريخ ماني وهرطقته
ولد ماني في 14 نيسان عام 216 ميلادية، قرب المدائن التي كانت مركز ولاية بابل والعاصمة الثانية للإمبراطورية الفارسية. ولهذا يطلق على هذا “النبي” لقب “ماني البابلي”، ويقول عنه المؤرخون: “نبي الله الذي أتى من بابل.”
عندما كان ماني في سن الرابعة، رحل به والده فاتك إلى قرية في ولاية ميسان جنوب العراق. ويبدو أن قرار الرحيل قد اتخذه الأب بعد تلقيه ثلاث مرات نداءات إلهية، بينما كان يتعبد في أحد المعابد البابلية، تدعوه إلى الرحيل إلى ميسان، وكذلك تجنب الخمرة واللحم والجنس. في ميسان اعتنق فاتك دين الصابئة الذين يتكلمون لهجة آرامية قريبة إلى السريانية وهي الآرامية الفلسطينية التي تحدث بها الرب يسوع. وكان دين الصابئة هذا سائداً في جنوب بلاد الرافدين قبل تسرب المسيحية، ويسميه المسلمون دين المغتسلة المعمدانيين بسبب تقديسهم لعملية التطهر بالماء. وهو دين مزج بين روحانيات العرفانية والمسيحية الشامية مع رموز عبادة الكواكب البابلية، ويرتبط بالنبي السابق للمسيح “يوحنا المعمدان”.
بقي ماني صابئياً معمدانياً حتى سن الواحدة والعشرين من عمره، بعدها بدأ تأثره مباشرة بالمسيحية، وخصوصاً بالتجربة الحياتية للمسيح وعذابات صلبه. وتَذْكر التقاليد المانوية أنه في سن الرابعة والعشرين، في 23 نيسان 240م. زعم ماني ان ملاكا من عند الله اسمه (القرين) ظهر له وابلغه ان الله اصطفاه واختاره نبيا للعالم اجمع، بل جعله آخر الأنبياء ليهدى به الضالين، والذين حرفوا أديان الأنبياء السابقين أمثال المسيح وزرادشت وبوذااسم هذا الملاك (توأم – توما) على أنه هو (الروح القدس) الذي بشّر به المسيح. حينها بدا ماني يعلن أنه نبي النور والمنير العظيم المبعوث من الله، نتيجة هذا تم طرده من الطائفة الصابئية.
صفحة من تراتيل مانوية وجدت في وسط آسيا تعود إلى حوالي القرن الحادي عشر، و فوق الكتابات المزينة مجموعة من الموسيقيين
بقي ماني صابئياً معمدانياً حتى سن الواحدة والعشرين من عمره، بعدها بدأ تأثره مباشرة بالمسيحية، وخصوصاً بالتجربة الحياتية للمسيح وعذاباته وصلبه. وتَذْكر التقاليد المانوية أنه في سن الرابعة والعشرين، في 23 نيسان 240م. تلقى ماني رسالة النبوة من الله بواسطة الملاك (توأم – توما) على أنه هو (الروح القدس) الذي بشّر به المسيح. حينها بدا ماني يعلن أنه نبي النور والمنير العظيم المبعوث من الله، نتيجة هذا تم طرده من الطائفة الصابئية.
رحل ماني مع أبيه واثنين من أصحابه إلى بابل، ومنها قام بأول رحلة عبر بلاد فارس ثم إلى الهند وبعدها إلى بلوشستان، حيث عاين ودرس الأديان السائدة من زرادشتية وبوذية وهندوسية. بعد عامين 242م عاد ماني الى ميسان بحراً عبر الخليج العربي
في عام 745م كون الأتراك دولتهم الأيغورية على حدود الصين وفي منغوليا الشمالية. كان أحد ملوكها يسمى بوقي خان، هذا اعتنق المانوية وجعلها الدين الرسمي للدولة، في خلالها وصلت المانوية إلى الصين فشيدت المعابد المانوية إلى جانب المعابد البوذية، حتى وصلت إلى روسيا وسيبيريا، لكن نهاية الدولة التركية الأيغورية عام 817م على يد القرغيزيين أدى إلى نهاية المانوية في آسية، ويعتقد أنها استمرت في تركستان الشرقية حتى القرن الثالث عشر، ومع اجتياح المغول بقيادة جنكيز خان تم القضاء التام على المانوية، لكن الأثر الكبير الذي تركته هذه الهرطقة في شعوب آسية يتمثل في تبنيهم للأبجدية المانوية السريانية في كتاباتهم الأيغورية التركية، بالإضافة إلى تأثيرات ثقافية ودينية لا تحصى.
مضمون المانوية احتقار الحياة
يمكن اعتبار المانوية أساس التصوف، فهي “دين” (غنوصي – عرفاني) متطرف في الزهد والتنسك، وتقديس الموت، واحتقار ماديات الحياة. قد تكون المانوية التي نشأت في بلاد الرافدين، تعبيراً عن ردة فعل سلبية ومتشائمة، إزاء الظروف القاسية التي عاشها السكان بسبب السيطرة الفارسية، وفشل ثوراتهم ودمار الرافدين، بعد تحول البلد إلى ساحة للحروب الدائمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. ثم الشعور بالخيبة والحسرة على ضياع أمجاد بابل القديمة، وفقدان الأمل بأية قدرة على الخلاص إلا بالزهد وتجنب ملذات الحياة.
الفكرة الأساسية للهرطقة للمانوية
صورة مانوية في أعلاها كاهن مانوي في ثوبه الطقوسي و حوله عدد من الكهنة، و هناك في أسفل القطعة و على الجانب الأيمن بالذات صورة عدد من الأرباب الهندوسية (قرن ثامن أو تاسع)
يمكن إيرادها باختصار كالتالي
إن الله هو الخير والنور، والشيطان هو الخطيئة والظلام. جميع الأشياء المادية من أرض ونبات وحيوان وأجساد هي جزء من قوى الخطيئة والظلام، وجميع الأشياء الروحية من حلم وعقل وخيال هي جزء من قوى الخير والنور. إذاً على الإنسان التواق إلى الخير والخلود في حدائق النور(الجنة) أن يحتقر الجسد وجميع ماديات الوجود، بالامتناع عن الجنس والخمر واللحم، وتجنب جميع الخطايا. وقد يصل الأمر إلى حد احتقار الحياة ونبذ الجسد وتفضيل الموت، من أجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظلام. واعتبر ماني أن روح الإنسان المنيرة تتعذب على الجسد، صليب الظلام، مثلما تعذب “عيشو زاهي” عيسى الزاهي على صليبه.
إن الخطيئة ترتكب بثلاث وسائل: القلب (النية)، والفم (الكلمة)، واليد (الفعل). لهذا فإن وصايا ماني كانت: ” لا ترتكب الخطيئة، لا تنجب، لا تملك، لا تزرع ولا تحصد، لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً”. طبعاً مثل هذه الوصايا لا يستوجب تطبيقها من قبل جميع أتباع المانوية، إنما فقط من قبل النخبة الدينية المنقسمة إلى أربع مراتب: 12 حواريون، 72 شماسون، 360 عقلاء، ثم الصدّيقين غير محدودي العدد، أما باقي المجتمع فيطلق عليهم السمّاعون الذين يلتزمون فقط بالصلاة أربع مرات يومياً، والسجود 12 مرة في كل صلاة، والصوم شهراً كاملاً كل عام في نيسان، ودفع العشر والزكاة وتقديم الغذاء للصديقين.
كتب البدعة المانوية
تعتمد الهرطقة المانوية على كتب ماني، المليئة بالشروحات والحكايات والأساطير المعقدة والمفصلة جداً. الأسطورة المانوية عن تكوين الخليقة تشبه إلى حد بعيد الأسطورة السومرية – البابلية المعروفة ((حينوما عاليش)) أي (حينما عالياً، أو حينما في الأعالي)، لكن أسماء الآلهة السامية القديمة تستبدل بها أسماء سريانية ومسيحية محدثة. مذهب التثليث في المسيحية (الآب والابن والروح القدس) يستبدل ماني به “العظيم الأول” و”أم الحياة” علماً أن هذا التثليث موجود في جميع الأديان البابلية والسامية، لكن بأسماء مختلفة (مثلاً في قصة الخليقة البابلية هناك أبسو – الأب، وممو – الابن، وتعامة – الأم).
وإن فكرة تناسخ الأرواح التي اقتبسها ماني من البوذية، حوّرها تماماً بما يتلاءم مع عقيدته الخاصة. ليس أي إنسان يموت تنتقل روحه تلقائياً إلى إنسان آخر، إنما يعتمد ذلك على كونه خاطئاً أم لا. لأن تكرار الحياة يعتبر نوعاً من العقاب. فالإنسان النقي المؤمن تذهب روحه مباشرة إلى حدائق النور جنان الله، أما الإنسان الخاطئ فيعاقبه الله بانتقال روحه إلى إنسان آخر ليعيش حياة أخرى وأخرى حتى يصبح نقياً ومؤمناً، فيتوقف التناسخ وتذهب روحه إلى جنة الخلود.
ماني وامه
ماني متوسطاً من سبقه من الانبياء كونه خاتم الانبياء
عاش (ماني) تجربة قاسية ناحية امه، إذ امضى طفولته محروماً منها، بل محروماً من حنان الانوثة بصورة تامة. وتبدأ المعاناة عندما تخلي ابوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، اما ان تكون الصابئية نفسها او طائفة منشقة عنها. وكانت الصابئية عموما منتشرة بكثرة في جنوب العراق. والمشكلة ان هذا الطائفة المحسوبة على الصابئية التي انتمى اليها فاتك كانت تعادي المرأة وتعتبرها رجسا من عمل الشيطان، وترفض اي اتصال بها او التقرب منها، بل ترفض حتى دورها الامومي! لهذا ما ان بلغ الطفل ماني عمر اربع سنوات، حتى اتى ابيه فاتك من ميسان حيث كان منعزلا مع طائفته، واخذه من امه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيد عن الحياة” الفاسقة”، وعن المرأة خصوصاً، واعتنق دين الصابئة…
التبشير بالبدعة المانوية
وتذكر المصادر التاريخية أن ثمة قبائل عربية قادمة من عُمان كانت متنفّذة حينذاك في ميسان تحت سيطرة الحكم الفارسي. هناك شاءت الظروف أن يخوض ماني تجربة مشهودة، مكنته من فرض تأثيره على حاكم ولاية ميسان الفارسي (مهر شام) وكسبه إلى جانب المانوية. وكان مهر شام هذا أيضاً شقيقاً للإمبراطورالفارسي شاه بور، حيث توسط لدى أخيه ليسمح لماني بنشر دينه دون مضايقة. ومن المعروف عن ماني أنه بالإضافة إلى شخصيته النبوية، فإنه كان طبيباً ونقاشاً ورسّاماً وكاتباً ومترجماً. وهو الوحيد الذي قام بنفسه بكتابة ما اسماه “إنجيل” بدعته وباقي كتبه المعروفة التي تزيد على سبعة، بينها كتاب مزين برسوم توضيحية ملونة، يعتقد أنها شكلت الأساس الأول لانبثاق فن النمنمة السوري ثم الفارسي والتركستاني.
بدأ ماني بتكوين “كنيسته” الهرطوقية في بابل وأطلق عليها كنيسة النور، وانتشرت كنائس هرطقته أولاً في بلاد الرافدين: ميسان والأهواز وبابل ونينوى وكركوك. لكن ماني لم يكتف بحدود الرافدين بل اعتبر نفسه المسيح المخلص للبشرية جمعاء، وأنه خاتم الأنبياء، ويقول في هذا الخصوص: “ندائي يتجه نحو الغرب وكذلك نحو الشرق، وهو يسمع بجميع اللغات وفي جميع المدن. كنيستي تفوق الكنائس السابقة، لأن تلك الكنائس قد اختيرت لبلدان ومدن محددة، بينما كنيستي أتت لجميع البلدان، وإنجيلي يبتغي جميع الأوطان.”
لهذا بدأ ماني ببعث تلامذته “الحواريين الاثني عشر” إلى جميع بقاع الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية لنشر الدعوة الجديدة. تماما كما فعل السيد المسيح بارساله تلاميذه الى العالم، فبعث ماني أولاً إلى الشام ومصر ثلاثة من حوارييه: توما وهرمس وعدي. وخلال أقل من قرن انتشرت المانوية في مختلف بقاع الأرض، من شواطئ المحيط الهادي والهند والصين والتيبت وسيبيريا وتركستان وإيران ثم جميع الضفاف الشرقية للمتوسط حتى إيطاليا وبلاد الغال (فرنسا). لقد وجدت آثار معابد وكتابات ورسوم هذا الدين في جميع هذه البقاع، وأهم الوثائق وجدت في الفيوم بجنوب مصر مكتوبة باللغة القبطية. يبدو أن المانوية كان لها الانتشار خصوصاً بين الطوائف المسيحية بسبب علاقتها المباشرة معها فهي هرطقة مسيحية تُوهِمْ المسيحيين بأنها من المسيحية…! ومن أهم الذين تحدثوا عنها هو القديس أوغسطينوس المغبوط اسقف قرطاج الذي اعتنقها لعدة سنوات قبل أن ينقلب عليها ويفند زيفها وهرطقتها.
في تاريخ غير محدود بصورة تامة بين (274 – 277) مسيحية، تم صلب ماني على أحد أبواب مدينة بيت العابات (جند يسابور) في اقليم الاهوازبشط العرب، وقد تم ذلك بقرار من الإمبراطور الفارسي برهام الأول لأسباب سياسية طبعاً، وبعد تحول بابل إلى مركز لدين عالمي واحتمال استعادتها من جديد لأمجادها السابقة، وما يشكله هذا من خطر على النفوذ الفارسي. كذلك خوف رجال الدين الزرادشتيين الذين نقموا على ماني بسبب تأثيره المتزايد. لقد عُذِبَ ماني وصُلِبَ وقُطِعتْ أطرافُه ثم أُحرقتْ جثته ونُثِرَ رماده. لكن المانويين ظلوا يعتقدون بصعوده إلى السماء مثل السيد المسيح، ويعتبرون هذا اليوم مقدساً يصومون بعده ثلاثين يوماً في شهر نيسان.
صعود ماني الى السماء بعد موته مصلوباً
الضربات التالية التي تلقتها الهرطقة المانوية في الأمبراطورية الرومية ومن الكنيسة، ففي عام 445م أعلن البابا ليون قراره بتحريم نشاط المانوية. وفي عام 527م قرر الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الحكم بالإعدام على جميع أتباع المانوية. لكن الكثير من المؤرخين الأوروبيين يعتقدون أن المانوية ظلت حية في أوربة بأشكال خفية متعددة، خصوصاً بين الطوائف المسيحية السرية المؤمنة بالتصوف والروحانيات والطقوس السحرية والتي تعتمد في إيمانها على الأفكار الثنوية.
الانشقاقات في البدعة المانوية
في القرن الخامس المسيحي حدث أول انشقاق في مايسمى ” الكنيسة المانوية”، حيث تم انفصال الطوائف المانوية في آسيا الوسطى (تركستان ومنغوليا)، ورفضوا تبعيتهم ماتسمى”كنيسة بابل” وكونوا كنيستهم القومية، ثم أعقب ذلك انشقاق “الكنيسة المانوية في بلاد فارس”، وذلك بتكوين فرع قومي مستقل عن بابل، حمل اسم “المزدكية”، نسبة على مؤسسها “مزدك الفارسي”، يبدو أن هذه الطائفة ابتعدت عن المانوية بالاقتراب أكثر من ناحية الزرادشتية، مع ميول ثورية واشتراكية. ربما لهذا خلط معظم المؤرخين المسلمين والعرب بين المانوية العراقية والمزدكية الفارسية، علماً أن طائفة المزدكية أثناء نفوذها في الدولة الفارسية، قامت باضطهادات ومذابح معروفة ضد المسيحيين والمانوييين في بلاد الرافدين، مما أدى إلى هجرة الكثير من المسيحيين والمانويين العراقيين إلى بلاد تركستان وتكوين جاليات مانوية، ومسيحية نسطورية نشطت بنشر الثقافة السريانية البابلية.
إن الهروب المستمر للمانوية من بلاد الرافدين والمشرق، وخصوصاً أثناء اضطهادات الفترة العباسية الفارسية لأتباعها أدى الى تزايدهم في أواسط آسيا التركية الأصل. في عام 745م كون الأتراك دولتهم الأيغورية على حدود الصين وفي منغوليا الشمالية. كان أحد ملوكها يسمى بوقي خان وقد اعتنق المانوية وجعلها الدين الرسمي للدولة، من خلالها وصلت المانوية إلى الصين فشيدت المعابد إلى جانب المعابد البوذية، حتى وصلت إلى روسيا وسيبيريا، لكن نهاية الدولة التركية الأيغورية عام 817م على يد القرغيزيين أدى إلى نهاية المانوية في آسية، ويعتقد أنها استمرت في تركستان الشرقية حتى القرن الثالث عشر، ومع اجتياح المغول بقيادة جنكيز خان تم القضاء التام على المانوية، لكن الأثر الكبير الذي تركته هذه الهرطقة في شعوب آسية يتمثل في تبنيهم للأبجدية المانوية السريانية في كتاباتهم الأيغورية التركية، بالإضافة إلى تأثيرات ثقافية ودينية لا تحصى.
الصوم
مخطوط صلوات مانوي بالايغورية يعود الى القرن الثامن او التاسع
حمل الصيام قدسية في كل الأديان والمذاهب وبالذات في المسيحية، وكان منها النصيب للهرطقة المانوية أومايسمى اصطلاحا “الديانة المانوية”، قيل أن ماني فرض على أصحابه 10 فرائض، منها الصيام 7 أيام في كل شهر، ويقال عن كيفية الصوم عندهم أنه “إذا نزلت الشمس القوس، وصار القمر نورا كله، يصام يومين ولايفطر بينهما. فإذا أهلّ الهلال، يصام يومين ولايفطر بينهما، ثم بعد ذلك يصام، إذا صار نورا، يومين في الجدي. ثم إذا أهلّ الهلال، ونزلت الشمس الدلو، ومضى من الشهر 8 أيام يصام حينئذ 30 يوما، يفطر كل يوم عند غروب الشمس”. انتشرت المانوية في الهند وبلاد فارس وبلاد بابل، ووصلت حدود دعوتها إلى مصر وخراسان، ولكن المنطقة الأخيرة كانت المركز والمنطلق الماناوي في كل الاتجاهات. تهددت المانوية بالزوال من أوربة في القرن السادس، لكنها استمرت حتى القرن الرابع عشر.
يتمسك بعض العراقيين اليوم بأن المانوية هي “ديانة عراقية” معاكسين التيار الذي تحدثنا عنه قبلاً، وهو رفض ماهو كان قائماً قبل الاسلام واعتباره دخيلاً واجنبياً مفندين التبرير بأنه عرقي فارسي كما في توصيف المعاجم العربية في اول بحثنا،الذي طالما تمسك به المؤرخون الفرس والعرب والأجانب والقائم على الشك بأن “ماني” ربما يعود بأصوله من ناحية أمه أو أبيه الى الفرس وبالذات إلى العائلة الملكية الأخمينية الفارسية. لكن جميع الشواهد التاريخية تثبت أنه ينتمي عرقياً بصورة أكيدة الى سكان الرافدين.
1-قد يمكن الافتراض أن أمه فارسية لكن بعض المصادر تذكر ان اسمها “مريم” . أما أبوه فلا يمكن أن يكون فارسياً، وذلك لعدة أسباب: أن اسمه “فاتك”، وهذا الاسم لا يمكن أن يكون فارسياً لأنه اسم سامي عراقي، من فعل “فَتَكَ” ومستخدم حتى الآن في العراق . ثم إن اسم “ماني” هو ايضاً ليس اسماً فارسياً، إنما هو اسم سامي كذلك، لفظه العربي “أماني” وهو من “التمني” واللقب الذي كان يُعرف به هو”ماني حيا” أي “ماني الحي”، ومنه أتى المصطلح اللاتيني لهذا الدين Manicheismeأي “ماني – حيا-سيم.”
2-إن الزرادشتية كانت الدين القومي لجميع الفرس بينما عائلة “ماني” مثل باقي سكان الرافدين كانت على الديانة البابلية أولاً عندما كانت تقطن بابل، ثم بعد الاستقرار في ميسان اعتنقت هذه العائلة الديانة الصابئية، او المعمدانية وهي طائفة منتشرة حتى الآن في جنوب العراق – بما فيه عربستان (الأهواز) – , ثم إن جميع الباحثين يعترفون بأن علاقة المانوية بالزرادشتية ضئيلة جداً، ولم تدخل بعض التسميات الفارسية إلى المانوية إلا بعد انتشارها في فارس وترجمة كتب “ماني” السريانية الى اللغة البهلوية. علماً أن المانوية قد اقتبست الكثير من المسميات من جميع الشعوب التي وصلتها، فمثلاً في آسيا والصين أطلق “ماني” على نفسه لقب “بوذا الحي”. وغدا واضحاً أن المانوية كانت متأثرة أساساً بالمسيحية واخذت عنها، وبالذات بالأفكار الثنوية للقديس السرياني” برديصان” الذي دعا إلى نوع من المسيحية الثنوية، بالاضافة الى المعتقدات البابلية والسامية السائدة. لقد استخدم “ماني” أساساً اسماء رؤساء الملائكة وقد اقتبسها من المسيحية مثل جبرائيل ورفائيل وميخائيل وإسرائيل بالاضافة إلى يعقوب من العهد القديم. واعتبر “ماني” نفسه خاتم الانبياء وهوالروح القدس المعزي الذي قال عنه يسوع لتلاميذه :” انني لن اترككم يتامى بل سارسل لكم المعزي الروح القدس…”
إن “الثنوية” التي اعتقدت بها المانوية لم تكن فارسية، كما تصور خطأ الكثير من المؤرخين،بل هي أساس المعتقدات البابلية والسامية. يكفي معاينة أديان السومريين والساميين لإدراك أن هناك دائماً آلهة للخير والنور بأسماء متنوعة مثل “تموز وبعل وشمش وإيل ومردوخ وآشور” تقابل آلهة الشر مثل “نرجال وأريشكيجال وايراومروت” . وثنائية الخير والشر هذه وجدت تعبيرها في الأديان السامية السماوية من خلال مفهوم الله رمز الخلق والخير والنور، والشيطان رمز الشر والخطيئة والظلام.
3-المؤرخون قاطبة يتفقون على أن ماني ولد وعاش في بابل وميسان، وكانت لغته الأم ولغة كتبه وإنجيله المعروف هي اللغة السريانية، وقد ترجمت جميع كتبه فيما بعد الى اللغات الفارسية والايغورية التركية، واليونانية واللاتينية والقبطية. وبدأ بنشرهرطقته الدينية أساساً بين سكان الرافدين. يمكن الاستشهاد بماني نفسه وهو يحدد بدقة وبعبارة صريحة غير قابلة لسوء الفهم، إنتماءه إلى أرض بابل وتمايز “دينه” عن باقي الأديان:” إن الحكمة والمناقب لم يزل يأتي بها رسل الله بين زمن وآخر، فكان مجيئها في زمن على يد الرسول بوذا إلى بلاد الهند، وفي زمن على يد زرادشت الى أرض فارس، وفي زمن على يد عيسى إلى أرض المغرب (الشام). ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن الأخير على يديّ أنا ماني رسول إله الحق الى أرض بابل …”. ثم إن الأكثر من كل هذا، إصرار ماني على جعل بابل مقر الكنيسة الأم ومركز المرجعية الدينية والحوزة العلمية لجميع الطوائف المانوية في العالم، وبقي هذا التقديس الخاص لبابل لدى المانويين حتى نهايتهم بعد ألف عام.
الاسلام والمانوية
كانت القبائل السامية النازحة قبل الاسلام بما عرف بالهجرات العربية من شبه الجزيرة العربية، تندمج طبيعياً مع أهل الرافدين وتتبنى الأديان السائدة هناك، مثل اليهودية والمسيحية والمعمدانية الصابئة، والمانوية. يذكر أن عمر بن عدي ملك الحيرة العربي، كان من أنصار المانوية وحماتها المعروفين. يتحدث المؤرخ الإسلامي (ابن قتيبة) عن وجود المانوية في مكة قبل الاسلام:” وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة “. علماً أن تسمية “زنديق” قد شاعت في الفترة الإسلامية بمعنى المانوي . لقد اقتبس العرب هذه التسمية من الفرس، الذين كانوا منذ قرون يطلقونها على المانوية بمعنى”المنحرفين عن الدين”، وهناك من يعتقد أنها ربما كانت مشتقة من “صديق” السريانية وتعني رجل الدين المانوي.
يبدو أن دخول المسلمين بلاد الرافدين لم يضعف المانوية، بل على العكس منحها بعض الزخم، بسبب كثرة اتباع المانوية فيها بعد هجرة الأعداد الكبيرة منهم من الشاميين والمصريين إلى هناك بعد حكم الاعدام الذي كان قد أصدره الأباطرة الروم بحقهم . ثم إن الإسلام في أول الأمر لم يكن موقفه واضحاً من المانوية بسبب جهله بها، وقد اعتبرها في البدء من أديان أهل الكتاب. كما قال بأن الصابئة وهم في الحقيقة عبدة النجوم قال انهم المعمدانيين فاعتبرهم من اهل الذمة كالمسيحيين واليهود في العصرالأموي تمتع أتباع المانوية ببعض الحرية، خصوصاً في زمن الخليفة (الوليد الثاني -743-744) . وتذكر المصادر العربية أنه بين 754-775م كان (إمام الكنيسة المانوية) في أفريقيا هو أبا هلال الديهوري . ومما ساعد على نشاط المانوية في العصر الأموي استخدام الكثير من اتباعها كتّاباً في الدواوين في بلاد الرافدين بدل المجوس الفرس، وذلك بعد قرار تعريب الدواوين في ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي،وقد كانت تكتب باللغة الفارسية . ويبدو أن الاستعانة بأتباع المانوية في الدواوين وسع المجال أمامهم وركز أهميتهم . (نموذج ساطع لسوء فهم المؤرخين العرب،عندما يستغرب مؤرخ قومي مثل عبد العزيز الدوري هذا التحول نحو المانوية في الدواوين الأموية ببلاد الرافدين، لأنه لا يدرك أن الزرادشتيين فرس ولا يتقنون غير الفارسية،أما اتباع المانوية فأنهم من سكان الرافدين فكانوا يتقنون العربية القريبة من السريانية، لغتهم الأصلية. ولهذا تم استخدامهم في عملية تعريب الدواوين.
رغم تزايد الاضطهاد ضد المانوية في الفترة العباسية بإسم مكافحة الزندقة والمثنوية والإلحاد والدهرية والمجون، إلا أن أتباعها كانوا نشيطين خصوصاً في المجال الفكري، وشكلوا الحلقات الثقافية التي يطلق عليها “إخوان الصدق” (لاحظ التشابه مع” اخوان الصفا “. ويصف الجاحظ نوعية كتبهم بأنها :” أجود ما تكون ورقاً يكتب عليه بالحبر الأسود البراق ويستجاد له الخط” . ويذكر المؤرخون المسلمون أسماء لا تحصى من المثقفين الذين اتهموا بالزندقة المانوية في هذه الفترة (قد يمكن تشبيه تهمة المانوية والزندقة بتهمة الشيوعية والماركسية التي سادت العصر الحديث) . وقد شملت هذه التهمة كتاباً وشعراء مثل : صالح ابن عبد القدوس، بشار بن برد، أبو النواس، أبو العتاهية، حماد الرواية، عبد الله بن المقفع…وغيرهم. وقد حكم بالموت على الكثير من هؤلاء المثقفين بسبب هذه التهمة وهذا النشاط المانوي دفع الكثير من المثقفين المسلمين إلى تأليف الكتب للرد عليها وتفنيدها، مثل : واصل بن عطاء، الجاحظ ، أبو محمد بن الحكم، الجبائي، النوبختي المسعودي، الرازي،الرقي … وغيرهم (راجع فاروق عمر – المصدر نفسه)
يعتبر الخليفة العباسي (المهدي) (775-785م)، أول من أعلن الحرب ضد المانوية وجميع التيارات الفكرية المعارضة باسم مكافحة الزندقة، حتى سمي “قصاب الزنادقة”. وقد أنشأ من أجل ذلك “ديوان الزنادقة” بقيادة “عريف الزنادقة”. وكان اتباع المانوية يجبرون على المثول أمام القاضي، ثم يبصق المتهم على صورة ماني ويذبح طيراً ذلك لأن المانوية تحرم ذبح الحيوان. وفي حالة رفضه التوبة فإنه يحكم بالموت. وقد اوصى المهدي ولده الهادي طالباً منه الاستمرار في محاربة المانوية قائلاً:” إني رأيت جدك العباس في المنام قلدني سيفين وأمرني بقتل أصحاب الاثنين”. وفي أواخر العهد العباسي توسعت تهمة “الزندقة” حتى وصلت على يد الإمام الغزالي الى كل محاولة اجتهادية تخالف المذاهب السلفية، وتنحرف عنها في التفسير. واستمر الاضطهاد وتعاظم مع الخليفة (المقتدر) (908-932م)، وحسب (فهرست ابن النديم) أنه في أواخر القرن العاشر المسيحي، قد هبط عدد رموز المانوية في بغداد من 300 شخص إلى 5 أشخاص فقط . بسبب اضطهاد العباسيين المفرط لهم، ما اضطر الكثير من اتباع المانوية إلى الهروب منبلاد الرافدين إلى خراسان وكردستان وتركستان(ربما يكون اليزيديون في شمال الرافدين من بقايا المانوية الذين هربوا من اضطهاد العباسيين.)
لعب الماناويون والصابئة كما كل العناصر دوراً كبيراً في نقل الكثير من المعتقدات البابلية والعرفانية الصوفية إلى الحضارة العربية الإسلامية. يكفي ملاحظة التشابه الكبير بين الفلسفات الإشراقية والصوفية العربية الاسلامية وبين المانوية، ليس صدفة أن التصوف نشأ في حواضر العراق، البصرة والكوفة وبغداد لأن الكثير من اتباع المانوية الذين تحولوا إلى الاسلام نقلوا معهم معتقداتهم الإشراقية والصوفية البابلية ومزجوها بالإسلام. طبعاً هذا لا ينفي التأثيرات المباشرة للمسيحية والعرفانية الشامية المصرية، بالإضافة إلى المجوسية الفارسية والفلسفة اليونانية. ومن التشابهات الواضحة بين المانوية، أن ماني ادعى أنه النبي المخلص الذي بشر به المسيح وأنه خاتم الأنبياء، بالإضافة إلى تشابهات أخرى مثل تحريم الخمر، والصيام 30 يوماً، والوضوء بالماء أو التراب، والركوع أثناء الصلاة، وتفاصيل وصف الجنة والنار ويوم القيامة والحساب وعبور الصراط المستقيم . كذلك وجوب مساهمة أتباع المانوية (السماعين) بدفع جزء من أموالهم (عشر) و(زكاة) لرجال المانويين الصديقين.
ويمكن الافتراض أن المانوية قد لعبت دوراً مهماً في تكوين الكثير من الطوائف الصوفية والباطنية، مثل الاسماعيلية والعلوية والدرزية. أما بالنسبة إلى تشابه المانوية مع المذهب الشيعي وفق الكثير من الباحثين المسلمين السنة، فإنها تبدو قوية بحكم انبثاق التشيع في ارض الرافدين حيث كانت المانوية نشيطة. إن الكثير من اتباع المانوية (وكذلك النسطوريين) دخلوا المذهب الشيعي بحكم اشتراكهم مع باقي العراقيين في معارضة الحكمين الأموي ثم العباسي. يمكن ملاحظة هذا التشابه في مسألة الأئمة الإثني عشر (حورايو ماني كانوا كذلك 12) . بالإضافة إلى الميول العرفانية والإشراقية في المذهب الشيعي القريبة جداً من إشراقيات المانوية. ثم إن مفهوم “الاستشهاد” وتضحية ماني بحياته من أجل خلاص ملته يتشابه كثيراً مع تبجيل الشيعة لذكرى مقتل الإمام الحسين وتضحيته بحياته من أجل تقويم الإسلام. ويبدو أن طقوس الاحتفال بذكرى كربلاء وأيام عاشوراء تتشابه مع طقوس احتفال المانوية بذكرصلب ماني وموته وقبلها لدى سكان العراق والشام بذكرى موت تموز (بعل) وعودته إلى حياة الخلود. ثم ان التشابه الأهم من ذلك بين الشيعة والمانوية، إختيار الحلة ثم النجف التي هي جزء من أرض بابل التاريخية، لتكون مركز الشيعة في العالم والمنطقة المقدسة ومقر الحوزة العلمية كما اختار المانويون وقبلهم أهل الرافدين (بابل) لتكون المركز المقدس لديانة أسلافهم.
خاتمة
المانوية هي هرطقة نشأت من شخص بشري ادعى النبوة حاول فيها جعل ابن الله الوحيد الرب يسوع مبشراً به، وهو بالأساس ليس مسيحيا بل من الشيعة المندائية الصابئية المسماة معمدانية نسبة الى يوحنا المعمدان، ولكني في الخاتمة ورداً على الكتاب الذين رأوا تشابها بين الرب يسوع فادي البشروبين ماني متذرعين بذرائع وهمية سطحية منها تشابه عدد تلاميذ كل منهما 12 وحالة الصلب التي صلب بها المسيح له المجد، وصلب ماني… (رغم ان من يقول بذلك يرفض العقيدة المسيحية بصلب المسيح، “…ماصلبوه وماقتلوه…” اقول بشرياً الثريا لاتقارن بالثرى… فالتبشير بيسوع تم من كل انبياء العهد القديم وقبل الف سنة من مجيء المخلص وبوصف دقيق معجز وكأنه وصف مباشر يتم ساعتها، ومن ثم تم تنفيذ هذه النبؤات بدءاً من بشارة الملاك جبرائيل للعذراء بحبلها الى وصف العذابات التي لقيها ثم وصف الصلب واقتسام رداء يسوع…
لم يقم ماني بعد موته من بين الاموات… كما قام يسوع له المجد… رغم ادعاء المانويين بذلك…
كنيسة المسيح باقية الى الأبد، بينما هرطقة ماني وكل الهرطقات زالت…
يسوع لايمكن مقارنته بأي بشري على الاطلاق…
هو الرب يسوع له المجد من الآن والى ابد الداهرين آمين.
مصادر البحث
الرسائل الجدلية للقديس أغسطينوس (354 –430 ) التى دحض فيها هذه العقائد المانوية باعتبارها من الهرطقات.
الرسائل الجدلية للقديس تيطس ضد المانويين
د. اسد رستم ” كتاب كنيسة انطاكية العظمى
الاسقف استفانوس حداد” تاريخ الكنيسة لبابا دوبولس”
المطران الكسندروس جحى “تاريخ الكنيسة”
الشماس اسبيرو جبور” الهرطقات”
الموسوعة ويكيبيديا
إيران فى عهد الساسانيين ( ص 169 –170 . تأليف آرثر كريستنسن .ترجمة د. يحيى الخشاب . الألف كتاب الثاني . الهيئة المصرية للكتاب)
مذاهب وديانات قديمة، د. سليم الياس (مركز الشرق الأوسط الثقافي) بيروت، لبنان 2008
بطرس البستاني دائرة المعارف، دار المعرفة، بيروت د.ت. الأجزاء 3 و5 و9
ول ديوارنت قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، دار الجيل، بيروت 1988م
قصة الديانات، سليمان مظهر، القاهرة، مكتبة مدبولي 1995م
في احد الايام خرج الطبيب الجراح الشهير د/ إيشان على عجل الي المطار للمشاركه في االمؤتمر العلمي الدولي الذي سيلقى فيه تكريماً على إنجازاته الكبيره في علم الطب.
وفجأه وبعد ساعه من الطيران أعلن الطيار ان الطائره اصابها عطل كبير بسبب صاعقه وستهبط اضطرارياً في اقرب مطار.
بعد ان حطت الطائره في المطار توجه الدكتور الى استعلامات المطار مخاطباً: أنا طبيب عالمي كل دقيقه عندي تساوي ارواح الناس وانتم تريدون ان ابقى 16 ساعه بانتظار طائره؟
اجآبه الموظف: يادكتور اذا كنت على عجله من امرك يمكنك استئجار سياره، فرحلتك لا تبعد عن هنا سوى 3 ساعات بالسياره.
رضى د/ ايشان على مضض وأخذ سياره وانطلق..
وفجأة تغير الجو وبدأ المطر يهطل مدراراً واصبح من العسير أن يرى امامه… وتابع سيره.. وبعد ساعتين ايقن انه قد ضل الطريق واحس بالتعب…
رأى امامه منزل صغير فتوقف عنده وطرق الباب فسمع صوت امراه كبيره تقول تفضل بالدخول كائناً من كنت فالباب مفتوح…
دخل وطلب من العجوز المقعدة ان يستعمل الهاتف. ضحكت العجوز وقالت اي هاتف يا بني الا ترى اين انت؟ هنا لايوجد كهرباء ولا هاتف ولكن تفضل واسترخي وخذ لنفسك فنجان شاي ساخن وهناك بعض الطعام كل حتى تسترد قوتك…
شكر الدكتور المرأه واخذ ياكل بينما كانت هي تصلي وتدعو.
وانتبه الى طفل صغير نائم لا يتحرك على سرير قرب العجوز وهي تهزه بين كل صلاة وصلاة.استمرت العجوز بالصلاة والدعاء طويلاً،
فتوجه لها قائلا: لقد اخجلني كرمك ونبل اخلاقك أتمني أن يتقبل الله صلاتك…
قالت العجوز: لقد تقبل الله صلواتي جميعاً ما عدا واحدة…
فقال لها الدكتور: وماهي؟
قالت له هذا الطفل الذي تراه حفيدي يتيم الابوين، اصابه مرض عضال عجز عنه كل طبيب هنا وقيل لي ان هناك جراحا كبيرا قادرا على علاجه يقال له د/ ايشان، ولكنه يعيش بعيداً من هنا وانا لا طاقه لي باخذه الى هناك واخشى ان يشقى هذا المسكين. وأنا أصلي من أجل ذلك…
بكى الدكتور وقال:
– أمي ان صلاتك قد عطلت الطائرات وأنزلت الصواعق وجعلت السماء تمطر كي يأتي الله بي اليكِ…
“قد علمت يارب انك تستطيع كل شيئ ولا يعسر عليك أمر”(أيوب2:42)
دِمَشْقْ أو َدْمشَق حبيبتي، إن كان اسمك مشتق من الناقة الدَمْشَقْ ( السريعة)… أو أنهم دَمشَقوا في بنائك… أو ان اسمك اشتُق من اسم بانيك دماشق بن قاني بن مالك بن ارفخشذ بن سام بن نوح، أو أن اسمك مشتق من المسك المضاعف (دومسكس بالرومية) أو أن البطل دمسكوس او دامسكينوس ابن لإله هرمس جاء من اليونان الى سورية وأعطاك اسمه… أو سماك الآراميون درمسق او الأرض المسقية،أو درسوق (إدم =الأرض وسمق (سماق)= الأحمر في السريانية)…
ولأن كنت مدينة آدم وحواء حيث كان آدم يسكن في بيت لهيا أو بيت الآلهة إحدى ضواحيك وحواء تسكن في بيت أبيات أي أنت بيت الأبيات كما تقول الميثولوجيات الملحمية…
باب بولس وهو الذي تدلى منه بولس الرسول بزنبيل هرباً من اليهود
أو كنت مدينة العازر…أو مدينة النعمان الآرامي…أو بيت الإله رامون “دير برمان”…
أو كنت جُلق أو جيرون أو البريص، أو كنت مدينة حنانيا الرسول أول أساقفتك وهو من تلاميذ السيد المسيح وقد اختاره تلميذاً يوم العنصرة…السنة33مسيحية
أو كنت درب بولس أحد مؤسسي الكرسي الأنطاكي المقدس ورسول الجهاد الأمين… أو كنت مقصد طريق بولس أو الطريق إلى دمشق … أو طريق دمشق… السنة 35م كما يسميك الشرق والغرب…
أو بيت يهوذا الدمشقي في الشارع المستقيم حيث صار شاول المضطهد بعد معموديته في هذا البيت على يد حنانيا بولس الرسول…
أو بيت جاورجيوس بواب بوابة بولس في سورك المنيع وهو أول شهدائك في المسيحية عام 355م المدفون في مقبرة القديس جاورجيوس بباب شرقي…
سواء كنت مدينة كنيسة مريم وكنيسة حنانيا أقدم كنيستين في العالم…أو مدينة كاتدرائية دمشق او كاتدرائية النبي يوحنا المعمدان ورأسه موجود فيها السنة 387 م وقد صارت جامع بني أمية الكبير 705م فأنت دمشق الشام…انت مدينة الكنائس فعندما دخل اليك المسلمون كان فيك 35 كنيسة عدا الاديرة، وكان في غوطتك الشرقية وحدها 18 كنيسة ودير…
أنت عين الشرق كله (كما قال يوليانوس الروماني لعظمة عمرانك)…
أنت طريق الحرير… أنت قاهرة الفرنجة وهولاكو وتيمورلنك وجمال السفاح العثماني انت ساحة الشهداء ساحة المرجة الشهيدة الحية التي أرادوها شهيدة بغدرهم المتكرر
أنت دمشق الشام، دمشق قلب العروبة النابض ( كما قال الزعيم القومي عبد الناصر في وصفك)
دمشق ارم ذات العماد، وحاضرة الروم، وحصن الشام ورحلة النبي محمد في الصيف والشتاء ومحلة القدم في ظاهرك الجنوبي…أنت باب الكعبة ومنطلق محفل الحج أنت الشام الشريف أنت فسطاط المسلمين وجنيق العذراء وقاعدة وادي سورية والفيحاء… و الجنة الغَّناء… أنت نصر تشرين 1973 أنت مثوى كل شهيد روى تربتك بدمه الطاهر لأجل أن تبقين جنة الله على الأرض، أنت قرية المسرة، أنت دمشق، أنت الشام مدينة الياسمين، أنت قارورة العطر…
أنت دمشق أرض الشهادة والعز والشهداء…
اعتمدت في كتابة سيرته على ذكرياتي الشخصية معه، وعلى ما اعطتني اياه مؤخراً من معلومات شخصية وذاتية ابنته السيدة نهاد درزي مشكورة.
اقول في مقدمة تدوينتي اننا نبقى قاصرين عن ايفائه حقه سيما وقد مضى على انتقاله الى الاخدار السماوية وهذه الساعة 37 سنة مع كل ما اعترى ذاكرتي من تقدم في السن ما استغرق فترة زمنية طالت اكثر من المعتاد ريثما استطعت تذكر بعض السيرة…
امامنا شخصية مميزة كان قد عرفه معاصروه فهو في زمانه كان اشهر من ان يُعَّرَّفْ على القول الدارج : “المعروف لايُعَّرَّفْ” والطبقات السياسية لفترة طالت عن الستين سنة من تاريخ سورية منذ ثلاثينيات القرن العشرين بكل تباينات هذه الطبقات وكان يحظى باحترام الكل…
كان مصوراً ضوئياً بارعاً ولعله كان الأول على مستوى دمشق وسورية وربما في مساحة بلاد الشام ربما سبقه شقيقه الحنون الياس الذي تتلمذ عليه وهذا مايقره الذين عاصروا الشقيقين…
كان معروفاً باستلهامه المرحلة السياسية القادمة وكان يترجمها بما يضع من صور الساسة السياسيين في واجهة الاستوديو الخاصة به، فيقرأ الناظر العادي المستقبل ومن خلال صور جورج درزي…
اما على صعيد الرياضة والحياة الكشفية السورية فكان من القادة المؤسسين للكشفية السورية مابعد الحرب العالمية الأولى وتحديداً من خلال الكشفية الارثوذكسية الدمشقية وفريق الكشاف الأرثوذكسي الدمشقي المؤسس بأمر مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع في 29 كانون الثاني 1912
عندما انتسبت الى الفوج الثاني الكشفي (فريق الكشاف الارثوذكسي الدمشقي-جاورجيوس) عام 1961وكنت طفلاً بعمر 9 سنوات بفرقة الأشبال وقبل اول جولة كشفية شاركت بها وكان ذلك في بدء الصوم الكبير
صورة من الأعلى لجزء من الفوج الثاني في طريقه الى المريمية في احدى الجولات الكشفية بمناسبة الصوم الكبير المقدس كالمعتاد منذ 1932
وكالعادة في الذهاب الى المريمية في المديحة الاولى والأخيرة والشعانين والاسبوع العظيم والجناز واثنين الباعوث في الصوم الكبير، وكانت ثلاثاء الباعوث خاصة بكنيسة الصليب منذ تكريس الكنيسة 1932واثناء استعداد الفوج الثاني الكشفي بكل فرقه والاصطفاف واذ بالقائد يصدر امرأ مفاجئاً بالانتباه، وعزفت فوراً الفرقة الموسيقية الاستعداد ثم “تحية القائد”، دخل رجل في الخمسينات من العمر يعرج على الميلتين في وجهه علائم تشويه واصابات وكان يبتسم للجميع، فحياه قائد الفوج وكان اسمه جورج حرستاني وهو رفيق الكشفية الوفي للعميد جورج درزي، في تلك الهنيهة الانضباطية الكشفية بأجلى بيان، تعرفت على هذا الشخص قائد الجميع الذي لا اعرفه، وقد همس لي شبل ورائي في الصف مطالباً اياي بالسكوت :” هدا هو رئيس الفوج جورج درزي”…
العميد التاريخي للفوج الثاني درج على عادة زيارة مقر الفوج وكنا نسميه النادي (الفوج الثاني- نادي النهضة الرياضي حيث كان مايزال الفوج الثاني الكشفي متحداً مع نادي النهضة الرياضي) قبل كل جولة (عندما كان في صحته) ليطلع على جاهزية الفوج بكل شيء ويقدم المعايدة لابنائه جميعاً.
وكان القائد بعد العزف قد قدم له الصف كشفياً وحياه، فبادله التحية ونحن كل الفوج الذي كان يعد وقتها حوالي 500 من جميع الفرق ومن الجنسين في حالة الاستعداد وكان على رؤوسنا الطير، وجه لنا كلمة ابوية عايدنا بها بكلمة”كل سنة وانتو سالمين بأول مديحة” وطلب منا ونحن في مشوارنا الى المريمية ان نعكس واقع الحركة الكشفية في انضباط الكشافة، وقوتها واحترامها للناس في الطريق، وفي انتمائها الكنسي من خلال تنظيم داخل الكنيسة اثناء الخدم الروحية مبينا لناعظمة هذا الفوج الكشفي الذي يمثل عراقة الحركة الكشفية السورية وضرورة احترامها للمجتمع والحارة والكنيسة والوطن، وشكرنا سلفاً وشكر القادة والمدربين وكرر المعايدة بهذه المناسبة، ثم اعطى القائد ايعازا بالانطلاق وكان ينظر الينا ووجهه تكسوه السعادة وعلى فمه ابتسامة عريضة…
وخرجنا وقتئذ بجولتنا الكشفية الضاربة من مقر الفوج التاريخي في مدخل حارة الصليب الثانية (حالياً اول شارع الزينبية المؤدي الى الزبلطاني وسوق الهال)، باتجاه باب توما فالمريمية زمن البطريرك ثيوذوسيوس السادس (1958-1969)
الفوج الثاني في احدى جولاته الى المريمية في حي القصاع ونلاحظ عربتي الترام الكهربائي
فمن هو صاحب هذه الشخصية؟ ولم هي مميزة؟
في الاسرة، الأصل والتسمية
جذر اسرة علمنا بالأصل من آل الحداد، لم تكن تسميتها (درزي) بعد، اسرة الحداد هذه كانت عريقة وتعود الى منطقة ازرع في حوران، اليها ينتسب ابن دمشق الشهيد في الكهنة الخوري يوسف الدمشقي الذي استشهد في المذبحة الطائفية 1860، وبطريرك الرحمة البطريرك العظيم غريغوريوس الرابع ابن عبية في جبل لبنان(1858-1928) والاسقف العلامة والمجاهد استفانوس حداد ابن جبل العرب.
جد هذه الاسرة الملقبة (درزي) التي ينتسب اليها علمنا، واصلها الحداد نسبة الى مهنة كبيرها شرفان (الحدادة)، وقد وفد واسرته الحدادية من حوران في مطلع القرن 16 وانتشر في محيط دمشق ودمشق ذاتها وجبل لبنان، وقطن فرع منها في محلة الميدان جنوبي دمشق (وهي الضاحية التي تعود في وجودها الى القرن نسبة الى ميدان الحصى حيث كانت تمارس رياضة الفروسية من امراء المماليك) التي عمرتها وسكنتها عائلات مسيحية في احياء خاصة بها، وفدت من مناطق وادي التيم ” محلة التيامنة”وحاصبيا وراشيا و”ساحة الرياشنة” وجبل الدروز وحوران وخاصة بعد الفتنة المدمرة للوجود المسيحي في دمشق وجبل الدروز وجبل لبنان، وكانت محلة الميدان الأكثر اماناً للمسيحيين من المحيط الاسلامي الأصيل والوافد ايضاً من مناطق حوران وجبل الدروزمع الجزائريين اتباع الأمير عبد القادر جزائري وعائلاتهم، بعد نفيه من قبل الفرنسيين وقد اختار دمشق، وسكن اتباعه في ساحة تسمت باسمهم ” ساحة المغاربة” والتاريخ كتب اسمه وجماعته بحروف من نور لمساهمته مع مشايخ الميدان ووجهاء المسلمين في حماية مسيحيي الميدان وما امكنهم من مسيحيي الشام مع مشايخ المسلمين الدمشقيين العقلاء.
ان سكان محلة الميدان بمختلف اديانهم الذين كانوا قد سكنوا في محلة الميدان منذ القرن 13 قدعملوا جميعاً بتجارة الحبوب والمواشي وتوارثها الابناء، وكان منهم اسرة علمنا حيث عملوا بالتوارث في مجال التجارة مع مسقط رأسهم جبل الدروز وكان آخرهم السيد جبران درزي والد علمنا، الذي انتقل من ضاحية الميدان الى داخل دمشق في مطلع القرن 20 وتزوج وسكن في محلة القيمرية التي كانت حياً مسيحيا بامتياز، وتعود تسميته بالقيمرية الى اصلها الى “القديسة ماريا” او “آيوس ماريا” أو “ايا ماريا” اي القديسة مريم باليونانية استناداً الى شيوع تسمية كنيسة مريم اي الكاتدرائية المريمية لكل المحيط القريب، بما فيه الطريق الموصل بين محلة المريمية والخراب عبر درب كان يسمى “درب مريم” هذه التسمية كانت منذ العهد الرومي والى القرون المتأخرة وبقيت مع ميلة الى التحريف احتى العهد العثماني عندها تحرفت نهائياً الى القيمرية.
بيت العائلة في القيمرية
اما سبب تفرد تسمية اسرة علمنا ب “الدرزي” هو الاتجار مع منطقة جبل الدروز حيث كان افراد الأسرة وعلى التوارث يعملون في التجارة البينية مع جبل الدروز، حيث كانوا يذهبون في تجارتهم الى الجبل محملاً بالبضائع الشامية، ويعود محملاً بالأغلال الحورانية من سهل وجبل حوران (جبل الدروز حيث اغلبية السكان من المسلمين الموحدين الدروز) لذا لُقِبَ كبير العائلة ب”الدرزي” وغلب اللقب على كنيته الاصلية “الحداد”. وفق القول الدارج:” راح الدرزي واجا الدرزي” وصار اللقب كنية منذ اعتماد الكنيات في بلاد الشام منذ القرن 17.
السيرة الذاتية
ولد علمنا السيد جورج في عام 1916 في بيت العائلة بمحلة القيمرية وكان هو اصغر اخوته ومالبث ان توفي والده السيد جبران تاركاً وراءه زوجة واربعة اطفال
هم:” ليندا والياس وماري والصغير جورج وكان بعمر 4 سنوات، فتولت الام بمعونة ابنها الأكبر بين الصبيان الياس رعاية مصالح المرحوم زوجها، لكن القدر عاجلها بدورها وكان صغيرها جورج قد صار بعمر 12 سنة وقد تلقى اوائل التعليم المدرسي في مدرسة القديس نيقولاوس الارثوذكسية للصغار ثم انتقل الى مدرسة الآسية الأرثوذكسية، ويبدو ان اخيه الياس كان قد ترك العمل بتجارة والده ومال لتعلم مهنة التصوير الضوئي وهي مهنة عزيزة في ذاك الوقت وحصراً عمل بها ابناء العائلات المسيحية كبقية المهن والحرف، ومالبث ان بز وبرع فيها وصار استوديو مقصداً لعلية القوم والساسة.
لدى وفاة الأم تولى الياس ادارة شؤون العائلة فأزوج اخواته واشرف على اكمال تعليم شقيقه الأصغر في مدرسة الآسية الى عمر 14 سنة وتعليمه ايضاً مهنة التصوير خلال فترة العطل الانتصافية والصيفية، ثم العمل عنده في الاستوديو الخاص به في المرجة.
منذ صغره كانت امه قد ادخلته الى فرقة كشافة مدرسته الآسية.
الحركة الكشفية الارثوذكسية الدمشقية
جولة كشفية للفوج الثاني بمناسبة عيد الفصح
تختلف فرقة كشافة مدرسة الآسية عن “فريق الكشاف الارثوذكسي الدمشقي/ جاورجيوس/ الأهلي” الذي تأسس عام 1912 في 29 كانون الثاني في دار البطريركية بأمر البطريرك غريغوريوس الرابع، وكان ذلك على أثر رحلة كشفية سيراً على الأقدام قامت بها فرقة مدرسة الأقمار الثلاثة الأرثوذكسية البيروتية الى دمشق وخيمت في دار البطريركية في الركن الغربي فيها وشاركت بالاحتفال بعيد البطريرك غريغوريوس في 29 كانون الثاني 1912 فأعجبت البطريرك والرعية لذاامر البطريرك بتأسيس فرقة دمشقية مرتبطة بالصرح البطريركي.
اما فرقة كشافة مدرسة الآسية فكانت بدورها فرقة شهيرة، فقد تأسست مع بدء العهد الفيصلي في سورية، وكانت فرقتها النحاسية قد عزفت في استقبال الأمير فيصل عام 1918 في المدرسة، وفي استقباله مجدداً في المدرسة ايضاً كملك عام 1920. وهذه الفرقة استمرت حتى عام 1945 ثم انحلت والتحق افرادها بفوج القديس جاورجيوس الأرثوذكسي الأهلي الذي نال رقم الفوج الثاني عند تنظيم الحركة الكشفية عبر قانون حماية الحركة الكشفية السوري عام 1944.
الواجهة الغربية للصرح البطريركي واتصالها بمريمية الشام
الكشفية وجورج درزي
اما علمنا فقد قلنا انه انتسب في طفولته الى فرقة مدرسة الآسية الكشفية، ثم انتقل بعد تركه المدرسة في ختام المرحلة التوجيهية وبعمر 14 سنة الى فريق الكشاف الارثوذكسي الدمشقي/جاورجيوس. وكان عاشقاً للرياضة البدنية كما افادني، كما عشق الكشفية جداً وكان يصرف فترات العطلة من العمل في مقر الفريق الكائن في الدار البطريركية، وحاز درجاتها واوسمتها المقررة ذاك العهد وكانت الاتصالات والدورات التدريبية والانشطة الكشفية والرياضية مع الفرق الكشفية والرياضية الارثوذكسية في سورية ولبنان، لاسيما وان فريق الكشاف كان يعتمد التربية البدنية والاستعراضات الأكروباتية في حفلات الأعياد، وهي من المشوقات، وكان يحكي لنا رحمه الله عن بعض رفاقه الكشافة الذين كانوا يمارسون هذه الانشطة البدنية والعاب القوة بما في ذلك المصارعة والملاكمة وصاروا ابطالاً فيها نالوا الجوائز في حينهم وقد تعرفت عليهم عنده في فتوتي ووقتها كانوا من كبار السن ووقال لهم معرفاً عني:” طالما عندنا في فوجنا مثل جوزيف في حبه للكشفية والوطنية والكنيسة، فالكشفية الأرثوذكسية في تألق مستمر”
في احتفالات اليوبيل الذهبي للبطريرك الكسندروس في دمشق مع بطريرك بلغاريا 1954
تقريباً في كل ليلة واحيانا وسط اليوم كنت ازور الاستاذ جورج في الاستوديو، حيث كان مقر عملي بالقرب من عمله، واسعد بحديثه وافعاله الدعابية المحببة معي ومع بعض الزبائن، ومع اصدقائه القدامى كنت التقيهم عنده ، ويستذكروا امامي ماضيهم الجميل وكان هذا في فترتي السبعينات والثمانينات من القرن 20 الى حين وفاته رحمه الله مطلع 1980. وكم كان يطلعني على بلورات الصور الكشفية والوطنية ويشرح لي عنها، وكان طلبي الدائم تزويد فوجنا بنسخ منها، اما جوابه الدائم: بدي شي نهار اطبع هالصور، فأعَّقِّبْ على جوابه بقولي:” سوف” ونضحك سوية طويلاً حتى ان رفيق دربه المرحوم جورج حرستاني كان يقول لي امامه:” لاتطمع بهالشي، هو ليجي على بالو” وكان رحمه الله يكتنز كنزاً من التراث السوري في تاريخ سورية الحديث وتاريخ حرب 1948 وتاريخ الكشفية السورية وفوجه الكشفي والبطريركية بشكل خاص.
رحلة مسير على الاقدام قام به فوج القديس جاورجيوس الكشفي الدمشقي الى لبنان عند تصب البطريرك الماروني الحويك
ونظراً لهذا الاهتمام الرياضي والكشفي ونبوغه فيهما وعشقه لهما، فقد تدرج في الدرجات والمراحل القيادية حتى صار في العشرينات من عمره قائداً للفريق وهو اصفر قائد في كل الوحدات الكشفية المعاصرة، ثم وبعدما تحول فريق الكشاف الدمشقي الارثوذكسي الى فوج القديس جاورجيوس الأرثوذكسي (وكان الفوج يعتمد الشارة الكشفية وهي الزنبقة الكشفية السورية بسنابلها متداخلة مع ايقونة القديس جاورجيوس على فرسه، اما الشعار فهو”كن مستعداً” وكانت راية الفوج تتقدم الجولات والاستعراضات الكشفية بعد العلم الوطني المقرر وكان اللباس بلون خاكي كاللباس العسكري مع عمرة الرأس الفيصلية، اما في اثناء رحلات الخلاء والمخيمات فكان الكشافة الارثوذكس يعتمرون الكوفية والعقال كالكشاف المسلم) اصبح جورج درزي عميداً لفوج القديس جاورجيوس الأرثوذكسي، وبقي عميداً له حتى رقاده في آذار1980.
عند تنظيم الحركة الكشفية السورية عام 1944 عندما سن مجلس النواب السوري قانون “حماية الحركة الكشفية” اجمع عليه اصدقاؤه قادة الفرق الكشفية وفي مقدمهم صديقه القائد التاريخي للكشفية السورية المرحوم علي الدندشي فانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية العليا وكان اميناً للمال، وخلال حياته اختير لهذا المنصب ولعضوية اللجنة المركزية لمفوضية دمشق مراراً الى ان استعفىورجى اخوته في القيادة الكشفية السورية لعدم ترشيحه بسبب وضعه الصحي من جانب وعدم تفرغه من جانب آخر وكان ذلك في منتصف السبعينيات.
حياته العملية
جورج درزي عميداً لفوج القديس جاورجيوس الارثوذكسي الدمشقي
وكما اسلفت ومنذ وفاة والدته وهو في عّمر ١٢ عاما ، عاش فترة عند شقيقته الكبرى، وتعلم فن التصوير في استوديو شقيقه الياس منذ صغره، وساعده في عمله الى ان تمكن من هذا الفن، افتتح استوديو خاص به في مدخل طريق الصالحية، وهو استوديو جورج درزي المعروف للجميع وأشتغل فيه كل حياته لأكثر من ٥٥ عاماً، كما أفتتح شقيقه الياس محلاً آخر للتصوير في مركز المدينه في ساحة الشهداء(المرجة)، وبعد وفاه شقيقه الياس تم دمج أرشيف استوديو شقيقه المرحوم جبران في استوديو علمنا في اول شارع الصالحيه، وفي الوقت ذاته عمل مراسلاً صحفياً لعدد من الصحف المحلية اضافة الى تحوله ميدانياً الى مراسل ومصور حربي وخاصة اثناء فترة الانتداب الفرنسي وكم تعرض للأخطار كونه كان مؤيداً للثوار والحركة التحررية السورية، وكانت كشافة فوجه وبقيادته ومنذ عهد البطريرك غريغوريوس حداد وخلفه البطريرك الكسندروس طحان، ووفق توجيه البطريركين، كان الكشافة الكبار يقومون بايصال المؤون والادوية والسلاح المقدمة من البطريركين الى ثوار الغوطة… حيث كان حي القصاع بحاراته الشرقية متاخماً لتجمعات الثوار ومخافر وكمائن الثوار.
رحلة كشفية لفوج القديس جاورجيوس الى حماة
وعلى ذلك القى كمين افرنسي القبض على ثلاثة كشافة كبار من فوج القديس
جاورجيوس الأرثوذكسي متلبسين وهم يسلمون السلاح والمعونات للثوار في منطقة دف الشوك، وحكمت عليهم المحكمة الميدانية الفرنسية بالاعدام شنقاً وبفضل مساعيه التي لم تهدأ وطلب من البطريرك الكسندروس تم تخفيف الحكم الى النفي الى شرق الاردن.
تابع عميدنا جورج درزي في مرحلة الاستقلال عمله في التصويرفي الاستوديو الخاص به وفي الميدان ومراسلة الصحف، ومرحلة الحياة النيابية، فرافق النواب في حملاتهم الانتخابية وكم تعرض لحوادث بمافي ذلك الحادثة المؤلمة وبعض من تداعياتها الطريفة كما في الحادثة التالية:
انه كان مصوراً لحملة انتخابية لأحد المرشحين الوجهاء لعضوية المجلس النيابي السوري، وكان المرشح وصحبه بدعاية انتخابية في بلدة الزبداني، وكان المنبر الخطابي للمرشح شرفة ببناء قديم، وقد انهارت الشرفة التي كان تقف عليها اعداد كبيرة وكان هو منهم وسقط فوقه كثيرون منهم المرشح، وعلى قوله لي انه اصيب بعدة كسورفي اطرافه واضلاعه ورأسه، وكان رحمه الله صاحب دعابة في سرد الاحداث ومنها هذه الحادثة، فقد قال لي (وهو يضحك من كل قلبه مستذكراً): ان المرشح للنيابة زاره وهو في المستشفى وكان جسمه واطرافه ملفوفاً بالجبس والضمادات ورجله المكسورة مشدودة بثقل وحالته يرثى لها، فقال له المرشح سلامتك خواجا جورج وليك انا متلك مصاب وانكسرت اصبعي.” وضحك المعلم عندما روى لي هذه الحادثة كثيراً حتى دمعت عيناه كما شهدت.
عميد الفوج جورج درزي الثاني في النسق الكشفي قبيل الانطلاق في رحلة كشفية
عاصر الانقلابات المتلاحقة في سورية منذ الانقلاب الأول 1949 الذي قام به الزعيم حسني الزعيم والى عهد الشيشكلي ثم عودة الحياة الدستورية مع الرئيس شكري القوتلي وكانت تجمعه به صداقة متينة ورافقه برحلته الشهيرة الى الهند في مؤتمر عدم الانحياز وهناك تعرضت السيارة التي تقله الى حادثة وسقطت في وادي سحيق واضرت بجسده ووجهه وحفرت تشويهات غائرة في رأسه ووجهه وهي التي جعلته اعرجاً في مشيته وعلى الميلين كما روى لي.
كان قادراً على استقطاب احترام رجالات كل العهود بما في ذلك الانقلابات العسكرية المتلاحقة حتى اكسبته شخصيته المعروفة بتنبؤه بما تخبئه الايام والفترات القادمة لسورية وكانت واجهة الاستوديو تنبىء برجالات المرحلة المقبلة بصورهم التي يضعها كما فعل منتصف الستينات بعودة الحياة الدستورية عبر وضعه صورة المغفور له الرئيس شكري القوتلي، وقبيل الوحدة مع مصر وضع صورة المذكور وصورة جمال عبد الناصر متقابلتين، وكما حصل بعد نكسة حزيران 1967 وضع في منتصف واجهته الزجاجية الرئيسة صورة المغفور له الفريق حافظ الاسد وهو بلباس الصيد وبيده جفت كسرحتى قيامه بالحركة التصحيحية عندها احل محلها صورته وهو ببزته ورتبته العسكرية. وصار ارشيفه من الصور التي تتناول الأحداث المصيرية التي تمر بها سورية اضافة الى نكبة فلسطين مرجعاً عام 1948لاسيما وانه رافق جيش الانقاذ
لقطة تذكارية في طائرة حربية باسم دمشق8 في مطار المزة العسكري بحرب الانقاذ
مع المتطوعين لدحر العصابات الصهيونية وكان منهم فريقاً من جوالة الفوج الثاني الكشفي بقيادته بصفته عميداً للفوج ومصوراً ومراسلاً حربياً وهؤلاء المتطوعين كانوا قد شاركوا بحرب الانقاذ تلبية لصرخة البطريرك الكسندروس طحان لانقاذ فلسطين وسقط منهم جرحى…
زواجه واولاده
في شبابه تعلم اللغة الفرنسيه والإيطالية لأنه كان يسافر كثيرا لإيطاليا وخاصه ميلانولحضور معارض تصوير هناك بحكم عمله.
وتقول ابنته السيدة نهاد (التي اعرفها منذ صغرها واخوتها وكنت التقيهم اما في استوديو والدهم او في زياراتهم معه الى مقر الفوج) وهي مصدر معلوماتي الشخصية عن والدها تقول:
صورة للعائلة وهو وزوجته في المنتصف
وذات مرة وفي احدى اسفاره الى ايطاليا تعرف على والدتي السويسرية التي كانت في نفس الباخرة بإيطاليا” وتتابع القول:” والدي كان في رحله عمل، ووالدتي كانت في رحله، تعارفوا على بعض وكانت لغتهم المشتركه اللغه الفرنسيه، وكان يتكلم مع عمتها لوالدتي باللغه الإيطالية.”
تزوجا ورزقهما الله بأربعة اولاد هم
المهندس كابي جورج درزي.
الطبيب رياض جورج درزي.
إداره أعمال كريم جورج درزي.(مدير بنك ).
نهاد جورج درزي.
اتصفت زوجته بالجمال والرقي وحسن التربية لأولادها كما السيدات الدمشقيات وعند وفاته تابعت في رعايتهم الى ان بات كل منهم منتجاً في ميدانه وبقيت في دمشق فترة طويلة كما اذكر.
القائد جورج درزي بأوسمته وببزته الرسمية
ونظراً لغيرته الارثوذكسية وبالرغم من عدم تفرغه فقد انتخب عضوا في المجلس الملي البطريركي الدمشقي في عهدي البطريركين الكسندروس طحان (1931-1958) وثيوذوسيوس ابو رجيلي (1958 -1969) ممثلاًعن الحركة الكشفية والرياضية والتربوية في دمشق فكان خيرممثل لمصالحهم وخاصة في المؤتمر الارثوذكسي العام الذي كان منعقداً في الفترة مابين 1954-1956.
وكان يقوم بتصوير البطاركة الكسندروس وثيوذوسيوس والياس معوض وكان يذيلها بتوقيعه المميز يسار الصورة درءاً لسرقتها، وقد تصدرت صور البطاركة الثلاثة التي قام بتصويرها صدر القصر البطريركي ( كما كان يسمى) والاديرة والمؤسسات الأرثوذكسية وكذلك بطاركة ورؤساء الطوائف المسيحية الأخرى. وكان رحمه الله قد تصدى لتصوير احتفالات اليوبيل الذهبي للبطريرك الكسندروس طحان في عام 1954 بين الكاتدرائية المريمية وكنيسة الصليب والفعاليات الشعبية الأرثوذكسية التي لايزال يذكرها كثيرون، التي اقيمت في احياء باب توما والقصاع بين الكنيستين، وقد رافق الوفود الكنسية العالمية الارثوذكسية وغيرها التي حضرت هذه الفعالية واعتمدت صوره في اصدار
جورج درزي عضو المجلس الملي البطريركي مع اعضاء المجلس الملي ومطران البرازيل اغناطيوس
البطريركية لهذا الكتاب التوثيقي بهذه المناسبة، واستمر يغطي انشطة البطريركية الى بداية فترة الثمانينات حيث لم يعد قادراً لوضعه الصحي المتثاقل من التنقل للتصوير وتغطية الفعالية بعدسته المبدعة وفنه المميز.
وفاته
توفي رحمه الله بشكل مفاجىء من دون اي اصابات مرضية في 22 آذار 1980 فوقع الخبر علينا وقوع الصاعقة حيث تولت اللجنة الادارية اعداد مايلزم لجنازته بالتنسيق مع الاسرة، حيث كان الفوج اسرته الثانية وكان هو والد الفوج، وتم تجنيزه في كنيسة الصليب المقدس حيث رئس صلاة الجنازة الوكيل البطريركي آنذاك مثلث الرحمات المطران بولس بندلي الذي نقل تعزية غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع لزوجته واولاده ولنا نحن اسرته الثانية ولرعية دمشق معزياً البطريركية بفقده وكان مأتمه تظاهرة كشفية قل نظيرها بالموسيقا الضاربة للفوج وكل فصائل الفوج الذي كان تعداده حوالي 1100 جوال وكشاف ورائدة ومرشدة وشبل وزهرة تقدمها اعضاء اللجنة الادارية بلباسهم الكشفي الكامل وبمشاركة من رئيس كشاف سورية المرحوم علي الدندشي واعضاء اللجنة التنفيذية العليا لكشاف سورية ومفوض دمشق واعضاء اللجنة المركزية لمفوضية دمشق وبمشاركة رمزية من الفرق والافواج الكشفية الشقيقة،
في احد الاستقبالات الرسمية
حيث كانت الجنازة ضمن مسيرة كشفية الى مثواه الأخير في مدفن العائلة في مقبرة القديس جاورجيوس الارثوذكسية بباب شرقي.
واعدت اللجنة الادارية اجتفالاً لائقاً بيوم اربعين وفاته بالتنسيق مع ارملته واسرته وذلك في 23 نيسان يوم عيد القديس جاورجيوس وهو عيد شفيع الفوج
وشفيعه وذلك بقداس الهي حافل في كنيسة الصليب المقدس وبحضور كشفي من كل الفرق والافواج ومن القيادة الكشفية السورية وقادة الوحدات الكشفية وقدمت الفرقة الموسيقية معزوفات لائقة بالراحل الكريم.
وقدمت ارملة معلمنا الشكر لنا على هذا التكريم اللائق وهي تبكي…
وهو موقف لم انساه. صفاته وخصاله
وسام كشفي من المنظمة الكشفية الدولية
اتصف رحمه الله بالذكاء الحاد ومعرفة مايدور في ذهن محدثه قبل ان ينطق به بمجرد النظر في عينيه، كما اتصف بالطيبة والتسامح، والدعابة الفورية فيسعد الجميع، وكم كان يمارس طريقته هذه في اجتماعات اللجنة الادارية في الفوج حينما تحتدم النقاشات بين الأعضاء، كان ولأجل الاسياخ الموجودة في كل رجله يرفعها على طاولة صغيرة ليريحها، وهو ينقل بصره بين الجميع مبتسماً، وقلما نراه انحاز لطرف دون الآخر، ويبادر الى شرب كاسة الشاي بسرعة فائقة فنداعبه وهو اب لنا جميعاً بالقول له:” شو مبطن سقف حلقك يااستاذ” ونضحك فيجيبنا بدعابته وضحكته وصوته المنخفض المبحوح:” علينا وعلينا”عندما تصل الأمور الى نقطة حادة في الخلافات وجميعنا في مرحلة الطوشة وفق القول الدارج واذ يقول كلمة وهو يرفع صوته واذ بالكاسة الزجاجية التي بين يديه يقوم بالقائها على الطاولة التي يرفع عليها قدمه ونادرا ماتسقط على الارض وتنكسر وقد اجاد القاءها فنصمت جميعنا ونضحك عنها يبادر الى القاء كلمة الفصل التي تكون محترمة لدينا جميعاً.
مع رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي في حفل استقبال
ومن دعاباته التي كان يقوم بها في عمله، وكنا نعرفها ونساعده بها، ويمارسها مع بعض الزبائن وخاصة منهم الذين كانوا يشعرون بشوفة الحال ويطلبون ان يصورهم بتعالي، فيدخلهم الى غرفة التصوير ويدخل بعدهم هو ويقوم بتهيئتهم للصورة وبشكل خاطف يقوم بالتقاط الصورة المطلوبة والزبون غافل عن هذا ويخرج الاستاذ ويجلس على مكتبه والزبون ينتظر وتمضي مدة زمنية ربع ساعة واحياناً نصف ساعة والزبون ينتظر، الذي يضيق ذرعاً في الانتظار فيخرج اليه محتدماً فيراه ينظر اليه بابتسامة وادعة ويقول له “خالص” ويضحك فيضحك الزبون ويجعله درساً لطيفاً له…
اما عند مجيء الزبون لاستلام صوره قبل الموعد المحدد، فيعتذر منه بقوله: ماكنت فاضي كان عنا عمادة جوزيف زيتون، او اكليل انطون بيطار ( رحمه الله عضو اللجنة الادارية) او اسم من يجلس عنده منا او الاصحاب كأن يذكر حضوره طهور المذكور وهكذا ونكون عنده فنمسك انفسنا من الضحك الى حين خروج الزبون وهو راضٍ…
كان رحمه الله محبوباً من الجميع ويداعب الجميع ويحظى باحترام الجميع حتى من منتقديه…
امتد نشاطه الى رؤساء الدول العربية وملوكها فأكرمه بعضهم وحاز منهم الاوسمة، حيث حاز وساماً سورياً، ووسامين من ملك السعودية سعود بن عبد العزيز، ووسام من الملك حسين ملك الاردن اضافة الى شهادات تقدير من القيادات السورية في العهود كافة،
وسام سوري
والاهم انه حازأعلى الشهادات الكشفية الدولية ومنها الذئب البرونزي من مكتب الكشاف العالمي في جنيف وهو اعلى وسام كشفي عالمي. ووسام الكرسي الانطاكي المقدس وبراءة اليوبيل الذهبي للبطريرك الكسندروس.
الخاتمة
بالرغم من كل ماذكرناه قصر الوطن وقيادته في تكريم هذا الفنان المبدع والرجل الوطني بكل اسف وبالرغم من كل الخدمات التي قدمها للوطن، فهو لم ينل مايستحقه من وسام الاستحقاق السوري
احد الاوسمة التي نالها
وهو احق به من كثيرين نالوه، لاسيما وان تركته الرفيعة جداً وهي بمثابة الكنز السوري الذي لايقدر بثمن، اهدته اسرته حين تصفية الاستوديو بعد وفاته الى مكتبة المتحف الوطني وهذه وحدها توجب منحه التكريم اللائق بالوسام السوري، مما لاشك فيه ان هذا الكنز الذي اكتنزه عبر ستة عقود ويشمل ارشيف شقيقه ابان قيام الدولة السورية الفتية بعد الحرب العالمية الاولى وحتى وفاته 1980 أغنى الذاكرة السورية بلقطات متميزة شملت الوطن من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه، وشملت جيش الوطن وقيادته، وكشافة الوطن وكشافة فوجه ورحلاته الى كل ارجاء سورية ولبنان سيراً على الأقدام وتحت قيادته، وتوثيق كل العروض العسكرية والكشفية بمناسبة عيد الاستقلال منذ العرض العسكري الاول في 17 نيسان 1946 وسارت الفرق العسكرية والكشفية على موسيقى الفوج الثاني بالتناوب مع موسيقا الجيش والشرطة،
المصور جورج درزي في الهند في زيارته مع رئيس الجمهورية شكري القوتلي
كان الفوج يشارك في كل العروض حتى توقفها بهزيمة 5حزيران 1967 وكان هو يغطيها بعدسته المبدعة، كما غطى كل المؤتمرات الكشفية العربية التي عقدت في سورية بدءاً من مؤتمر بلودان في 1936 في فندقها الكبير وكان مشاركاً فيه بصفته القيادية، وغطى ايضاً بعدسته المخيم الكشفي العربي الأول 1952 في نبع بردى، والثالث 1958 في نبع بردى حيث كان مشاركاً فيه بصفته القيادية في القيادة الكشفية السورية وقيادته لفوجنا المشارك في هذين المخيمين العربييين…
جميعها كنت قد شاهدتها في بللورات الصور عنده وقد شرح لي عنها، وكم ناشدته ان يعطينا اياها وهو يماطل رحمه الله بسبب تعب الايام، واخيراً ذهبت لتكون جزءاً من الذاكرة الوطنية السورية من خلال محفوظات المتحف الوطني السوري كما ابلغتني ابنته…
العميد جورج درزي في رحلة خلاء
رحمة الله عليك استاذنا وقائدنا وعميدنا، احد اهم رجالات الوطن والكنيسة في المجالات كافة.
في اللاذقية السورية لا زال بعض الناس، لا سيما من المسنّين، يردّد أبياتاً من قصيدة بالعامية المحليّة. دونك بعضها مما شاع
“الله أكبر. حَيَّ على الصلاة. حَيَّ على الفَلاح.
كنت خوري وكان لي بالسَحَر قدّاس
كنت إحمل جسد سيدي واندار بين الناس
لما دخل برأسي عسكر الوسواس خالفت قولك سيدي
وأصبحت خلف الناس
الله أكبر. حَيَّ على الصلاة. حَيَّ على الفلاح.
يا نفسي كوني حزينة وابكي بكا الزلاّت
وتأسفي يا نفسي عللي مضى وفات
يا نفسي كوني حزينة وابكي بكا المحزون على اللي بدل ثوب الصبايا بالجوهر المكنون
الله أكبر. حَيَّ على الصلاة. حَيَّ على الفلاح.
يا نفسي كوني شرّيرة وأشرّ الناس
وادفني ذاتك بين الأنجاس
موطنك هناك بعد ما بدلت جوهر الأديان
بجهنّم النار”
الأيام محت الدقائق في مَن يكون صاحب هذه القصيدة وماذا جرى له حتى صار إلى الحالة التي بلغها. غير أنّ ثمّة مَن استطلع ما بقي في ذاكرة العديدين واهتدى إلى معلومات ومعطيات جعلت الصورة في شأن الكاهن المشار إليه في القصيدة أجلى. هذا كان الأب الأرشمندريت أرسانيوس حانونيك. وقد دفعها إليّ، أنا الأرشمندريت توما بيطار، خلال شهر تموز من السنة 1990. وها نحن ننشرها للمنفعة.
أسماء عديدة وردت ممَن كانوا يعرفون شيئاً من قصة الشهيد عبد الله. كل هؤلاء من أبناء الرعيّة الأرثوذكسيّة في اللاذقية. من الأسماء حنا خوري إليان ابن المرحوم الخوري إليان، دانيال خوري، المتقدّم في الكهنة عبد الله الياس، توفيق عوض، حبيب ياخور، جورج ميسي، عزيزة كبّاس، جبرائيل مرطيشو، رزق الله طنبور، جبرائيل رشو، أم جاد بيطار، مجيدة صابور، الأب الراهب أنطون منصور، جبرائيل شرشر وهاني شرشر…
وإلى ما بقي في ذاكرة بعض المؤمنين، عندنا ما ورد في كتاب “آثار الحقب في لاذقية العرب” للياس صالح، نقلاً عن المخطوط البطريركي الأنطاكي الرقم 438 ونسخة من القصيدة الكاملة التي كان الشهيد عبد الله يُردّدها. هذه أُخذت عن مخطوط موجود في دير صيدنايا البطريركي. وما كان يُغنّى في اللاذقية، ما أوردناه أعلاه، هو نسخة مقتضبة محرّفة عن قصيدة صيدنايا. هذه منظومة على الحروف الأبجدية، وقوامها ثمانية وخمسون بيتاً.
لملمة المعلومات التي بين أيدينا وجَمْعُ قطعها إلى بعضها البعض يبرز صورة الشهيد عبد الله على النحو التقريبي التالي
اتّفق في زمن أسقفية أرتاميوس على اللاذقية، سنة 1844م، أن شهر الخوري عبد الله، أحد كهنة الروم الأرثوذكس في المدينة، إسلامه. سبب ذلك أنّه كان في اللاذقية وكيل لقنصل دولة اليونان اسمه ديمتري. هذا كان متأهِّلاً في بلاده. وقد جاء إلى اللاذقية وادّعى أنّ زوجته، في وطنه، ماتت وطلب الزواج من صبيّة لاذقانية اسمها كاترين كانت ابنة الكاهن ميخائيل النحّال. لم يعطه المطران أرتاميوس إذناً بذلك. قال له أن يأتي بشهادة من مطران مدينته تعلن صحّة وفاة زوجته. وحدث أن غاب المطران عن المدينة لبعض الوقت. فما كان من ديمتري سوى أن أقنع الخوري عبد الله بإجراء خدمة زواجه من كاترين. لا ندري كيف اقتنع الخوري بالقيام بهذا العمل من دون إذن مطرانه. ربما أخذ ديمتري على عاتقه أمر تغطية الخوري لدى المطران لِمَا له من دالة عليه. أنّى يكن الأمر فقد أُجري الإكليل وأخذ ديمتري كاترين إلى خاصته. وما إن مضت أيّام قليلة حتى حضر ابن ديمتري من زوجته الأولى ففوجئ بأنّ أباه تزوّج لأنّ أمّه كانت لا تزال على قيد الحياة. فلما عاد المطران من سفره وعلم بذلك أصدر حرماً شمل ديمتري وكاترين والخوري عبد الله وكل مَن يخالط، من المؤمنين، أحداً من الثلاثة أو يكلّمه أو يقبله في بيته. فكان الخوري عبد الله يطوف على كل صغير وكبير في المدينة يسأله التوسّط في أمره لدى المطران. فلم يلق غير الخيبة لأنّ الجميع كانوا يحوِّلون وجوههم عنه ويرفضون أن يكلِّموه. استمر على ذلك أيّاماً حتى ضاقت به الدنيا ولم يعد يطيق احتمالاً. فمضى إلى مشايخ المسلمين وعرض أمامهم أن يُسلِم، فقبلوه بالترحاب وأقاموا له احتفالاً. ثمّ بعد أيام من إسلامه طافوا به في المدينة، في أحد أيام الآحاد وكانوا جمعاً غفيراً، لأجل ختانته، وهم يعزفون بآلات الطرب ويضربون الطبول ويطلقون البنادق.
إلى هنا انتهت المعلومة الواردة بشأن الخوري عبد الله في كتاب “آثار الحقب…”. وما بقي في وجدان بعض الناس، بعد ذلك، هو أنّ الخوري بعدما أَسلم عاد فندم وحاول أن يرتدّ فلم يجد إلى ذلك سبيلاً. وكان كل يوم يقف أمام كاتدرائية مار جرجس ويقول: “يا كنيسة الربّ محبّتك في القلب”. ولشدّة تاثّره نظم قصيدة وأخذ يغنّيها، وكان صاحب صوت جميل. فسمعه المسلمون ينشدها في مئذنة الجامع المغربي، فألقوه من أعلى الجامع فوقع ومات. وقد أخذه المسيحيّون ودفنوه في كنيسة مار سابا. وثمّة مَن ينقل أنّ النور كان يُشاهَد على قبره. كما يُنسَب إليه شفاء عدّة أمراض كارتفاع الحرارة والحمّى والصرع. يُذكَر أنّ كنيسة مار سابا لم يعد لها وجود اليوم في اللاذقية لأنّ مدرسة ثانوية خاصة بالطائفة الأرثوذكسية بُنيت في المكان. كما نُقلت المدافن إلى مقبرة الفاروس.
أما القصيدة التي انحفظت منه على مرّ الأيام فهي التالية
نشيد القدّيس الذي أسلَمَ وندم على ما جرى له
(هكذا ورد في نسخة صيدنايا)
الألف
إلى متى تِنْقِضي يا مِدِةْ الزلاّتْْ
أَبْكي على اللي مضى وأَنْدَمْ على اللي فاتْ
قبل سنتين وتحديداً في عام 2015 وفي معرض الاتجار بما اسموه “الأزمة السورية” وفي حقيقة الأمر تسميتها الأدق “الحرب الكونية على سورية” ومعروف السبب وهو ببساطة ان سورية درع القومية والدولة العربية الوحيدة من دول الطوق التي لم توقع صلحاً مع الكيان الصهيوني، حتى ماتسمى السلطة الفلسطينية وقعت اتفاقية هزيلة…كما لاحظنا…
من ضمن هذا الاتجار ماطرحوه في دوائر الحرب على سورية والعملاء والخونة الداخليين والمعارضة والأذناب والدول المحيطة بسورية من معادية كالكيان الصهيوني وتركيا والدول الشقيقة امثال الاردن وهنا بيت القصيد: “الملك الاردني وصياً على سورية”
هل نصدق اسماعنا…؟ جلالة الملك الهاشمي عبد الله الثاني وصياً على سورية؟؟؟!!!!!
هل هو خيال يستعيدونه في لحظة فتح دمشق عام 1918 بدخول الأمير فيصل بن الحسين شريف مكة الذي كان قد خذله الانكليز ونكثوا بعهودهم بمباحثات حسين مكماهون بالموافقة على ان يكون ملكاً على الحجاز وسورية الكبرى والعراق اي على القسم الآسيوي من ديار العرب الرازحة تحت الحقد العثماني ثم الاتحادي الطوراني ووريثه الآن رجب طيب اردوغان ووريث الحسين شريف مكة ابن الحفيد الملك عبد الله الثاني…
هل نحن امام لبوس جديد لما تم قبل 99 سنة…
لكن على الجميع ان يتذكروا ان الشهداء احرار الشام على مشانق ساحة المرجة عام 1916 زغردوا لأرجوحة الأبطال وهتفوا لدمشق مشعل العرب الوضاء وغنت دمشق بأكملها اطفالها وحتى الرضعان على اثداء امهاتهم وحتى العجز لمن تدلوا على مشانق حرية العرب…
“زينوا المرجة والمرجة لينا شامنا فرجة وهي مزينة…”
هي دمشق ياجلالة المليك…دمشق التي قال فيها الزعيم جمال عبد الناصر انها” قلب العروبة النابض”
الجيش السوري البطل
ووصف جيشها” الجيش الأول” فيما عند مصر الجيشين الثاني والثالث… هل صحيح جلالتكم وصي على سورية…؟؟؟
تذكروا جلالتكم أنه لولا سورية وتضحياتها لما قامت امارة شرق الأردن ولولا جدك عبد الله لأنتصر العرب في فلسطين، وبقيت فلسطين ربما حرة عربية رغم ان قائد جيشه كان انكليزي عميل… وعندها لم يقدر على ضم الضفة الغربية الى امارة شرق الاردن ليقيم التاج الملكي الأردني… وربما بقي حياً ولم يغتاله فلسطيني ثاراً لوطنه فلسطين المغتصبة على درج الجامع الأقصى في القدس…
ليت الناس يتعظون!!!وخاصة القادة… هل هو خيال كخيال شعراء البادية العربان؟؟؟
* قولوا ما شئتم في الخيال العرباني هذا أكان يتوكأ على عكاز خشبي ام كان على ظهر ناقة… وعلى قول الصحفي الشهير نبيه البرجي:
“فجأة يرتدي ثوب المهرج حين يتعلق الامر بسورية. بعد الرهان على اميركا، وعلى تركيا، وعلى فرنسا، وعلى اسرائيل، وعلى المال، والانقـلاب، والاغتيال، وحتى على تنظيم الدولة الاسلامية و«جبهة النصرة»، وصولا الى زهران علوش (القاتل الذي تحول الى امير)، ها هي الاستراتيجية القبلية تعثر على الحل الذهبي: عبد الله الثاني وصيا على سوري’…”
* استعادة كاريكاتورية لما جرى في العشرينات من القرن الفائت، فها ان البلاط الاردني يتصدر المشهد، وعلى رماد الشهيد معاذ الكساسبة الذي لا ندري لماذا قتل بتلك الطريقة الهمجية. اكان ذلك انتقاما لابي مصعب الزرقاوي الذي دلت الاجهزة الاردنية على المكان الذي كان يختبىء فيه، ام كان رداً على تعاون الاردن مع “جبهة النصرة” بدلاً من التنظيم على الجبهة الجنوبية الشديدة الحساسية، وبعدما احتدم الصراع بين ابي بكر البغدادي وابي محمد الجولاني وقتها على من يمد يده الى بنيامين نتنياهو…
في البداية، وبعدما تبعثرت المعارضة في سورية ان لتعدد الجهات الممولة، او لكونها توزعت بين اجهزة الاستخبارات المختلفة، او لغلبة الهاجس الشخصي، والجشع المالي، على الضمير السياسي، ثمة من اقترح تتويج العاهل الهاشمي ملكاً على سورية الاقتراح… وصياً على سورية من هو تحت كل تلك الوصايات وصيا على سورية.
* فعلاً.. الى اين يذهبون بك ياصاحب الجلالة هم يمثلون دور مكماهون مع مؤسس الاسرة الهاشمية الشريف حسين… وتحاول انت ان تذهب بالمنطقة؟! هل هو دور تاريخي، وجغرافي، للملك الذي يعيش داخل القنبلة الفلسطينية. الخيال العربي الذي طالما وضع يده بيد رجب طيب اردوغان، وهو الباب العالي، لاحظ جلالتك ان الرجل يقود ولا يقاد. كل ما فيه يشي بأنه يخطط لابتلاع الجميع. وانت العاهل الهاشمي مختلف جداً عن السلطان العثماني. وهو له ثأر مع الشريف حسين لثأره وابنه فيصل وجدك عبد الله على الأتراك والتعاون مع الانكليز وقد عدوكم كفرة لتعاونكم مع عدو الاسلام والخلافة العثمانية…
* نعلم ان جلالتكم تسمعون لكلمة الانكليز اصلاً كأبيكم وجدكم… والشريف حسين… (الذي أطاح به آل سعود… ولم يعطوه حتى عرش مكة…)والآن الآن وليس غداً بت تسمعون كلمة اميركا، يوما بيوم. قيل لكم ان سورية محرقة، فكان اللعب تحت الطاولة، واغروكم ويغرونكم بأن السوريين عاجزون كليا عن التوافق حول التسوية. خليفة وامراء ورؤساء عصابات، وقطاع طرق، ودمى موزعة بين الفنادق والخنادق. من يستطيع ان يضع هؤلاء داخل سلة سوى صاحب الجلالة. صاحب الجلالة إن غضب…
* لماذا كل ذلك الغضب. الطيارالكساسبة الشهيد لم يكن في طائرة من الورق. اطلق صواريخه على مواقع داعش وحين وقع بين ايدي اولئك الوحوش ردوا على النار بالنار، وان كنا قد تأثرنا، وحتى العظم، لمشهد الشاب وللوعة ابيه الذي لعله سأل: لماذا الجبهة مع اسرائيل مقفلة، والى الابد، والجبهة مع سورية مفتوحة، وعلى الابد؟ وقامت طائراتكم مؤخراً بقصف من ؟ الذين كنتم ترعونهم في غرفة الموك بعدما انقلبوا عليكم واصبحتم على شفير النار التكفيرية…
الثأر كان ولا يزال قبلياً. كيف ارتضى الاردن ان تلاعب طائراته قوافل البرابرة،الدواعش ولا يتلقى انتقاماً واحداً من آلاف مثيلاته بحق الجيش السوري من هؤلاء التكفيريين داعش والنصرة….
* هو اللعب بالدم السوري الذي ينفذه الغرب على الارض والان يرى الخيال العربي توظيف اللحظة الاردنية في ذلك الطرح الفولكلوري، اي تعيين عبدالله الثاني وصياً على سورية
اصحاب الطرح يرون انه لاجتثاث الدولة السورية لا بد من عملية برية ضاربة.
هكذا يوضع آلاف الجنود، ومئات الدبابات (والطائرات) وآلاف التكفيريين وبغطاء استخباري وجوي صهيوني…تحت الراية الهاشمية التي تبغي أن تتقدم نحو دمشق.
* يا صاحب الجلالة، كما قال لك الانكليز “سورية محرقة”، وكانوا قد وعدوك بالعراق وخنثوا، وها هم يعدون للحملة البرية، فيما التأجيج المذهبي، وعبر الشاشات، على اشده. لا ترتكب الغلطة التي ارتكبها اسلافك عقب الحرب العالمية الاولى. تذهب الى سورية تضيع هناك، وتضيع المملكة. احذر… عندك الدواعش في الاردن ينتظرون…
*جلالة المليك…!!!! هل لهذا ستشاركون في الاستانة ام هي استدارة لحفظ ماء الوجه؟؟؟
جلالة المليك خلال ست سنوات لم تمر المؤامرة بالرغم من مليون ضحية بريئة ولن تمر الا على اجساد الشعب السوري الشريف وجيشه الأسطوري الذي يقاتل على مدى ست سنوات كل دول العدوان العالمي 85 دولة ومنهم نظامكم المغذي للنصرة الارهابية وجيش خالد بن الوليد… ولاسرائيل الباغية…
هو ابي، رحمه الله، وليس اصعب من ان يتحدث الإبن عن أبيه، لا سيما وانه عندي وعند اخوتي، واخوته وكل العائلة، مثال للهدوئين والطيبين والمحبين للجميع والحنان للجميع.
فعلا ابي جورج لم يكن اباً عادياً في سجاياه وخصاله الانسانية، كان المرحوم جرجي بن فارس زيتون اباً عادياً حنوناً كأي اب حقيقي، هو الأب المعطاء بلا حدود مع عائلته حتى انه كان مستعداً ان يطعمنا من لحمه، وكان فعلاً كذلك بالرغم من انه لم يكن غنياً بل كان مستوراً موصوفاً بالحنان والطيبة، مضحياً نحو عائلته زوجته واولاده واهله…كأمثاله ولكن لأنه ابي كان عندي غيرشكل…
صورة شخصية في الستينات من عمره
اما في وجهه الآخر الذي يهم الوطن السوري، ومدينته دمشق الشام فهو لم يكن حرفيا عادياً بل كان الأميز في فنه فقد كان فناناً في حفر الخشب ونقشه على مستوى الوطن ككل.
تمهيد
منذ 1992 وحتى الآن كتبت، ولا ازال، عن كثيرين من أعلامنا الكنسيين، وأعلامنا الارثوذكسيين، وأعلامنا الوطنيين. منهم من كنت قد عاصرتهم ردحاً معيناً، وصرت اعرفهم حق المعرفة، وكانت شهادتي بهم شهادة العارف. ومنهم من لم اعرفهم، يعرفهم الغير، واستقيت عنهم من هذا الغير، فترجمتهم في موقعي، وفي دوريات يومية وطنية وارثوذكسية، كتبت بها قبلاً ولا ازال… اما والدي فقد تأخرت كثيراً في الكتابة عنه حتى الآن، وكان قد ارتقى مطلع عام 1995 الى عالم الخلود.
والدي هذا الانسان الحبيب الطبيب الذي انا اتمنى ان اماثله في الخلق والروح والفكر والهدوء وطولة البال ومحبة الناس له، فأنا كنت بكر اولاده الخمسة، وكان منذ فتوته وقبل زواجه يلقب بأبي يوسف، اي أتيت الى هذه الدنيا واسمي معي.
نعم اكيد تأخرت في الكتابة عن ابي، ولكن بشكل مقصود، لأني كلما ازمعت ترجمته كنت اتهيب، فان افرطت في المديح اخشى الملامة من البعض، وليس من عائلته وعارفيه ومعاصريه الذين يعرفونه حق المعرفة، وأخشى إن قللت في ترجمته فأكون ملوماً من نفسي اولاً، ومن عارفيه ثانياً، حيث لم أفيه حقه، لأنه اولاً
كلمة بحق ابي
واخيراً هو ابي، الطيب والممدوح والمحبوب من الجميع، وأكيد فإنه مهما كتب المرء عن ابيه يبقى مقصراً عن ايفائه حقه. فأبي جرجي زيتون، كان هذا الانسان الطيب جداً والمحب جداً للجميع، والذي كان يتسامح حتى مع من آذاه… والجميع كان يحبه ولم يكن من احد يكرهه، وان كان الكثيرون يغارون منه (وخاصة متسلقي فنه) لنبوغه، وعلو كعبه في الفن الدمشقي الراقي حفر الخشب… رحمة الله عليه…
لابل لعله، كان هو الوحيد الذي ابدع في حرفة “نقش الخشب” الفنية، وهي تختلف عن حرفة حفر الخشب، وهذه حرفة غاية في الفنية لها اسرارها، وكان تعمل بها فقط بنات يهود الشام وبأزاميل صغيرة خاصة، لكن الفنان جورج زيتون كان وبخبراته، الفنان الدمشقي الوحيد، الذي نقش الخشب بأزاميل الحفر الكبيرة. واصلاً توقفت او كادت حرفة الحفر
درع تكريمي من وزارة السياحة للمعلم الحرفي الفنان جورج زيتون تقديراً وامتيازاً
الا من بقايا افراد بعدما دخلت الآلة، بينما حرفة النقش انتهت مع رحيل بنات اليهود من دمشق منتصف التسعينات ولكن والدي أحياها وبمفرده، وانتهت برحيله رحمة الله عليه إلى الأخدار السماوية.
رافقت ابي طفلاً وصبياً وفتى في دكانه الصغيرة (والمتواضعة جداً بأرضيتها الترابية المليئة بكسارة الخشب وجدرانها اللبن المكسوة برسومات وطبعات كرتونية) في العطل المدرسية والصيفية، قبل ان اعمل كغيري من بقية ابناء العائلات المسيحية الدمشقية المستورة في مهنة الصياغة، وعمل بها كل ابناء العائلة اخي عبد الله وابناء العمومة، الا انا لمتابعتي دراستي الجامعية والعالية.
ولكني رافقت والدي في فتوتي وشبابي ورجولتي (بعد زواجي) صديقاً اعتز بصداقته الرائعة، ومنه استقيت الكثير الكثير من مخزون ذاكرتي، ومنها معظم هذه السيرة، كان يستحق القول المأثور:” انسان تضيق بذكره المجالس في مكارم الأخلاق ومحبة الناس له وتسامحه المسيحي، وفنه المتميز”.
جورج زيتون قلما لا بل نادرا ماكان يثور”ويطلع خلقه”، او يسب اويجادل في شأن، حتى ولو كان محقاً في قضية ما. وحتى لواكلوا له حقه، ليس جبناً او خوفاً منه بقدر ماهو خجل ومحبة وقطع الطريق أمام الشقاق والمشاكل…
روزيت اواكيميان زوجة الفنان جورج زيتون
وكانت امي الحبيبة روزيت، رحمها الله، تغالطه احياناً في تفريطه بحقه، سيما وانها كانت مستودع أسراره وحبيبته وتتمتع بطيبته وحبه ذاتهما للناس، فالسجايا الفضلى ذاتها، (وهي ابنة خالته التي احبها وهي طفلة وهو فتى، وسعى لأجل الاقتران بها واقترن بها بعد نضال وصبر)… وكنت أحياناً أساندها في لومه، ولما ألحظ انه بدأ يزعل مننا من خلال تعابير وجهه، أُغمزها للتوقف عن الملامة، وبالتالي أُلطف او تُلطف الجو ونرضيه فتنبسط اساريره ويعود الى سجاياه الحلوة المثلى وضحكته الدائمة، رحمة الله على وجهه المشرق.
كان يتمثل قول الرب يسوع الذي كان مرافقاً له منذ لحظاته الاولى (إذ كان يتمنى ان يكون في طفولته راهباً ثم كاهنا وماكل مايتمنه المرء يدركه)، الى لحظة ارتقائه اليه”بالمحبة غلبت العالم.”
اكيد أنا أمام والدي لاشيء، ويتوجب علي أن أفتخر به فهو أعظم والد في الكون، كما يتوجب على كل الأولاد قوله، اذ لولا الآباء لما صار الأولاد في مكانتهم، ولكن ابي جورج زيتون الذي كان ذكره محموداً في المجالس وسيرته ممدوحة في كل مكان…الكل كان يحلف بحياته، الكل ممن يعملون بحرفته حتى المبتدئين من معارف واغراب، صغار كانوا ام كباركانوا يقصدونه للسؤال والتعلم منه، وهم خجلين منه سيما وانهم ضمناً حاسدين له، خاصة وانه كان يقابلهم من وافر علمه ومهنيته بدون حساب ولا تحفظ…وكم غالطته بذلك فكان يجيبني:” معليش لك ابي معليش، المنيحة احسن من العاطلة…”
الوالدان المرحومان جورج وروزيت
فعلاً فأنا افتخر بك يامضرب المثل في المحبة والطيبة، وبكل تواضعك ياجرجي (اسمه بالهوية) زيتون…فأنت حبيب الكل، انت الكبير المتواضع بآن والقامة الفنية الدمشقية، لا بل السورية واللبنانية بلامنازع في مهنة اكتسبتها من ابيك المرحوم فارس، ولكنك ابدعتها بإزميلك المبدع ويديك المبدعتين بقفزاتٍ، انت وشقيقك الأكبر نقولا، انما كل في مجاله، انت الذي كنت تمني النفس بأن هذا الفن سيتكرس بابنك الأصغر الذي تتلمذ على يديك، فتعلم فنك واستقى طيبتك ومحبتك وهدوئك المتميز وكلامك الموزون دون إسفاف… شقيقي الأصغر الشهيد مروان الجريء والقبضاي، الذي كان المأمول به، استمرار هذا الفن بالعائلة واستمرار هذه العائلة الفنية به. لكنه ارتقى شهيداً للوطن الحبيب سورية، وهوبعمر 21 سنة فأدمى قلبك ولم تعد تشاهد بعينيك هذا البطل الفحل الهادىء الذي لايهاب، الذي كان رفيقك في دكانك يعمل في صدر الدكان الصغيرة على ذات السقالة، مع شقيقك نقولا الذي عمل قبله معك قي الدكان مقابلاً لك على السقالة ذاتها، في آخر عقدين من عمره رحمه الله، تلبية لدعوتك، لتعملان معا كما كنتما (في الطفولة مع ابيك) بعد تقاعد ابيك، وبعدما اغلق صاحب ورشة النجارة الذي كان كبيرالحفارين الفنان المعلم ابو فارس نقولا زيتون يعمل عنده، كي لايعمل عند غيره ثانية.
“رأس الحكمة مخافة الله” من حفر العائلة في المجلس النيابي
شقيقك الكبير نقولا الطيب بدوره الذي كان على مثالك، ولكنه يختلف عنك في قدرته على الاحتمال، اذ كان طيباً جداً ولكن خلقه ضيق كأبيه رحمهما الله بعكس ابي، وكان رجلاً شهماً وهوقد اطلق لقب ” ابو فهد”على مروان لرجولته وهو فتى وكان يحبه بدون حدود… ومنَّ النفس بدوره بالشاب مروان فناناً زيتونياً جديداً وكان كما يرشده في العمل بدون حدود كما كان ابي، هو بدوره فقد ابن شقيقه هذا الرجل الصغير وبكاه كثيرا وكثيرا جداً…
جورج زيتون في الوسط ويمينا شقيقه نقولا في الخمسينات
هذا اللقب “ابو فهد” حمله شقيقي الأصغر معه الى الجيش، وشُيِّع به شهيداً بعراضة عسكرية وكشفية وشبابية، لاتزال في ذكريات القصاع.
وبذا انقطع رجاؤك يا أبي وياعمي ورجاء العائلة كلها بالشاب أبي فهد فناناً زيتونياً كما كان فارس الأب وكنتما… تلك العائلة الفنية الدمشقية الاشهر (والأفقر لأن من كان يأكل الموارد الكبيرة والسمعة والنجاح هو المتعهد الا من فتات مالي لكما).
واكتملت وحدتك والمك يا ابي بوفاة عمي نقولا المقابل لك على السقالة ذاتها، فأرهقك قلبك المتعب بفقد صغيرك شهيداً.
الحق معك ياحبيب قلبي يا ابي، فقد قاومت ولكن قلبك الكبيرالذي كان في بدايات الآفة القلبية، اصبح متعباً، ومع ذلك كنت تصمت ولا تشكو من معاناتك، والصمت هو مؤلم بحد ذاته، وقلبك لم يصمد كثيراً، فلقد اختارك الله الذي احببته الى جواره في فردوسه وانت بعمر 66 سنة، اي في ريعان الكهولة، وفي وقت كان يجب ان ترتاح فيه من تعب الايام والجهاد في سبيل اللقمة الشريفة والعائلة المستورة فارتحت نهائياً، وحكمة ربنا أوسع، فخسر الوطن وكل معابد الشام المسيحية والاسلامية واليهودية على السواء، والمجلس النيابي
قاعة المجلس النيابي السوري وقد حفر فيها المعلم فارس زيتون ابو نقولا وولديه نقولا وجورج بتكليف من المتعهد السيد محمد الخياط
والقاعة الدمشقية في القصر الجمهوري، وفي رئاسة مجلس الوزراء، وفي الكثير من المؤسسات الرسمية والبيوت الفخمة وقصور وفيلات الأغنياء،وفيهاالصناديق التراثية المنقوشة والمصدفة التي كانت تستخدم في الماضي صناديق ثياب وبقج الأعراس حولت الى صناديق زجاجات المشروبات الروحية وبارات بعد تعديلها، وكم رمم منها صناديق تعود الى قرون خلت، ومنهم من صدروا الى الخارج…
كلهم خسروا فنك وأثمار يديك التي لاتذبل، ويبقى قاصراً عن ايفائك حقك تكريم الوطن لك بتقليدك في مرتين وسام المهارة الفنية وشهادة تقدير رفيعة، ودرعاً تقديرياً منح “للمعلم الحرفي الفنان جورج زيتون تقديراً لفنه الدمشقي المشهور”، وقُدم من معاون وزير السياحة واركان الوزارة ومحافظة دمشق مجتمعين اعترافاً بفنك بحضور المئات في أربعينك، في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع، تلك الكنيسة التي احببت في فتوتك، ان تصير كاهناً لتخدمها، ولما لم تتحقق امنيتك بترك المدرسة ومن ثم العمل بالحرفة مع ابيك، خدمتها طفلاً قندلفتاً كأقرانك، ومرتلاً مع جوقاتها، ومجملاً لها بتقدمات خالدة من انتاج يديك الخالدتين منذ صبوتك، وحتى آخر نسمة في حياتك…
احد المذابح المقدسة في هيكل كنيسة الصليب المقدس وهي من حفر الفنان جورج زيتون
رحمة الله عليك يا ابي الحبيب، المسيح قام وسيبقى ذكرك مؤبداً ليس عندنا فقط بل عند كل من عرفك وسمع بك…وانا اكتب سيرتك هنا لأذكر الناس بك مجدداً ايها الغالي.
أحبتي
لابد لي بعد هذا الاستهلال عن ابي وهو اقل من واجبي نحوه، لابد لي من التحدث عن الاسرة/ آل زيتون/ وان كان من الصعوبة بمكان علي ان اخوض في تاريخ عائلتنا، وهي ليست بالأساس من دمشق، الشام الحبيبة الخالدة، التي ضمتنا ورعتنا كأمنا الحنون، وفيها تعلمنا واكلنا من زادها وشربنا من فيجتها، بدمشقنا الشامة نفتخر وبسوريتنا نفتخر اكثر.
عائلتنا التي كما سيستبين اسرة صغيرة عددياً في دمشق، وتاريخها قريب في الشام، وهي كأي اسرة، كانت فقيرة، ثم صارت مستورة، كانت هي الوحيدة في الشام واقتصرت على جدي فارس وأولاده الصبيان الاربعة، اما البنات الاربعة ووفق طبيعة الأمور انتمين لعائلات أخرى واسسن أُسراً جديدة.
ونؤكد على وجود الكثير من عائلات زيتون المسيحية، وحصراً الارثوذكسية، من حمص وحوران واللاذقية
كرسي الكاتدرا في هيكل كنيسة الصليب المثدس وهو حفر قديم من حفر الفنان جورج
وبيروت وزحلة وحتى من حماة وكفر بهم… إضافة الى عائلات مسلمة ودرزية أكد لي من تابعتهم من كبارها قرابتنا… وكلنا من اصل حوراني…ومن حوران انتشرت في كل سورية الطبيعية بمافي ذلك فلسطين…
آل زيتون، بطاقة تعريفية
يعود اصل اسرتنا آل زيتون الى منطقة ازرع منذ القرن الخامس عشر كالعديد من الاسر المسيحية،
وقد خرجت منها وساحت في ديار سورية الطبيعية، وخاصة جهات وسط وجنوب سورية وجبل الدروز والجولان ومنها الى فلسطين، وكان منها بطن توجه الى بلدة راشيا الوادي (في جنوب لبنان اليوم)، وكانت راشيا وحاصبيا والبقاع منذ احتلال العثمانيين للمنطقة، وحتى بدء الاستعمار الفرنسي أي 1920 قبل تشكيل دولة لبنان الكبير تعتبر من أقضية دمشق ثم اقتطعها المستعمر الفرنسي والحقها بلبنان الكبير مابعد 1920.
ويمتد أصل نسب بطن عائلتنا في راشيا الى كفير حاصبيا مع كبيرها ايوب…فكبير العائلة في القرن 16 الذي كان في الكفير اسمه ايوب، وقد تكنت العائلة باسمه حين تطبيق الكنيات في بلاد الشام في القرن 17.
كنيسة القديس جاورجيوس في ازرع وتعود الى القرن الرابع ومن ازرع يتسلسل آل زيتون
انتقلت عائلة ايوب بسبب العمل، وتمددت الى راشيا الوادي القريبة، وكانت “بندر المنطقة”، فاقتنت اراضي عامرة بكروم الزيتون، ومنذ الجد السادس /كما يفيد التقليد المتواتر/ كان كبيرها الخوري الياس ابن ايوب المذكور، وتكنت العائلة باسم ايوب ودونت في السجل العثماني، ولكن لم تكن الاسرة تُعرف باسم ايوب بمقدار ماكانت تُعرف بلقب “زيتون” والسبب بذلك محبة افرادها الشديدة لثمار الزيتون وكانوا يأكلونه باستمرار، وبالذات منه الزيتون الأخضر والاسود المكلس، حتى ان افراد الأسرة كانوا يضعونه في جيوبهم يتناولونه اينما كانوا، في الحقل، والبيوت، والمجالس والطرقات، كما يتناول الناس المكسرات والبزر والفستق… وكانت مؤونة الزيتون اكبر من ان توصف فهي تكبس بالخوابي في أقبية بيوت العائلة، ومن اجود الأنواع، إضافة الى خوابي زيت الزيتون… لذا غلب وصف الناس لهم على كنية العائلة ايوب، فعرفوا ب”آل زيتون”، على المقولة الوصفية الدارجة في بلادنا الشامية:
راشيا الوادي مسقط رأ س العائلة
“اجو بيت الزيتون وراحوا بيت الزيتون” ومنذ الجد الخامس توثقت الكنية “زيتون” وبقي اقارب لنا من آل ايوب في الكفير وراشيا. ولاتزال هذه السمة اي محبة أكل الزيتون مرتبطة بالعائلة وحتى أولادنا وأحفادنا حالياً عندهم “الزيتون سلطان السفرة” كما كنا ولانزال، والتي تبدأ من اساسات العائلة في حوران.
عساف زيتون هو الشخصية المعروفة في آل زيتون منذ مطلع القرن 19 وهو كبيرها الذي عزز مقتنيات الاسرة من الاراضي الزراعية في راشيا، وعلى مايبدو في كفير حاصبيا ايضاً، ووصل بعائلتنا الى زحلة، ولكن صادر وسلب معظم هذه الاراض جيرانهم الدروز بقوة بطشهم، كما حصل ببقية العائلات المسيحية التي فقدت اراضيها وحقولها بعدما هَّجَّروهم.
وبنتيجة كارثة 1860 الطائفية المدمرة للوجود المسيحي في المنطقة وادي التيم (حاصبيا وراشيا) والبقاع وزحلة، وجبل لبنان، تلقت الاسرة ضربة قاضية، وفقاً لما سمعته في طفولتي من شهادات شفهية من
مشهد لدمار الصرح البطريركي والمريمية والكنائس الأخرى في مذبحة 1860
المرحومين جدي فارس وجدتي اسما ووالدي جورج، وتطابقت شهادة جدي ووالدي الشفهية عن العائلة مع ماأورده العلامة محمد كردعلي(1) الذي تحدث بكتابه عن مذبحة 1860 التي دمرتها كعائلة، وقضت على معظم افرادها الذكور، وعن دمار المنطقة المسيحية (زحلة وجنوب وبقاع لبنان حالياً) حتى ان الكثير من عائلات زيتون المسلمة (سنة وشيعة) والدرزية في المنطقة الممتدة بجنوب لبنان ومنطقة الزبداني ووادي بردى وشهاداتهم، أكدت لي (كما اسلفت) اننا ابناء عمومة، وان اصلهم من عائلتنا وانهم كانوا مسيحيين، والسبب هو هذه المذبحة وماقبلها بعقدين تقريباً أي بعد خروج الجيوش المصرية بقيادة ابراهيم باشا بن محمد علي والي مصر 1840، وقد اسلموا وتدرزوا وفق طوائف المنطقة للنجاة من القتل، كما حصل للكثير من العائلات المسيحية كآل الزين مثلاً.
مدينة زحلة اليها امتدت آل زيتون ولاتزال فيها الاسرة
وكانت الدولة العثمانية ومن خلال والي دمشق في عام 1845 الذي كتب سراً الى دروز حاصبيا، يحضهم على قتل المسيحيين، واستعداده لمدهم بالسلاح والذخيرة، وأوعز الى دروز حوران وجبل الدروز ان يبادروا الى نجدتهم، وسأل مثل ذلك مسلمي البقاع ليفعلوه، فهرب مسيحيو حاصبيا قبل الايقاع بهم، لكن الدروز انقضوا عليهم في جهات راشيا وفتكوا بمعظمهم، وتشتتوا في تلك الارجاء ومنهم من نجا فجاء زحلة، وكان من الناجين كبير العائلة جد جدي واسمه عساف(المتقدم ذكره) ومعه بعض من تبقى من العائلة، وكان موصوفاً بالشجاعة والاقدام، واستقر في زحلة، وفي عام 1849 وفي نكبة زحلة بعد مجزرة دير القمر بيد الدروز، وبتخطيط من قائمقام دير القمر، وبمساعدة الجيش العثماني، ارتكبت المجزرة الطائفية مجدداً في راشيا وكانت مروعة، حيث قضى فيها ثلاثة آلاف رجل من المسيحيين، استشهدوا في هذه المنطقة وفي البقاع كان منهم عدد من آل زيتون، وفي مقدمهم كبيرها عساف في زحلة وقضت اغلبية العائلة التي كانت موجودة في راشيا وحاصبيا والبقاع وكانت هذه الكارثة الثانية التي ضربت الاسرة بهذه الفتنة الطائفية التي امتدت من عام 1845 الى 1860.
عاش الناجون من العائلة مجدداً بين زحلة وراشيا وعملوا في ماتبقى من اراضيهم بعد استلاب معظمها من جيرانهم الدروز وهم صاغرين بغية السلامة…
من ابناء الجد الشهيد عساف كان كبيره نقولا زيتون الذي اقام في زحلة، وعمل عربجياً على عربة نقل ركاب بين بيروت وزحلة بعدما هجر الارض الزراعية، وبقيت فلول العائلة حصراً في راشيا ومنهم شقيقته كاترينا تعتاش من الزراعة، وتزوج بالسيدة حسيبة آغاتي، ورزق منها ببكره فارس (جدي) وذلك في عام 1890(وفق سجل البطريركية، وفي الواقع فان جدي كان يؤكد انه من مواليدعام 1896 وان تاريخ ميلاده المحدد عام 1890كان خاطئاً، والصحيح هو1896 (2)وكان الوقوع وقتئذ في الخطأ طبيعياً وفق تسجيل واقعات النفوس بسبب المكتومية والتنقل الديموغرافي والكوارث التي حكينا بها، فيلجا المخاتير ومأمورو النفوس الى تقدير العمرتقديراً. وبعض المأمورين كانوا يتلاعبون بذلك من اجل الجندية… بعد تقاضي الرشوات) ثم رزقا بشقيقته اسما بعده بثلاث سنوات تقريباً، وبعد مرور حوالي 13 سنة على زواجه وعيشه بشظف العيش و”القلة والدلة” والقسوة التي كان يتصف بها اساساً، واكتسبها اكثر من مهنته القاسية كعربجي، وذلك على زوجته حسيبة لكونها غير جميلة، وربما كان ندم لزواجه بها، كما اخبرني جدي رحمه الله الذي انتابه قسم كبير من قسوة ابيه. وكانت امه رحمها الله حنونة علينا نحن أبناء أحفادها وبالتحديد انا حيث كانت تحبني كثيراً، ودوماً تطلب من امي رحمهما الله ان تبقيني عندها في غرفتها التتخيتة ( وكانت واطية السقف وفوق دهليز البيت ومطلة من جهاتها الثلاث على الحارة وفوق باب البيت تسلية لها، وكانت تحكي لي حكايات الجدة، وتقول لي: “ياتيتي كيف بدي اترككم وموت الحياة حلوة” وتعبطني وتشمني وكنت دون الاربع سنوات وفق شهادة امي التي قالت لي ” قال الحياة حلوة وهي الحزينة ماشافت يوم حلو بكل حياتها، قلة ودلة وقتل وضرب من جوزها القاسي عليها وعلى اولاده فارس واسما وسفره لأميركا وتركهم جوعانين”
وكانت امي (كأي ام) سيما وانها ولدتني بعمر 15 سنة، كانت تسعد بكلام التيتي ام فارس عني بأني “سأكون يوما ذا شأن”
بروكلن اميركا هي موطن المهاجرين الشوام الى اميركا في القرنين 19 و20 واليها ذهب نقولا زيتون
في عام 1908 تقريبا، سافر نقولا والد جدي فارس الى اميركا الشمالية بقصد العمل كالكثير من الرجال وقتئذ، نتيجة الجوع الشديد، والظلم التركي للمسيحيين، وسوقهم للقتال في اطراف امبراطورية مترامية الاطراف في الاناضول والروملي واليمن، وكم توفيت وفقدت اعدادٌ كبيرةٌ منهم، ولم يقتصر السفر بقصد العمل على الرجال فقط، بل سافرت الكثير من نساء العائلات تاركة رجالهن واولادهن، وهو امر مستغرب اواخر القرن 19 ومطلع القرن20 ولكن كان الدافع تأمين لقمة العيش، كما كان الحال لدى معظم مسيحيي جبل لبنان، وأقضية حاصبيا وراشيا ودمشق، ووادي النصارى، وكان السفر الى اميركا متاحاً، كانوايستقلون “البابور” او الباخرة بعد توفير ثمن بطافقة السفر، ولم تكن نيتهم من سفرهم هو عدم العودة،بل السفر بقصد العمل واكتناز مبلغ مالي والعودة به لفتح مشروعات عمل في الوطن، ومنهم من كان يرسل، (ومن كانت ترسل) نقوداً الى العائلة في بلاد الشام وخاصة في كل هذه البلدات…
وفي انتشار حمى السفر الى اميركا كما اسلفنا، سافر نقولا تاركاً زوجته حسيبة وإبنيها، ولم يحفل بتوسلاتهم لطباعه القاسية كبقية رجال زمانه، ولم يكن لدى جدتي ام فارس ماتطعمه لولديه، وانقطعت اخباره تماماً.
حطت رحال نقولا كبقية المهاجرين في بروكلن ولاية نيوجرسي، وهناك عمل عربجياً ايضاً، وانقطعت اخباره بسبب البعد الجغرافي وصعوبة المواصلات وتعثرالبريد. ومن ثم قيام الحرب العالمية الاولى.
طلائع المهاجرين الشوام الى اميركا بروكلن في القرنين 19 و20
وكان موقف الكنيسة السورية الناشئة والتي ينظم امورها اسقفها المجاهد روفائيل هواويني الدمشقي،(القديس روفائيل هواويني الدمشقي) “الارسالية السورية الارثوذكسية الأنطاكية” رافض قطعاً لاجراء اي زواج كنسي او خطبة شرعية للمهاجرين بدون الحصول على مطلق حال من كنائس الوطن، ولكن بالرغم من دقته وتفانيه في الخدمة الروحية لهؤلاء المهاجرين ومتابعته لهم بمساعدة قلة من الكهنة المهاجرين بدورهم الى العالم الجديد لجمع المال من التبرعات، وخاصة من رعايا بلداتهم الأصل، والعودة بها الى الوطن لبناء الكنائس والمدارس، وقد جندهم الهواويني في فترة وجودهم في اميركا للخدمة الروحية لأبناء الكرسيين الأنطاكي والأورشليمي الذين هم في اغتراب مخيف ومجاهل افنت اعداداً كبيرة منهم، اي بمعنى انه تابعهم حتى في ابعد المجاهل وكان يتنقل 40 ساعة بالقطار ليقوم بعماد طفل او مناولة مريض مدنف، او للقيام بأية خدمة روحية، اي كان خير معزي لهؤلاء، ولكنه كان شديد التمسك بالثوابت الارثوذكسية، وخاصة مايرتبط بأحوال الزواج والخطبة واشتراطه عليهم احضار “مطلق الحال”من الوطن، ولكن بموجب هذا الانقطاع الطويل عن التواصل والهجرة قرابة عقدين، وكوارث الطريق كما في مأساة الباخرة الشهيرة تيتانيك،
المطران روفائيل هواويني مؤسس ابرشية اميركا الانطاكية الرثوذكسية
وقد قضى فيها الكثير من الانطاكيين عام 1911، ثم الانقطاع النهائي لفترات طويلة عن التواصل مع الوطن في فترة الحرب العالمية الاولى،، فقد بادر بعض المهاجرين من رجال ونساء الى الزواج ثانية بزواج بعقود مدنية، وفق القوانين الأميركية، ولم يثبتوا زواجهم كنسيا وفق الشريعة المسيحية والعادة في الوطن. لأنها ستواجه بالرفض قطعاً، فنشأت عائلات جديدة هناك شقيقة للعائلات الأصل في الوطن، فالأب، أوالأم، صار لكل منهما زوج آخر وأولاد، مستغلين تفاوت قوانين الزواج بين القانون الكنسي في الوطن، والقوانين المدنية في المهاجر، ومنها المهجر الأميركي، وهذا اقض مضجع الكرسي الانطاكي المقدس ممثلاً بالبطريرك غريغوريوس الرابع ومطارنة الابرشيات ومطران اميركا روفائيل، ولم تكن لديهم اية وسيلة لوقف هذا الشذوذ الذي يعد كنسياً، حالة من حالات الزنى، بتكرار الزواج لعدم انقطاع رابطة الزوجية بأشكالها من طلاق وفسخ زواج أوبطلان زواج، حتى الخطبة الشرعية التي تعد إيمانيا وكأنها نصف اكليل. ما اضطر المجمع الانطاكي المقدس، وكذلك الكنائس الأخرى، الى اتخاذ تدابير حازمة فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، وعودة المواصلات مابين الوطن والمهاجر، وبعد وفاة المجاهد روفائيل هواويني عام 1915، والكثير من المهاجرين عادوا الى الوطن واقاموا مع عائلاتهم الاصل كبطلان الزواج الثاني…(3)
قلنا انه نشأت عائلات ثانية هناك نتيجة الزواج الثاني وفق القانون المدني كانت احداها عائلة نقولا زيتون الثانية حيث تزوج هناك بلبنانية الأصل، وأسس أسرة وانجب اولاداً من عائلة زيتون بفرعها الاميركي في بروكلن، وهي اليوم من العائلات الشهيرة في كنيستنا الانطاكية الارثوذكسية في اميركا الشمالية، والأولاد هم شارلي، جوزيف، جان، وجوزفين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد الى بيروت ومعه ابنه جان الذي عاش في بيروت، وتزوج فيها وسكن في منطقة الحازمية، وبقيت بقية عائلته هناك مع زوجته، وتزوجت ابنته جوزفين لاحقاً من حمصي الاصل مغترب، عادت معه الى حمص وعملت في شركة النفط الاميركية (أ.ب.س) في مصفاة حمص في الاربعينات.ABC
باب توما
بعد فترة وتقريباً في عام 1924 توفيت زوجته الأميركية، فتزوج بالسيدة شفيقة قريبته من راشيا بتدبير من كاترينا شقيقته المقيمة هناك، ورزق بأولاده توفيق ونعيم وبيرتا وعاشوا مابين راشيا وبيروت وزحلة. وكان نقولا جميل الطلة ممشوق القامة بسمرة جميلة ومهيب المظهر يلفت انتباه النساء، بينما كانت المسكينة حسيبة قصيرة القامة ولم تكن جميلة، لذا لم يعد اليها وان كانت وفق قيود البطريركية بدمشق لاتزال على ذمته.
وبالعودة الى 1908وبعد سفر زوجها بسنتين تقريبا، عض الجوع بأنيابه السيدة حسيبة وولديها فارس واسما فتركوا زحلة، وجاؤوا الى دمشق عاصمة الولاية حوالي 1910، حيث قطنوا بداية مع من هاجر من الرياشنة والحصابنة الى دمشق ومنذ مذبحة 1860 في ضاحية الميدان الدمشقية في ساحة الرياشنة، ولكن لم تطل اقامتها في الميدان اكثر من عدة اشهر، وقد عاشت هناك تحت خط الفقر، وعملت ببعض أعمال الحياكة البسيطة لتطعم ولديها مع إحسانات من جمعية حنانيا الرسول الميدانية. ثم انتقلت فسكنت في القصاع بنزلة الصوفانية، وكانت هذه المنطقة كضاحية جديدة نشأت بعد خروج ابناء من العائلات المسيحية المستورة والفقيرة من بيوت العائلات بعدما ضاقت بهم في منطقة باب توما القديمة، وحي القيمرية الحي المسيحي الارثوذكسي وقتها بالمطلق، بعدما ضاقا بسكانهما اضافة الى خروج النصف المتبقي من المسيحيين الاثوذكسيين الشاغوريين، وهناك عائلات تحمل اسم الشاغوري. وقد قضى نصفهم الأول في مذبحة 1860 وهناك قضى القديس يوسف الدمشقي غيلة وغدراً.
لاستحكامات الدفاعية الفرنسية أمام مشفى القديس لويس (المشفى الفرنسي) في حي القصاع، كما تؤكد الكتابة الفرنسية المطبوعة أسفل الصورة الملتقطة إبان الثورة السورية الكبرى في الفترة الممتدة بين العامين 1925-1927. ومما هو جدير بالذكر أن مشفى القديس لويس (المشفى الفرنسي) هو أقدم مشفى أجنبي في سوريا مازال يقدم خدماته للمرضى، وهو عبارة عن مبنى جميل مشيّد على طراز عمارة القصور الفرنسية البحتة، ويتميز باتساع مساحته وحدائقه. اختلف الباحثون في تحديد تاريخ بنائه بدقة، فهناك من يقول إنه شيد في العام 1904، بينما يذكر آخرون أنه بني في العام 1897. تعدّدت تسميات هذا المشفى في مراحل نشأته الأولى؛ فعرف باسم (مستشفى القديس لويس)، و(المستشفى اللعازري) نسبة لأخوية اللعازريين الفرنسية التي ينسب إليها بناؤه، و(المستشفى الإفرنسي).
وكان يسكن في البيت الواحد في كل حي القصاع الناشيء وتفرعاته كالصوفانية… عدة عائلات كل منها بغرفة واحدة فقط وكانت المنافع ( مرخاض ومطبخ) مشتركة وكان الحمام في حمامات السوق عموماً، وقدعاشت حسيبة وابنيها في غرفة، وكانت البطريركية وجمعية نور الاحسان تقدم لها بعض المعونات النقدية والطحين مع مشارف مجاعة سفر برلك (1914-1918) وفي فترة المجاعة ايضاً، اضافة الى الخوف والرعب من اضطهاد الضباط والجنود الاتراك للمسيحيين خصوصاً وانتهاك حرماتهم بسبب المجاعة، وسوق اولادهم تعسفياً ولو كانوا دون سن التجنيد ونقلهم فوراً الى جبهات القتال البعيدة.
وكان جدي فارس يروي لي بحسرة، كيف كانت امه تسبقه (ومنذ 1913 الى حين طرد الاتراك من دمشق) إلى أول الحارة لتكتشف له الطريق ليذهب إما الى المدرسة أو العمل وهي تأخذه من يده، خوفاً من سوق العسكر/ وهو حدث/ وذات مرة ألقت دورية جندرمة التركية القبض عليه وكانت معه وبالرغم من توسلاتها، وساقوه الى معسكر سوق العسكر في منطقة القنوات وكان فيها الآلاف من امثاله تمهيداً لنقلهم فوراً الى قناة السويس (حرب الترعة) عام 1914، التي قضى فيها مأسوفاً عليهم كل شباب سورية، في حرب دولية لاناقة لهم فيها ولا جمل، بعدما قرر السفاح جمال باشا الهجوم على الانكليز في قناة السويس عبر فلسطين وقضى الكثيرون في الطريق جوعا وتشرداً اضافة الى استشهادهم بضربات طيران الحلفاء في فلسطين والنقب وسيناء وقبل وصولهم الى القناة وباءت اول حملة بالاخفاق بعد افناء كل الشباب السوري، ولكن العناية الالهية (في تلك الفترة) شاءت بأن أغارت طائرات الحلفاء على معسكر السوق في محلة القنوات، فوقع مئات الشهداء والجرحى من المكلفين الدمشقيين، وهرب من بقي حياً، وكان منهم الفتى فارس ، فالتجأ مع من نجا الى جبل الدروز، الى بلدة القريا الى حصن سلطان باشا الاطرش راعي الاحرار، (والذي كانت تهابه السلطات التركية وفي مقدمها السفاح جمال باشا حاكم سورية وقائد الجيش الرابع)، حيث ضاع جدي في الطريق مدة طويلة، على وصفه لي، وقد صار منظره كالمشردين الجائعين وثيابه قذرة ممزقة، وبعد وصوله الى مضافة سلطان الاطرش في القريا وكانت تضم الكثير من الشباب الفارين من الجندية واللاجئين اليه، حيث بقي جدي في ضيافته لمدة ثلاثة اشهر، استرد فيها عافيته، ثم عاد خلسة الى الشام وكانت امه قد بكته طويلاً لظنها انه استشهد بقصف طائرات الحلفاء، وكانت عودته قد اعادت الروح الى هذه المنكودة المعترة التي كانت تعمل في الخدمة والتنظيف بالمستشفى الافرنسي كبقية النساء الفقيرات وتتحنن عليها البطريركية والجمعيات الخيرية.
جسر الصوفانية 1906
وكالعادة، بقيت امه تداريه خوفاً من سوقه مجدداً للجندية، كان جدي فارس قد درس في المدرسة الآسية بدوامها الليلي قبل سوقه المشؤوم الى معسكر السوق في الجيش التركي، ونجاته من الموت، وكان في الآسية قد تتلمذ على يد الارشمندريت اثناسيوس كليلة الذي كان مديراً للمدرسة ومعلماً فيها، وقد روى لي وهو مسن عن ان الارشمندريت المذكور كان يداعب جدي ببيت الشعر التالي:
” اسموك زيتوناً وما انصفوا……. ولو انصفوا لسموك شحروراً
لأن الزيتون فيه زيت يضيء……. وانت لازيتاً ولا نوراً”
والسبب ان جدي كان كسولاً، لم يكن يحب المدرسة اطلاقاً، اضافة الى انه زيتوني البشرة فكانت سمرته غامقة، وكان نحيلاً طويلاً لذا كان كليلة يداعبه معنفاً له على كسله بسمرته على غرار الشحرور الذي هو اسود اللون، وانا اعجب من ذلك لأن كليلة بدوره كان اسمر البشرة غامقها وطويلاً ونحيلاً…
الصوفانية زمن الثورة السورية
وفي الوقت ذاته كان الفتى فارس يعمل نهاراً في ورشة نجارة في نزلة سفل التلة بباب توما القديمة عند المعلم نقولا(نسيت كنيته) الذي كان طيباً شهماً وحيداً لأمه أعزبا، ولم يكن عنده شغيلة، فحزن على مأساة هذا الفتى واشفق عليه، فرعاه وعلمه المهنة، وكان يعمل نجاراً وحفاراً للخشب، فعلمه مهنته بكل اريحية، فبادله الفتى فارس باخلاصه في خدمته وخدمة امه في البيت، وبرع في حفر الخشب اكثر من النجارة، واخلص في عمله لمعلمه نقولا وكان مستعدا ان يقوم بأي امر مهما كان خطيراً من اجله، ان اقتضى الأمر، وقد اوردنا ذكره في مقال(4) لنا في موقعنا، وكانت هذه الورشة تقع في اول سفل التلة مقابل باب مدرسة الرعاية الخاصة اليوم، ولاتزال في موقعها انما بمهنة اخرى، وذلك يمين الصاعد من باب توما الى نزلة الآسية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي.
بعد هروبه من السوق للجندية ونجاته، عاد جدي فارس مجددا للعمل في ورشة معلمه نقولا فأطلق يده في مهنة حفر الخشب، بينما انصرف هو للعمل في النجارة. فبرع جدي فارس في حرفة الحفر، وكانت وقتها تسمى “الخط العربي” بالنسبة للحفر العربي وارضيته التي تسمى “دق الرمل”، وبرع في انماط الحفر الاوربية الناشئة وقتها المعروفة ب” لوي كاتورز اي لويس الرابع عشر، ولوي كانز لويس الخامس عشر،ولوي سيز ” لويس السادس عشر…
مقهى قصر البللور في القصاع زمن الثورة السورية محتلاً من الفرنسيين
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى تزوجت شقيقة جدي اسماء الى المهجر الأميركي من ثري دمشقي مغترب من بيت معتوق، حيث هاجرا ولم تلتقِ بشقيقها فارس الا وصار عمره حوالي 80 سنة، عندما زار جدي وجدتي ابنيهما عمتي الكبرى ماري المتزوجة في اميركا من جوزيف عجمي من اصول حلبية منذ عام 1946 وعمي حنين الأصغر بين الذكور الذي هاجر حوالي 1960الى اميركا، وتزوج فيها ولم يرزق بأولاد وقد وافته المنية رحمه الله العام الماضي، وزار جدي اخوته من ابيه المقيمين في اميركا شارلي وجوزيف وتوفيق وكلهم من الفعاليات المحترمة اقتصاديا واجتماعياً وكنسياً في ابرشية اميركا الشمالية في ولاية نيوجرسي، وقد كتبت الصحافة المحلية في ولاية نيوجرسي عن لقاء الأخوين فارس واسما زيتون بعد انقطاع لأكثر من ستة عقود. وكان ذلك تقريباً في عام 1978. وتواصل جدي بزيارات عائلية مع اخوه جان في بيروت وذاك زارنا عدة مرات مع العمة كاترينا واذكر ذلك وكذلك زار مراراً عمته كاترينا في راشيا، وابناء عمومته في زحلة وراشيا واخيه جان في بيروت…
وكان انه في عام 1920 تزوج جدي فارس بجدتي اسما بنت انطون عبد الله طحان من مواليد دمشق 1902 وهي من عائلة الطحان الارثوذكسية الحمصية المهاجرة الى دمشق في القرن 19 مع العديدة من العائلات الحمصية الارثوذكسية، ومن ابناء عمومة مع البطريرك الكسندروس طحان الدمشقي ( الكسندروس الثالث).
البطريرك الكسندروس طحان 1931-1958
وبقي جدي فارس يعمل عند معلمه نقولا مابعد زواجه فترة جيدة من الوقت وطور مهاراته بحرفة حفر الخشب، ولشدة حبه له سمى أول اولاده الصبيان على اسمه نقولا، وتشاء الصدفة ان نقولا ايضاً هو اسم والده، وبالرغم من ظلم ابيه له وانقطاع العلاقة بينه وبين أبيه كان واجبه ان يسمي كبير اولاده الذكور على اسمه، وفق العادة الدمشقية، فاجتمعت الرغبتان.
قلنا ان والده نقولا وبعد وفاة زوجته الثانية في اميركا وحصوله على شهادة اطلاق حال من دوائر النفوس الاميركية، قام بالزواج من شفيقة من راشيا مع هجر كامل لزوجته حسيبة منذ 1908 ولكنه بادر الى زيارة ابنه فارس في دمشق وصار يصطحب معه زوجته الثالثة حسيبة واولاده.
وقد تأكد لي ذلك من معلومة استقيتها من وثيقة بطريركية عبارة عن كراس يحمل يعود الى عام 1925 وفيه احصاء قام به مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع بزيارته الرعوية (النورية) حيث زار كل رعيته الارثوذكسية الدمشقية في دمشق القديمة والتوسع في القصاع والصالحية ومحطة القنوات ايضاً… وبدأها في نيسان 1925 وختمها في 6 ايار ش 1925 بصلاة الغروب في كنيسة القديس انطونيوس ابي الرهبان في القصاع في حارة دف التوت ( مكانها الآن الشارع المؤدي من القصاع الى ساحة جورج خوري( حيث كانت الكنيسة مؤقتة في بيت عربي).
البطريرك غريغوريوس الرابع 1906-1928
وقد زار البطريرك بيت جدي فارس في حارة “عين الشرش”(5)رقم 11 ويبدو ان نقولا والده كان في زيارة لهم بمفرده بحيث ورد في هذه الاحصائية عن عائلتنا ما يلي:” نقولا عساف زيتون امرأته حسيبة ابنة موسى آغاتي، أولادها فارس متزوج أسما انطون عبد الله الطحان، اولادهما ماري وايفون ونقولا.”.
اما حارة عين الشرش سكن عائلتنا، كانت فيها عين ماء تسمى عين الشرش، وتسمت ايضا ولا تزال بتسمية “الفاعور”نسبة لتاجر بناء حمصي الأصل قام ببناء بيوت هذه الحارة، وكلها عربية شعبية متماثلة ( ولاتزال بعض البيوت كما بناها) وقام بتأجيرها الى العائلات الفقيرة منهم عائلتنا.
بعد حوالي نيف وثلاث سنوات، انتقل جدي مع زوجته اسما وامه ” ستي ام فارس” واولادهم السالف ذكرهم، اضافة الى والدي جورج وعمتي جوزفين المولودين في بيت عين الشرش، الى منطقة جناين الورد في القصاع خلف المستشفى الافرنسي والمحصورة بشارع القصاع شرقاً وشارع حلب غرباً، وكانت عبارة عن بساتين غناء، وبيوت ريفية من طبقة واحدة والبيت عبارة عن غرفة واحدة و”ارض ديار” كحال مساكن كل العائلات المستورة، بحيث ان الغرفة كانت تُفصل بساتر قماشي ليلاً الى مايشبه الغرفتين، تعيش “ستي ام فارس” في واحدة مع الاولاد حيث يفترشون الفرشات على الارض، وفي الثانية يعيش جدي وجدتي.
رزق جداي بتسعة أولاد أربعة ذكور وخمس اناث، توفيت واحدة منهن واسمها جورجيت، وكانت صغيرة بحادثة اليمة. وكانت جدتي تعمل في خياطة صداري رجالية تقليدية خاصة بالقنابيز في البيت لمساعدة جدي فارس في اعالة هذه العائلة الكبيرة، ككل العائلات المستورة وقتئذ.
والأولاد هم
الاناث
ماري الكبرى وهي من مواليد 1922 التي سبق الحديث عنها وايفون مواليد 1924زوجة السيد جورج شمعون، وجوزفين زوجة السيد نمر الزين، وجانيت زوجة السيد فائز اسعد. والمرحومة جورجيت مواليد
الأب ايوب نجم سميا اللبناني من قب الياس مؤرخ دمشق والكاتدرائية المريمية
1936
الذكور
المرحوم نقولا مواليد 1926، ووالدي المرحوم جورج مواليد 1928 والمرحوم جوزيف مواليد آخر 1929، والمرحوم حنين مواليد 1936تؤام المرحومة الطفلة جورجيت.
في هذا البيت المتواضع، تم استقبال مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس، وحاشيته البطريركية عام 1932، حيث زار بعض البيوت من طائفته، ومنهم ابنة عمه اسما، وكان قد اعد له آل الطحان وانسباؤهم استقبالاً حافلاً في بيت جدتي، وكان من المستقبلين لغبطته الاب العلامة ايوب نجم سميا كاهن محلة القصاع، وهو شقيق جدي فارس وقد تآخيا بالدم. وكان استقبالاً حافلاً فاخر به آل الطحان وآل زيتون والمختصون بهم طويلاً، ووجب علي ان اثبته بتاريخ العائلة التي تعتبر هذا البطريرك العلامة كبير الاسرة.
يساراً جدي لأبي فارس زيتون وجدتي لأبي اسما طحان في الوسط ويمينا جدتي لأمي وداد طحان وهي شقيتها وكانوا في خطبتي السنة 1978
صار جدي يعمل في مهنة حفر الخشب، في دار البيت السماوية صيفاً وفي الغرفة الوحيدة بالبيت شتاء. وتعلم طفلاه نقولا وجورج المهنة عليه، في حين ان عمي جوزيف لم يحب هذه المهنة فتعلم مهنة الصياغة.
اما حنين فكان الوحيد الذي تابع دراسته، وفي مدرسة الآسية، وان كان لايحب الدراسة كثيراً، فنال الشهادة الاعدادية، ثم تعين موظفاً ليلياً في اذاعة دمشق في فترة الستينات.
وكانت الاحوال الاقتصادية العامة في حي القصاع، تقضي بأن يدرس الاولاد في الليل في مدارس ليلية ويعملون في النهار لمساعدة ذويهم، وغالباً ان كانت الحرفة عائلية. وكانت حرقة قلب لوالدي (وقد اعترف لي بها يوم رجوته ان يعلمني مهنته الفنية فلم يقبل لئلا تأخذني من اكمال تعليمي، بقوله لي رحمه الله:” انت تحب العلم وانا مابدي ياك تترك المدرسة لتشتغل معي… وانا حرقة بقلبي لك يا ابي انو جدك الله يطول عمرو طلعني من المدرسة وماكنت كسلان…كنت شاطر، وياما بكيت، وياما ستك اسما، وستي ام فارس ترجوه، حتى ابونا ايوب، ليخليني ضل ادرس بالليل واشتغل بالنهار معه، فما قبل بل كان يجاوب الكل: “خليه يتعلم المصلحة فهي انفع الو والنا”) وكان ابي قد اجتاز الصف الرابع (اي قبل حيازته شهادة الدراسة الابتدائية السرتفيكا وقتها وكانت في الصف الخامس) وكان متفوقاً، في صفوفه في مدرسة الآباء اللعازريين الابتدائية، وهي بالمجان لفقراء حارة القصاع، وكذلك فان عمي نقولا وعمي جوزيف تعلما مع ابي في المدرسة ذاتها، ولكنهما كانا لا يحبا المدرسة، فتركاها للعمل، وعمل نقولا مع ابيه بحرفة حفر الخشب وتميز بهذا الفن، اما جوزيف فتعلم حرفة الصياغة، وبرع فيها واصبح من كبار المعلمين بمهنة الصاغة، وكان (شيخ كار متميز) لجرأته ودفاعه عن ” الكار واهل الكار”، وكان يعتذردوماً وفي كل عمره من إجماع الصياغ عليه نقيباً لهم. اما البنات فقد درسن في المدرسة ذاتها الى حين زواجهن عدا جانيت التي درست في مدرسة يوحنا الدمشقي ثم الآسية.
عمي الصائغ الفنان جوزيف زيتون
بقيت العائلة تسكن في بيت جناين الورد الى عام 1947، ثم انتقلت الى بيتها الأخير، وكان بيتاً عربيا من البيوت الشامية الصغيرة (البسيطة)، ومكون من ارض ديار سماوية، وغرفتين “مربعين” متقابلتين، مع تتخيتتين صغيرتين متقابلتين بسقف منخفض، مع قبو لتخزين المؤونة، وحمام ومطبخ وبيوت مؤونة حطب ومازوت بأرض الدار وبئر ماء يستمد ماءه من هذه الارض المروية من السواقي العديدة ومنها ساقية كانت تمر تحت بيت عمتي ايفون الواقع في اول الحارة وتتجه الى بيت جدتي.
وكان في بيتنا داليتي عنب بلدي زيني، ولا اطيب سبحان الخالق، وشجرتي ليمون بلدي ونارنج، ولكن لم يكن في ارض الدار بحرة مائية فهو بيت صغير وبسيط، في آخر الحارة تنبع “عين الشرش”، وهي عين ماء رائعة ببرودتها في الصيف، وموقعها الآن في ساحة جورج خوري، وكانت في صدر بستان ورد لصاحبه كبير آل افتيموس، وهو رائد زراعة والاتجار بالورود في الشام. وتخرج ساقية من البستان من تحت الدك الى خارجه، وتنساب بحيث يستفيد منها السكان في الغسيل والجلي، ثم تنساب نحو البساتين، وكانت هذه المنطقة التي تسمت حين تنظيمها (ساحة جورج خوري)، كانت بدورها ضاحية سكنية تشابه الريف المتمدن سكانها خليط من الوافدين المسيحيين المستورين من كل ارجاء سورية، وخاصة منهم
دريسوار فني تابع لغرفة السفرة ولوحة كنفا باطار حفر فني وقبلها مراية فنية هي من حفر الوالد
ابناء وادي النصارى، وجميعم اما موظفون بالحلقات الوظيفية الدنيا، اومتطوعون من افراد وصف ضباط في الجيش والشرطة والدرك، بينما كان سكان حارتنا “الفاعور او عين الشرش”، من العائلات الدمشقية التقليدية المستورة، وتسكن عدة عائلات في بيت واحد، اضافة الى عائلات يونانية لاجئة الى دمشق من كيليكيا ولواء الاسكندرون من المجازر التركية…
وكانت عماتي المرحومتين ماري، وايفون، وعمتي جوزفين (اطال الله عمرها) قد تزوجن جميعهن وخرجن الى بيوت ازواجهن.
وبقيت جدة العائلة “ستي ام فارس” حسيبة تعيش في بيت ولدها فارس الى حين وفاتها.
ولكن قبل وفاتها وكما اسلفت فان زوجها نقولا كان يقوم بزيارة بيت ابنه، ومعه زوجته الثالثة، هذه الزيارات كانت تغيظ ستي ام فارس وابنها جداً، ولكن الاصول الواجبة، وطيبتهم واخلاقيتهم، كانت تفرض عليهم بالرغم من ظلمه لهم، ان لايقابلوه الا بالاحترام. وعندما صار في مرض الموت منتصف الخمسينات، ارسل في طلب جدي فارس، فذهب ومعه والدي الى راشيا، وهناك وهو في حالته الصحية المتردية هذه، عندما دخل عليه ابنه فارس وحفيده جورج ابي بكى كثيراً وحاول تقبيل يد ابنه
صورة بانورامية لغرفتي السفرة وغرفة الصالون
، وكان يبكي بمرارة راجياً ابنه ان يسامحه عن ظلمه له ولوالدته، ورجا من ابي جورج ان يقنع ستي حسيبة لتسامحه، وهو “الآن في يدي الله” كما قال لهم، ودعاه وعادا الى الشام، وبعد ايام معدودة، اسلم الروح. واذكر على قول والدي الذي لعب دوراً ايجابياً عند ستي ام فارس لتسامحه، واستطاعا انتزاع المسامحة منها ، خاصة انها كانت تحب والدي جداً، لذا رضيت معه مرغمة وقالت:”الله يسامحه”.
وتوفيت رحمها الله في آخر العقد الخامس من القرن العشرين بعمر ناهز الثمانين سنة.
سكن ابناء العائلة الذكور في بيت الاهل كعادة الشوام الى ان تستقيم امورهم باقتناء بيوت خاصة بهم، وهم: عمي نقولا الذي تزوج 1948 بخالتي اراكسي
مراية من طراز لويس 16 مع قنصلية
اواكيميان ابنة خالته، وسكن في مربع ارضي، ووالدي جورج تزوج بدوره والدتي روزيت اواكيميان ابنة خالته، وشقيقة اراكسي “اختي سلفتي” في 7تشرين الأول 1951 وسكنا بغرفة بُنيت خصيصاً لزواجه على السطح، وعمي جوزيف الذي تزوج بجوزفين بغدان وكانت خياطة شهيرة، من سكان دمشق، وهي من مواليد بلدة عربين عام 1956 وسكنا ايضاً على السطح في الغرفة الثانية الملاصقة لغرفة اهلي كان قد تم بناءها ايضا خصيصاً لاقامته. وعمي الأصغرحنين وعمتي الصغرى جانيت (أطال الله عمرها) التي تزوجت من فائز اسعد من قرية البيضا عام 1959.
وشهد هذا البيت أيضا عمادات كل أحفاد العائلة ماقبل خروجهم، واكليل عمتي جانيت، وكان مطرحاً لنزول عمتي ماري في زياراتها ومعها عائلتها مرة كل
فيترينا فنية تابعة لغرفة السفرة ببيت اهلي من نجارة خالي فريج وحفر المبدع جورج زيتون
خمس سنوات للوطن من اميركا (وكانت ثرية) فهو بيت العائلة، وعيب ان لاتنزل فيه وان كان يضيق بسكانه، ومنه غادر عمي حنين الى اميركا بتشويق من شقيقته ماري لضعف راتبه الشهري في عمله بالاذاعة السورية عام 1960، وعاد بزيارة واحدة له الى الوطن بعد 20 سنة، لأنه بقي فقير الحال، وتزوج هناك ولم ينجب اولاداً، وبقي يعمل بعمل عضلي، حتى انهكه المرض، فأقام في آخر حياته مع زوجته وهي مصابة بدورها بمرض عضال في دار المسنين بباترسن، وتوفي مأسوفاً على طيبته ومحبته في العام الماضي.
وكما شهد هذا البيت وداع جدة العائلة ستي حسيبة ام فارس، كذلك جدي فارس 1982وجدتي اسما 1994الى مثواهما الأخير، وكان الاولاد جميعهم قد انتقلوا من بيت العائلة الى بيوت شخصية لهم بعدما اقتنوها، حيث بقي المرحومان جدي وجدتي الى آخر عمريهما بمفرهما،
طقم الصالون وغرفة السفرة في بيت اهلي من شغل خالي النجار فريج اواكيميان وحفر والدي وهو من طراز لويس 16
وكانت رحمها الله وبالرغم من تَعَوُّق رجلها بكسر قديم في الفخذ، كانت من العضوات الناشطات في جمعية مار اليان للسيدات وفي اخوية سيدات كنيسة الصليب وكلتاهما تسعيان للخير والاحسان، وكانت في كل قداس الهي تتأبط جدي وقد صار عاجزاً وتأخذه الى كنيسة الصليب لذلك تمما كلاهما واجباتهما الدينية حتى انتقالهما مسنين محترمي الكبرة والسمعة الى الأخدار السماوية كان جدي عضوا اساسياً في جمعية القديس جاورجيوس الارثوذكسية الخيرية لدفن الموتى الى ان شاخ.
كانا يستعينان بمعيشتهما اضافة الى مدخراتهما الضئيلة، وكان ابي رحمه الله ومنذ تقاعد جدي يقوم بموجبات الرعاية لوالديه طيلة حياتهما، وكانت جدتي مدبرة في مصروف البيت، وتقوم على تأجير غرفة اواثنتين لطلاب او طالبات جامعيين من وادي النصارى، وآخر المستأجرين كنت اناعند زواجي منذعام 1980 الى حين بيع البيت بعد وفاة جدتي الى تجار بناء عام 1995 أقاموا مكانه، والبيتين الملاصقين، بناية واحدة سكنتُ انا وعائلتي في شقة صغيرة بها.
جورج زيتون، السيرة الذاتية
مراية حفر من طراز القرن 19 موضوعة على كومودينا حفر عربي وعليها النسر السوري محفوراً من حفر الوالد وبجانبه طاولة سكائر حفر ايضاً
من مواليد 1928 في بيت العائلة في جناين الورد، درس في مدرسة راهبات اللعازرية الابتدائية في برج الروس بالقصاع، حيث اجتاز الصف الرابع الابتدائي بنجاح، وكان يرغب (كما اسلفت) من كل قلبه متابعة الدراسة، اسوة برفاق صفه كان منهم من صار معلماً شهيراً كالأستاذ انطون مارين استاذ الرياضيات الشهير، ومحامياً شهيراً كالاستاذ انطون ديوانة…لكن والده اصر على إخراجه من المدرسة لأنه كان قد برع في مهنة حفر الخشب، وليساعده في مصروف هذه العائلة الكبيرة، هذه الحال كانت عامة عند كل العائلات الدمشقية المستورة المماثلة، ليتعلم الولد مهنة تفيده ويساعد ذويه، سيما وان جدي رحمه الله كان صارماً، بالرغم من توسل جدتي زوجته وامه ليبقي جرجي في المدرسة الذي كان يبكي باستمرار ليبقيه في المدرسة، ولا سيما انها كانت مجانية لأبناء العائلات الفقيرة، وكان الاب ايوب سميا شقيق جدي بالدم وبالرغم من كل مكانته ككبير العائلة، قد سعى له ليكون بمدرسة القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية بالدوام المسائي وبالمجان وتمت الموافقة، الا ان جدي اصر على اخراجه من المدرسة!!! وكما اسلفت بقي ابي جورج رحمه الله متأسفاً على عدم اكماله دراسته، حتى آخر لحظة من حياته.
خزانة غرفة نوم جورج زيتون من شغل خالي النجار فريج اواكيميان وحفر الوالد جورج وهو الحفر العربي
وكما اوردت قبلاً حينما أصر ابي على أن أتابع انا في دراستي، وما ذلك الا احتجاجاً مبطناً على ماضيه، وتعويضاً لذاته من خلالي، سيما وان شقيقيَّ الأصغرين المرحومين عبود ومروان تركا الدراسة بدورهما والتحقا بالعمل…
وكانت فترة الحرب العالمية الثانية فترة ركود اقتصادي عالمية، وانعكست على سورية الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي، وتعثر واقع الحكومة السورية تحت نير الانتداب، وحالات الاضراب والفاقة الاقتصادية، فتوقفت مهنة حفر الخشب تقريبا حيث بقي جدي يعمل بالكاد بمفرده، بينماعمل ولداه نقولا وجورج في كل مهنة، او في كل خدمة متاحة، بمافي ذلك العمل في البناء، وذلك لمساعدة والدهما، وقد عمل والدي، وكان طفلاً في تلك الفترة، في معمل أكعاب الاحذية النسائية (أكعاب الاسكربينات) في معمل أجمان مع اولاد ونساء العائلات القصاعية الفقيرة، وما اكثرهم في حينه (ولايزال هذا المعمل مستمراً من خلال سليل آل أجمان، صديقنا العزيز السيد نبيل أجمان، الذي ورث المهنة عن جده وأبيه وعمه) كما عمل والدي ايضاً في عيادات اطباء، حيث يذكر لي والدي انه عمل طويلاً كصبي للتنظيف والخدمة على التتابع في عيادتين لطبيب اسنان وطبيب بشري في منطقة الشهداء بمنطقة الصالحية، وكان يتنقل سيراً على الأقدام من بيتهم في محلة جناين الورد بالقصاع الى منطقة الصالحية عبر شارع بغداد (مدحت خاطر حالياً) وكان طفلاً يتراوح عمره بين 8- 12 سنوات يتنقل في شارع يُشَقْ حديثاً بين البساتين الواصلة مابين ساحة السبع بحرات وحي القصاع، وكان يتم شق الطريق ذهاباً واياباً بحفره يدوياً ب”القزمة والكريك” (على وصفه لي)، بحيث كان يذهب يومياً، ويداوم في عمله بين 8 صباحاً و7 مساء ومعه زوادة (شطيرة زيت وزعتر).
سرير غرفة نوم الفنان جورج وهو من شغل النجار فريج اواكيميان خالي وحفر والدي الفنان جورج حفر عربي ويوجد سرير اطفال برابزين من الجانبين ايضا
روى لي رحمه الله انه وهو حدث صغير، وبالرغم من أخطار المرور في البساتين، وخاصة في المساء، وكان يعود على مهله ليستمتع بجمال الطبيعة، ويتوقف ليشرب من سواقي عين الكرش العذبة بجانب جامع لالا باشا، ويحاول التقاط الثمار من أشجار الفواكه الشامية المثمرة من توت وجوز ومشمش وعوجا وإجاص وخاصة أشجار الدراق الختمي والزهري الصغير المتكئة على السياج البدائي الذي اقيم على مسار الطريق، وكانت على وصفه ” يخزي العين هالشجرية والبساتين حاملة من عيونها” وكان فيها المقام الاسلامي المقابل لمقبرة الدحداح التي كانت بدون سور، ليحضرمنها الى البيت ليأكل الجميع حيث حنانه كان يدفعه الى ان يغص لهم لأنه منذ طفولته كان باراً بالجميع.
وتتفق رواية ابي مع كتابات المؤرخين المعاصرين، بأن شق هذا الطريق في اول مرحلة منه بدأ عام 1922 وتنامى تحديداً عام 1925 اي مع بدء الثورة السورية (1925- 1927) بأمر من الجيش الافرنسي، لتسهيل نقل جرحى الجيش الفرنسي الى المستشفي الفرنسي في القصاع،هذه لم يعيها انما عرفها من اهله، ثم تم توسيع هذا الطريق الى وضعه الحالي في الاربعينيات، وعاين هو هذا التوسيع.
وعندما دخلت قوات فرنسا الحرة عام 1941 بقيادة الجنرال كاترو مدعومة بقوات انكليزية الى دمشق، وطردت قوات حكومة فيشي الفرنسية المتحالفة مع المانيا النازية، قام الانكليز كعادتهم بكسب ود السكان
قاعة المجلس النيابي السوري من حفر آل زيتون جدي وولديه بتكليف من المتعهد محمد الخياط
المحليين الفقراء نتيجة الحرب العالمية الثانية، من خلال اقامة مشاريع فورية، فقاموا مثلاً بانشاء الجسر الحالي في باب توما بعدما كان جسراً خشبياً، وقد عمل في هذا المشروع المرحومان الفّتِّيان عمي نقولا وابي جورج، مع بقية فتيان ورجال القصاع، مقابل اجرة يومية زهيدة… “المهم ان تشتغل الناس وتكسب مصاري” (على قول ابي).
وبعد استقرار الاحوال وعودة الحياة الاقتصادية، عادت مهنة النجارة وحفر الخشب الى الحياة مجدداً، وعاد الشابان للعمل بها لكن نقولا خرج للعمل في ورشات النجارة عند الغير باجرة يومية، وكان بارعاً في وضع رسوم الطبعات، وحفر المفروشات الافرنجية، فتخاطفه اصحاب الورش الشهيرة، بينما برع والدي في حفر المفروشات العربية التراثية وفي وضع رسوماتها.
لم يرض والدي بترك ابيه، وعاد للعمل معه وطور المهنة، عما كانت عليه زمن جدي، وللمناسبة فإن جدي فارس وولديه نقولا وجورج وهم في بيت جناين الورد عملا في حفر مدرج وقاعة المجلس النيابي السوري، ومفروشاته، وكان المتعهد هو السيد محمد علي الخياط الشهير، حيث كان والدي رحمه الله والى آخر لحظة من عمره، وكلما ظهر مدرج البرلمان على التلفزيون، يتأثر، ويقول لي بتهدج: “رحم الله ايدين جدك وعمك نقولا وقد حفرنا هذا الخط العربي بس ماكان حدا بيعرف مين الحفارين، لأن المتعهد محمد الخياط كان هو المبَّين، وكان يطير عقلو من شغلنا وهو فنان بالأساس، وكان يجبلنا عا بيتنا في الجناين الادد لنحفرها، واول مرة
الخط العربي في البرلمان السوري من شغل آل زيتون جدي فارس وولديه نقولا وجورج بتكليف من المتعهد محمد الخياط
زارنا استغرب انو هذا الشغل الفني المرتب كان شغل هالعيلة اب وطفليه وبهدا البيت الفقير…” وتابع:” سقى الله لك ابي كله راح الكل راحو لرحمة ربن” وكنت اجيبه: “الله يديم ايديك يا ابي انت اسطورة بهالفن”، ويتابع: ” كان أملي بأخوك الصغير مروان (وبكى) الله يرحمه طلع عمرو اصغر من جدو وعمو ومني كنت عم ابني عليه استمرارية فن الحفربعيلتنا الفنية لأ، والاصعب علينا انو مات صغير قبل الكبار الله يرحمو، وراحت مهنة العيلة”.
وقتها اكد لي ان من عاصرهم في هذه المهنة، كانوا اربع عائلات ثلاث منها مسيحية، اضافة الى عائلة الفنان محمد علي الخياط الذي اشتهر بأخذ التعهدات لكل مفروشات دوائر الدولة. بينما كانت المهنة قد “رخصت كثير” وحطت مكانتها لنزول متسلقين كتيرين من الغوطة الشرقية من سقبا وعربين وجوبر وعين ترما، وكلهم فتحوا دكاكين بالقيمرية، وكانوا يخبصون حتى ان بعضهم في بداية عمله، استخدم اداة بدل المطرقة الخشبية قبقاقبه الذي كان يلبسه مع الشروال.
بقجة حفر مبتكرة وهي قاعدة للثريا
كان الكبار منهم يلجأون له للتعلم والاستشارة، وواحد منهم تعلم الحرفة في مدرسة الصناعة، ولكنه كان يأتي ليتعلم اصول الكار من الخبير ابي، وخاصة في حفر التماثيل الصغيرة. وكان ابي لايبخل عليهم بالشكل العام، الا مايختص بعمله هو، مع انه كان يعرف ان بعضهم كان يكرهه لسببين: الأول لأنه المعلم والخبير وليس مثله معلم اي مانسميه (كراهية اهل الكار)، وثانياً وبكل اسف هو مرتبط بالأول، لأنه مسيحي، وقد وصلت هذه الى والدي من بعض جيرانه المسلمين المحبين له ليأخذ حذره ولكنه لم يغير تعامله معهم ابداً.
علبة مجوهرات خاصة بأمي من شغل والدي
وانا ولأني كنت اعرف شغل أبي من بين عشرات النماذج، أسعدني الحظ بأن طاولتي (مكتبي) في رئاسة مجلس الوزراء، وكانت محفورة حفراً عربياً من شغل ابي، وعليه طابعه الشخصي يضعه في مكان خفي كنت اعرفه، وكان مكتبي جزءاً من غرفة مكتب كبيرة بكنباتها ومكتباتها وطاولات السكائر المثمنة، وكان يشغلها احد كبار الموظفين المسؤولين في رئاسة مجلس الوزراء، وبقيت انا اعمل على مكتبي الى حين ترفعي في العمل الوظيفي وتعييني بمنصب عال فتم تخصيصي بغرفة مكتب بمفروشات حديثة، واذكر ان مكتب امين عام مجلس الوزراء المرحوم الاستاذ انور مريدن كان من شغل والدي، وقد أريته الطابع الشخصي لوالدي بعمله، فأعجب جداً بوالدي دون ان يعرف، وعند وفاته رحمه الله جاءنا معزياً في البيت واطلع على عمله وترحم عليه، وكان بيت الاهل قطعة فنية من مفروشات حفرها الوالد بيديه…
دكانه في القيمرية
تعود تسمية الحي: “القيمرية” الى اصلها اليوناني الرومي: “ايا ماريا” اي “القديسة مريم” بالعربية، وهي تسميتها منذ العهد الرومي لتجاورها مع الكاتدرائية المريمية، حيث كل محيط المريمية او كنيسة مريم، كان يتشرف باسم العذراء مريم، وحتى الدرب الموصل من غرب المريمية اليوم الى باب السلام مروراً ومتقاطعا مع القيمرية، كان يسمى “درب مريم” وفيه دير لليتيمات على اسم “القديسة مريم” في محلة ساحة الخمارات اليوم، ليصبح ديراً للراهبات بعد اعتناقهن الرهبنة لما يبلغن هذا العمر، وهو مقر ميتم “جمعية القديس
بندلايمون لليتيمات” حاليا، وقد تحرف الاسم “آيا ماريا” تدريجيا ليصبح “القيمرية” في العصور التالية للعصر الأموي، وكانت من الاحياء المسيحية الارثوذكسية الصرف ( وخاصة بعد انشقاق الروم الكاثوليك منذ 1724 والفرز السكاني وفق الطوائف المسيحية) لاحاطة الارثوذكس بدار بطريركيتهم الارثوذكسية، وبكنيستهم المريمية وكنيسة يوحنا الدمشقي الى عهد قريب وتحديداً بعد مجزرة 1860 بحق المسيحيين الشوام ومن التجأ اليهم من اخوتهم من جبل الشيخ وجبل الدروز وقرى القلمون. واحترق وتدمر بالكامل في مذبحة 1860كونه كان حياً مسيحياً بالكامل لجهة السكن ولجهة العمل كما اسلفنا.
وبعد هدوء الاحوال نزح منها من بقي حياً منهم، وبدأ النزوح وخاصة بعدما ضاق الحي وبيوته بالسكان في العقد الأخيرمن القرن 19 بعد ان تم حرقه بالكامل بيوتاً وخانات الحرف وخاصة منها خانات سدي الحرير التي كان قد عمل بها كثيرون من اعلامنا المسيحيين الارثوذكس (منهم عندما كان صغيراً القديس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي، ومطران بيروت غفرئيل شاتيلا الدمشقي ومطران اميركا القديس روفائيل هواويني الدمشقي والبطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي) بيد الرعاع واعيد تعميره وهاجروا الى الحي الجديد او ضاحية القصاع وامتدادها شارع حلب، وحل محلهم بادىء الامر مسيحيون وافدون للعمل في الوظيفة العامة، والمتطوعون في الجيش والشرطة منذ الانتداب
من حارات القيمرية ليلاً
الفرنسي من محافظات حمص وحماة واللاذقية، وخاصة في الدخلات الأقرب الى باب توما اضافة الى الغلبة المسيحية السكانية الكبرى منذ القديم في حارة الجورة، بينما الآن الاغلبية هي من الاخوة المسلمين الشيعة، واليوم ايضاً صار حي القيمرية اسلامياً بسكانه بنسبة 70%… في قسمه الشرقي الى المصلبة، ومنها الى الغرب والنوفرة اسلامي 100% كما صار في الاحياء المسيحية في محلة الميدان، وقد حل المسيحيون الحوارنة ومن جبل الدروز محلهم بداية، واليوم صارت تقريباً كلها اسلامية مع وجود ثلاث كنائس تراثية، هناك واحدة في باب مصلى، واثنتان في حارة القورشي.
وكانت القيمرية من جانب آخر، حياً حرفياً تنتشر فيه دكاكين الحرف كلها تقريبا لأربابها المسيحيين الأرثوذكسيين، لذا ولكونه حياً حرفياً انتقل جدي ووالدي للعمل فيه مطلع عام 1950، فاستأجر والدي وبعقد ايجار باسمه دكاناً صغيرة وسط القيمرية، اتسعت بالكاد لسقالة العمل، وكانت ارضيتها مرتفعة درجتين عن ارضية الحارة وترابية بدون تبليط وحيطانها من اللبن، فأبقاها على حالها لأن “الجمل بفلس ومافي فلس” على قوله.
ووزع على جدرانها ازاميله، وقد علقها بطريقته كمعلم، وكان يعرف موقع كل ازميل، مع طبعاتأعماله
حي القيمرية ليلاً وتبدو مئذنة جامع القيمرية
الكرتونية فوق بعضها، ومع ذلك كان يعرف مكان كل طبعة ولو بعد 40 سنة، وكان للدكان سقيفة يضع فيها الشغل الذي تركه اصحابه لبينما يأتون لاسترداده، والكثير منها وفق عرف اهل الفن تعتبر كنوزا اشتغلها رحمه الله ولم يتقاضى اجورها، وبقيت عنده بالحفظ والصون امانة لأصحابها… حتى وفاته.
وقد بقي رحمه الله يعمل في الدكان 45 سنة حتى انتقاله الى الاخدار السماوية عام 1995، وعمل معه في الدكان على الطرف المقابل من السقالة جدي فارس حوالي 10 سنة الى ماقبل عام 1960 حين تقاعده عن العمل، وان استمر لعدة سنوات بالنزول للتسلية عنده يومياً، وكان والدي يمتطي دراجته العادية، ويعودان سوية سيراً الساعة 12 ظهراً للغداء، ووالدي كان يجر دراجته جراً،(ولم تكن الشوارع بهذا الازدحام الحالي) وبعد الغداء وتقريباً حوالي الساعة 2 ظهراً يكون والدي قد عاد الى عمله قائماً على رأس عمله حتى الثامنة مساء الى حين اغلاق كل الدكاكين.
اما الحرف والمهن التي كانت في حي القيمرية، وفي الحارات الموصلة اليه، وقتئذ كانت فيها خانات مخصصة للنول والنسيج، وخانات خاصة بصباغ القماش كانت بملك اليهود وهم يعملون بها مع اولاد ملتهم، كان يتم
العمل في هذه الورش بثلاث ورديات، اضافة الى ورشات نجارة الموبيليا، ومحلات خراطة الخشب، بآلية عمل بدائية، (بأن يسند الخراط بقدميه ازميل الخراطة، وحرفة المخرق، وحرفة المبردخ والبخاخ اي كل الاعمال المرافقة لنجارة الموبيليا، اضافة الى محلات المحايري للخشب والبلاكية… ودكاكين متنوعة الحرف كالحفارين والصدافين ( مهنة الصدف) والسكابين (سكب النحاس) وباعة الدجاج الحي وهي لليهود، اضافة الى فرنين للخبز ( ابو الياس المعلولي والشاويش) وفرن للخبز المشروح في تلة القاضي، ومحلات لبيع الفول، والابرز هومحل ابو فاروق وشقيقه شكري وعندهما اطيب لقمة فول وتسقية، وفي الصيف كان يغلقا محل الفول ليفتحا محل الليموناضة الجامدة اللذيذة، ولايزال قرب المصلبة قبل الجامع، وكان هو محل الليموناضة الجامدة والسوس الوحيد في الشام.
اي ان القيمرية وهي اليوم هذا الحي الجميل والسياحي، كانت ذاك الحي الشعبي الى العقد الأخير من القرن 20 قبل ان تصير الهجمة العارمة على تحويل البيوت الشامية الى مطاعم ومقاهي وفنادق كما فندق “الشهبندر” اول الحي حالياً.
وسط القيمرية بالقرب من دكان الفنان جورج يميناً
كان حي القيمرية بالأدق قرية صغيرة فيها كل شيء، فهي حارة سكنية متلاحمة بسكانها وعمالها بأديانهم.
ولأن جدي وابي كانا يعملان معاً، لذا كنا نأكل عائلتنا وعائلة جدي معاً، لذا تولى والدي مصروف البيت، وكان يتسوق احتياجات البيت يوميا من خبز ولحوم وخضرة وفاكهة من القيمرية، حيث يمر الباعة الجوالون ويضعها في شنطتين على مقود دراجته العادية،ولا ازال اذكر كلمته:”كنا بخمس ليرات نعبي الشنطايتين خبز ولحمة وخضرة وفواكي” وكانت جدتي اسما وبمعونة امي تتولى الطبخ والغسيل و…وبقينا على هذه الحالة العائلية الى حين خروجنا الى بيتنا الجديد، وبقي والدي براً بوالديه يقدم لوالده مايكفيه وجدتي من مصاريف الحياة، واستمر على هذه الحال حتى وفاة جدتي رحمها الله، وترافقه بدعواتها كما كان جدي يفعل:” الله يرضى عليك ياجرجي”
وبالمقابل كان عماي نقولا وجوزيف قد استقلا بموضوع الطعام عن العائلة كاستقلالها في العمل منذ اول زواجهما.
عندما كنت طفلاً كان والدي في كل اسبوع تقريباً في فصل الصيف، من السبت ظهرا يسافر الى زحلة ب”البوسطة” الى ورشة الخواجا شمعون وهو من كبار النجارين في زحلة وكل لبنان، وكان هذا يُحَّضِّرْ الشغل لوالدي الذي يجب عليه حفره في ورشته بزحلة في يومي السبت والاحد، حيث كان والدي وجدي يعطلان
اسبوعيا من السبت ظهراً الى صباح الاثنين ككل الفعاليات الحرفية المسيحية الدمشقية، كما الحال في لبنان، حيث كان يعطل ايضاً في الوقت ذاته، الخواجا شمعون في زحلة، لكن كان والدي الآتي من الشام يعمل فيها مستغلاً عطلته الاسبوعية، ويكون الخواجا شمعون الشغل وبعض الطعام في هذين اليومين حيث كان والدي رحمه الله يعمل بشكل متصل، وبدون نوم أواستراحة منذ وصوله بعد ظهر السبت الى صباح الاثنين “ليلحِّق
العرش البطريركي نجارة وتقدمة ” باوندي السنة 1936 وحفر فارس زيتون وابنيه نقولا وجورج وبجانبة طاولة حفر وتقدمة جورج زيتون لراحة نفسي والديه فارس واسما ويمينه حاملة ايقونة من اثنتين حفر وتقدمة جورج زيتون عن صحته وصحة زوجته روزيت
الشغل ويعود الى دمشق صباح الاثنين” حيث يفتح الخواجا شمعون ورشته في اول الاسبوع ليستلم منه الشغل، وكان يشيد بوالدي المعلم جورج، ويكيل له المديح ويعطيه اجرة الشغل “ويحاول القرمطة عليه” مع الاستكثار بخيره “ويسلموا ايديك الحلوين يامعلم جورج” ووالدي كان خجولاً فيقبل صاغراً، ليعود الى دمشق مباشرة الى الدكان، ويلتقي بجدي ويعطيه العائد الذي جناه كله كونه ابناً مرضياً، وكأنه شغيل عند جدي، (مع التأكيد على ان عقد الايجار كان باسمه ، ويقوم هو بكل العمل، وجدي يذهب للتسلية في الدكان) وتبدأ المشادة مع جدي، لأنه تسامح مع “الشمعون”، ومع ان جدي كان طيباً ككل آل زيتون، (ولكنه كان عصبي المزاج انفعالياً، متسرعاً وقاسياً في غضبه، وقد ورث هذه الطباع عن والده، وهو يشبهه حتى في خلقته وطوله وسمرة وجهه، بعكس جدتي اسما الرايقة والهادئة وطويلة البال، وكانت ممشوقة القامة جميلة جداً، بيضاء البشرة على غرار آل الطحان اي “طحانية” ووالدي كان مثلها خلقاً وخلقة)، وبعد المشادة والمسبات من جدي “للشمعون” وابي ساكت، يهدأ جدي ويروق، ويعطي والدي اجرته عن عمله كأنه شغيل عنده، مع اجرة الطريق ذهاباً واياباً كأنه المعلم!!! كان والدي بعد تعب ثلاثة ايام وبدون نوم، على وعيي، يرتاح بعد الغداء يوم الاثنين فقط نصف ساعة ليعود الى الدكان ويكون على رأس عمله في الثانية ظهراً.
(طاولة نص) رخامية لغرفة الصالون في بيت الفنان جورج موديل وحفر طراز لويس 16
وكان يُحضر لنا معه من لبنان (وكنا ثلاثة اولاد عنده) علبة (بسكويت 555 انتاج غندور لبنان) كانت امي تعطيني بسكوتة منها صباحاً عند ذهابي الى المدرسة مع السندويشة، وواحدة لكل من شقيقيّ الأصغرين عبود ومروان في البيت لأنهما دون سن المدرسة. عائلة ابي (عائلتنا)
تزوج والدي بوالدتي روزيت اواكيميان ابنة خالته وداد طحان،
وابيها كان القائد العسكري والفدائي الارمني(6) ديكران اواكيميان،(وبالأساس هو ابن عائلة ثرية جداً ووجيهة في منطقة فان الارمنية في هضبة ارمينيا، وكان يتقن سبع لغات قراءة وكتابة هي الارمنية والتركية والعربية والفرنسية
اكليل والدي جورج ووالدتي روزيت 1951 في بيت العائلة ويقف الاشبين عمي جوزيف يمين ابي
والانكليزية والروسية واليونانية وبعض الايطالية، كان لاجئاً ارمنياً من منطقة فان في آسية الصغرى)، ناجياً من الاعدام، وكان قد احترف الجندية ضابطاً في الجيش التركي، في عهد الاتحاديين الذين بداية افسحوا المجال لكل العناصر غير التركية بعد تطبيق الدستور 1908 بدخول الجيش، وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى وتم تشديد الخناق على الارمن الا من يعلن الولاء لتركيا الفتاة، وقد اعلن ولاءه ظاهرياً للقيادة الاتحادية التركية، بينما هوفي الواقع كان قد نظم خلايا فدائية سرية، كانت تقوم بضرب مؤخرات الجيش التركي وخاصة على الحدود الشمالية مع روسيا، وكانت خليته مؤلفة من 19 خلية اصغر يرأس كلا منها قائد، كلهم، دون ان يعرف احد منهم الآخر، فقط هو رئيسهم ويعرفهم جميعاً، (لذا صعب جدا القاء القبض عليهم جميعاً الا من قبل المخابرات الألمانية الحليفة لتركيا) وكان جدي واتباعه يقومون بتهريب السلاح من مستودعات الجيش التركي الى نساء الارمن لقتال الاتراك، بعد ان اباد هؤلاء رجالهن، وعندما اكتشف الاتراك بمعونة الاستخبارات الحربية الألمانية امر الخلية الفدائية السرية، والقي القبض عليهم بعد طول زمان،وقد تم اعدامهم جميعاً وكان عددهم 19 ضابطاً، وكان الأخير او ال20 هو جدي وهوقائدهم
جدي لأمي الثائر والقائد العسكري الارمني ديكران اواكيميان
ويومها وكما اوردت في مقالي عنه بموقعي هنا وهو بعنوان:” افتخر بك ياجدي الارمني” استطاع النجاة قبيل إعدامه باقتحام الجيش الروسي للمعتقل الذي كان على الحدود مع روسيا، وتحرير السجناء وتم تحرير جدي (لذلك كان يقول وحتى وفاته:” الارمن ابي والروس عمي”) وهرب متخفياً الى القدس مع قافلة جمال كواحد من الجمالين، حيث عمل هناك قندلفتاً في كنيسة القيامة بقسمها الارمني، ثم اتى الى دمشق في زمن الملك فيصل 1920، وفتح مشغلاً راقياً للخياطة الرجالية والنسائية فوق محلات بكداش للبوظة في سوق الحميدية وصار خياطاً للطبقة الحاكمة والثرية، وتم النصيب بزواجه من جدتي وداد، وهي شقيقة المرحومة اسما طحان جدتي لأبي بعد معاناة لاتوصف، لاحجام مطرانية الارمن عن تزويج الارمن من ذكور واناث الا بأرمن للحفاظ على وحدة الشعب الارمني المنكل به ومنه اتت الكنية (يان)، ولم توافق المطرانية على زواج ديكران ووداد الا بعد ان اثبت ان ام وداد وهي من آل الخيمي الحلبية واصولها من ماردين ومن طائفة الارمن الكاثوليك.
رزقه الله بأربعة اولاد ذكرين وانثيين، هم خالي فريج، وخالتي اراكسي وهي الكبرى، وامي روزيت الثالثة
امي روزيت بعمر 14 سنة وفي اول زواجها
في الترتيب، وخالي الاصغر غيفونت، الذي توفي بحادث مأساوي وهو طفل بعمر 5 سنوات، بعد وفاة جدي شاباً بتأثير حادثة دهس سيارة في ساحة البرج ببيروت، وكان يبحث عن عمل هناك بعدما اغلق ورشته بدمشق نتيجة مؤامرة من مبغضيه، وكان كل اولاده صغاراً، الكبيرة اراكسي بعمر 8 سنوات وامي بعمر 3 سنوات وغيفونت الصغير كان رضيعاً، لتبدأ رحلة عذاب لهذه العائلة بعد وفاة جدي ديكران، وكانت امي حينما تزوجها والدي بعمر دون 14 سنة وهي من اجمل بنات العائلة، وقد احبها والدي بشغف، وكانت جميلة جداً فقد خطبت خطبتين لجمالها بالرغم من صغر سنها، وقد اختارت والدي، وكان عمي نقولا قبلاً قد تزوج بشقيقتها الكبرى اراكسي، وسكنا في بيت جدي فارس.
بوفاة جدي ديكران انتهى حلمه بتأسيس جيش ارمني لتحرير ارمينيا، وكان يحلم بتأسيس كلية حربية ارمنية في سورية أولبنان في اربعينيات القرن 20 وهو من ساهم مع غيره بتأسيس الكوماندوز الارمني السري الذي بقي يناضل حتى تسعينيات القرن 20، لذلك اسمى بكره فريج ويعني الثأر، وخالي غيفونت احد اهم ملوك الارمن، وخالتي اراكسي وهو اسم نهر اراكس في هضبة ارمينيا، وامي روزيت على اسم امه اليونانية الاصل.
تم اكليل والديّ في بيت العائلة في 7 تشرين الأول 1951 وكان اشبينه عمي جوزيف،
انا محمولاً على يد ابي بعمر سنتين
والاشبينة كانت عمتي جوزفين، وبارك الاكليل الأب ايوب سميا راعي الرعية وكبير العائلة. واذكر قوله لي دوماً ” والله لك ابي يوم اللي تجوزت مافي بجيبتي الا مائة ليرة سورية”
وقد سكن والدي ووالدتي في بيت العائلة بغرفة على السطح بناها لأجل سكنه.
رزقه الله بأولاده الصبيان الثلاثة في غرفتنا ببيت جدي: انا في 23 حزيران 1952، وقد تمت عمادتي في البيت من قبل الأب ايوب سميا في 16 آب1952 وكان الاشبين هو عمي جوزيف، والاشبينة هي عمتي الكبرى ماري زوجة جوزيف عجمي، وكانت في زيارتها الاولى الى دمشق، وقد كانت ولادتي حصلت ليلة وصولهم من اميركا وطلبت من اهلي ان تتبناني حيث ان الله رزقها بابنة ولن ترزق بغيرها وفققول الاطباء، طبعاً والدايَّ رفضا بالحاح، وتوسلته عمتي كثيراً فحسم الامر بقوله لها: وبركي انا لك اختي الله ماطعمني غيره…” فأجابته:” انك وروزيت لسه صغار فلا شك ان اللله سيرزقكم غيره بينما انا صرت كبيرة، لن ارزق باولاد بعد “بري جين” التي حبلت بها بعلاج طويل”، وكانت بري جين وقتها قد صار عمرها 5 سنوات والاطباء اكدوا لعمتي انها لن ترزق بغيرها بسبب كبر سن عمتي.
عمادة شقيقي الشهيد مروان في بيت العائلة بيد ابونا ايوب سميا والاشبين عمي جوزيف وبجانبه الاشبينة عمتي جوزفين وذلك عم 1959
حين مولدي وعلى قول امي رحمها الله :”انني ارعبتها وارعبت الجميع بوجود برقع على وجهي”، لكن الداية
نور كساب طمأنتها وطمأنت الكل بأن ذلك فأل حسن ودليل سعد في حياتي وعمري طويل، وكان البرقع وهو غلالة جلدية رقيقة، مربوطة بالأذنتين كأنها زر وعروة، وقام والدي رحمه الله بوضع البرقع في حجاب قماشي بعد تجفيفه في الشمس وبتمليحه وفق ماأشار عليه اهل الخبرة، ومباركته بالصلاة عليه ونضحه بالماء المقدس، وبقي يضعه بدبوس شكالة على قميصه الداخلي الى حين وفاته رحمه الله، واعطتني امي رحمها الله هذا الحجاب بعد وفاته وهو معي الآن. ثم ولد شقيقي عبد الله (عبود) في بيت العائلة في 10 آذار 1956 وتم عماده بيد الأب ايوب في آب في العام ذاته في ارض دار البيت. وكان عمي جوزيف ايضاً هو اشبينه واشبينته كانت عمتي جوزفين، وفي 9آذار 1959 ولد شقيقي الشهيد مروان واعتمد في البيت في 1تشرين الثاني 1959
الشهيد مروان زيتون قبل جنديته واستشهاده فيها عام 1979
مع اكليل عمتي جانيت، والأب ايوب هو من عمد شقيقيَّ عبد الله ومروان في بيت العائلة وكلل عمتي جانيت.
وكانت تترافق كل هذه الفعاليات الروحية الفرحة بموائد عامرة مع الغناء، فالعائلة فنية تحب الموسيقى والطرب وسهراتها العائلية مشهورة عند الجيران، حيث كان جدي وعمي حنين يعزفان على العود ووالدي مشهور بالعزف على الطبلة وتميز جدي وعمي نقولا ووالدي رحمهم الله بالصوت الجميل الرخيم وحبهم الشديد لمحمد عبد الوهاب وام كلثوم…
اول من خرج من بيت العائلة كان عمي نقولا وعائلته بعدما اقتنى بيتاً، وهو قبو في شارع بورتو اليكرة ببرج الروس، عام 1959 تبعه والدي بعد ثلاث سنوات اي في عام 1962، فاقتني بيتاً في اول شارع بغداد مقابل اسعاف مستشفى الافرنسي حاليا بجوار بقالية سامي، وكان قبواً عميقاً رطباً جمع ثمنه بعد كل هذا النضال المرير لتوفير بيت صغير مستقل له ولعائلته، وكنت انا في الصف الرابع بمدرسة القديس يوحنا الدمشقي الخاصة،
والداي جورج وروزيت وانا بيد امي واخي عبود بيد ابي في عيد الشعانين 1958في كنيسة الصليب المقدس بجانب البحرة التي كانت في منتصف الساحة
وشقيقي عبود في الصف التحضيري فيها، بينما كان الشهيد مروان لايزال طفلاً في البيت عند امي، ولا ننسى التدبير المثالي لأمي في تربيتنا، فكانت تخيط ثيابنا بيديها وتقوم بتدويرثيابنا من الكبير الى الأصغر، وتخيط ثيابها بيدها وبقيت تخيط بعض ثيابها حتى آخر لحظة من عمرها، وكانت “انيقة الابرة” كما يقولون، وسيدة الترتيب في ثيابنا وثيابها، وكانت مدبرة ولم تكن متطلبة على والدي، (كالكثير من النسوة)، بينما هي كانت تعمل مع زوجها وفق المثل الشعبي:
“الرجال جنَّا والمرا بنَّا” اي ان الرجل هو من يوفر المال، والزوجة الصالحة هي التي تبني البيت بتدبيرها. علماً ان والدي رحمه الله، سواء كان مسؤولاً عن مصروف بيت العائلة عندما كنا ببيت جدي، اوعائلته الشخصية بعد خروجنا الى بيتنا الجديد، لم يقصر ابداً علينا نحن اولاده وضمن امكانياته المتواضعة، بل كان خيّراً في كل امر متاح، وقد ربانا ولم نشتهِ شيئاً فكل شيء يمكن ان نشتهيه كان يوفره لنا ولو بالحد الضيق فالتفاحة تقسم بين اثنين مثلاً طبعاً هو وامي لم يكونا يأكلان. حتى الذهاب احياناً الى السينما كان يتم تقريباً في كل شهر مرة مساء يوم احد، وهي الفسحة الوحيدة للعائلات المستورة، وكان يأخذنا الى معرض دمشق الدولي للفرجة والنزهة اكيد طبعاً بدون حضور مسرحياته. في هذا البيت رأت شقيقتي سمر النور في 18 تشرين الثاتي عام 1964 وشقيقتي رويدة في26 تشرين الثاني 1966.وجرى عماد كلاً منهما في هذا البيت بعد اربعين يوما على ولادتهما على يد كاهن الرعية الأب ايوب سميا الذي كان يزورنا في بيتنا الجديد باستمرار.
في بيت اهلي والدي ووالدتي والى يسار والدياخي عبود واختي سمر ورويدة وعن يمين والدتي انا واخي مروان في ليلة رأس السنة 1976
تابع والدي العمل في الدكان بمفرده، وفي منتصف السبعينات كما اسلفت دعا عمي نقولا ليعمل معه فيها بدلاً من العمل “مصانعة” عند الغير، حيث قال له:” لك اخي تعا نشتغل سوا في الدكان واللقمة منقسمها سوا” وافق عمي على العمل في الدكان انما، كل في شغله الخاص، شاكراً لوالدي والسبب برأيه كان ان لكل منهما طريقة عمله الخاصة به، وله زبائنه الخاصين، لذلك عمل كل منهما بعمله الشخصي وحتى وفاة عمي رحمه الله منتصف التسعينات.
وفاته
وعاد والدي للوحدة في عمله وفي دكانه حوالي عشر سنوات الى حين تردي وضعه القلبي فجأة، ودخل بسببها المستشفى الافرنسي حيث بقي فيه لمدة اسبوع أمضى نصفه في العناية المشددة، ونصفه الثاني في غرفة، وقد توفاه الله باحتشاء قلبي صاعق في 6 شباط1995 وكنا وكل العائلةعنده جميعاً وكأنه اراد ان يكون كل آل زيتون عنده فأيده القدر والتففنا حوله وأمام طبيبه، وارتقى الى العلا ولم تنفع كل المحاولات .
وهكذا انطفأت شمعة نيرة من شموع المحبة والخير والاحسان والتواضع، وطويت صفحة فنان قل نظيره لفن دمشقي أعطاه بصماته وروحه وقلبه وملأ معابد دمشق من كنائس لكل الطوائف ابرزها كنيسة الصليب والكاتدرائية المريمية وكنيسة حرستا ودير سيدة صيدنايا وكنيسة القديس كيرلس. اضافة الى جوامع تاريخية وكنيس يهودي تاريخي اعاد بعث منابرها التاريخية بازميله المبدع وفكره النير.
برواز خشبي اثري شغل العائلة وبضمنه صورتين لأبي وامي ونحن الاولاد الخمسة
وكانت جنازته حافلة جداً في كنيسة الصليب المقدس غصت بها الكنيسة داخلاً ومحيطاً وشاركت فيها فرقة مراسم الصليب المقدس الكشفية كاملة واضفت بموسيقاها الضاربة جواً من المهابة، وكانت جنازة حافلة عكست محبة الناس له وبحضور اكليريكي متميزحيث تقدم الحضور الوكيل البطريركي المطران الياس كفوري والسادة المطارنة المعاونون البطريركيون ونقل لنا تعازي غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع (وكان خارج البلاد) وافاض بذكر مناقبية والدي:” ومحبته وما قدمه من اعمال وتقدمات، من عمل يديه الفنيتين، ومن ماله الشخصي، تركها للحياة الابدية التي اكيد ينعم بها عند الله، كونها زينت كنيسة الصليب، ومعابد الله وترتفع الصلوات لراحة نفسه عند كل خدمة الهية مع البخور الصاعد للعرش الالهي، وجعلت ذكره مؤبداً”.
اما والدتي الحبيبة روزيت، فقد بقيت حية في البيت الذي كانت بصماتها في كل زاوية منه، كما كان ابي، فهو من زيَّن البيت بابداعات يديه، وهي من رتب فرشه ووجوه التنجيد وبتدبيرها، وعاشت معها شقيقتي الصغرى رويدة، فيما كنا انا واختي سمر واخي عبود كل في بيته بعد زواجهما..
انصرفت بكليتها الى المشاركة في الاعمال الخيرية من خلال اخوية سيدات كنيسة الصليب المقدس، كما كانت قبلاً، مع جمعية مار اليان الحمصي للسيدات.
الصلاة على جثمان امي المرحومة الغالية روزيت اواكيميان زيتون في كنيسة الصليب المقدس بدمشق
وكانت رحمها الله يطير عقلها، عندما تزور البيوت الفقيرة مع الاخوية للاطلاع على حالتها من اجل المساعدة، وخاصة في هذه المرحلة الاليمة المتمثلة بالحرب على سورية، وازدياد اعداد المنكوبين باستشهاد وجرح وخطف اولادهم، فهي المجروح قلبها، وقد سبق لها وقدمت شهيداً، بقيت تبكيه حتى لحظة انتقالها اليه…
في مطلع ايلول 2016 تردت صحتها بسرعة فائقة وتم نقلها الى مستشفيين ومالبثت ان انتقلت الى فردوس العرش السماوي في 6 ايلول ويقينا هي فوق في الجنة مع الابرار بسبب ماقامت به من اعمال الاحسان وبصمت لم تعرف بها يسارها مافعلت يمينها وجعلت ذكرها مؤبداً. وبعد ستة اشهر تقريبا توفي شقيقي عبود بأزمة قلبية صاعقة في بيته لم تمهله، قضى مأسوفاً على رجولته بعمر 60 سنة، المسيح قام.
شقيقي الشهيد مروان
ولأن لشقيقي مروان دوراً هاماً في حياة والدي، افردت له هذا الشطر…
الشهيد مروان في مقر الفوج الثاني الكشفي 1976
كان مروان قد ترك الدراسة بعد نيله الشهادة الاعدادية، وعمل مع والدي في الدكان، وكان بعمر 15 سنة، ولم يرض ان يتابع تعليمه، واصر على تعلم حرفة والدي والتتلمذ عليه، وكان والدي وقتها يقوم بالعمل في مشروع حفر القاعة الدمشقية في القصر الجمهوري (من خلال متعهد)، ووقتها ساعده شقيقي وتعلم المهنة وظهر نبوغه فيها بسرعة اسعدت والدي وعمي، و كان ابي معروفاً بسرعته القصوى في انجاز الشغل وبكل اتقان، وكان بذلك يفرض على المتعهد والنجار ان يمدانه على الدوام بالخشب الخام المجهز للحفر بالسرعة، لذا وبعد حوالي السنة انجز مشروع “القاعة الدمشقية”، وبناء على مسعى من والدي عمل شقيقي مع مؤسسة الاسكان العسكرية في قسم النجارة وحفر الخشب، وكان هذا القسم يعمل في مشروع القاعة الدمشقية في مطار دمشق الدولي برئاسة معلم ماهر صديق لوالدي وعمي، حيث كان القصد من العمل في هذه المؤسسة العسكرية ان يخدم جنديته حين يُدعى اليها، اضافة الى اكتساب مهارات جديدة مغايرة عن خبرات ومهارة ابي، وكان المقرر ان يعود بعد جنديته الى حوزة الوالد ليعملا معاً، ثم يتسلم العمل بعد تقاعد الوالد. لكن حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، اذ بمجرد انتهاء المشروع تم انهاء العقود المؤقتة مع عمال الورشات، ومنهم مروان الذي عاد للعمل عند ابي، وقد اكتسب من خبراته وخبرات ومهارة عمي نقولا، وخاصة مهارة رسم الطبعات، بالرغم من صغر سنه.
هكذا كنا عائلة تحب الفن عام 1976 حفلة لعائلتنا بمناسبة راس السنة
ودعي للالتحاق لخدمة العلم في1/7 / 1078، وكان نصيبه في الجيش ان يكون من سلاح الدبابات وصار سائقاً للدبابة، وتلم ببراعة قيادة الآلات الثقيلة من دبابات ومصفحات وشاحنات ثقيلة وتراكسات ونال شهاد سواقة بها، كان مثالاً للاخلاص والشهامة، لم يبق من احد لم يحبه سواء من قادته أومن رفاقه في السلاح، حتى انه كان في عهدته ثلاث دبابات بعد تسريح اثنين من سائقي الدبابات، وكانت قطعته العسكرية على طريق السويداء.
وبعد قرابة السنة والنصف في جنديته، حصل معه حادث مدمر، عندما وقعت دبابته في مناورة ليلية في هاوية مخفية في طريق اجبارية، وذلك قبل تسعة اشهر من حادثة استشهاده، وقد اصيب بارتجاج في الدماغ ونقصان الرؤية بشكل حاد في عينه اليمنى، وبعد تسعة اشهر على اصابته هذه، وفي مناورة ليلية بحقل رمي الدبابات وبالذخيرة الحية، ليصاب بتلك الحادثة المأساوية التي ارتقى بها شهيداً مأسوفاً عليه عن عمر 21 سنة، فكُسرت قاعدة الجمجمة بواسطة برج الدبابة نتيجة خطأ غير مقصود من قائد الدبابة وقضى في النقطة الطبية التي نقل اليها تمهيداً لنقله الى المستشفى العسكري. وكان ذلك في27 تموز 1981فكانت مأساة عامة وخاصة لدى لكل العائلة وخاصة لدى ابي وعمي، ولدى رفاقه في الكشافة وكان عريف طليعة الصقر في الفوج الثاني الكشفي وقائداً مدرباً للفرقة النحاسية، وتمثل ذلك في فخامة جنازته كشفياً واجتماعياً وعسكرياً فقد شارك فيها كل الفوج بعدما تم ايقاف المخيم الكشفي العام في منطقة طرطوس والعودة الى دمشق للمشاركة في تشييعه، وشارك وقتها في هذه الجنازة آلالاف … وكانت حديث القصاع مدة طويلة.
في منزل الفنان جورج على الفيترينة صورة المرحومين والدي جورج وشقيقي الشهيد مروان
وشارك فيها كل الاكليروس البطريركي، ورئسها ئلاثة مطارنة باسم غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع الذي مالبث ان زارنا في بيت العائلة في الطابق الرابع (بالرغم من تقدمه في العمر) للصلاة وتقديم العزاء وقد خجلنا من تصرفه الابوي رحمه الله، ومرد كل ذلك اكراماً لي فأنا كنت في خدمة البطريركية بعملي وانا في اعلى مكان في الدولة وهو رئاسة مجلس الوزراء واقدم كل خدمة ممكنة، واكراماً لوالدي ووالدتي وهي عضوة في الجمعيات الخيرية واخويات الكنيسة وسمعة آل زيتون العطرة وحميتها وحضورها الكنسي…
والأكثر ايلاماً انه لم ينل حق الاستشهاد، كما كان قد تمنى “ابو فهد” فارس الدبابة لينال عز الشهادة ويغسل بدم رأسه المكسور فولاذ دبابته، وللذكرى كان سبق له قبل اسبوع من ارتقائه شهيداً، قد قال لأمي وهو باسم الثغرعن توقه للاستشهاد ليحصل على عز الشهادة، وعلمنا من رفاق السلاح انهم كانوا كلما مروا ذهاباً واياباً الى قطعتهم العسكرية من امام مقبرة الشهداء في نجها، كان يقول لهم دوماً القول ذاته والتمني ذاته :” اشتهي ان اقضي شهيداً… لأنال عز الشهادة”، أمه ككل أم اسكتته”سددت له حلقه” بقولها على الفور وبعتب:” بعيد الشرعليك يا امي تقبرني، سد حلقك”… كانت حرقة قلب له ولنا جميعاً، ولي على وجه الخصوص بعدما ركضت في كل الاتجاهات برحلة عذاب طالت لثلاث سنوات، لتحقيق حلمه بتسجيل اسمه مع الشهداء في سجلهم الخالد، وتبخر هذا الحلم الذي كان من الممكن ان يرضيه بتحقيق امنيته ويرطب قلبه وهو في قبره، ووالدي ووالدتي…، لكن بيروقراطية القوانين الناظمة، ذبحت الامنية :” لأن الموت في المناورات الليلية وحقول التدريب يعتبر في الخدمة وسببها”.
جانب من غرفة الصالون في منزل الفنان جورج كنبة حفر وفوقها لوحة فنية رسم زياتي رسم باطار حفر مميز
القانون بذلك كان صريحاً، وقرارات اللجان العسكرية التي نظرت في استرحامي المتكرر، لم تنص على اعتبارشقيقي شهيداً، وان كان قد استشهد بمناورة ليلية بالدبابات وبالذخيرة الحية وبظروف القتال ذاتها، وحتى أصعب لأنها ليلية، وكانت قبيل الانطلاق لتلبية نداء الواجب في لبنان الشقيق بمواجهة العدو الصهيوني الطامع باجتياح لبنان. ولا انسى ماحييت كلمة امين سجل الشهداء في مكتب شؤون الشهداء وكان مسناً برتبة مساعد اول، وقد قال لي معنفاً لي، ومتألماً على تعبي، وقد مل من مراجعتي له ثلاث سنوات وقد قال لي: ” لك ياعمو حاجة تعذب حالك، مالح يعتبرو شهيد، بس الله سبحانه وتعالى جعله شهيداً، وهو عنده فوق اليوم بالجنة وهو تعالى كتبه شهيداً بيده في سجل شهدائه، ياحبيبي اخوك فوق شهيد وفوق احسن بكثير من قراراتهم لهدول الظالمين.”
ومن وقتها لم أعد أراجع مكتب شؤون الشهداء، ولو شئت الكتابة عن معاناتي في هذه السنوات الثلاث لكتبت سجلاً ممزوجاً بالدموع.
لا زلت أذكرك يا ابي ونحن في اول موكب جنازة وليدك مروان، نسير بعد جثمانه الملفوف بعلم الوطن المفدى والمحمول على سواعد رفاقه شباب القصاع بعراضتهم ومعهم العسكررفاقه في السلاح والكشافة اخوته، وكنت اتأبطك والجميع معنا، وانت تشدنا جميعا، تشدنا كلنا شداً سريعاً وعنيفاً بقوة لم اعهدها بك قبلاً بالرغم من قوة زنودك بنتيجة عملك العضلي، وكأنك تحاول اللحاق بشهيدك، وانا اهدأك ايها الحبيب، وكانت فرقة موسيقى فوجنا الكشفي الارثوذكسي جاورجيوس الضاربة بعددها وعديدها (وهي من تدريبه هو رحمه الله اذ كان مبرزاً في العزف على الترومبيت وبقية الآلات النحاسية)، تعزف اللحن الجنائزي لقائدها، وانت يا ابي تشدنا بقوة وعنف لنسيربسرعة خلف صغيرك او لتسابق نعش وليدك، وانت تبكي وتصرخ كالطفل (وبكاء الرجال اليم جداً وابكيت الجميع): “وين رحت يامروان وتركتني يا ابني، كسرت ضهري يارفيقي الصغير يابنيي” اذ
صدر غرفة الصالون في بيت ابي الفنان جورج وصورة زوجته امي المرحومة روزيت
بالرغم من صمودك وهدوئك المشهودين لك، لم تستطع وقتها المكابرة وكل الحق معك، ايها الاب المكلوم، كبقية آباء الشهداء، كان الله في عونهم، فكنت تصرخ ملتاعاً ودموعك على خديك الطاهرتين، نعم اضفت لوعة وهيبة ابكيت معها الجميع، حيث رقص الشباب رفقته بشكل شبه هستيري مع التصفيق والدموع، وهم يحملون التابوت الابيض المجلل بالعلم الوطني الحبيب ويهتفون وراء كبير العراضة وهو اخص رفيق له يهتف والكل يردد وراءه (يامار جريس دستورك والبطل مروان جاي يزورك، راحت وردة من حارتنا هي الوردة الجورية) مع العزف بالمعزوفات الحزينة والفوج كله يضع الشارات السود. مشهد حزين بقيت القصاع تذكره والآن تكرر مع شهداء الوطن منذ سبع سنوات وحتى الآن.، فجرحك اكبر من ان يندمل ولم يندمل، وبقيت تحمله حتى ودعناك وضممت شقيقي وهو ضمك في المسكن الأخير مدفن العائلة… ولحقت بكما امي الثكلى، ثم مؤخرا شقيقي عبود… حقاً يا ابي اليوم سيرتك فتحت جروحي الغائرة المندملة وابكتني كثيرا وانا اتذكر تلك اللحظات الاليمة واكتبها هنا.
بعض من سيرتي
وانا وبسبب تأثيروالدي رحمه الله في شخصيتي وتكويني وطباعي حتى وماحققته لابد من اتحدث عن نفسي في هذا الشطر، كما كان لأبينا ايوب سميا تأثيراً هائلاً في تحصيلي العلمي، واهتمامي بتاريخ الكرسي الانطاكي عامة، ودمشق المسيحية خاصة…
هذا الاب الجليل ايوب وهو من قب الياس، (7) الذي كان شقيقاً لجدي بالدم على قبر المسيح، كان يزور بيت العائلة باستمرار، ونجلس كلنا متحلقين حوله على الارض ليحدثنا احاديث انجيلية ويستهل جلساته الروحية ( وكان يفعل ذلك مع كل الرعية) بالترتيل بصوته العذب وهو ما حفر في حباً بالترتيل مارسته منذ ذاك الوقت
باب الملوكي اليمين لهيكل كنيسة الصليب تقدمة المرحومين نقولا وجورج زيتون وعائلاتهم للأبواب الملوكية الثلاثة
في كنيسة الصليب وانا صغير مع الشماس ( ثم المرتل) السيد فوزي بشارة. واحيانا تكون بحوزته بعض كتب التاريخ، ومنها كتب ذبائح اليهود لأطفال المسيحيين واستنزافهم من اجل فطير عيد الفصح لديهم، وكنت بعمر صغير لكن ذلك اثر جداً في نفسيتي فأحببت التاريخ وتألمت كثيراً على ماقاسيناه نحن المسيحيون من ضنك عبر تاريخنا ومن الجميع في بلادنا سورية التي كان هو يعشقها واورثني عشقه لها، ولم انس حرفاً من كل كلمة قالها وكنت اسأله باستمرار وكان ابي وامي يسعدان بأسئلتي له فيقول لهم ان زوزو ( اسم الطفولة) يجب ان يصير كاهناً والمستقبل له، وسأرسله حتماً وكان يطلب ان اسمعه مايرتله وكل العائلة كانت ترتل معه ومعي وجميعهم محبون للترتيل، ذات مرة طلبت خالتي زوجة عمي نقولا ان يرسل ابنها طوني (وهو اكبر مني باربعة اشهر فقط) معي الى البلمند للاكليريكية الا انه اعتذر وكان معروفاً بأجوبته الصارمة” لأ فزوزو له مستقبل كهنوتي”، وقد تضايقت خالتي ولكنها لم تبد ذلك بحضوره فهو كبير العائلة ومهابته كجدي اضافة الى مهابته الدينية.
عام 1976 بعد انهائي جنديتي موظفاً في ادارة المساحة العسكرية
في عام 1962 قرر هذا الكاهن الجليل ان يرسلني الى دير البلمند للانتظام في الاكليريكية، فوافق اهلي على الفور وبسعادة لأنه افهمهم ان البيت الذي فيه كاهن تحل فيه النعمة، وانا بنظره سأكون راعياً وكاهناً ولي مستقبل في الكهنوت لنباهتي وحبي للدين وللتاريخ والعلم وبالمناسبة هو كان يستضيفني مع ابي باستمرار في بيته بالدخلة الضيقة الذي كان اشبه بصومعة الراهب، وكنت استمتع بهذه الزيارات وكنت اسأل ابونا عن الكتب واغلفتها الأثريةن وعن قطع المستحاثات الموجودة لديه والتي كان يلتقطها في رحلاته التنقيبية والاستكشافية في كل مكان بمحيط دمشق والجنوب السوري وجبل الشيخ وهو كان يجيبني بسعادة وانا اتفرج على كتبه وقلت لأبي مرة امامه: “اتوق ان تكون عندي مكتبة مثلها في كبري” وتشاء محاسن الصدف ان اعمل على مكتبته التي نقلت بعد وفاته الى المكتبة البطريركية لما كلفني مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع عام 1987 بتنظيم وفهرسة المكتبة وتكشيف الوثائق البطريركية وكانت سعادتي لاتقد فطار عقلي من الفرح بعدما تذكرت الكثير الكثير من طفولتي مع مكتبة ابونا ايوب.
قرر ابونا ايوب فجأة ان يرسلني الى البلمند في مطلع العام الدراسي القادم وكنت بعمر 10 سنوات قاصداً حصولي في المدرسة البلمندية الابتدائية على شهادة السرتفيكا، ومن ثم اتابع في الاعداديةالاكليريكية والرهبنة، وبعدما حصل على وعد على مايبدو من رئاسة الدير بقبولي استثناء من السن المحددة، وكان قد سبقني اليها ( السيدان دامسكينوس منصور حالياً مطران البرازيل وجوزيف الزحلاوي حالياً مطران نيويورك واميركا الشمالية وهما ابنا خالة وخالتهما الثانية امرأة عمي جوزيف) وقام ابواي رحمهما الله بتجهيز مايلزمني في حياتي الجديدة الداخلية الديرية من البسة وكسوة…
وبعد تأمين كل مالزم من التجهيز، اخبرنا بحزن ان التماسه رُفضَ لصغر سني، لأن الحد الادنى المقبول هو عمر 12 سنة وانا 10 سنوات، وكانت خيبة امل مريرة له ولأهلي ولي.
ادخلني والدي في الفوج الثاني الكشفي جاورجيوس عام 1961 وكنت بعمر 9 سنوات شبلاً واسرتني الحياة الكشفية بثيابها والطلعة الكشفية بالموسيقى الى كنيسة المريمية بالصيام والاعياد وايضاً بكنيسة الصليب وكنت اتمنى ان اتعلم العزف على الطنبور ولكن مع تمادي الزمان صرت من امهر العازفين على الترومبيت ومدرباً ثم قائداً للفرقة الموسيقية عام 1971 وقائداً للفوج عام 1974
احد الشعانين في كنيسة الصليب وسط الساحة وعلى البحرة انا بيد امي بعمر 5 سنوات واخي عبود بعمر سنة السنة 1957
انتقلنا الى بيت جديد بعدما كبرنا وصرنا خمسة اولاد ثلاثة صبيان وابنتين وصار يجب ان يكون للصبيان غرفة وللبنات غرفة، هو بيت اهلي الحالي في الطبقة الرابعة وكان ذلك في 1/1/1970 في اول شارع اليبرودي مقابل الباب الجانبي حالياً لكنيسة الصليب، بعدما باع البيت الذي كنا نسكنه، واستدان مابقي عليه من ثمن البيت الجديد، وكان قد استدان وقتها حوالي 20 الف ليرة سورية، وهي تشكل ثروة عليه، سيما وانه استدان بالفائدة الغالية ليشتريه لنا، واتكل على الله بقوله لأمي: ” الوافي الله” وقام بفرشه ومن انتاج يديه ومن شغل النجار خالي فريج اواكيميان وهو من النجارين المتميزين في الشام، فصار البيت عبارة عن قطعة فنية متكاملة واذكر ان احدى قريباتنا من اميركا وهي في زيارة لسورية والعائلة عندما دخلت البيت صرخت بالانكليزية “رائع” فعلاً هو تحفة فنية رائعة من حفر يدي هذا العظيم ابي الحبيب جورج زيتون… وقد طرح الله عز وجل البركة بين يديه واعطاه وابلاً غزيراً من الشغل، واستطاع وفاء الدين بأقل مماكان يتوقع، وانفق على فرش البيت هذا الفرش الغالي والانيق “فهو بيت العمر” وامتنعت امي عن شراء اي شيء لنا من ملبوسات خلال فترة وفاء الدين، لم نكن نحن وحيدون في هذا الأمر التدبيري بل سمة عامة عند امثالنا، وكانت للحياة لذة وطعمة وهي ذكريات من الزمن الجميل.سقى الله
في حرب 1973 صورتي مقاتلاً في الجيش السوري
بعد نيلي شهادة الثانوية الصناعية اختصاص حرف الخراطة والتسوية، وكنت ااخترتها لأن وزارة التربية اعطتنا الأمل بأننا سنكون من طلاب المعهد العالي الصناعي اي كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية، ولكن كانت ضربة قاسمة لنا بأن لم يقبل اي خريج منا في المعهد العالي الصناعي، واستبدلونا بخريجي الثانوية العامة، الفرع العلمي، وقاموا بفرزنا على المعاهد المتوسطة وكان فرزي انا على معهد حلب، فلم التحق به اذ يكفي ماعلى والدي من ديون، وتقدمت الى الكلية الجوية كطيار حربي وكانت الاختبارات في الكلية الجوية بحلب ونجحت بكل شيء الا في فحص البصر وكان آخر الفحوص الطبية، ومن وقتها وانا البس النظارات الطبية. وقد انكسر خاطري وعدت محبطاً من حلب، ففرحت امي، لكن ابي تضايق يومها وان بادر للتخفيف علي. وكان ذلك في عام 1970.
تواصلت سراً مع عمتي ماري الثرية في اميركا، لتأخذني الى اميركا بمعرفة امي وتساعدني في الدراسة الجامعية التي كنت اتوق لها وهي (ميكانيك طيران) ورجوت صهري ان يؤمن لي عملاً اعتاش منه وافيه مايصرفه علي لبينما انتج، فوافقوعمتي، ولكنهما اشترطا موافقة خطية من ابي وامي، ولكن والدي لم يوافق بالرغم من توسل امي، وقد حزم بكلمة صريحة: ” انا لا ارسل ابني على نفقة احد حتى ولو كانت اختي، انا مانسيت عمك حنين المعتر شوف وضعه البائس، بالغربة مافي حدا بيقرب حدا، روح لك ابي دور على شي وظيفة بالبكالوريا والله يوفقك.”
زوجتي جانيت كويتر
يومها زعلت جداً ونقمت على ابي، ولكني نظرت الى خوفه علي وحنانه وايقنت انه السبب اضافة الى عزة نفسه. فانتسبت وقتها الى ادارة المساحة العسكرية، والتحقت فوراً بالجيش في خدمة العلم بسلاح الخدمات الطبية، وفي الفترة مابين 1972 – 1975 بمافيها حرب تشرين التحريرية وجرحت نتيجة اصابة مرتين في جبل الشيخ وفي قلعة جندل وكتب لي الله النجاة. وكنت قد تقدمت لامتحان الشهادة الثانوية الفرع الأدبي ونجحت واخترت كلية الحقوق، وعند تسريحي من الجيش كنت في الصف الأول… وعدت الى عملي في المساحة العسكرية مساحاً ورساماً طبوغرافيا وهكذا كان وفي 1978 تخرجت، وفي 11 شباط 1980تزوجت بالآنسة جانيت بنت جان كويتر في كنيسة الصليب المقدس وكان الاشبينان شقيقي عبود وشقيقتي سمر.
وكانت زوجتي وهي حائزة الاجازة في الآداب / قسم اللغة الفرنسية تعمل مدرسة في مدرسة الرعاية الخاصة،دروس خاصة للطلاب اضافة الى تدريس وبدأنا سوية من الصفرولم نكن نملك شيئاً، واستأجرنا وبمساعدة من ابي غرفتنا الاساس في بيت جدي التي ولدت فيها، وسط ترحيب من جدي وجدتي رحمهما الله وكانا في رعايتنا الى حين وفاتهما جدي 1991 وجدتي 1995.
الشعانين عام 1987 حفيدا الفنان جورج ولداي الكبير مروان يميناً والصغير جورج يساراً
وكنت تعلمت الترتيل والنوتة الرومية على يد الآباء (المطارنة حالياً) الياس كفوري، دامسكينوس منصور، وجوزيف الزحلاوي.
رتلت في كل كنائس دمشق والريف متطوعاً، وكنت عضواً في جوقة الترتيل التابعة لحركة الشبيبة الارثوذكسية، ثم عينت مرتلاً في كنيسة القديس جاورجيوس شرقي التجارة منذ احداثها حوالي 1992 وانشأت جوقة للكنيسة حيث اعتذرت عن المتابعة عام 2005 لأسباب ترتبط بالعمل.
وكنت قد عينت مرتلاً منذ 1979 للقداس الالهي الأول في كنيسة الصليب المقدس، وقد مرت علي حتى الآن مدة 38 سنة مرتلاً رئيساً فيها، ولا ازال الى الآن في الكنيسة ذاتها بالرغم من معاناتي الصحية نتيجة اجراء عملية القلب المفتوح لي منذ سنة ونيف، ولكني اعتبر ذلك متابعة لرسالتي في خدمة الكنيسة التي كنت بداتها طفلاً متمنياً الكهنوت.
كنت تابعت في التحصيل العلمي العالي: (دبلوم في القانون الدولي العام 1981 ثم الماجستير فالدكتوراه 2000 من جامعة يريفان الحكومية / ارمينيا، وثانية في التاريخ العام 2005 . ومنذ عودتي للعمل في ادارة المساحة العسكرية وانا اعمل بعد الظهر في اي مجال من مجالات العمل، فعملت بداية محاسباً ومديراً لاستوديو تصوير، ثم عملت صائغاً في ورشة شقيقي عبود وشريكه حتى عام1987.
وكنت في عام 1980 قد تقدمت الى مسابقة للجامعيين اجرتها وزارة الخارجية موظفاً دبلوماسية وفقاً للدبلوم الذي احمله في القانون الدولي، ولم أُقبل!!!
عام 1984 قائداً للفوج الثاني الكشفي ومعي ابني مروان بعمر سنتين في كنيسة الصليب
ثم وعلى الفور تقدمت الى مسابقة ثانية اجرتها رئاسة مجلس الوزراء فنجحت فيها وانتقلت من وزارة الدفاع/ المساحة العسكرية الى رئاسة مجلس الوزراء بشق النفس، فعينت رئساً للديوان لأشهر ثم انتقلت الى مديرية اخرى اسستها هي مكتب التوثيق والارشفة وكانت الغاية منها جعلها الذاكرة الوطنية للدولة وهذا ما انجزت قسمه الاكبر. عندها قال لي ابي رحمه الله:” شفت لك ابي كيف رضى الاب والام بيوصلوا الابن لبرالامان الله يرضى عليك لها الشي انا ماردتك تترك علمك وتشتغل عندي، وانا بتنبألك انك بدك تصير وزير في يوم من الايام” وكادت تتحقق نبوءته فقد رشحت بعد نيلي براءة الدكتوراة في الحقوق الدولية الى منصب من ثلاثة (معاون وزير او دبلوماسي بسبب الدكتوراه في القانون الدولي، او مدير عام مؤسسة) لولا المكائد والضغينة فاضطررت الى الاستقالة عام 2003 وانتقلت الى التقاعد بعد خدمة نقية لمدة 33 عاماً قمت بها بواجبي
حفيده المهندس مروان زيتون ابني
الوطني والمهني منها 33 سنة مسؤولاً عن تعيين المهندسين في دوائر الدولة، وتوليت ملف التنمية الادارية في رئاسة مجلس الوزراء وعضوية المنظمة العربية للتنمية الادارية وهي احدى منظمات جامعة الدول العربية، وكنت قد ارتقيت في وظائف مجلس الوزراء الى رتبة مدير عام، وكنت قد استنفذت الترفيع منذ اربع سنوات لدخولي صغيراً الى الوظيفة العامة، وكنت بالتالي بحاجة الى استثناء ترفيع بمرسوم جمهوري حسب الاصول وبالرغم من ان خروجي من الوظيفة بسن الستين كان يوجب علي البقاء حتى عام 2012 الا اني تقدمت باستقالة مبكرة بسبب ماعانيت من محاولات ايذاء وايقاع من حاسدين، وانصرفت بكليتي للاهتمام بتكشيف الوثائق البطريركية، بعد ان كانت جزئية.
وبتعبي على حالي في الكشفية التي انتسبت اليها طفلاً بعمر 9 سنوات في الفوج الثاني جاورجيوس وهو الفوج الارثوذكسي الدمشقي، وكان من اهم واعرق الوحدات الكشفية واقواها وتأسس عام 1912
من غرفة نومي ومن حفر الوالد عمود للثياب
وتدرجت في رتبه ومسؤولياته الكشفية وحزت الشهادات والاوسمة الكشفية، واخيراً حزت شهادة قائد تدريب كشفي دولي السنة 2007 وهي اعلى شهادة كشفية عالمية، وحزت عضوية قيادة كشاف سورية ومسؤولاً عن التدريب في مفوضية دمشق، وكنت بعد توقيف الحركة الكشفية السورية وحل الوحدات الكشفية عام 1985 من الذين كانت لهم مساهمات في الحوار مع السلطات المختصة لاعادة الحركة الكشفية الى سورية. واسست فرقة كشفية وفق الاصول عام 1993 في مدارس الآسية بتكليف من رئاسة كشاف سورية المحدثة وقتها، بصفتي مارست التدريس في الآسية (كعمل رديف لمدة 13 سنة من 1988-2001)، ثم اسست وبمساعدة اخوة وابناء قادة فوج كشافة الصليب الشهير (فرقة مراسم الصليب المقدس الكشفية)عام 1993، وتوليت قيادة الفرقتين الى حين استعفائي عام 2007 لفسح المجال للقيادات الشابة حيث انا الآن المؤسس والاب الروحي لفرقة الصليب…
حفيده الثاني ابني جورج
وكان مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع قد شرفني في عام 1987 بتكليفي بتكشيف الوثائق البطريركية ومنحني لقب “امين الوثائق البطريركية” وتوليت المكتبة البطريركية وكانت سعادتي لاتوصف بالعمل على موجودات مكتبة معلمي مثلث الرحمات مؤرخ الشام المسيحية والكاتدرائية المريمية الخوري ايوب سميا من كتب ومخطوطات تاريخية ومخطوطات يده، ومنحني الله شرف اظهار الكثير من اعلامنا الارثوذكسيين، وفي مقدمهم الخوري يوسف مهنا الحداد الذي تم اعلان قداسته من المجمع المقدس عام 1993 بعد ان وضعت مخطوط سيرته، واصلحت الكثير من التاريخ المعروف والمرتبط بدمشق المسيحية وسورية والكرسي الانطاكي، ومن خلال الوثائق البطريركية، وبقيت في هذه المهمة حتى 2007 متواصلاً مع مركز الدراسات والابحاث الانطاكية في جامعة البلمند وعضوا فيه، ثم انتقلت الى جمعية القديس غريغوريوس الارثوذكسية مديراً ادارياً ومديراً للميتم وحتى نهاية ايلول 2015 حيث شرفني غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر الحبيب مجدداً بادارة شؤون المكتبة البطريركية وامانة الوثائق البطريركية ولا ازال الى الآن. وشاركت في العديد من المؤتمرات التوثيقية والتاريخية وفي القانون الكنسي في عدد من الجامعات ( البلمند- دمشق- عمان- القاهرة-
غرفة نومي من حفر المبدع الفنان جورج زيتون ويعد تاج هذا السرير من روائع الحفر وافخمه
اليرموك- واليسوعية- والكسليك- واللبنانية…) ومؤتمرات وحلقات بحث في الرعاية البديلة للأطفال فاقدي الرعاية الوالدية والحركة الكشفية في سورية بوزاراتها المختصة و بعض الدول العربية وقبرص واليونان وروسيا…
وكنت في عام 1988 قد كُلفت من ادارة مدرسة الآسية بتدريس مواد التاريخ، والفلسفة وعلم النفس والتربية المسيحية للصفوف الثامن والعاشر والحادي عشر وبقيت مدرساً لهذه المواد حتى عام 2001 عندما لم يعد بامكاني الحصول على اذن للتدريس بسبب توليتي منصب مدير عام للعلاقات العامة في رئاسة الوزراء.
ولداي…
رزقنا الله بابني مروان في 11 شباط 1982 وكنا قد نذرنا للعذراء (وكانت زوجتي حبلى به عند استشهاد
ابني مروان وحفيدي جو في يريفان السنة 2016
مروان) ان نسميه باسم مروان لو رزقنا الله بصبي، فكان يشبهه لله السبح… وهو اليوم متزوج وعنده طفل ومقيم في ارمينيا وحائز الماجستير في الهندسة الالكترونية وكان سافرعلى نفقتي للدراسة هناك في العام 2000. وفي27 تموز عام 1985 رزقنا الله بابننا الثاني جورج فحمل اسم الوالد… ودرس ادارة الاعمال في جامعة دمشق، وهو من الموهوبين في هندسة الصوتيات ويمارسها كمهنة بشكل لامع.
بعض مآثر ابي الفنية
التقدمات الى كنيسة الصليب
عندما اعتلى مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع السدة الانطاكية وكنت موجوداً بشكل دائم بعد الظهر في البطريركية، بسبب توقي لاعتناق الكهنوت، وكان وقتها عام 1979 قد حضر من اليونان الآباء دامسكينوس منصور( مطران البرازيل حالياً) وجوزيف الزحلاوي ( مطران اميركا الشمالية حالياً) وجورج ابو زخم ( مطران حمص حالياً) واقاموا في البطريركية، وبحكم قرابتي مع الاولين وصداقتي المزمنة معهما ومع الأخير اي المطران جورج، كانوا يزوروننا باستمرار في بيت العائلة ثم بعد زواجي في بيتي، وذات مرة احضر الاب دامسكينوس كاتالوغاً بمفروشات كنسية محفورة تعتمده كنائس اليونان، ولكنه يتم هناك بالآلة وأهداه للوالد، ليستفيد منه في النهضة المعد لها في دمشق بعهد البطريرك اغناطيوس الرابع، وربما يتم تزويد كنائس بها، هنا تدخلت انا واقترحت على الوالد ان يضع في كنيسة الصليب ابواباً ملوكية ثلاثة من حفر يديه كما فعلوا مع جدي عندما كانوا صغاراً بحفر العرشين البطريركي والاسقفي لصالح النجارالشهير الباوندي،
عرش المطران في كنيسة الصليب المقدس يسار النرثكس شغل وتقدمة الباوندي في 1936 وحفر الفنان فارس زيتون وولديه نقولا وجورج
وبذا يُخَّلد مع عمي نقولا ذكرهما وتعب يديهما فوافقني على الفور، وانتقى الابواب المطلوبة من الكاتالوغ ورسم طبعاتها واتفق مع النجار، ولكنه طلب مني ان يقوم غبطته بتزويدنا بكتاب موجه الى مؤسسة عمران باسم البطريركية لنشتري الخشب المطلوب بسعر مخفض، لكن غبطته اعتذرلعدم اقتناعه بفكرة وضع ابواب ملوكية،الامر الذي دفع الوالد الى شراء الخشب بالسعر الحر الفاحش وحفر الابواب وبناء على طلبي (وكان متمنعاً عن حفر وجهة التقدمة) وحفر اللعبارة التالية:” اذكر يارب عبديك نقولا وجورج زيتون وعائلتيهما”
وعندما تم تركيبهما وفي اول قداس الهي كان برئاسة غبطته ابدى شديد اعجابه بهذه التحفة الفنية، وشكر الوالد من كل قلبه وبارك العمل ومن قام به.
بعد فترة ليست طويلة استشهد شقيقي مروان فاندفع الوالد لتقديم قطعاً ومفروشات كنسية لراحة نفسه بتقدمات منه وامي ومني، ومن شقيقي عبود…وتابع بتقديم تقدمات من عمل يديه لراحة نفس والده ولصحة والدته…وهي موجودة وتشهد لهذا المحسن الفنان.
وبدأ المحسنون في كنيسة الصليب والكاتدرائية المريمية، ودير سيدة صيدنايا البطريركي، وكنيسة كيرلس حيث عمل لصالحهم تقدمات من حفره الرفيع والمميز حاملات ايقونات وحاملات شموع على طاولة الوكالة، ولوحة الصلاة الربانية و…وحتى كنيسة حرستا يقصدونه ويقومون بتكليفه لانتاج مثيلاتها…وكان الكثيرون يندهشون من انه لايرضى بحفر “شغل جورج زيتون” وكانوا يرجونه تنزيل ذلك وكانوا يفتخرون ان تقدمتهم من حفر المعلم الفنان جورج زيتون… كما كانوا يندهشون من انه لم يكن يطلب اسعاراً تتناسب مع فنه الرفيع، ودوما كانت كلمته:” انا اعمل لبيوت الله والمركب الذي ليس فيه شيء لله يغرق”.
الكل كان يشيد بوالدي واخلاقيته ومناقبيته ويدعو له بطول العمر والتعويض، وكانت كلمته الحلوة عندما يقبض اجرة عمله يوجهها للزبون:
كنيسة الصليب المقدس بالقصاع/هيكل الكنيسة/ الباب الملوكي الاوسط اضافة الى البابين الجانبيين اليمين واليسار من حفر الفنان جورج زيتون وتقدمته ” اذكر يارب عبديك نقولا وجورج زيتون وعائلتيهما 1984
“معوضين عليك، ان شاء الله كل قرش بألف”…
ما اورده ادناه هو من فم والدي رحمه الله عن بعض مماحصل معه اثناء عمله وخاصة في العقدين الأخيرين من عمره وتحديداً بعد استشهاد اخي مروان، ووفاة عمي نقولا، حيث بقي الوالد بمفرده في دكانه…
كنيس يهودي دمشقي
يوماً جاءه وفد من مجلس ملي لليهود، وطلبوا منه ان يرمم أحد كنسهم في حارة اليهود بدمشق القديمة، حيث يوجد منبرمقدس منقوش ومصدف ( تنزيل صدف) في الكنيس، وهذا المنبرالخشبي منقوش بدقة فائقة ومنذ قرون، بحيث ان سوس الخشب اتى على النقش تماماً او كاد، وقال له كبير الوفد ان كل النجارين والحفارين دلونا عليك يامعلم جورج، وليس من غيرك يقدرعلى شغله، ونحن اليهود لم يبق عندنا من يعمل به، ونرجوك ان تذهب معنا وتطلع على المنبر، وتعطينا من خبراتك، فإن كان ترميمه مستحيلاً، فيمكن ان تنقش للمعبد غيره على خشب جديد، ونحن كلنا ثقة بمهارتك.
وقال لي هذا رحمه الله وكان عائداً لتوه من الكنيس، وكان قد أجابهم بأنه نقش وليس حفر، ولم يسبق له ان اشتغل بهذه الحرفة الفنية المختلفة عن الحفر ويحتاج الى ازاميل خاصة، وليس عنده هذه الازاميل، فكان جوابهم له بالثقة المطلقة بمعلميته وانه يختلف بكليته عن الشغيلة البازاريين الحاليين ( الشعبيين المتسلقين على المهنة).
الباب الملوكي الفرعي الايسر في هيكل كنيسة الصليب المقدس حفر وتقدمة الفنان جورج زيتون وشقيقه نقولا مع الباب الفرعي الايمن
وجواباً عن استيضاحي له اجابني رحمه الله ان النقش وتنزيل النحاس وتطعيمه بالفضة… كانت خاصة فقط في دمشق ببنات اليهود الدمشقيات، ويتم العمل به على القاعد كالصدافين والموزايكية ولايحتاج الى جهد عضلي، بينما الحفريتم الشغل به على الواقف ويحتاج بعض الاحيان الى قوة بدنية وجهد عضلي، عدا عن اختلاف الادوات واساساً الازاميل، فأزاميل النقش صغيرة ناعمة… بينما ازاميل الحفر كبيرة مهما صغرت.
وكان قد استمهلهم ليجري دراسة للعمل، فوافقوا مع الرجاء بأن يقبل:” انت تعمل ياخواجا جورج لدار عبادة لله”.
في البيت مساء قام برسم الطبعات وتجهيزها، وزار في اليوم التالي مجدداً الكنيس وطبق الطبعات على المنبر واجرى التعديلات، واعلم مندوب المجلس الملي موافقته على العمل وانه سيرمم المنبر ترميماً بدون تصنيع غيره… وهو من ينتقي النجار الذي يثق بقدراته ففرح المندوب كثيراً.
وهكذا كان، انا كنت اول من شاهد النتائج تباعاً والحق يقال “انه شيْ بيطير العقل” لقد احيا العظام الرميمة…هذا عندي وانا اعرف قدرات ابي، لقد طوع ازاميل الحفر الكبيرة لتكون ادوات نقش فنية ناعمة كان عمله قمة في الابداع، فما بالكم بردة فعل اصحاب الشأن.؟ كانت سعادتهم لاتوصف…
قراية الانجيل في الباب الملوكي الاوسط/ كنيسة الصليب المقدس حفر وتقدمة الفنان جورج زيتون عن صحته وصحة زوجته
جامع تراثي في باب الصغير
صباح احد الايام وتقريبا في عام 1992 جاءه رجل مسن وبرفقته شابين، سلم عليه بحرارة، وذكَّرَّه انه نجار عربي سبق لوالدي ومنذ زمان بعيد ان حفر له بعض المفروشات العربية وقد تذكره الوالد. وأضاف ان الشابين مهندسا عمارة من وزارة الاوقاف يقومان بالاشراف على منابر المساجد التراثية ويهتمان بترميم خشبيات المساجد وخاصة منها القديمة، وقد جاءاه راجينه تصليح منبر جامع تاريخي في منطقة الباب الصغير وكان هذا النجار يعمل في دكانه في منطقة الباب الصغير، قال النجار المسن لوالدي: عندما عرضا علي المشروع وشاهدته، على الفورتذكرتك يامعلم جورج وقلت لهما ليس من حفار في الشام كلها يقدر ان يقوم بهذا العمل الا حفار من اخوتنا المسيحيين دكانه في القيمرية اعرفه كان ابوه المسن يعمل معه، وهو اعظم معلم، لكن لي زمان كبير لم اعرف عنه شيئاً، ان شاء الله انه باق في عمله، ولا يزال حي يرزق. قوموا لنروح على الدكان تبعو بركي حظنا منيح، ومابتصدق يامعلم جورج قديشني فرحان انك لاتزال عم تشتغل بالحفر حرام اللي متلك يوقف الشغل والله يطولنا بعمرك… انت كنز للفن الشامي”.
حاملة ايقونات في كنيسة الصليب المقدس حفر وتقدمة الفنان جورج زيتون
خجل والدي كعادته كثيراً، حيث لم يعتد على الاطراءات، وبعد رد الشكر للمعلم النجار، استمع لشرح المهندسين الشابين على صورة ضوئية للمنبر الذي يحتاج الى اعادة شغل من جديد، وكما مع جماعة الكنيس، قالوا له: “ان مابيمشي الحال بتعملنا واحد غيره وهي النجار الحجي ابو احمد وانتوا شاغلين مع بعض، وهو اشاد فيك وبحفرك وفنك”، الحجي عقب على كلامهما بكلمة واحدة:” المعلم جورج هو المعلم، ونحنا كلنا شغيلة عنده بكرا بتشوفوا الشغل” واضافا بقولهما لأبي : “لاتسأل عن الاجرة نحنا جاهزين للرقم المطلوب، المطلوب فقط انك توافق وتقدم لنا طبعات لنقدمها لادارتنا لنحصل على الموافقة، وحط السعر اللي بتريده” اجابهما رحمه الله:
“ان شاء الله خير وبالنتيجة انا عم اشتغل لبيت الله ومو كتير مهم المال.”
اغلق الوالد باب الدكان وذهب معهم الى الجامع ومعه مجرد ورقة وقلم رصاص، هناك رسم طبعة كروكي للمنبر اللأمر الذي ادهش المهندسين فقالا له:” انهما مختصان بالرسم الهندسي بصفتهما مهندسا عمارة، ولكنهما ابداً لايرتقيان الى مقدرته في رسم كروكي بكل هذا الوضوح وبكل هذه السرعة…!” وشكرا ابو احمد الذي عرفهما على هذا “المعلم الجوهرة”.
اتفقا على البدء ولكن الوالد طلب منهما ان ياتيا في الغد لينظرا الطبعات، ليكون كل شيء بمعرفتهما وموافقتهما
حاملة ايقونة الرب يسوع اليمنى حفر وتقدمة الفنان جورج زيتون عن صحته وصحة زوجته
وذلك قبل البدء بالعمل.
يومها احضر ابي الكرتون كالعادة ورسم الطبعات وفرغها في البيت، وكان هذا ايضاً كمنبر الكنيس، لم يكن مجرد حفر بل ايضا نقش من النقوش الايوبية والمملوكية النادرة.
في اليوم التالي جاءاه واطلعا على الطبعات فأذهلتهما دقته، وكان معهما النجار ابو احمد الذي اندهش بدوره، ولم يجرؤ اي منهم على إجراء اي تعديل بل سلما الأمر برمته الى معلمية ” المعلم جورج” ولكنهما سألاه عن الاجرة فقال الوالد بأننا لن نختلف، واترك الامر لأبي احمد هو يحدد كونه النجار، لكن الأخير اعتذرعن تحديد اي سعرفأعطاهما سعراً تقريبياً لحفره، وانقص منها مبلغاً كبيراً لكونه خاص بجامع اي لبيت الله، شكراه ووعداه بالرد في الغد…
وهذا ماتم بموافقة وسرور…
عند انجاز العمل على التتابع، وكنت احياناً ارى العمل، وفعلاً كان الانجاز اكثر من رائع وكان رحمه الله يريني ماينتج وابتسامته تملأ وجهه الجميل، حاولت تقبيل يديه اللتين ابدعت النقش النادر بازاميل الحفر لكنه سحبهما وقبلني بقوله الله يرضى عليك…
عند انجاز كل العمل ذهبت معه الى الجامع، ومعنا النجار والمهندسان فقام بتتبيع العمل(8) وانجزه في موقعه، ووُدعونا على ان يتم السداد بيد النجار، وبكل اسف طالت المدة لأشهر كالعادة، لبينما استلمت لجنة الاستلام العمل ورفعت الموافقة والاستحسان، ثم جاء المهندسان والنجار ومحاسب الوزارة ولجنة الاستلام معاً الى دكان الوالد، وشكره الجميع وقال رئيس اللجنة:” يامعلم جورج كل هذا الابداع تم في هذا المشغل الصغير”، فأجابه النجار:” مو الضرب عالمشغل الضرب عالمعلمية والمعلم جورج مافي اخوه بالشام كلها”، فوافقه
طاولة لخدمات الاكليل والنياحة والعمادات شغل وتقدمة الفنان جورج لصحة والديه فارس واسما
الجميع، وعادوا لنغمة “المكارمة” والنجار كان خلسة يرفع حاجبيه للوالد كي لايرضى، سيما وانه كان قد اخبره ان اي قرش يتم تنزيله يذهب الى جيوب لجنة الاستلام كتعويض. فاعتذر الوالد وحاولوا معه بقولهم ان العمل هو لبيت الله فلفتهم الى انه هو من قال ذلك منذ اللقاء الأول، “ولأجل ذلك انزل المبلغ المرقوم من اجره مايوازي اجرة شغل عشرة ايام.” فاضطروا ان يدفعوا له مطلوبه، وهم متضايقون، لأنهم كانوا يمنون النفس بالتعويض.
وصارمنبر هذا الجامع مرجعاً لكل مهندسي وزارات الاوقاف والسياحة والثقافة وعمل الوالد على غراره ثلاثة منابر على ما اذكر، وفي كل مرة كان يقول “التوبةهي آخر مرة باشتغل فيها للجماعة قد مابيتأخروا ليدفعوا ومحاولات القرمطة المستمرة ككل لجان الفساد والرشوة…”
لقائه بالسائح الافرنسي
ضُحى احد الايام لم يجد والدي الا رجلاً متقدماً في العمر، يسلم عليه بالفرنسية “بون جور” فرد عليه الوالد بمثلها، كان خلالها هذا الشخص قد اعتلى برطاش الدكان ووقف في مكان ضيق،وكان سائحاً افرنسياً لفته منظر الدكان البائس وهذا الرجل الكهل العامل فيها واراد الاطلاع على مايعمل.
وبعد السؤال عن الصحة وعن العمل واجابه الوالد بما يعرفه من الرد باللغة الافرنسية التي اكتسبها منذ صغره في مدرسة الراهبات.
طاولة خدمات حفر وتقدمة الفنان جورج زيتون الى كنيسة الصليب المقدس عن الصحة
سكت السائح الذي كان بعمر الوالد تقريباً وبقي يتفرج على العمل وكان الوالد يشرب الشاي فقدم له كوباً استمتع بها السائح لأنها كانت خميرعلى الطريقة الشامية…
بقي يتفرج على الوالد بسكون وصمت حوالي الساعة، كان خلالها قد قدم له ايضاً كاسة من “الليمون الجامد” اللذيذة من محل ابو فاروق المجاور وقد استمتع بها السائح أكثر…
سأله السائح بعد كل هذا الصمت عن العمل، وكم له من الزمان فيه، وكم واحد يعمل معه بها…
وكان الوالد يجيب على كل الاسئلة بكل الشفافية، وعندما اجابه:” كنا اربعة نعمل بها ابي مؤسس العمل وشقيقي الأكبر نقولا، وابني الاصغر وجميعهم انتقلوا الى رحمة الله ولم يبق غيري…” وجواباً عن وضعه صحياً ان كان يعاني، اجابه الوالد بأنه مصاب بالقلب وربما بعد فترة يتوقف عن العمل فما كان من السائح الا ان امسك بكلتا يديه بيدي والدي بعنف ومحبة، وانكب عليهما مقبلاً بكل نهم واحترام وقال له بالفرنسية ماتعريبه:”حرام ان تموت هاتان اليدان” فما كان من ابي رحمة الله عليه الا ان سحب يديه بكل خجل وكما نقول في تعبيرنا الدارج “عبط” السائح وصاريقبله في وجهه ورأسه وهو يقول: “استغفر الله استغفر الله…له …له”
صورة النعش السيدي الأبيطافيون مطرزة حفر الفنان جورج زيتون منارة بالنور الكهرباء تقدمتي لراحة نفس شقيقي الشهيد مروان زيتون موضوعة فوق باب كنيسة الصليب المقدس الرئيس
ودعه السائح بكل احترام شاكراً اياه على حسن الضيافة، يومها روى لي الوالد ماجرى معه بقوله لي:” لك ابي هالسايح طيرلي عقلي بتواضعو واحترامو…”
اجبته بأنك انت المحترم يا ابي الله يطول عمرك وبعد هذه الحادثة بسنتين تقريباً انتقل الى رحمته تعالى…
خصاله
كان رحمه الله ربع القامة، جميل الوجه ابيض البشرة يشابه والدته، مفتول العضلات بحكم العمل.
اتصف بالتواضع والخجل والهدوء وطول البال والبعد عن المشاكل والمشاجرات، وكان يتصف بصفة حميدة وهي القاء التحية تقريباً على كل من ينظر اليه…
واحياناً يفاجئني ذلك خاصة ان عرفت انه لايعرفه، وطالما نظر ذاك في وجهه فلم لايسلم عليه؟
كما اسلفت فان طباعه الهادئة المسالمة جعلته محبوباً من الجميع.الجميع من معاصريه الذين هم من عمره من النجارين واستمرت حرفتهم عبر اولادهم كانوا ولازال اولادهم يحلفون بذكراه باجماعهم” رحمات الله عليك يا ابو يوسف على اخلاقك في التعامل مع الناس، وعلى فنك والله يرحم ايديك” واحدهم وهو صغير اليوماسمه مرزوق ششم ابن ابيه النجار المعروف جار الوالد في دخلة فرن الشاويش جرجي الششم قال لي معقباً على نشري قبل فترة لصورة عن عطائه الكنسي المحفورفي كنيسة الصليب: “انا مابنسى عرش المطران الضخم اللي عملناه لكنيسة حرستا وهو حفرو بايديه، شي بيطير العقل” وعندي شهادة من المعلم النجارالشهير السيد قيصر ديراني بحقه، وكم ترحم فيها عليه عندما أُسندت اليه مهمة تصنيع مقاعد جديدة في كنيسة الصليب
الابيطافيون حفر الفنان جورج زيتون للاطار وتقدمتي لراحة نفس الشهيد مروان زيتون شقيقي
المقدس(وهي الحالية) وتحتاج الى حفر صلبان على الجوانب مع دق الارضية رمل قال:” وينك يا معلم جورج زيتون الله يرحم دياتك هذه تحتاج الى فنه وحفر ايديه” ثم كررها امامي مؤخراً وقد ملأني فخراً، فوق ماانا عليه نحو ابي ابو يوسف الحبيب.
تمتع المعلم والحرفي الفنان جورج ابو يوسف بايمان مسيحي عميق وهادىء، مع الممارسة الدائمة للصلاة في الكنيسة، وكان يتمنى ان يكون كاهناً منذ نعومة اظفاره، ولكنه عوضها بطفولته وصبوته بالخدمة في الكنيسة، ثم بالترتيل في كنيسة الصليب وقبلها في كنيسة القديس انطونيوس في الحارة الضيقة بشارع مارسيل كرامة، وكان قد حباه الله بصوت رخيم ولا اروع. وكم كان يرتل بصوته العذب، او يغني لعبد الوهاب…
رحمات الله عليك ياوالدي الحبيب المسيح قام، وليكن ذكرك مؤبداً وهو بالتأكيد ذكرمخلد مؤبد لأنك في حضن يسوع الذي عشقته وقد ملأت كل دور العبادة من مخلدات يديك لتصعد الصلوات مع البخورلراحة نفسك وكل من انتمى اليك، الى خالقك الذي كنت على صورته ومثاله بالوداعة والمحبة والعفاف والسيرة المحمودة. وملأت الاوابد الوطنية من خالدات فنك لصالح وطنك السوري، وحبيبتك الشام، وما هذا العشق لسورية وللشام الذي ورثناه الا منك ومن امي التي ربتنا عليها.
(من المصادر التاريخية للبحث):
(1) خطط الشام الجزء الثالث( محمد كرعلي)
لوحة حفر للصلاة الربانية ابانا الذي في السموات…) حفر الفنان جورج زيتون وتقدمة شقيقي عبود لراحة نفس شقيقنا الاصغر الشهيد مروان موضوعة فوق باب الكنيسة الايمن من الداخل
(2) وكان الوقوع في الخطأ طبيعي ذاك الوقت وفق تسجيل النفوس بسبب المكتومية والتنقل الديموغرافي، فيلجأ مأمورو النفوس الى تقدير العمرتقديراً، وبعض مأموري النفوس كانوا يتلاعبون بذلك من اجل الجنديةمن اجل تقاضي الرشوات.
(3)(الوثائق البطريركية)
(4) الذبائح التلمودية ذبيحة البادري توما مقالنا في موقعنا هنا.
(5) وجدير ذكره فان حارة عين الشرش كانت فيها عين ماء تسمى عين الشرش، وتسمت ايضا ولا تزال تحمل عندنا نحن اصلاء القصاع تسمية “الفاعور”نسبة لتاجر بناء حمصي الأصل قام ببناء بيوت هذه الحارة وكلها عربية شعبية بسيطة متماثلة ( ولاتزال بعض البيوت كما بناها باقية في الحارة) وقام بتأجيرها الى العائلات الفقيرة منهم عائلتنا.
(6) “افتخر بك ياجدي الارمني” في موقعنا هنا.
(7) الاب ايوب سميا انظره في موقعنا هنا باب “اعلام ارثوذكسيون”
(8) “التتبيع” هي كلمة تعبر عن فعل جمع القطع المحفورة لتكون منجزة والقيام بترتيب حوافها لتكون كلها بروح واحدة.
لوحة تتضمن اربع ايقونات رسم زياتي للانجيليين الاربعة تقدمة السيد عيسى صالومي وزوجته باطار حفر فخم حفر الفنان جزرج زيتون موضوعة فوق باب الكنيسة الايسر من الداخل
حاملتا ايقونات من اربع حفر الفنان جورج زيتون قدمها محسنون الى كنيسة القديس كيرلس الكاثوليكية في القصاع بعدما شاهدوا الاصل في كنيسة الصليب
اربع حاملات ايقونات في كنيسة القديس كيرلس الكاثوليكية امام الهيكل قدمها محسنون حفر الفنان جورج زيتون بعدما شاهد المحسنون الانموذج الاصل في كنيسة الصليب المقدس الارثوذكسية
اليك ياشفيعي القديس يوسف الرامي واليكن ياحاملات الطيب…
يا ايها القديس المنسي وانت الاعظم من كل القديسين، لقد طلبت من بيلاطس ان يعطيك هذا الغريب لتؤويه، بعدما تركه الجميع…
وقد طلبت من بيلاطس الجسد الطاهربرجائك له:” اعطني هذا الغريب لأؤويه…”
هذا الغريب الذي لم يكن لديه مكاناً يؤويه او يسند اليه رأسه…
تنزيل المصلوب
نعم ياسيدي الرامي لقداضجعت الرب الغريب عن خطايانا، وعن جحودنا له المنزه عن الاثم بعدما قتله اليهود كفاعل اثم… نعم يا ايها الجريء الذي اعترفت بيسوع بعدما نكره الجميع وانزلت الجسد الطاهر من على صليبنا نحن الأثمة، واضجعته بيديك الطاهرتين في قبرك الجديد الذي كنت قد اشتريته لذاتك ففضلت عليها هذا الغريب ولسان حالك يقول ان من يدفن غريباً لا احد لديه ينال الاجر المزدوج…
“ان يوسف المتقي احدر جسدك الطاهرمن العود ولفه بالسباني النقية وحنطه بالطيب وجهزه واضجعه في قبر جديد”.
ايها الاحبة
في الأحد الثاني للفصح نعيد لقديس هو الاعظم يوسف الرامي الذي حمل يسوع جسداً مشوها، لا يقل اهمية عن يوسف الصديق الذي حمل يسوع طفلاً…وكلا اليوسفين يكاد يكون ذكرهما باهتاً لذا قامت كنيستنا الارثوذكسية بالتعييد ليوسف الرامي ولحاملات الطيب، حيث تضع الكنيسة الارثوذكسية أمامنا شخصيات هي من الأهمية بمكان حتى أنها ذُكرت في هذا التوقيت: يوسف الرامي وحاملات الطيب… الأول دخل إلى بيلاطس وطلب منه أن يعطيه جسد يسوع هذا الغريب بعد موته ليقوم بتجنيزه ودفنه بشكل لائق. أما النسوة الحاملات الطيب فذهبن إلى قبر يسوع بعد دفنه يحملن معهنّ الطيوب حسب العادة، وعندما وصلن إلى القبر وجدنه فارغاً وطلب إليهنّ الملاكُ أن يسرعن ويخبرن التلاميذ بالقيامة.
كأن المسيح قد غُلب وأن الموت والرفض والإهانة والكراهية قد انتصرت، هذه الشخصيات الانجيلية تحلّت بالأمانة والشجاعة: الأمانة من القلب والشجاعة المتولدة فقط من الحب…
في لحظة الصلب، كل التلاميذ هربوا عدا واحدٌ، وهو يوحنا الحبيب الذي وقف عند أقدام الصليب مع والدة الإله. الكل تخلّوا عن المسيح عدا مجموعة صغيرة من النسوة اللواتي وقفن على مسافة قصيرة من الصليب. وعندما مات يسوع أتين ليدهن جسده الذي قد طلبه من بيلاطس يوسفُ الرامي غير خائفٍ من أن يُعرفَ كتلميذٍ له، لأنه سواء في الحياة أو في الموت، المحبة والأمانة قد انتصرتا.
القديس يوسف الرامي
كان يوسف الرامي من الأغنياء و من بلدة الرامة وكان قد حفر لنفسه قبراً جديدا في اورشليم ولقد كان يوسف الرامى واحداً من الذين آمنوا بالمسيح وقد قام بطلب جسد يسوع من بيلاطس.
وقد اشترى الكفن من الكتان الغالي ليكفن به الجسد الطاهرفكفنه به، فأذن له بيلاطس بأن يأخذه فقام الرامي بإنزاله عن الصليب وبدفنه في قبر كان قد نحته لنفسه.
ولكن يبقى السؤال:
لمَ كل هذا التكريم؟ لماذا تقيم الكنيسة تذكاراً ليوسف الرامي وحاملات الطيب في هذه الفترة الخلاصية الهامة، وفي الأحد الثاني للفصح مباشرة؟ مالذي فعلوه ومالذي ميّزهم؟ قراءة متمعّنة في الأحداث تُظهر أن يوسف وحاملات الطيب قد برزوا في وقت غاب فيه الباقون، قد التصقوا بالسيد في الوقت الذي انفض عنه الجميع، وابتعدوا عنه، حتى تلاميذه اختبؤوا خائفين ومذهولين وحائرين بأن معلمهم قد مات…! نعم، إنها الجرأة التي نعيّد لها اليوم ومن أجلها نكرّم أصحاب الذكرى يوسف الرامي “تجرّأ ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع”. هذا الإنسان الذي كان “هو أيضاً منتظراً ملكوت الله” علماً أنه لم يكن إنساناً بسيطاً فقيراً، وإنما كان متنفّذاً وغنياً، يتشجّع ويتقدّم من بيلاطس، متحديّاً كل المخاطر، ومجاهراً بإيمانه في الوقت الذي غاب فيه صوت الإيمان، ويطلب جسد الرب لأنه أراد أن يكرّمه في دفنه بعد موته على الصليب… كذلك فعلت النساء، بجرأة يذهبن إلى القبر متجاوزات كل الصعوبات:
الخوف، الحراس، والحجر الكبير الذي على باب القبر.. هذه كلها لم تعد عائقاً. حبّهم للسيد وتعلّقهم به جعلهم يلحقون به إلى قبره. هنا تُعلن القيامة وينكشف مضمونها وعمقها ولاهوتها: “ليس هو ههنا لكنه قد قام”. من الآن لم يعد يسوع ميتاً، ولا هو إله أموات، وإنما هو حي وإله أحياء. من الآن لا تطلبوه بين القبور، ولا تبحثوا عنه في عالم مائت، وإنما ابحثوا عنه في حياتكم وفي قلوبكم. لقد قام ليُظهر أن الحب لا ينتهي بالموت خاصة إذا كان موجّهاً إلى سيد الحياة والموت. لقد قام ليعلن بداية جديدة…
والخوف أن نفهم، نحن المسيحيين، القيامةَ على أنها نهاية حياتنا، وعلى أنها الخاتمة التي سننتهي إليها. هذا مفهوم ناقص، لأنه في كثير من الأحيان ترتبط أواخر الأمور ببداياتها، وترتبط النتائج بالإنطلاقات. المسيحي ينطلق من القيامة وليس فقط يؤول إليها.
الملاك يقول للنسوة حاملات الطيب:” المسيح ليس هاهنا لقد قام اذهبن وبشرن تلاميذه”
القيامة بالنسبة لنا، ليست مجرّد الخاتمة والنهاية والمصير، وإنما هي المنطلق والبداية، هي بداية جديدة وزمن جديد وشخصية جديدة وتوبة جديدة وصفات جديدة تبدأ من هذه الحياة، يعيشها المؤمن ويبدأ بها كل مرة. إن لم تكن القيامة هي البداية لحياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا ومصالحاتنا فلا نتوقّعنّ أن تكون النهاية إلاّ مخيّبة للآمال. القيامة، البداية، الإنطلاق، تحتاج إلى جرأة، ولهذا نعيّد اليوم ليوسف الرامي وحاملات الطيب، هؤلاء حدّدوا هدفهم وانطلقوا نحوه بجرأة. نحن اليوم نعيش في ظروف تشابه إلى حدّ ما تلك الظروف التي عاش فيها يوسف وحاملات الطيب. نحن اليوم في عالم يُبعِد عنه يسوع، عالم يحتجز المسيح وكأنه يضعه في قبر، يبعد الناس عنه، عالم يريد أن يقنع البشر أن يسوع ميت، وأن رسالته قد انتهت، وتعاليمه لم تعد تعمل، ولم تعد تنفع. نحن في عالم يقنعنا أن الحجر الذي يغلق قبر المسيح كبيرٌ جداً لايمكن لأحد أن يزيحه، وبالتالي لا يمكن للمسيح أن يخرج ويساعدنا. نحن في عالم أصبح الناس فيه يتخلّون بسهولة عن دينهم وعن مسيحهم، يخجلون به، وما نشاهده من سلوكيات منافية للسلوك الكنسي تعطينا دليلاً وضاءًعن هذا التخلي. في هذا العالم الصعب والزمن الصعب، نحن بحاجة إلى جرأة كي نطلب المسيح. بعد موت يسوع وقيامته نحن بحاجة إلى رجال، ليس بمعنى الذكورية، ولكن الرجولة كموقف يتّخذه الإنسان، كل إنسان. الرجولة هي موقف، هي قرار، هي اختيار، هي جرأة كما فعل يوسف الرامي، أن نطلب جسد الرب وحياته وقيامته دائماً وفي كل الظروف. بهذا المعنى، إن كنا رجالاً، ننتقل مع حاملات الطيب إلى تطيّيب العالم كله.
من السهل أن نكون تلاميذ للمسيح عندما نكون على قمة الأمواج بمعنى عندما نكون في حماية بلدانٍ لا اضطهاد فيها، ولا رفض لنتحمله، ولا خيانة ممكن أن تقودنا إلى الاستشهاد أو أن نصبح ببساطة ضحايا للسخرية والاستهزاء.
دعونا نفكّر بأنفسنا ليس بالنسبة للمسيح فقط بل بالنسبة لبعضنا البعض، لأن المسيح قد قال أنه مهما فعلنا لبعضنا البعض وللأصغر والأقل أهمية نكون قد فعلناه له. دعونا نسأل أنفسنا كيف نتصرف تجاه شخص قد رُفض، قد استُهزئ به، قد رُفض من جماعته، قد أدين من الناس أو من أناسٍ يعنون لنا. هل نبقى أمناء له؟ وهل عندنا الشجاعة لنقول: هو كان وسيبقى صديقنا إن قبلتَه أو رفضتَه؟ ليست هناك من أمانةٍ أعظم من الأمانة والإخلاص التي تتجلى عند الهزيمة.
دعونا نعتبر ذلك، لأننا كلنا منهزمون بطريقة ما. لكننا نجاهد بما عندنا من طاقة صغيرة أو كبيرة، لنكون كما يجب أن نكون، ونحن منهزمون في كل لحظة.
يجب ألا ننظر إلى الآخر بعطفٍ فقط بل بأمانة الأصدقاء المستعدين للوقوف إلى جانب الشخص الذي يسقط، يسقط بعيداً عن النعمة، يسقط بعيداً عن مثاله، ويخيّب كل الآمال والتوقعات التي قد وضعناها عليه. حينئذٍ دعونا ندعمه ونقف إلى جانبه، دعونا نكون أمناء ونبرهن أن حبنا ليس مشروطاً بأمل النصر لكنه عطية قلبية مجانية عظيمة ومغبوطة من ربنا الناهض من القبر، والدائس بموته على الموت والمانح ايانا القيامة ونحن في القبور. المسيح قام.. حقاً قام
من صميمها استوحي ارق مافيها من معان، واسمى مافيها من مُثل…
بالرغم من قسوتها وفداحة ماتحملنا من خسائرها.
تؤرقني غصة باكية، وزفرة كاوية، وخاصة الطفولة المتألمة…
مأساة الطفولة المعذبة في سورية بنتيجة ذبح العالم لها ولشعبها
أعيش مآسي وطني ومجتمعي…وأنقل لروحي عصارة منها…
ابتلع دموعي… كما ابتلع دموع غيري…نعم ابتلع، وازدري الغصات…وأطوي في الضلوع آهاتي وآهات غيري…
انا انسان...
بكل محبتي اصرح بأن فيَّ بعضٌ من انسنة الله التي زرعها فينا نحن جبلته… نعم فيَّ بعضٌ من انسان الله، بعض من ترف عاطفة نحو الغير، ورقة شعور، وصدق احساس، واختلاجة ضمير…بكل مافيَّ من معطيات الخير والجمال كما اراد الله فأعطاني…
ارفض الضيم واكره الظلم على غيري فكيف ان كانت علي؟
اهاجم المظالم والتسيب في الوطن والكنيسة والمجتمع…واجهر بالصوت مدوياً في زمن صار فيه النفاق والرياء هو الدواء…
اعيش نوازع نفسي الخيرة مع كل مخلوق اشعر انه يتعذب وأبكي لأجله دون خجل واندفع لمسح الدموع من مآقيه ولو على حسابي، واساعد بكل ما اوتيت… وخاصة الفقير والمحروم والمظلوم والطفل المكلوم…
انا المحب بكل جوارحي والنقي في محبتي بالرغم من كل ماعلى كاهلي من خطايا…
اتوق لأن تمتد ريشتي الى الأفق…
لأخرج الألوان الصافية، لأحدى مآسي الحياة…
عناق حتى الموت …
واسكب عصارة قلمي وفؤادي كأنها ندى من السماء أو ذوب أفئدة النجوم….
اجمل عطاءاتي هو المحبة… وهوعطاء قلبي…
” لاتظهرن بعد المحبة بغضاً…………..ان المحبة تكره البغضاء”
كل عطاءاتي ماعدا عطاء قلبي تذروها الرياح ولا فضل ولا منة، الا عطاء القلب لأنه من قلبي المحب للجميع…
وأجمل مرؤاتي … هي تلك التي تنصب على من لايملك القدرة للتعبير عن شعور الامتنان…
هو البر اعتقد… لغاية البر وحده بلا مقابل او امتنان ولسان حالي مع الآخرين…
” الصديق البر خمر كلما…………..عُتقت لذا لذ لنا شرابها”
( ابن سيراخ 15:19)
راقدًا على ساق أبيه بعد إصابته برصاصة أودت بحياته “أيقونة انتفاضة الأقصى”.. الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذى هز مشهداستشهادهفي حضن أبيه ضمير العالم كله …
أسئلة في الليتورجيا في الكنيسة الرومية الارثوذكسية…
ماذا تعني كلمة بوليئالاون؟ تعني: ” ذو الرحمات الكثيرة”.
ماذا تعني كلمة كاطافاسيات؟ تعني: “عبوريات”.
ماذا تعني كلمة الافخارستيا؟ تعني “الشكر” او “سر المناولة المقدسة”.
ماذا تسمى القطع التي تتضمن انجيل السحر في أيام الآحاد؟ تعني: “الاكسابستلاري والايوثينا”.
ماهو الافخولوجي؟ هو “كتاب خدمة الكاهن”.
المجمع الانطاكي المقدس في البلمند
متى يقع سبت الاموات؟ يقع في السبت قبل مرفع اللحم، والسبت قبل العنصرة.
ماهي الانديفونة الاولى؟ هي القطعة الاولى في القداس الالهي: “بشفاعات والدة الاله يامخلص خلصنا”.
ماهو الانديمنسي؟ هو قطعة من الكتان لاقامة القداس الالهي عليها وتعني المائدة المقدسة وتحمل اسم البطريرك وتوقيعه وتاريخ بطريركيته. ولاتقام الذبيحة الالهية الا عليها.
ماهو التسبيح الشاروبيمي في قداس البروجيازمينا او السابق تقديسه؟ هو الذي مطلعه:”الآن قوات السماوات يخدمون معنا…”
ماذا يحتوي كتاب الأكطويخس او المعزي؟ هو “كتاب قطع الالحان الثمانية”.
ماهو الاحد الرابع بعد الفصح؟ هو “احد المخلع”.
من هو القديس الذي نعيد له في 29 شباط؟ هو القديس كاسيانوس.
ماذا يُقصد بأخذ الكيرون؟ هي خدمة صغيرة من الكاهن يتم فيها السجود للايقونات.
اسم قديس يسمى باللاهوتي:”غريغوريوس- يوحنا – سمعان”.
الى ماذا يرمز الانجيل والشمعة في الدورة الصغرى في القداس الالهي: يرمزان :الانجيل ليسوع والشمعة ليوحنا المعمدان.
مالمقصود بالايصودون؟ “الدخول”.
من هو كاتب القانون الكبير؟ هو اندراوس الدمشقي او الكريتي.
ماهي الانكسنداريا؟ هي القطعة الأخيرة من مزمور الغروب.
سعيد بن البطريق، هو البطريرك السابع والاربعون من البطاركة الارثوذكسيين على كرسي الاسكندرية، ومن اطباء مصر ومؤرخيها المشهورين.
ولد في فسطاط مصر(القاهرة) في 8 ايلول السنة 877مسيحية من والد مصري، وكان ابوه مستخدما “فراشاً” في ديوان الحكومة العربية الاسلامية، وفي اول سنة من خلافة القاهر صُّيِّرَ بطريركا على الاسكندرية، وسمي باليونانية افتيخيوس وذلك في 7 شباط سنة 933مسيحية، وكان له من العمر نحو ستين سنة، وبقي على الكرسي البطريركي الاسكندري ورئاسة كنيسة الاسكندرية سبع سنوات ونصف.
شعار بطريركية الاسكندرية للروم الارثوذكس
اعتلت صحته في الفسطاط فتوجه الى مقره البطريركي في الاسكندرية وأقام به مدة عليلاً ومات في 12 ايار سنة 940مسيحية.
هذه هي خلاصة ترجمة حياته، ومن الواجب الوقوف عليها لنستخلص من تحليلها ودراستها مايفيدنا ويساعدنا لمعرفة مكانة سعيد بن البطريق، ومنزلته العالية وشخصيته البارزة في خدمة الكنيسة الأرثوذكسية، وخدمة مهنة الطب، ونشأة التاريخ العام، ووضع اصول علم اللاهوت باللغة العربية.
بطاقته الشخصية
سعيد ابن بطريق ، أو ابن البطريق، وبحذف الألف من كلمة ابن ليستقيم المعنى في اللغة العربية، فيكون الاسم الصحيح سعيد بن البطريق، أو بن بطريق.
اما كلمة بطريق في كتب اللغة، دخيلة، اي غريبة، وهي مأخوذة من كلمة أب اليونانية، وتطلق على أعضاء العائلات الأصيلة التي كان أشراف الرومان مؤلفين منها، وسلالتهم بالولادة أوالتبني، وكانوا في أول الأمر مقسومين الى اسباط مختلفة الاسماء .
وقد جاءت ايضاً الكلمة بمعنى الوجيه والقائد والحاكم. ولكن كلمة (بطريق) هنا لا تدل على شيء من ذلك، ونرجح انها اسم والد سعيد، إذ لم يكن ابوه قائداً او حاكماً، بل كان مستخدماً بمعنى (الفَّراش في التعبير المصري) او (الآذن في تعبيرنا الشامي) في ديوان الحكومة العربية الاسلامية في مصر بالفسطاط( القاهرة)(1)
ولتدعيم وجهة النظر هذه ” نرجع الى شهادة واضحة لا تقبل الجدل والتأويل، وهي شهادة المؤرخ المسعودي من مواطني سعيد ومعاصريه، حينما يقول:”بأنه راى في الفسطاط بمصر تاريخاً( مخطوطا) للملوك والأنبياء والبلدان وغير ذلك وهذا هو كتاب:”سعيد بن البطريق، المعروف بإبن الفراش المصري بطريرك كرسي مار مرقص” اي القديس مرقس مؤسس كنيسة الاسكندرية.(2)
ويظهر ان وظيفة الفراش كانت في ذلك الوقت، وظيفة لابأس بها في دواوين الحكومات العربية، وكانت كلمة الفراشين مسموعة، وطلباتهم محترمة مستجابة من رؤسائهم، وعندنا على ذلك شواهد وبراهين قوية نقتبسها من نفس تاريخ سعيد بن البطريق:”وكان لعبد الملك ابن مروان فراشون نصارى ملكيون (اي خلقيدونيون ارثوذكسيون) فاستأذنوه في بناء كنيسة القديس جاورجيوس بحلوان، وهي كنيسة صغيرة كانت تسمى “كنيسة الفراشين”.
كنيسة القديس جاورجيوس في مصر القديمة
ومعلوم ان كنيسة الروم الارثوذكس اليوم في حلوان هي على اسم القديس اسبريدون العجائبي، وفي محل آخرنقرأ: “وكان مع المأمون فراشون نصارى، فبعُدتْ عليهم الكنائس التي في القصر، فاستأذنوا المأمون في بناء كنيسة يصلون فيها تكون بالقرب من قبة الهواء. فأذن لهم بذلك، فبنوا حينئذ كنيسة وسموها “مرتمريم” أو “القديسة مريم” التي في القنطرة المعروفة اليوم بكنيسة الروم، وكانت تسمى قبل ذلك “بكنيسة الفراشين”.
الفسطاط مكان مولده
ولد علمنا او سعيد بن البطريق الفراش المصري في الفسطاط ( القاهرة). وهي اول مدينة للعرب المسلمين في مصر، بناها القائد عمرو بن العاص فاتح مصر السنة 640 او 641 مسيحية على بقعة ارض واقعة بين القاهرة اليوم (لأن القاهرة لم تكن قد بنيت بعد وقتها) ومصر العتيقة او القديمة، ومن بقاياها اليوم جامع عمرو بن العاص، والأطلال والخرائب التي تمتد حتى جبل المقطم. وكان ذلك المكان معسكراً لجيش المسلمين، ولما جاؤا لفتح حصن بابليون، وهو المعروف اليوم بدير النصارى، او دير القديس جاورجيوس بمصر العتيقة. فلما فتحوه عزموا على فتح الاسكندرية، فأمر عمرو بنزع فسطاطه اي خيمته، فإذا فيه يمام قد فَّرخ. فأخبروا عمرو بذلك فأمرهم ان يتركوا فسطاطه على ماهو عليه، واوصى به من بقي هناك للمحافظة على الفسطاط (الخيمة) وعش اليمام. ولما رجع وحاشيته بعد فتح الاسكندرية، رأى فسطاطه منصوباً وفيه الطيور. فنزل فيه وجعل تلك الخيمة مركزاً لمعسكره، ودعاه ب”الفسطاط”، ثم انضمت قبائل المسلمين الوافدة مع الجيش بعضها الى بعض، وأخذت في بناء البيوت والمعسكرات للسكن، فاختط عمرو مدينة شمالي الحصن، دعاها “الفسطاط” فيها نحو عشرين حارة، ثم أخذت مدينة الفسطاط تتوسع وتزداد جمالاً حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه، وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال. وذكر بعض مؤرخي المسلمين من مقدار عمارتها انه كان فيها 36000 جامع و8000 شارع مسلوك و1170 حماماً، وةقد يكون هذا مبالغاً فيه، ولكنه يدل على عظمة وعمران الفسطاط.
الفسطاط
واشتهرت ايضاً مدينة الفسطاط بكثرة كنائسها ومعابدها، ولم يبق منها اليوم الا القليل، ومن اشهرها دير القديس جاورجيوس للروم الارثوذكس.
وكثيراً ما كان الحكام المحبون للعدل يساعدون على ترميم الكنائس أو إعادة بنائها وأحياناً يساعدون في النفقات بما يمنحونه من بيت المال – او من خزينة الحكومة- فكان المسيحيون يسرعون في تنفيذ الترميم واعادة البناء، ويستعملون بقايا الانقاض السابقة في إعادة الإعمار، ولذلك نرى في الكنائس القديمة القائمة للآن أخشاباً وحجارة وادوات غير متجانسة مع بعضها البعض، ومن عصور مختلفة.
في مدينة الفسطاط الشهيرة بأبنيتها الاسلامية وكنائسها وبقية آثارها، شاهد علمنا سعيد بن البطريق الفراش المصري نور الحياة، وذلك في 7 ايلول السنة 877 مسيحية، وبين اسوارها عاش وترعرع، وفي مدارسها سمع دروسه الابتدائية والعالية ومنها تخرج طبيباً، وكان ولوعاً بمطالعة كتب التاريخ وانكب على دراسة العلوم اللاهوتية، فأصبح من الأطباء الماهرين، والمؤرخين المحترمين واللاهوتيين القادرين.
وعلاوة على ذلك فإن مدينة الفسطاط، التي اشتهر أمرها بمثل هذه الابهة والعمران، فإنها كانت عامرة ومجملة بمدارسها. ومعلوم من التاريخ أن كل مسجد وجامع في ذلك الوقت كان عبارة عن مدرسة ومكتبة ومقبرة معاً.
ففي السنة 872 مسيحية أي قبل ميلاد سعيد بن البطريق بخمس سنوات، أنشأ ابن طولون في الفسطاط بيمارستان عرف باسمه، وأنفق على بنائه 6000 دينار، واشترط ان لا يعالج فيه جندي او مملوك، بل العامة من المرضى والمجانين وغيرهم، وحبس عليه ريعاً يضمن بقاءه، وكان يتعهده بنفسه كل يوم جمعة حتى ساءه احد المجانين بتصرف ارعن، فقطع الزيارة.
و(البيمارستان او المارستان، والمرستان الى عهد قريب)، هو لفظ فارسي معناه “مكان المرضى” كما كانت “خستخانة” او “الاستخانة” في العهد التركي، ويقابل هذه التسميات بالعربية المستشفى، وهي ادق من تسمية المشفى ، ولكن المارستان او البيمارستان، كان في فترة التمدن الاسلامي يشمل مدارس الطب والمستشفيات معاً وكان الاطباء يعلمون فيها الطب، والعرب المسلمين اخذوا نظام المارستانات وترتيبها عن الفرس.
اما الطب في عصر الدولة العربية الاسلامية، فهو خلاصة مابلغ اليه علم الطب عند الأمم المتمدنة قبل الاسلام، لأن العرب المسلمين نقلوا الى العربية كتب ابقراط وجالينوس وغيرهما من أطباء اليونان وخلطوا في هذا الطب بما وجدوه عند الروم البيزنطيين والسريان والكلدان والآشوريين والصابئة والهنود وسواهم وزادوا عليه من عندياتهم بعض الشيء. وكان للاطباء عندهم نظام، وعليهم رئيس – عميد الطب – كان يمنحهم ويسلم الشهادة (الدبلوم) لمن يرى فيه الكفاءة للتطبيب.
على ان التعليم لم يكن خاصاً بالمساجد والمارستانات فكثيراً ماكان الناس ينشؤون حلقات التدريس في المنازل والمجتمعات الخاصة. وكان الأغنياء من القوم، اذا ارادوا تعليم اولادهم، احضروا لهم المدرسين الأكفاء الى منازلهم، ففي مثل هذه المدارس، من عامة الى خاصة، سمع علمنا سعيد دروسه العربية الابتدائية، فعلومه العالية، ولا سيما الطبية منها، وبعد أن اجتاز امتحانه فيها بنجاح أحرز الشهادة التي تخوله بممارسة مهنة الطب.
وكان سعيد بن البطريق قديراً في العلوم اللاهوتية، ومما لاشك فيه انه قرأها على مدَّرسين أخصائيين من الاكليروس في منزله، او في كليات الأديرة والكنائس المنتشرة في مدينته الفسطاط. وهذه الاديرة والكنائس شأنها شأن المساجد الاسلامية كانت حافلة بمكتباتها الثمينة، ونرى اليوم بقايا تلك المكتبات في الكثير من الكنائس في سورية وسائر بلاد الشام والعراق ومصر، كما اننا نشاهد قسماً كبيراً من كتب مكتبات الشرق القديمة تزين رفوف وخزائن مكتبة الفاتيكان الشهيرة في حاضرة الفاتيكان بروما. ولهذه المكتبة قصة جديرة بالبحث والاهتمام، مقرونة باسم العلامة الشهير في عالم المطبوعات يوسف السمعاني (1687-1768).
ولعلمنا سعيد المام ببعض اللغات المستخدمة إذ ذاك في مصر، ونعني بذلك اللغات الديموطيقية والقبطية واليونانية، وكان ولا شك يستعين بها في ابحاثه التاريخية واللاهوتية. ومعلوم ما للغة اليونانية من الشهرة في الدروس اليونانية على انواعها حتى في الكنيسة القبطية والسريانية فهي متجذرة منذ الترجمة السبعينية للتوراة في القرن الاول قبل المسيح وتمت في الاسكندرية، كما ان الانجيل المقدس كتب باليونانية وتمت البشرى والبشارة بهذه اللغة وان كان العالم رومانيا وقتها. ومجموع تلك الدروس تعطينا فكرة عامة عن علم اللاهوت في المسيحية، وهو علم الفقه في الاسلام.
ويجدر بنا ان نشير الى الزمن الذي عاش ونبغ فيه علمنا، كانت مصر في اواخر القرن التاسع حتى النصف الول من القرن العاشر مسرحاً للثورات السياسية العنيفة، أصاب الكنيسة الكثير منها، لاسيما في ايام الدولة الطولونية من سنة 870 الى 905مسيحية ولما انهارت دعائمها، قامت على انقاضها الدولة العباسية للمرة الثانية من سنة 905 الى سنة 934 مسيحية فتبعتها الدولة الاخشيدية ( 934-968).
في هذا الزمن كان الاستقرار مضطرباً، مما ادى الى ارتباك في البلاد، وادى الى زوال الكثير من الابرشيات والمعاهد اللاهوتية الارثوذكسية!!!.
وبين طيات” نظم الجوهر” وهو من اهم كتب سعيد بن البطريق اخبار كثيرة في تاريخ الكرسي الانطاكي المقدس منذ تأسيسه لغاية الربع الأول من القرن التاسع المسيحي.
معاصرو ابن البطريق
من معاصريه من مشاهري المسلمين والاقباط الذين نبغوا في العلم والتفكير والكتابة: الطبري الفقيه الشافعي صاحب التاريخ المشهور، وقد ابتدأ فيه من اول الزمان الى آخر السنة 915 مسيحية.
والرازي الطبيب المشهور، مؤلف كتاب الحاوي وقد طبعت ترجمته في براشيا سنة 1486مسيحية، والفارابي الفيلسوف، في رواية عبد الرحمن القرطي الأندلسي.
والمسعودي صاحب التصانيف التاريخية، وابن نباتة الخطيب، ومن مؤلفاته خطبته المعروفة بالمنامية، وبديع الزمان الهمذاني، صاحب المقامات والرسائل الرائعة، وابن سهل النحوي مصنف كتاب الأصول والاشتياق والشعر والشعراء والرياح والهواء والنار وسواها، وابو الطيب المتنبي الشاعر المجيد، وابو المكارم من أفاضل القبط ومؤرخيهم ، والأنبا ساويرس اسقف الأشمونيين، ومؤلف ومعرب الكتب القبطية واليونانية لفائدة ابناء طائفته القبط، ولا سيما سكان الفسطاط، الذين اهملوا لغتهم القبطية بسبب اشتغالهم بدواوين الحكومة الاسلامية وسواهم مثل النحاس النحوي والشاعر النامي وابن دريد والجرجاني والأزهري وأبو علي الفارسي والسيراني النحوي.
غير ان علمنا سعيد بن البطريق قد امتاز عليهم جميعاً، لأنه جمع في شخصيته البارزة مهنة الطب، ومعرفة التاريخ العام والتفوق في الفلسفة واللاهوت، وله في ذلك مؤلفات ثمينة جديرة بالرجوع اليها مع مافيها من الأغلاط اللغوية والتاريخية والمبالغات والعيوب مع الاشارة الى ان أكثرها يعزى الى تحريف النساخ على مر الأيام.
ترك لنا سعيد بن البطريق خمسة كتب او أكثر في مختلف المواضيع: كتاباً في الطب- كناشة – وهو مجموعة شاملة لشؤون طبية، وكتاباً في محاورة بين المخالف والنصراني، وكتاباً لمعرفة صوم المسيحيين وفطرهم وتواريخهم وأعيادهم، وكتاب “نظم الجوهر” أو “التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق في معرفة التواريخ من عهد آدم الى سني الهجرة”، وهذا الكتاب الى ايام المؤلف من أهم مخلفات سعيد بن البطريق الكتابية وهو تاريخ ” مختصر مفيد… في معرفة التواريخ الكلية من خلق العالم الى ايام المؤلف وذلك على ممر الشهور والدهور والأعوام كتبه الى أخيه المسمى عيسى ليستعني بمعرفته عن السؤال، والتواريخ الكيانية وقد جمعه من الايجاز والتقريب من التوراة والانجيل وباقي الكتب القديمة والحديثة”.
هذا رأي سعيد بن البطريق بالحرف الواحد في كتابه “نظم الجوهر” وقد اهتم كثيرون في نشره بالطبع، وترجمته والتعليق عليه بحواشٍ كثير ماغمض من محتوياته المختلفة وما اندس فيه من الأمور المغايرة للحقيقة والتاريخ. ففي سنة 1658-1659 قام بطبعه وترجمته الى اللاتينية كل من المستشرقين يوحنا سلدينسوس وادوارد بوكوك وذلك في مدينة اوكسفورد. اما الترجمة اللاتينية مع مقدمات وحواشٍ فهي مدونة في مجموعة الآباء لميشيل مين مجلد رقم 111.
ولدينا من هذا التاريخ العام طبعة ثانية بالمتن العربي تحت عنوان” التاريخ المجموع” ومعه تاريخ الذيل ليحي بن سعيد الانطاكي، وهو ملحق لنفس التاريخ ، يفصل فيه مؤلفه الأخبار التي حدثت بعد وفاة ابن البطريق من سنة 940م الى سنة 1033م وقد طبع هذا السفر القيم في بيروت سنة 1905 و1909 في جزئين بمعرفة ومراجعة الاب لويس شيخو اليسوعي، وب. كارا دي فو، وحبيب الزيات على نفقة الجمعية المشرقية في باريس ولهذا التاريخ طبعة ثانية بترجمة افرنسية في مجموعة الآباء الشرقيين بمعرفة كراتكوفسكي وفاسيلييف، كما طبعت من مقتبسات مع ترجمات روسية وافرنسية، أكثرها في تاريخ البلغاريين والروسيين وحروب الفرنجة كما جاءت في هذا التاريخ، ونشره باليونانية الدكتور نجيب ميخائيل ساعاتي مدير الدراسات اليونانية في بطريركية الاسكندرية للروم الارثوذكس ضَّمَّنه ماوجده من الأخبار والحوادث المتعلقة بتاريخ كنيستي اورشليم والاسكندرية، وذلك احياء لذكرى مؤلفه سعيد بن البطريق.
الخاتمة
هذه صورة مصغرة لشخصية مصرية عظيمة نبغت في القرن العاشرالمسيحي. ومصنفات سعيد بن البطريق على قدمها من حيث الزمن يجب ان تكون مرجعاً لجميع الباحثين في شؤون المشرق المسيحية والاسلامية، ومن الواجب على كل اديب وبحاثة ان يراجع تاريخه مراراً وتكراراً، لا لكي يستفيد مما حوى من التفاصيل المجهولة والمباحث القيمة، بل لأنها ثروة لاتقدر في تراث البحث التاريخي في لغة عربية وفكر عربي لابأس فيهما.
سعيد بن البطريق شخصية ممتازة في التفكير العربي، وذهن عظيم متفنن، سبق العرب بأجيال كثيرة الى وضع مبادىء التاريخ العام، ولسوء الحظ لم ينتبه ابناء جيلنا الى مؤلفاته وتحليلها والانتفاع منها.
ان مؤرخي العرب الذين أتوا بعده، قد اخذوا منه الشيء الكثير مع بعض الاضافة والحذف، وقد ثبت لدينا بالمقارنة والمطالعة.
فهل يكشف لنا الزمن يوما عن مثوى رفاته، وربما يكون ذلك حول كنيسة مارسابا في الاسكندرية، على الارجح، فيغدو قبره اثراً محتوما يحج اليه المعجبون برائع فكره وخالد آثاره، وجليل خدماته للتاريخ المسيحي المصري والتاريخ العام.
الحواشي
(1) د. نجيب ساعاتي مجلة النعمة العدد 3تشرين الثاني 1960
– ما هو المطهر؟ – من يعترف ويؤمن به ؟ – ما هي عقيدة المطهر؟ – كيف ندحض هذا التفكير الخاطئ ؟ ما هو المطهر
المطهر حالة تمرّ فيها أنفسُ الموتى في مرحلة تطهير. إنّها الفرصة الأخيرة التي يمنحها الله للبشر لينضمّوا في شِركةٍ كاملة معه. فالمطهر إذًا هو الاهتداء الأخير بعد الموت. التعريف بعقيدة المطهر
عقيدة المطهر من العقائد التي اختلف فيها المسيحيون، فآمنت بها الكنيسة الكاثوليكية ورفضتها الكنائس الأرثوذكس والانجيلية، وهي في الكنيسة الكاثوليكية قضية إيمانية تلفت نظر المؤمن بها
وتدعوه للتفكير في مسؤوليته عن أفعاله في الحياة وما بعد الموت، والتعريف بهذه العقيدة إنما يتحقق بتحديد مفهومها ونشأتها وأدلتها.
مفهوم المطهر
تعني عقيدة المطهرعند الكاثوليك الاعتقاد بوجود مكان ثالث، لا هو السماء، ولا هو جهنم، تذهب إليه أرواح الموتى الذين فعلوا شراً، واقترفوا هفوات وخطايا لم يتطهروا منها في حياتهم الدنيا تطهيرا كاملا، ولم تمتلئ نفوسهم من محبة الله كلياً ولم يصلوا إلى شراكته الحقيقية ولم ينالوا القداسة الضرورية لدخول السماء مع القديسين، ولكي يتطهروا من كل ذلك فإنهم يتطهرون في المطهر بنار مطهرة مقدسة، وبعد انتهاء مدة تطهرهم يدخلون السماء مع يسوع والقديسين، وعلى الأحياء مساعدة هؤلاء الموتى لتجاوز مدة المطهر بأسرع وقت بتقديم أفعال الخير لهم كالصلوات والغفرانات والذبائح في الاحتفالات الإفخارستية. ومما تضمنه تعليم الكنيسة الكاثوليكية التالي
– الّذين يموتون في نعمة الله وصداقته، ولم يتطهروا بعد تطهيراً كاملاً، وان كانوا على ثقة من خلاصهم الأبدي، يخضعون من بعد موتهم لتطهير، يحصلون به على القداسة الضرورية لدخول فرح السماء.
– يجب ان يمد الاحياء يد العون للراقدين لهم العون وذكرهم، “إن كان أبناء أيوب قد تطهروا بذبيحة أبيهم، لِمَ نشك بأن تقدماتنا لأجل الراقدين تجلب لهم بعض التعزية؟ فلا نتردد إذن في مساعدة الذين رحلوا وتقدمة صلوات لأجلهم.
– ثمة مكان للتنقية، والأنفس الموجودة هناك تؤازرها صلاة المؤمنين، ولا سيما ذبيحة الهيكل المرضية لدى الله.
متى تم إعلان عقيدة المطهر في الكنيسة الكاثوليكية
قررت الكنيسة الكاثوليكية الإيمان بعقيدة المطهر بعد أن تم تحديد معناها في المجامع الكاثوليكية التالية
مجمع ليون الثاني
وهو المجمع المسكوني الكاثوليكي الرابع عشر، حيث قرر في جلسته الرابعة والمنعقدة يوم 6/ حزيران/ 1274 في قضية مصير الموتى مايلي:” لئن ماتوا في البرارة بعد توبة حقيقية، وقبل القيام بالتكفيرالمثمرعما اقترفوه وأهملوه، فنفوسهم تُطهَّر بعد الموت بعقوبات مطَّهِرة ومبرِرة، وفي سبيل تخفيف هذه العقوبات، تنفع شفاعات المؤمنين الأحياء، أي ذبيحة القداس والصلوات والصدقات وأعمال البر الأخرى التي اعتاد المؤمنون أن يعملوها لمؤمنين آخرين بحسب أنظمة الكنيسة، في شأن نفوس الذين بعد نيلهم المعمودية المقدسة لم يقترفوا أي خطيئة، والذين أيضا بعد اقترافهم الخطيئة تطهروا، سواء كانوا بعد في الجسد أو تعروا منه فنفوسهم تقبل حالا في السماء، في شأن الذين يموتون في حال الخطيئة المميتة أو مع الخطيئة الأصلية وحدها فنفوسهم تنحدر حالا إلى جهنم حيث تنال عقوبات غير متساوية.
مجمع فلورنسا
وهو المجمع المسكوني الكاثوليكي السابع عشر ، حيث قرر في جلسته المنعقدة يوم 6/ تموز / 1439 في قضية مصير الموتى مايلي: “كذلك إذا كان الذين يتوبون توبة صحيحة، يموتون في محبة الله، قبل التكفير عن خطاياهم التي اقترفوها بالفعل أو بالإهمال بثمار جديرة بتوبتهم، فإن نفوسهم تتطهر بعد موتهم بآلام تطهيرية، ولكي يتخلصوا من مثل هذه الآلام، تفيدهم معونات المؤمنين الأحياء من قداسات وصلوات وصدقات وأعمال تقوى أخرى، يقوم بها عادة المؤمنون من أجل مؤمنين آخرين بحسب قرارات الكنيسة، وتقوى الذين بعد تقبلهم المعمودية لم يتلطخوا قط بالخطيئة، وكذلك نفوس الذين بعد تلطخهم بالخطيئة، سواء كانوا بعد في أجسادهم أو تعروا منها تطهروا على ما سبق القول ، هذه النفوس تقبل حالا في السماء وتشاهد الله الثالوث والواحد في ذاته كما هو مشاهدة واضحة ولكن على درجات وفق استحقاق كل منها، أما نفوس الذين يموتون في حال الخطيئة المميتة، أو الخطيئة الأصلية فقط فإنها تنحدر حالا إلى الجحيم ولكنها تعاقب بعقوبات غير متساوية.
المجمع التريدنتيني
وهو المجمع المسكوني الكاثوليكي التاسع عشر، حيث قرر في جلسته الخامسة والعشرين والمنعقدة يوم 3/ كانون الأول / ٙ1563 في مرسوم في المطهر مايلي: “الكنيسة الكاثوليكية وبوحي من الروح القدس، وانطلاقا من الكتاب المقدس، وتقليد الآباء القديم علّمت في المجامع المقدسة، وأخيراً في هذا المجمع المسكوني أنه يوجد مطهر، وأن النفوس المقيمة فيه تجد عونا لذا في أعمال بر المؤمنين، ولا سيما ذبيحة الهيكل التي تجد عند الله رضاً خاصاً ، والمجمع المقدس يطلب من الأساقفة أن يبذوا قصارى جهدهم، لجعل عقيدة المطهر السليمة التي نقلها الآباء القديسون، والمجامع المقدسة، موضوع إيمان المؤمنين يحفظونها وتكون منتشرة ومعلنة في كل مكان.
المجمع الفاتيكاني الثاني
وهو المجمع المسكوني الكاثوليكي الحادي والعشرون، حيث قرر في جلسته الخامسة والمنعقدة يوم 21 / تشرين الثاني / 1964 مايلي:
“قد أحاطت ذكر الأموات منذ الأزمنة المسيحية الأولى بكثير من التقوى، إذ قربت أيضاً لأجلهم قرابين العبادة لأن فكرة الصلاة لأجل الأموات ليُحلوا من خطاياهم فكرة مقدسة تقوية … إن الإيمان الخليق بالاحترام إيمان آبائنا بشركة الحياة بيننا وبين إخوتنا الذين بلغوا المجد السماوي، أو لم يزالوا في مرحلة التطهير بعد الموت، يتلقاه المجمع المقدس ببالغ التقوى.
ما اسباب رفض الكنيستين الأرثوذكسية والبروتستانتية لعقيدة المطهر
– الكنيسة الأرثوذكسية لا تقبل بعقيدة المطهر التي أعلنها الفاتيكان عبر مجامعه التالية للإنشقاق بين روما والبطريركيات الشرقية عام 1054 ، وترفض بشكل قاطع اعتمادها “كعقيدة مُلزٍمة” ، حيث أنها لا تجد الأدلة الكافية والواضحة عليها في التقليدين الرسولي والآبائي، وهي من أسرار الله الغامضة عن البشر والتي لا يجوز تصورها وتصويرها بالشكل المادي الذي هي عليه هذه العقيدة.
– ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن موضوع “المطهر ” هو من إفرازات – نتائج – اللاهوت السكولاستيكي، الذي يسعى لإيجاد معانٍ لأسرار الإيمان عبر المنطق والعقل، وهذا ما يعترف به الأب الدكتور أغسطينوس موريس من الكنيسة القبطية الكاثوليكية.
في المنشور العقائدي للبابا بنديكتوس الثاني عشر 1336 جاء ” إن نفوس الأبرار الطاهرة تماماً تذهب إلى السماء فوراً بعد موتها وذلك قبل قيامة الجسد والدينونة العامة … بينما النفوس التي هي في حالة الخطيئة المميتة تذهب حالاً بعد موتها إلى الجحيم حيث تقاسي عذاباً أبدياً “ ، وجاء في نصوص مجمع تريدنت ” إن الذين يخرجون من هذه الحياة وهم نادمون حقاً وفي محبة الله، ولكن قبل أن يكفّروا عن خطاياهم في أعمال توبة كاملة، تتطهّر نفوسهم بعد الموت بعقوبات مطهّرة “. وجاء في مجمعي ليون وفلورنسا: “ إن التائبين الذين ماتوا بعد أن غُفِرت خطاياهم يجب عليهم أن يؤدّوا في الحياة الأخرى ما تبقى عليهم من التعويض المفروض.”
لا سبيل لمعرفة مدة التكفير هذه، فلكلّ نفسِ حسب ما ارتكبت، ويرى مجمع تريدنت أنه: “في المطهر تُغاث النفوس السجينة بإسعافات المؤمنين ولا سيما ذبيحة المذبح الطاهرة والصلوات والصدقات وسائر أعمال التقوى التي درج المؤمنون على تقديمها بعضهم لأجل بعض وفق قوانين الكنيسة.”
نرى فيما سبق أن المعذبين في المطهر ليسوا هم الأبرار ولا الأشرار، بل هم المؤمنون التائبون والنادمون على خطاياهم إلا انهم لم يكفّروا عن خطاياهم بالشكل الكافي في هذه الحياة. كما ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن اللاهوت الكاثوليكي يخلط كثيراً بين فاعلية الصلاة لأجل الموتى وبين وجود أنفسهم في ” السجن – المطهر – حتى يوفوا الفلس الأخير.” ( حسب تفسيرهم لمتى 5: 25-26 )
– وهنا طرحت الكنيسة الأرثوذكسية السؤال الحقّ التالي:
“لماذا قدم الرب ذبيحته إذاً على الصليب ؟ أليست كفارةً عن خطايانا؟”
يقول القديس يوحنا الرسول في رسالته الجامعة الأولى ” إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً ” ( 1يو2: 1-2 ). ويتابع الرسول الحبيب الذي اتكأ على صدر المسيح يوم العشاء الأخير قائلاً ” إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم ” ( 1 يو1: 9 )، ويقول القديس بولس الرسول ” متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله ” ( رو3: 24 ). وآيات أخرى لا حصر لها تؤكد أن الرب يسوع هو كفارة لخطايانا وليس مطلوب منا غير التوبة الحقيقية وهجر حياة الخطيئة وقبول تلك النعمة المجانية المعطاة لنا بيسوع المسيح ربنا. كما يتضح من آيات يوحنا الإنجيلي أن التطهير يتم بمجرد التوبة الحقيقية والإعتراف بذبيحة المسيح كفارة تامة غير منقوصة لخطايانا.
ترى الكنيسة الأرثوذكسية في مثل ” الابن الشاطر ” خير توضيح لرأيها الرافض لمنطق المطهر، فهذا الابن الذي عاد تائباً بعد حياة طويلة في ظلام الخطيئة، وصرخ مستغفراً أبيه ” يا أبتِ أخطأت إلى السماء وأمامك ولست مستحقاً أن أدعى لك ابناً فاجعلني كأحد أجرائكَ ” ( لو15: 11- 32 ). فبحسب عقيدة المطهر الكاثوليكية كان يتوجب عليه ليس فقط أن يتوب ويندم، بل وأن يكفّر عن خطاياه ويعوّض عن تلك الأعمال غير الصالحة والسنين المظلمة التي أهدرها. إلا أن أباه قبله بفرح – لا بل وسارع إليه يضمه ويقبّله مسروراً بعودته – وأعطاه الحلّة الأولى والخاتم وذبح له العجل المسمّن ولم يعاتبه بكلمة قط.
رسالة المحبة التي بعد القيامة هي
” هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن يتألم المسيح ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدئاً من أورشليم ” ( لو24: 46 )، هو على الصليب حل خطايانا وكفّر عنها نهائيا.ً
الرب حمل خطايانا، وفداؤه ليس ناقصاً، لذلك لا تقبل الكنيسة الأرثوذكسية مجرد فكرة وجود نار أو مكان لعقاب ” التائبين ” أي الذين قبلوا المسيح فادياً ومخلصاً. برأيها العذاب لا يطهّر ولا ينقي، الذي يطهر وينقي هي محبة الله الكاملة في المسيح يسوع. كما أن الخطيئة التي تجرح محبة الله لا يمكن لعذابات محدودة المدة أن تفي حب الله غير المحدود، وبالتالي لا يقبل لا العقل ولا المنطق فكرة المطهر، بل وحده دم الرب يسوع هو الذي داوى هذا الجرح بالمحبة المطلقة ” وأي حب أعظم من أن يبذل أحد نفسه فداء عن أحبائه “. فإن كان دم المسيح غير كافٍ للتكفير والتبرير والتنقية والتطهير فالويل لما لأننا هلكنا جميعاً.
يمس المطهر سر الكهنوت المقدس والسلطان المعطى بواسطته من خلال الرسل الأطهار على حل الخطايا وإمساكها، فأي فائدة تبقى من سر الإعتراف والتوبة إن كان ” مع وقف التنفيذ ” ، وقد قال الرب: ” من غفرتم خطاياهم غفرت ومن امسكتم خطاياهم أُمسكت ” ، الرب لم يقل: “من غفرتم خطاياهم فإنها سوف تغفر لاحقاً”، كما لا يعني كلام الرب ما يروج له بعض دعاة البروتستنتية من أن الخطايا قدغُفرت سلفاً وبالتالي صار عمل الكهنوت مجرد ” تمثيلية لا فائدة منها. ”
جاء في المزمور 32: ” طوبى للذي غُفر إثمه وسترت خطيتة، طوبى للانسان الذي لا يحسب له الرب خطية “. فما دام الرب لم يعد يذكر خطيئة هذا التائب ولا يحسبها له فهل يعود هناك ضرورة للمطهر؟
يرى الكاثوليك في الآية الواردة في سفر الرؤيا: ” لا يدخل السماء دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً ” (رؤ21: 27) ما يدعم فكرهم حول المطهر. وترى الكنيسة الأرثوذكسية أن التائبين والمعترفين بخطاياهم والمؤمنين بذبيحة الصليب قرباناً عن خطاياهم، هم أنقياء ومطهّرون بدم المسيح الزكي المسفوك لأجلهم ولمغفرة خطاياهم. ويقول سفر الرؤيا نفسه متابعاً في نفس الآية: ” ولن يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجسا وكذبا إلا المكتوبين في سفر حياة الحمل” ، ومن هم هؤلاء المكتوبون في سفر الحياة إلا المؤمنين باسمه التائبين عن خطاياهم والمعترفين به رباً ومخلصاً وفادياً؟
والسؤال:
هل يقتضي العدل الإلهي أن يدفع ثمن الخطيئة مرتين: مرة على الصليب من قبل الله نفسه ومرة في المطهر ؟ وهل يقبل المنطق البشري أن يكون هناك ” متمم ومكمل ” لعمل الله الفادي نفسه الذي به محا خطايانا ؟ وإذا كان العدل الإلهي يعاقب على الأخطاء الغير مقصودة والسهوات والهفوات فنصرخ إذاً من هو الذي يثبت ؟ كما يقول المزمور ” على السهوات والهفوات وخطايا الجهل ؟ إذا كان كذلك فلا فائدة فكما نقول فى المزمور ” إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد فمن يقف؟ لأن عندك المغفرة”( مز 130: 3-4).
وتطرح عقيدة المطهر تساؤلات آخرى لا يجد لها المفسرون الكاثوليك تفسيراً متماسكاً، وهو أن الرب أعطى اللص المصلوب معه ان يكون معه في الفردوس منذ تلك اللحظة التي تاب فيها عن خطاياه واعترف بالمسيح رباً ومخلصاً. الرب لم يحدثه عن المطهر الكفيل بتنقية نفسه من الشرور والآثام التي ارتكبها قبل انتقاله ليكون معه، فلو كانت آلام الصلب المحدودة الزمن بعدة ساعات أو أيام كافية لتنقية اللص من حياة مليئة بالشرور والإجرام، أليست آلام الأمراض إذاً كفيلة بتنقية حياة تائبين سقطوا في خطاياهم نتيجة لضعفهم وسهوتهم وتذبذب إرادتهم؟ وهل يحتاجون للمطهر ذو المدة الزمنية غير المحددة؟ وهل يجب أن تقاس مدة التطهير بالأزمنة البشرية وبالأوقات ( 20 سنة، 50 سنة ، 100 سنة … إلخ )؟
وأخيراً يبقى التساؤل الأخير
هل من العدل والمنطق أن تتطهّر النفس دون الجسد؟ ففي القيامة العامة ستقوم النفس والجسد وسيتحدان كليهما معاً ليدخلا إلى الفرح الأبدي أو العذاب الأبدي، فهل يصحّ أن تتحد تلك النفس التي تطهرت بنار المطهر مع الجسد الذي لم يتطهّر؟ وهل يصبح ذلك الكائن عندئذٍ مستحقاً أن يقترب ويعاين مجد الله ؟
لأجل هذا ترفض الكنيسة الأرثوذكسية عقيدة المطهر بكاملها لأنها تعارض وتنفي عقيدة أخرى هي ” عقيدة الفداء ” الذي قام به كلمة الله المتجسد على الصليب، والذي وحده ” يقدر ان يخلّص ايضا الى التمام الذين يتقدمون به الى الله اذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم”( عبر7: 25 ) والذي “ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة الى الاقداس فوجد فداءً ابدياً. لانه ان كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس الى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح ازلي قدم نفسه للّه بلا عيب يطهر ضمائركم من اعمال ميتة لتخدموا الله الحي ” ( عبر 9: 12-14 ). ولأن الكتاب ينص صريحاً على عدم وجود مكان للتعذيب او التطهير”وضع للناس ان يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة.” (عبر 9: 27 )
أما وجهة النظر الانجيلية فهي وفق هذه الآية:”صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا”(عب 1: 3)
تُعَّلم الكنيسة الكاثوليكية أن المطهر هو المكان الذي تتعذب فيه أرواح الأموات لفترة من الزمن لتطهيرها من بقايا الخطايا الغير مميتة التي اقترفتها هذه الأرواح. فالمطهر إذاً هو مكان عقاب مؤقت للأرواح قبل دخولها السماء.
إن كلمة مطهر لا وجود لها في الكتاب المقدس، وعقيدة المطهر لا تعلمها كلمة الله، فقد دخلت هذه الفكرة إلى الكنيسة الكاثوليكية (ولا أقول إلى الكنيسة المسيحية) من الوثنية، إذ أن المصريين القدماء كانوا يؤمنون بمطهر، وكذا الإغريق والرومان. فالكتاب المقدس يتكلم بكل وضوح عن مكانين في العالم الآخر هما: السماء والجحيم، لا ثالث لهما. فلو أن المطهر موجود حقاً لكان الرب يسوع قد ذكره هو أو أحد تلاميذه. ولكن صمتهم عن ذكره برهان على عدم وجوده.
متى اعلنت عقيدة المطهر في الكنيسة الكاثوليكية؟
إن عقيدة المطهر لم تظهر إلا بعد المسيح بستمائة سنة. ولم تقرر كإحدى عقائد الكنيسة الكاثوليكية إلا عام 1439م. وهذه الفكرة اقتبست من الوثنية، إذ قد نقلها الكهنة الكاثوليك لما فيها من منفعة مادية. فاستطاع الكهنة أن يستغلوها في جمع النقود للصلاة في القداس على الأرواح التي يقال إنها تتعذب “بمطهر”…
ويعتمدون على ثلاثة مصادر لإثبات زعمهم بوجود المطهر
اولاً على كتب الأبوكريفا
ولكن الاقتباسات والمقاطع المأخوذة من هذه الكتب لا يمكن الاعتماد عليها لتثبيت أي شيء، وذلك لأن كتب الأبوكريفا لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من العهد القديم. واليهود أنفسهم الذين ندين لهم بحفظ العهد القديم لم يعتبروا الأبوكريفا قسماً من الكتب المقدسة. زد على ذلك أن بعض هذه الكتب تحتوي على بعض التعاليم المغلوطة والتي لا تتناسق مع تعاليم الكتاب المقدس. والكنيسة الكاثوليكية لم تعتبر هذه كتباً قانونية إلا عام 1546 في مجمع ترنت، لذلك لا يصح الاعتماد على هذا المصدر.
ثانيا على الآباء
يجب عدم القبول بسلطة الآباء في موضوع كهذا، لأن فكرة المطهر كما قلنا لم تظهر إلا عام 1439. ثم أن كثيراً من “الآباء” كانوا يتخبطون بدياجير الظلام ويناقضون بعضهم البعض، الأمر الذي أدى إلى خلق البدع التي تكبدت الكنيسة عناء الرد عليها.
ثالثاً الادعاء بوجود براهين في الكتاب المقدس
أ- 1 كورنثوس 3: 13 و 15 حيث يقول: “لأنه بنار يستعلن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو”، “وأما هو فسيخلص ولكن كما بنار”. بما أن كلمة “نار” موجودة في هذه الأعداد، فإن روما تدعي بأنها تشير إلى المطهر. لاحظ أن النار هنا هي لامتحان أعمال الإنسان وليس لامتحان العامل نفسه. إن الآية لا تقول “بالنار” ولكن “كما بنار” أي ليس بالنار، ولكن كما لو انه كانت هناك نار. زد على ذلك أن “اليوم” المذكور في عدد 13 هو اليوم الآخر الذي حسب تعليم الكنيسة الكاثوليكية يبطل فيه وجود المطهر.
ب- “والبرهان” الكتابي الثاني هو ما جاء في رؤ 21: 27 “ولن يدخلها شيء دنس ولا يصنع رجساً وكذباً…” ولكن هذا العدد لا يشير إلى أن النفوس تتطهر بالنار عن طريق ما يسمى بالمطهر. ولكننا نعلم من أعداد كثيرة أخرى أن طريقة التطهير هو بواسطة ذبيحة المسيح مرة واحدة على الصليب (راجع كولوسي 2: 14، 1يو 1: 17، عب 9: 14، رومية 8: 1).
تعلم الكنيسة الكاثوليكية أن الأرواح التي في المطهر يمكن أن تخلص بأكثر من طريقة، ولكن الطريقة الأكثر فاعلية هي بترديد القداديس على هذه الأرواح. والحقيقة أنه لا تقام قداديس بدون دفع مال.
إن المطهر اختراع بشري لربح المال فإذا مات إنسان وكان صاحب أموال كثيرة واستخدمت أمواله لترديد القداديس عن روحه، فإنه يستطيع أن ينتقل من المطهر بسرعة. أما إذا كان فقيراً فعليه أن يتعذب إلى يوم القيامة.
إن عقيدة المطهر إنكار لعمل المسيح الكفاري على الصليب فكلمة الله تصرح أن التطهير من الخطية يتم في هذه الحياة وليس بعد الموت، وبواسطة دم الرب يسوع المسيح المسفوك على الصليب، لا بالنار ولا بالقداديس. وعلى الصليب قال المسيح: “قد أكمل”. نعم قد أكمل التطهير التام الناجح المطلوب عندما نطق المصلوب بهذه الكلمات.
إن عقيدة المطهر التي تفرق بين غني وفقير، تجعل الله يحابي بالوجوه، الأمر الذي يناقض كلمة الله التي تصرح في سفر أعمال الرسل 10: 34 “الله لا يقبل بالوجوه”.
وهذه العقيدة توهم أن السماء يمكن شراؤها بالمال. فالذي يؤمن بهذه العقيدة يرتكب الخطية التي ارتكبها سمعان الساحر، إذ ظن أنه يستطيع أن يحصل على الروح القدس بالمال. ولكن القديس بطرس وبخه قائلاً: “لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تقتني موهبة الله بدراهم” (أعمال 8: 20). وفي الرسالة الأولى التي كتبها القديس بطرس نفسه، وفي الإصحاح الأول عدد 18، 19 يقول: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب… بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح”. إذاً لا حاجة للمال للدخول إلى السماء: “هكذا يقول الرب… بلا فضة تفكون” (أشعيا 52: 3) “والذي ليس له فضة تعالوا” (أشعيا 55: 1). إن اللص الذي كان مصلوباً عن يمين المسيح. والذي أقر بأنه خاطئ كان من المفروض بحسب العقيدة الكاثوليكية أن يذهب إلى المطهر ويتعذب إلى يوم القيامة. أهذا ما حدث؟ كلا! فإن الرب قال له: “اليوم تكون معي في الفردوس” فبدون مطهر كان اللص في ذات اليوم مع المسيح في المجد.
إن عقيدة المطهر تنحرف بالنفوس عن مخلصها الرب يسوع. وهي مناقضة لكلمة الله، وليست سوى اختراع بشري لربح المال. ويجب على كل مسيحي وفضها رفضاً كلياً.
تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها
مقدمة
لقد صدق موريس بلونديل حيث قال:
“ان التقليد الديني ينقل الوحي والعهد ككنز مقدس.”
اجل لقد تناقل الخلف عن السلف بالكلام وحي الله ووعده الالهي قديماً فكان التقليد قبل الكتاب، ولم يخالف اصلاً مضمون الكتاب، واولاً الشهادة المستدامة العامة والتقليدية التي اعتصمت بها جميع الكنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها في كل مكان وزمان بصحة الكتاب، لما عرفنا الكتاب. وخاصة الكرسي الانطاكي المقدس بنضاله وصموده وجرح اولاده ومن الجميع وبخاصة من الاخوة والابناء.
جاء الايمان بالتجسد الالهي والفداء الخلاصي بالتقليد قديماً، وحرص على هذا الايمان الأجداد الأولون كل الحرص، وسلموه للأجيال التي بعدهم قبل أن وُلد موسى وداود والأنبياء وقبل أن أُوجدت الأسفار الخمسة والمزامير والنبوات، وحافظت على هذا الايمان كل قبائل الأرض وشعوبها التي قبل التاريخ وبعده، فهناك وعد إلهي قطع لآدم في الفردوس حتى خطىء فتاب، عهد أُبرم بين الخالق والبشر، يوم قال تعالى لإبليس المتنكر في الحية:”سأجعل عداوة بينك (انت الحية اي ابليس) وبين المرأة (مريم العذراء التي هي من جنس النساء)، وبين نسلكِ (الشياطين) وبين نسل المرأة (المسيح)، وهو يسحق رأسك (بارتفاعه يوماً على الصليب) وانت ترصدين عقبه ( المؤمنين به)” (تكوين 3 :15
وسّلّم آدم هذا الايمان الى بنيه وأحفاده بالكلام وسلمه نوح الى بنيه الثلاثة سام وحام ويافث كذلك، وسلمه هؤلاء بدورهم الى بنيهم وأحفادهم، فكل من آمن بالوعد الالهي أمين، وكل من صدق قول الله سلم، بل رأينا هذا الاعتقاد بمخلص يفدي البشر ويسحق رأس الشيطان منتشراً حتى اليوم بين شعوب الشرق الأقصى التي لاتزال بحكم التقليد تنتظر من يسحق رأس الشيطان، ويخلصها من عبوديته، وايمانها هذا بالفادي الحبيب لايختلف جوهراً عن ايماننا به نحن ابناء النور. والى هذا الايمان ترجع عادة تصويرنا احياناً، تحت رجلي يسوع مصلوباً، حية بفمها تفاحة للدلالة على ان يسوع داس الشيطان المتلبس قديماً في الحية والخادع آدم حواء بحمله اياهما على مخالفة امر الله وتناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشر قديماً.
وكلما وقع بصر الشيطان على مريم العذراء، او على الصليب المكرم ارتعب وهرب، لأن التجسد الالهي قد تم في العذراء الكلية القداسة، والفداء الخلاصي قد حصل بالصليب. ونادراً ماوجدنا كنيسةً او ديراً او صومعة راهب او مغارة متوحد ناسك خالية من الصليب المقدس او ايقونة للعذراء الطاهرة وطفلها الرب الحبيب.
لقد طلب المسيحيون الأولون الى لوقا البشير الطبيب ورفيق بولس الهامة في اسفاره بعد ان عرفوه مصوراً حاذقاً، كما قد عرفوه مؤرخاً ثبتاً صادقاً وماهراً ان يصور لهم الطاهرة ففعل، وفيما كان بطرس ويوحنا يبشران اهل السامرة سألهما هؤلاء ان يشيد لهم كنيسة على اسم العذراء مريم تدشنها هي بذاتها فما كادت ام الرب يسوع الطاهرة تدخل الكنيسة المذكورة حتى انطبع رسمها على أحد أعمدتها وبقي الرسم أجيالاً، وكان الكفرة يأتون ليلاً فيمسحونه، ثم يعودون في الصباح التالي فيجدونه أجلى وأوضح مما كان عليه قبل المسيح بالأمس.
وتمنى ديونيسيوس الأريوباغي أول اسقف على أثينا ان يرى وجه والدة الاله، فإذا بالسحب تختطفه بغتة مع بولس الرسول معلمه، وتقيمهما بين يدي العذراء، فيسمعان وبقية الرسل حديثها الالهي العذب ويشاهدان نور وجهها البديع، فيلتفت القديس ديونيسيوس الى بولس الرسول، ويقول:”لو لم تعلمني الا اسجد سجود عبادة لأحد غير الله غير الله لكنت قد سجدت للعذراء وعبدتها، لأني رأيتُ الله على وجهها وفي قلبها وعلى لسانها وشفتيها.”
اما في الصليب المقدس فقد سمعنا بولس الرسول الاناء المصطفى يقول فيه:” ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله” ( 1كو1 : 18)- و”حاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح”(غلاطية 6 :14)
ومن الطقوس الروحية التي حافظت عليها كل الشعوب الارثوذكسية المستقيمة الرأي في كل زمان ومكان:
اولا رسم اشارة الصليب على الوجه
وتتم هذه العلامة بضم الأصابع الأولى من اليد اليمنى (الابهام والسبابة والوسطى) معاً، وتطبق الخنصر والبنصر على راحة اليد، ويُلفظ”باسم الآب” ثم تخفض اليد الى البطن…
وترفع حالاً الى الكتف اليمنى، ويُلفظ: “والابن”، وتُوضع أخيراً على الكتف اليسرى ويُلفظ ” والروح القدس” آمين.
إقراراً بالايمان بالثالوث الأقدس وبالتجسد الالهي والفداء الخلاصي، أي اعترافاً بأن الآب هو رأس الجميع وان الابن انحدر من السماء، وتجسد في بطن والدة الاله، وانه بعد ارتفاعه على الصليب واقتباله الدفن، قام من القبر وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب، ثم يختم “وبالروح القدس” على انه ممجد مع الآب والابن. وعلامة رسم الصليب هذه هي اختصار لدستور الايمان ” أؤمن باله واحد”…
وقد طلب الأرثوذكسيون والآريوسيين من القديس ملاتيوس اسقف انطاكية سنة 361 للمسيح، ان يختصر لهم خطابه في لاهوت الكلمة، فرسم امامهم اشارة الصليب على وجهه بالنوع الذي اشرنا اليه، فيستنتج من ذلك أن رسم علامة الصليب عادة قديمة في الكنيسة الارثوذكسية المستقيمة الرأي.
اما زياح الصليب الذي تقيمه الكنيسة في الاحد الثالث من الصوم الكبير المقدس، اي احد السجود للصليب المكرم، ثم في يوم رفع الصليب المكرم في 14 ايلول، فإنه يذكرنا بأن الصليب، وهو موضوع بين ثلاث شمعات مضاءة وسط الزهور، هو فكرة الثالوث الأقدس منذ الأزل وان بعد التضحية وبعد الآلام قيامة…
واما خفض الكاهن الصينية وعليها الصليب رويدً رويداً، ثم رفعها شيئاً فيشير الى إخفاء اليهود الصليب الكريم في مغارة تحت الأصنام، وأما رفعه بعدها فيشير الى رفع الملكة هيلانة اياه من المغارة، اي عثورها عليه سنة 321 للمسيح، ووضعها إياه فوق هيكل كنيسة القيامة.
وكان ابنها قسطنطين قيصر الغرب الروماني قبل اعتناقه المسيحية، قد رأى علامة الصليب في كبد السماء، وقد كُتبت تحتها بشكل منير في كبد السماء، هذه العبارة:” بهذه العلامة تنتصر”. فرسم قسطنطين الصليب على صدره وصدور جنوده وعلى الدروع ورفع راية الصليب، (وكان الصليبي الحق وليس الغزاة الفرنج في القرون من 11- 13) وانتصر على خصمه ليكيانوس قيصر الشرق الروماني، وصار الامبراطور لشرق وغرب الامبراطورية الرومانية، وتنصر وأوعز إلى امه الامبراطورة هيلانة لتبحث في القدس على عود صليب الرب.
وأما القبابيل (اجمات النار) التي تُقام غروب عيد رفع الصليب المكرم اي في 13 ايلول كما يحصل في الاحتفال المركزي في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ تأسيسها عام 1932 واكيد في الدير الاساس من القرن الرابع المسيحي الى 1401التي بنيت على انقاضه، وفي معلولا القائمة من القبر بانتصارها على الارهاب وتحريرها من رجسه مؤخراً، وفي كل مكان في حاراتنا وشوارعنا كما كنا نعيش والى فترة قريبة في دمشق وسورية ومشرقنا، فهي للدلالة على الشعلة التي اشعلتها هيلانة في مثل تلك الليلة في طول الامبراطورية الرومانية وعرضها عند عثورهاعلى صليب الرب يسوع، اذ كانت القبابيل اشارة تعارف متفق عليها بينها وبين ابنها في القسطنطينية عاصمته تبشره فيها عن عثورها على هذا الكنز الروحي العظيم.(واضافة الى خصوصية هذا الحدث الخاص بالعثور على عود الصليب، الا ان القبابيل هي من اشارات التخابر القديمة باشعال القبابيل في قمم الجبال)، وخلال 4 ساعات كان الخبر قد وصل الى ابنها قسطنطين في القسطنطينية فأقيمت الاحتفالات الروحية العارمة بهذه المناسبة المحيية لكنيستنا في تاريخنا المسيحي.
ثانياً العماد المقدس
وقد اتصل الينا بالتقليد تغطيس الموعوظ ثلاث دفعات متتالية في الماء عند العماد مع لفظ الكاهن المعمد:” يُعمد عبد الله (فلان) او امة الله (فلانة) على اسم الآب (آمين) والابن (آمين) والروح القدس (آمين)، وذلك لأن المعمودية رسم للاقرار بالايمان، فكأن المعتمد يعترف بروحه وجسده معاً بايمانه بالثالوث المقدس، وبدفن المسيح الثلاثي الايام، وقيامته ناهضاً بعدها من القبر في اليوم الثالث، وفق ايماننا المسيحي القويم، بل يمثل في شخصه دفن المسيح وقيامته فكأنه يقول:” اني أُدفنْ مع المسيح في المعمودية لأنهض معه. وبدون المعمودية لايدخل احدٌ ملكوت السماوات لأيُسحق رأس الشيطان المتسلط قسراً علينا.
يلبس المعتمد ثوباً ابيض حال اقتباله سر العماد المقدس للدلالة على حالة الطهارة التي اعادتها اليه المعمودية، ويُرتل عندئذ:” امنحني سربالاً( وشاحاً) منيراً يالابس النور مثل الثوب”.
ويُقلد في عنقه صليباً للدلالة على حمله الصليب مثل يسوع واتباعه اياه. ثم يُثَّبَّتْ بمسحه بالميرون المقدس وهذا هو السر الثاني بعد سر العماد، ويناول المعمود جسد ودم الرب يسوع وهي مناولته الأولى (سواء فهم معناها كما يقول التعليم الكاثوليكي البابوي ومن لحقه من الكنائس الشرقية التي خرجت من امهاتها او لم يفهمها كالسرين الاولين) والمناولة هي السر الثالث…
ان سر المعمودية التي نعتبرها اليوم مجرد ظاهرة احتفالية باللباس (وبكل اسف غير المحتشم) والحفلات والولائم الصاخبة والصور بعيداً عن قدسية هذا السر، يعتبر من اهم الاسرار في كنيستنا الارثوذكسية وبها يتمم معه سرا الميرون والقربان المقدسين اي ثلاثة اسرار الهية. وذلك لكي لايُترك المعمود دقيقة واحدة بدون قوى الروح القدس، وبدون الغذاء الروحي بالمناولة جسد ودم الرب يسوع، وسلاح الميرون المغطي لجسده كافة.
ثالثاً تعييد نهار الاحد
ويدخل في حكم التقليد الشريف تعييدنا نهار الأحد، لأن الانجيل الكريم لم يوضح واجب تقديس هذا اليوم، غير ان يوحنا الذهبي الفم بطريرك القسطنطينية والأب الجليل في القديسين قال في ذلك:” فكر ايها الانسان بالخيرات العظيمة التي أُحسن بها اليك في يوم الأحد، وبالأمراض والآلام التي اُعتقتَ منها، فكر بما كنت وبما آلت اليه حالتك…
فان كان العبيد يعيّدون يوم يُعتقون ونحن نعيّد يوم وُلدنا ونولم الولائم ونجزل العطايا والهدايا احتفالاً بذلك اليوم فبالأحرى يجب علينا ان نعيد في اليوم الذي نستطيع ان ندعوه غير هيابين يوم ولادة الجنس البشري أجمع، لأننا كنا تائهين فهُدينا، وامواتاً فحيينا، واعداءً فصولحنا، افلا نبغي ان نقدس يوم الأحد ونحفظ في السعة اخواننا الذين عضهم الفقر بنابه، وان نلازم السكر والعربدة؟”
وقد حاول ارباب الثورة الفرنسية الذين كفروا بالايمان المسيحي السنة 1789 أن يجعلوا الاسبوع عشرة ايام، فيبطلوا تقديس يوم الأحد، فأخفق سعيهم ولم يستطيعوا الى ذلك سبيلاً، وقد تناسوا بكرههم للكنيسة ولرجالاتها، ان ما سنه الله من خلق العالم لايغيره الا الله، وانه تعالى شاء ان يستعيض عن سبت راحته بيوم الأحد، الذي تم فيه خلاص البشر وحياتهم بيوم قيامة ابنه المتأنس، وتم فيه خلاص البشر وحياتهم، فكان كما قد شاء هو.
رابعاً فضلات التقدمة
وقد جرت العادة في نهاية كل قداس الهي في ايام الرب اي الآحاد والأعياد، ان توزع (البروتة) وهي اجزاء مباركة من الخبز الذي يفضل عن التقدمة، وتؤكل قبل تناول طعام الافطار، وكانت العادة المتبعة في الأجيال المسيحية الاولى الثلاثة، تقضي بأن توضع موائد المحبة بعد القداس الالهي إظهاراً للمحبة الأخوية المتبادلة بين المؤمنين حيث يتناول ابناء الايمان في الرعايا -الاغنياء والفقراء- معاً بقايا القرابين وطعام الافطار على مائدة واحدة. وكانت هذه العادة، ولاتزال، من العادات الاساسية في الكنائس الروسية الارثوذكسية والسلافية وسائر اوربة الشرقية واكنيسة الجورجية، وخاصة في الرعايا الصغيرة، وقد شاركناهم موائد المحبة في اكثر من رعية من الرعايا الروسية برئاسة ومباركة كهنة الرعايا، وهي الغيرة الارثوذكسية الملتهبة القويمة الرأي حيث ان ابناء الرعية جميعهم قبل القداس الالهي يوم الاحد يعترفون للكاهن في جانب من الكنيسة بالقرب من الايقونسطاس، ويمنحهم الحل بالصلاة على رؤسهم، فيشاركون في الخدمة الالهية، ويتناولون جميعهم قاطبة القربان المقدس بعد وقوفهم بكل ورع وايمان كل السحرية والقداس الالهي (لاتوجد مقاعد في الكنيسة) لمدة تفوق اربع ساعات، ثم يشربون قليلاً من الماء الحار مع النبيذ كيلا يبقى اي من بقايا القربان بين الاسنان ويخرج مع الكلام، ثم يلتقون جميعهم على مائدة المحبة التي تكون اساساً من بقايا البروتة، وبأطعمة ساهم كل منهم في تقديمها…
اما جمع الاحسانات وصواني اللم او التقدمة المالية للكنيسة بالشموع والخمر والزيت…
فقد اعتادته البيعة المقدسة منذ أصاب فلسطين وكل المسكونة جوع شديد في ايام الرسل في عهد كلوديوس قيصر، فأخذت كنائس العالم المسيحي الناطقة باليونانية، وخصوصاً في الامبراطورية الرومانية تُرسل المساعدات المادية “للقديسين المقيمين في اورشليم وجوارها”(اعمال الرسل) وهذا مافعلته البطريركية الانطاكية ايام البطريرك غريغوريوس الرابع لدعم ابناء الكنيسة الروسية التي نكبتها الثورة الشيوعية 1917 ومابعدها حتى العام 1925 بنشوء “الكنيسة الروسية ماوراء الحدود”، وأيضا مافعلته البطريركية في مساعدة كنائس فلسطين في ثورة فلسطين 1936 وفي مساعدة ابناء القسطنطينية عام 1953 بتلك الهجمة التركية الغوغائية الرسمية والشعبية على البطريركية المسكونية وحرق كنائسها…
أما عدد القربانات الخمس، اي الخبزات المقدمة للتبريك في غروب الاعياد الكبرى، كعيد الكرسي الانطاكي في 29 حزيران، فهو خمسة اشارة الى الخبزات الخمس التي باركها الرب يسوع في القفروكسرها واعطاها لتلاميذه ليشبعوا بها خمسة آلاف رجل عدا النساء والأولاد.
خامساً عيدالفصح المجيد
راينا موسى كليم الله، يوصي في الفصح الناموسي قائلاً:” ويكون متى سألك ابنك غداً قائلاً: ماهذا؟ تقول له: بيد قوية أخرجنا الرب من مصر من بيت العبودية فيكون لك علامة على يدك وعصابة بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك فتحفظها في وقتها من سنة الى سنة” ( خروج 13 : 8 / 14)
ورأينا نحميا الكاهن يدعو شعب الله الى السرور يوم العيد قائلاً:” امضوا كلوا المسمنات، واشربوا الحلو، ووزعوا حصصاً على الذين لم يهيأ لهم، لأنه يوم مقدس لربنا، فلا تحزنوا لأن فرح الرب قوتكم” ( نحميا 8 :10)
وراينا الرب يسوع يختم الفصح الناموسي محتفلاً به وقائلاً لتلاميذه:” شهوة اشتهيت ان آكل الفصح معكم قبل أن أتألم” ( لوقا 22: 15)، ثم شاهدناه على الأثر يدشن الفصح المسيحي عهداً جديداً فيقيم اول قداس الهي محولاً الخبز الى جسده الطاهر والخمر الى دمه الكريم، الأمر الذي دعا الذهبي الفم في ميمره في عيد الفصح الخلاصي ينادي قائلاً: ” ايها الأغنياء والفقراء افرحوا معاً: المائدة ملآى فتنعموا كلكم، العجل سمين فلا أحد ينصرف جائعاً، تناولوا كلكم مشروب الايمان، تمتعوا كلكم بغنى الصلاح، لايشكو احد فقراً فإن الملكوت العام قد ظهر، ولايندب احد معدداً آثاماً فإن الفصح قد بزغ من القبر مشرقاً.”
سادساً بيض الفصح
اما عادة تبادل الهدايا في عيد القيامة المجيدة بيضاً مسلوقاً، أو معجنات مسبوكة من حلويات وكعك العيد على شكل البيضة فللدلالة على زفنا البشري بعضنا الى بعض بقيامة المسيح من القبر، فالبيض يحوي صفاراً يتحول لدى التفقيس الى صوص ينقر القشرة بمنقاره ويبرز منها حياً، كذلك نهض يسوع من قبره بقوته الالهية ظافراً على الموت ومنتصراً.
سابعاً عادة إطلاق العيارات النارية في الباعوث والهجمة
درجت العادة في مشرقنا عامة، وفي سورية خاصة ومنذ انتشار الاسلحة النارية، ان يتم اطلاق العيارات النارية في الهجمة، او في مساء أحد القيامة البهية، والكثير من المناسبات كعشية “عيد الحج” اي مولد العذراء في دير سيدة صيدنايا البطريركي، وعيد الصليب في معلولا، هي ليست خروجاً عن النظام العام وحباً برفع الاسلحة النارية تفاخراً، بل هي تعبير عن الابتهاج بهذه الاعياد وخصوصا بعيد القيامة وانبعاث الرب يسوع من القبر ناهضاً، كما انها تذكرنا بالمسيحيين الأولين الذين كانوا في مثل تلك الاوقات يصدون اعداء الايمان القويم اي الآريوسيين الذين كانوا يتسلقون جدران المعابد الارثوذكسية ليرموا المستقيمي الرأي بالحجارة وغيرها كما رموا القديس غريغوريوس اللاهوتي بطريرك القسطنطينية صباح احد الفصح المجيد. ومن الجدير ذكره ان اثنين الباعوث كان يقام بشكل حافل في الكاتدرائية المريمية منذ اواخر القرن 19 والى عهد قريب وكذلك ثلاثاء الباعوث في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ 1932 والى عهد قريب حيث تتم المناسبتين برئاسة البطريرك الانطاكي.
ثامناً عادة هز الثريات اثناء صلاة سحر الفصح ( الهجمة)
اما هذه العادة اي هز الثريات وشموعها متقدة سحر نهار احد الفصح المجيد، بدفعها اولاً الى الجهة الغربية وهي مشعة، ثم تركها تندفع في سماء الكنيسة غرباً فشرقاً، فذلك للدلالة على ان نورها يمثل نور المسيح الاله الظاهر في الجسد متنازلاً من السماء الينا، أما دفعها نحو الغرب فللدلالة على انحدار المسيح الى الجحيم بالروح بعد موته بالجسد على الصليب، ليضيء للثاوين في ظلال الموت، وينقذهم من عبودية ابليس، وأما رجوعها صعوداً نحو الشرق علواً فيمثل صعود المسيح من الجحيم وقيامته من القبر بمجد منهضاً معه آدم وكل ذريته من أعماق الهاوية الى أعلى السماوات.
ولكن هذه العادة صرنا نراها نادرة الا في الاديار الرهبانية، وقلما نراها في الكنائس القاعدية الكبرى وكانت منتشرة في انطاكيتنا برمتها كنائس واديار.
تاسعاً عدم الركوع والسجود اثناء ايام الآحاد
كما اسلفنا في عادة تقديس يوم الرب وهو الاحد، لأن هذا اليوم عندنا نحن الارثوذكسيين هو يوم فرح وسرور لقيامة السيد له المجد.
وقد تسلمنا بالتقليد الشريف ان لانحني ركبنا، وخصوصاً طيلة الخمسين (فترة البنديكستاري) اي الممتدة مابين احدي الفصح والعنصرة. ( القانون 15 لبطرس رئيس اساقفة الاسكندرية)
عاشراً السجدة مساء اثنين العنصرة
أما عن السجدة او الركوع ثلاث ركعات في مدات (جمع مدة) معينة مساء احد اثنين العنصرة فقد تسلمنا من القديس كيرلس اسقف انطاكية الذي عاش في اواخر الجيل الثالث واواخر الجيل الرابع للمسيح ان نسجد لدى تلاوة الكاهن أو الأسقف أو البطريرك كلاً من الأفاشين الثلاثة التي للثالوث الأقدس، وذلك نظراً للأعجوبة التي حدثت مساء نهار احد العنصرة، إذ فيما كان هذا القديس يتلو في كاتدرائية انطاكية أول الأفاشين الثلاثة وهو منتصب مع جميع المصلين إذا بريح تعصف داخل الكنيسة، نظير التي عصفت يوم حلول الروح القدس على الرسل فتجْبِرْ الواقفين ان يحنو رؤوسهم وركبهم عبادة للثالوث الأقدس. وكانت الريح تعود لدى تلاوة الافشين الثاني ثم لدى تلاوة الافشين الثالث، ففهم القديس وجمهور الشعب من ذلك الحادث ان الله تعالى يريد ان نسجد له محترمين أقانيمه الالهية الثلاثة. ومن ذلك الحين عم السجود في الكنيسة الأرثوذكسية للثالوث الأقدس مساء أحد العنصرة عند تلاوة الأفاشين الثلاثة.
حادي عشر الاتجاه نحو المشرق أثناء الصلاة
ان اتجاه الكنائس نحو المشرق، واتجاهنا في بيوتنا نحوه في الصلاة، يشير الى ان مخلصنا ظهر للعالم من مشرق المشارق حين طلعَ علينا كشمس عقلية من البتول الكلية القداسة، فدل على ذلك النجم الذي ظهر في المشرق. ولذلك سمعنا امنا الكنيسة الارثوذكسية تنشد ليلة عيد الميلاد:” لقد افتقدنا مخلصنا من العلى من مشرق المشارق، فنحن الذين في الظلمة والظلال قد عثرنا على الحق بمولد الرب من البتول.”
ثاني عشر القمح المسلوق
كانت الكنيسة توزع علينا القمح المسلوق، نهار السبت الأول من الصوم الاربعيني المقدس، فالقمح المسلوق هو ليذكرنا بالعجيبة التي تمت في الاسبوع الأول من هذا الصوم المقدس عام 362 مسيحية على يد الشهيد العظيم القديس ثيودورس التيروني، حين كان يوليانوس العاصي، وقد رجع الى الوثنية قد لَّوث بذبائح الاصنام كل الخضار والحبوب في الاسواق، ليفسد على المسيحيين صومهم، فإذا بالشهيد المذكور يظهر لأفوكيوس اسقف القسطنطينية، ويوعز اليه ان يوصي في الكنائس جميع المؤمنين ان يتجنبوا طيلة ذلك الاسبوع أكل الخضار والحبوب المعروضة في الاسواق، ويقتصروا على أكل القمح الذي في بيوتهم مسلوقاً. وهكذا خذل الله يوليانوس الجاحد.
اما القمح المسلوق الذي تقدمه الكنيسة عن نفوس الراقدين، فهو للاشارة الى أن الراقدين سيقومون بعد انحلال اجسادهم في الارض كما تنبت حبة القمح بعد دفنها في الثرى.لذلك تأتي عادة القمح المسلوق في عيد البربارة وكل القديسين الشهداء الذين باستشهادهم نمت المسيحية كدفن حبة الحنطة في الارض لتنبت بعد موتها سنبلة قمح.
ثالث عشر القداديس والجنانيز
” إن جناز الثالث الذي يقام لراحة نفوس الراقدين يشير الى أن الأخ الراقد قد حصل من البدء على تركيبه من الثالوث الأقدس كما ذكر الأب سمعان التسالونيكي.
وأما جناز التاسع فيعني ان الذي انحلّ الى ماكان مركباً منه مزمع ان يُحصى مع المراتب الملائكية التسع غير الهيولية لأنه هو ايضاً أصبح غير هيولي. واما جناز الأربعين فيوضح أنه في القيامة المستقبلة سيرجع الى تركيبه، ولكن بدون فساد وعلى منوال أكثر سمواً، ويصعد كما صعد الرب، ويُخطف في السحب الى استقبال الديان وهذه الحالات الثلاث تدل عليها ايضاً جنانيز الأشهر الثلاثة والستة والتسعة”.
رابع عشر المشاعل والمصابيح
هنالك عادة قديمة عند المسيحيين القدامى، الغاها يوليانوس الجاحد ( ولعله بفعله هذا قد أحسن هذه المرة)
كان المسيحيون القدامى يقومون بدفن امواتهم ليلاً وسط المشاعل والمصابيح.
أما عادة اضاءة شمعة أمام الميت في الكنيسة او البيت فهي للدلالة على ان الراقد قد خرج من عالم الظلمة الى عالم النور، وأنه يواجه النور الأزلي وجهاً لوجه. واما اضاءة الشموع امام الرسائل او الصليب او الانجيل فللدلالةعلى أن الصليب المكرم او الكتاب المقدس هو نور العالم.
خامس عشر عادة تغطية المرأة رأسها في الكنيسة
لقد نبه الرسول بولس خواطرنا الى ذلك حين قال: (1كو1 : 1- 16) ” اريد ان تعلموا ان رأس كل رجل هو المسيح، وان رأس المرأة هو الرجل، ورأس المسيح هو الله، فكل رجل يصلي أو يتنبأ ورأسه مغطى يشين رأسه، وكل امرأة تصلي او تتنبأ ورأسها مكشوف تشين رأسها…”
لم يُخلق الرجل لأجل المرأة بل خلقت المرأة لأجل الرجل، لذلك ينبغي للمرأة أن يكون على رأسها غطاء علامة الخضوع”. ( اي ان الرجل يكشف رأسه دلالة على سيادته البيتية لكونه يمثل الله في بيته).
وبكل اسف في واقعنا الحالي فإن الكثير من شبابنا ورجالنا، كنوع من العصرنة والحداثة، يضعون القبعات على رؤسهم في كنائس المدينة، و العقال والكوفيات في كنائس الريف في القداديس الالهية والصلوات المتنوعة، اما وضع النساء الغطاء على رؤسهن فصارت عادة نادرة في مجتمعنا الذي كان يأنف من المرأة حاسرة الرأس في الكنيسة، وكانت المرأة تتباهى بغطاء الرأس وهذا ماوعينا عليه…
ولكن ناهيك عن التخلي عن هذه العادة المباركة في كرسينا الانطاكي العريق اساساً في تمسكه بالأصول، مع بقية الكنائس في كل مكان وعند كل الطوائف في مشرقنا، بعكس تمسك الأشقاء الأقباط في مصر بمنديل الرأس، وتمسك ابناء الكنائس السلافية الارثوذكسية برمتها في كراسي موسكو وبلغاريا ورومانيا وجورجيا ورئاسات اساقفة اوروبة الشرقية الذين تذهل الناظر طريقتهم في التمسك بهذه الاصول الايمانية، حتى عند الطفلات الصغيرات، فيما تنتشر بشكل غير مسبوق ظاهرة عدم الاحتشام في اللباس في الكنائس والخدم الالهية واتمام الاسرار كالأكاليل والعمادات والمناولات الاحتفالية (اول قربانة) في كنائسنا المشرقية الارثوذكسية والكاثوليكية بكل اسف في مجتمع عام يزداد تشدداً…
الخاتمة
تلك هي تقاليدنا الارثوذكسية الشريفة والعريقة والتي يجب ان نبقى محافظين عليها لحرصنا عليها وبأننا نحي ماضي كنيستنا الانطاكية المجيدة حيث “دعي المسيحيون اولاً” وكرسينا المؤسس من هامتي الرسل القديسين بطرس وبولس العام 42 للمسيح، وان بطرس الرسول اول بطاركته من 45- 53للمسيح، قبل ان يؤسس كرسي رومة بعشرين سنة ويكون اول اساقفته ويستشهد ، وان اسقف انطاكية حظي بتسمية البطريرك بمفرده وقبل اي اسقف لكرسي رسولي من الكراسي الرسولية الخمسة في القرون الخمسة الأولى للمسيح…
بكل الم عندما نفتخر بأبناء كراسي روسيا وسائر الكراسي في اوربة الشرقية بتمسكهم بالأصول ننسى او نتناسى او لانعرف اننا نحن من بشرناهم بأرثوذكسيتنا وهم يتمسكون اكثر بأصولنا الارثوذكسية المباركة ونحن نتخلى عنها، ونسينا اننا بصمود اجدادنا واولادنا في مسيحيتهم، ولولاهم لمابقيت المسيحية المشرقية.
لذا يتوجب علينا ان نتمسك بماضينا القويم والمستقيم الرأي المجيد.
تاريخ التقليد الشريف وبعض العادات الأرثوذكسية واصلها
مقدمة
لقد صدق موريس بلونديل حيث قال:
“ان التقليد الديني ينقل الوحي والعهد ككنز مقدس.”
اجل لقد تناقل الخلف عن السلف بالكلام وحي الله ووعده الالهي قديماً فكان التقليد قبل الكتاب، ولم يخالف اصلاً مضمون الكتاب، واولاً الشهادة المستدامة العامة والتقليدية التي اعتصمت بها جميع الكنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها في كل مكان وزمان بصحة الكتاب، لما عرفنا الكتاب. وخاصة الكرسي الانطاكي المقدس بنضاله وصموده وجرح اولاده ومن الجميع وبخاصة من الاخوة والابناء.
ايقونسطاس تقليدي في الكنائس الارثوذكسية
جاء الايمان بالتجسد الالهي والفداء الخلاصي بالتقليد قديماً، وحرص على هذا الايمان الأجداد الأولون كل الحرص، وسلموه للأجيال التي بعدهم قبل أن وُلد موسى وداود والأنبياء وقبل أن أُوجدت الأسفار الخمسة والمزامير والنبوات، وحافظت على هذا الايمان كل قبائل الأرض وشعوبها التي قبل التاريخ وبعده، فهناك وعد إلهي قطع لآدم في الفردوس حتى خطىء فتاب، عهد أُبرم بين الخالق والبشر، يوم قال تعالى لإبليس المتنكر في الحية:”سأجعل عداوة بينك (انت الحية اي ابليس) وبين المرأة (مريم العذراء التي هي من جنس النساء)، وبين نسلكِ (الشياطين) وبين نسل المرأة (المسيح)، وهو يسحق رأسك (بارتفاعه يوماً على الصليب) وانت ترصدين عقبه ( المؤمنين به)” (تكوين 3 :15
وسّلّم آدم هذا الايمان الى بنيه وأحفاده بالكلام وسلمه نوح الى بنيه الثلاثة سام وحام ويافث كذلك، وسلمه هؤلاء بدورهم الى بنيهم وأحفادهم، فكل من آمن بالوعد الالهي أمين، وكل من صدق قول الله سلم، بل رأينا هذا الاعتقاد بمخلص يفدي البشر ويسحق رأس الشيطان منتشراً حتى اليوم بين شعوب الشرق الأقصى التي لاتزال بحكم التقليد تنتظر من يسحق رأس الشيطان، ويخلصها من عبوديته، وايمانها هذا بالفادي الحبيب لايختلف جوهراً عن ايماننا به نحن ابناء النور. والى هذا الايمان ترجع عادة تصويرنا احياناً، تحت رجلي يسوع مصلوباً، حية بفمها تفاحة للدلالة على ان يسوع داس الشيطان المتلبس قديماً في الحية والخادع آدم حواء بحمله اياهما على مخالفة امر الله وتناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشر قديماً.
وكلما وقع بصر الشيطان على مريم العذراء، او على الصليب المكرم ارتعب وهرب، لأن التجسد الالهي قد تم في العذراء الكلية القداسة، والفداء الخلاصي قد حصل بالصليب. ونادراً ماوجدنا كنيسةً او ديراً او صومعة راهب او مغارة متوحد ناسك خالية من الصليب المقدس او ايقونة للعذراء الطاهرة وطفلها الرب الحبيب.
لقد طلب المسيحيون الأولون الى لوقا البشير الطبيب ورفيق بولس الهامة في اسفاره بعد ان عرفوه مصوراً حاذقاً، كما قد عرفوه مؤرخاً ثبتاً صادقاً وماهراً ان يصور لهم الطاهرة ففعل، وفيما كان بطرس ويوحنا يبشران اهل السامرة سألهما هؤلاء ان يشيد لهم كنيسة على اسم العذراء مريم تدشنها هي بذاتها فما كادت ام الرب يسوع الطاهرة تدخل الكنيسة المذكورة حتى انطبع رسمها على أحد أعمدتها وبقي الرسم أجيالاً، وكان الكفرة يأتون ليلاً فيمسحونه، ثم يعودون في الصباح التالي فيجدونه أجلى وأوضح مما كان عليه قبل المسيح بالأمس.
كنيسة الصليب المقدس بالقصاع/هيكل الكنيسة/ الباب الملوكي الاوسط
وتمنى ديونيسيوس الأريوباغي أول اسقف على أثينا ان يرى وجه والدة الاله، فإذا بالسحب تختطفه بغتة مع بولس الرسول معلمه، وتقيمهما بين يدي العذراء، فيسمعان وبقية الرسل حديثها الالهي العذب ويشاهدان نور وجهها البديع، فيلتفت القديس ديونيسيوس الى بولس الرسول، ويقول:”لو لم تعلمني الا اسجد سجود عبادة لأحد غير الله غير الله لكنت قد سجدت للعذراء وعبدتها، لأني رأيتُ الله على وجهها وفي قلبها وعلى لسانها وشفتيها.”
اما في الصليب المقدس فقد سمعنا بولس الرسول الاناء المصطفى يقول فيه:” ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله” ( 1كو1 : 18)- و”حاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح”(غلاطية 6 :14)
ومن الطقوس الروحية التي حافظت عليها كل الشعوب الارثوذكسية المستقيمة الرأي في كل زمان ومكان:
اولا رسم اشارة الصليب على الوجه
وتتم هذه العلامة بضم الأصابع الأولى من اليد اليمنى (الابهام والسبابة والوسطى) معاً، وتطبق الخنصر والبنصر على راحة اليد، ويُلفظ”باسم الآب” ثم تخفض اليد الى البطن…
وترفع حالاً الى الكتف اليمنى، ويُلفظ: “والابن”، وتُوضع أخيراً على الكتف اليسرى ويُلفظ ” والروح القدس” آمين.
إقراراً بالايمان بالثالوث الأقدس وبالتجسد الالهي والفداء الخلاصي، أي اعترافاً بأن الآب هو رأس الجميع وان الابن انحدر من السماء، وتجسد في بطن والدة الاله، وانه بعد ارتفاعه على الصليب واقتباله الدفن، قام من القبر وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب، ثم يختم “وبالروح القدس” على انه ممجد مع الآب والابن. وعلامة رسم الصليب هذه هي اختصار لدستور الايمان ” أؤمن باله واحد”…
رسم اشارة الصليب على الوجه
وقد طلب الأرثوذكسيون والآريوسيين من القديس ملاتيوس اسقف انطاكية سنة 361 للمسيح، ان يختصر لهم خطابه في لاهوت الكلمة، فرسم امامهم اشارة الصليب على وجهه بالنوع الذي اشرنا اليه، فيستنتج من ذلك أن رسم علامة الصليب عادة قديمة في الكنيسة الارثوذكسية المستقيمة الرأي.
اما زياح الصليب الذي تقيمه الكنيسة في الاحد الثالث من الصوم الكبير المقدس، اي احد السجود للصليب المكرم، ثم في يوم رفع الصليب المكرم في 14 ايلول، فإنه يذكرنا بأن الصليب، وهو موضوع بين ثلاث شمعات مضاءة وسط الزهور، هو فكرة الثالوث الأقدس منذ الأزل وان بعد التضحية وبعد الآلام قيامة…
واما خفض الكاهن الصينية وعليها الصليب رويدً رويداً، ثم رفعها شيئاً فيشير الى إخفاء اليهود الصليب الكريم في مغارة تحت الأصنام، وأما رفعه بعدها فيشير الى رفع الملكة هيلانة اياه من المغارة، اي عثورها عليه سنة 321 للمسيح، ووضعها إياه فوق هيكل كنيسة القيامة.
وكان ابنها قسطنطين قيصر الغرب الروماني قبل اعتناقه المسيحية، قد رأى علامة الصليب في كبد السماء، وقد كُتبت تحتها بشكل منير في كبد السماء، هذه العبارة:” بهذه العلامة تنتصر”. فرسم قسطنطين الصليب على صدره وصدور جنوده وعلى الدروع ورفع راية الصليب، (وكان الصليبي الحق وليس الغزاة الفرنج في القرون من 11- 13) وانتصر على خصمه ليكيانوس قيصر الشرق الروماني، وصار الامبراطور لشرق وغرب الامبراطورية الرومانية، وتنصر وأوعز إلى امه الامبراطورة هيلانة لتبحث في القدس على عود صليب الرب.
وأما القبابيل (اجمات النار) التي تُقام غروب عيد رفع الصليب المكرم اي في 13 ايلول كما يحصل في الاحتفال المركزي في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ تأسيسها عام 1932 واكيد في الدير الاساس من القرن الرابع المسيحي الى 1401التي بنيت على انقاضه، وفي معلولا القائمة من القبر بانتصارها على الارهاب وتحريرها من رجسه مؤخراً، وفي كل مكان في حاراتنا وشوارعنا كما كنا نعيش والى فترة قريبة في دمشق وسورية ومشرقنا، فهي للدلالة على الشعلة التي اشعلتها هيلانة في مثل تلك الليلة في طول
ليلة عيد الصليب واشعال القبابيل في معلولا
الامبراطورية الرومانية وعرضها عند عثورهاعلى صليب الرب يسوع، اذ كانت القبابيل اشارة تعارف متفق عليها بينها وبين ابنها في القسطنطينية عاصمته تبشره فيها عن عثورها على هذا الكنز الروحي العظيم.(واضافة الى خصوصية هذا الحدث الخاص بالعثور على عود الصليب، الا ان القبابيل هي من اشارات التخابر القديمة باشعال القبابيل في قمم الجبال)، وخلال 4 ساعات كان الخبر قد وصل الى ابنها قسطنطين في القسطنطينية فأقيمت الاحتفالات الروحية العارمة بهذه المناسبة المحيية لكنيستنا في تاريخنا المسيحي.
ثانياً العماد المقدس
وقد اتصل الينا بالتقليد تغطيس الموعوظ ثلاث دفعات متتالية في الماء عند العماد مع لفظ الكاهن المعمد:” يُعمد عبد الله (فلان) او امة الله (فلانة) على اسم الآب (آمين) والابن (آمين) والروح القدس (آمين)، وذلك لأن المعمودية رسم للاقرار بالايمان، فكأن المعتمد يعترف بروحه وجسده معاً بايمانه بالثالوث المقدس، وبدفن المسيح الثلاثي الايام، وقيامته ناهضاً بعدها من القبر في اليوم الثالث، وفق ايماننا المسيحي القويم، بل يمثل في شخصه دفن المسيح وقيامته فكأنه يقول:” اني أُدفنْ مع المسيح في المعمودية لأنهض معه. وبدون المعمودية لايدخل احدٌ ملكوت السماوات لأيُسحق رأس الشيطان المتسلط قسراً علينا.
يلبس المعتمد ثوباً ابيض حال اقتباله سر العماد المقدس للدلالة على حالة الطهارة التي اعادتها اليه المعمودية، ويُرتل عندئذ:” امنحني سربالاً( وشاحاً) منيراً يالابس النور مثل الثوب”.
المعمودية بالتغطيس ثلاثاً
ويُقلد في عنقه صليباً للدلالة على حمله الصليب مثل يسوع واتباعه اياه. ثم يُثَّبَّتْ بمسحه بالميرون المقدس وهذا هو السر الثاني بعد سر العماد، ويناول المعمود جسد ودم الرب يسوع وهي مناولته الأولى (سواء فهم معناها كما يقول التعليم الكاثوليكي البابوي ومن لحقه من الكنائس الشرقية التي خرجت من امهاتها او لم يفهمها كالسرين الاولين) والمناولة هي السر الثالث…
ان سر المعمودية التي نعتبرها اليوم مجرد ظاهرة احتفالية باللباس (وبكل اسف غير المحتشم) والحفلات والولائم الصاخبة والصور بعيداً عن قدسية هذا السر، يعتبر من اهم الاسرار في كنيستنا الارثوذكسية وبها يتمم معه سرا الميرون والقربان المقدسين اي ثلاثة اسرار الهية. وذلك لكي لايُترك المعمود دقيقة واحدة بدون قوى الروح القدس، وبدون الغذاء الروحي بالمناولة جسد ودم الرب يسوع، وسلاح الميرون المغطي لجسده كافة.
ثالثاً تعييد نهار الاحد
ويدخل في حكم التقليد الشريف تعييدنا نهار الأحد، لأن الانجيل الكريم لم يوضح واجب تقديس هذا اليوم، غير ان يوحنا الذهبي الفم بطريرك القسطنطينية والأب الجليل في القديسين قال في ذلك:” فكر ايها الانسان بالخيرات العظيمة التي أُحسن بها اليك في يوم الأحد، وبالأمراض والآلام التي اُعتقتَ منها، فكر بما كنت وبما آلت اليه حالتك…
فان كان العبيد يعيّدون يوم يُعتقون ونحن نعيّد يوم وُلدنا ونولم الولائم ونجزل العطايا والهدايا احتفالاً بذلك اليوم فبالأحرى يجب علينا ان نعيد في اليوم الذي نستطيع ان ندعوه غير هيابين يوم ولادة الجنس البشري أجمع، لأننا كنا تائهين فهُدينا، وامواتاً فحيينا، واعداءً فصولحنا، افلا نبغي ان نقدس يوم الأحد ونحفظ في السعة اخواننا الذين عضهم الفقر بنابه، وان نلازم السكر والعربدة؟”
وقد حاول ارباب الثورة الفرنسية الذين كفروا بالايمان المسيحي السنة 1789 أن يجعلوا الاسبوع عشرة ايام، فيبطلوا تقديس يوم الأحد، فأخفق سعيهم ولم يستطيعوا الى ذلك سبيلاً، وقد تناسوا بكرههم للكنيسة ولرجالاتها، ان ما سنه الله من خلق العالم لايغيره الا الله، وانه تعالى شاء ان يستعيض عن سبت راحته بيوم الأحد، الذي تم فيه خلاص البشر وحياتهم بيوم قيامة ابنه المتأنس، وتم فيه خلاص البشر وحياتهم، فكان كما قد شاء هو.
رابعاً فضلات التقدمة
ايقونة القيامةالصلوات الحارة تترافق يومياً مع اشعال الشموع
وقد جرت العادة في نهاية كل قداس الهي في ايام الرب اي الآحاد والأعياد، ان توزع (البروتة) وهي اجزاء مباركة من الخبز الذي يفضل عن التقدمة، وتؤكل قبل تناول طعام الافطار، وكانت العادة المتبعة في الأجيال المسيحية الاولى الثلاثة، تقضي بأن توضع موائد المحبة بعد القداس الالهي إظهاراً للمحبة الأخوية المتبادلة بين المؤمنين حيث يتناول ابناء الايمان في الرعايا -الاغنياء والفقراء- معاً بقايا القرابين وطعام الافطار على مائدة واحدة. وكانت هذه العادة، ولاتزال، من العادات الاساسية في الكنائس الروسية الارثوذكسية والسلافية وسائر اوربة الشرقية واكنيسة الجورجية، وخاصة في الرعايا الصغيرة، وقد شاركناهم موائد المحبة في اكثر من رعية من الرعايا الروسية برئاسة ومباركة كهنة الرعايا، وهي الغيرة الارثوذكسية الملتهبة القويمة الرأي حيث ان ابناء الرعية جميعهم قبل القداس الالهي يوم الاحد يعترفون للكاهن في جانب من الكنيسة بالقرب من الايقونسطاس، ويمنحهم الحل بالصلاة على رؤسهم، فيشاركون في الخدمة الالهية، ويتناولون جميعهم قاطبة القربان المقدس بعد وقوفهم بكل ورع وايمان كل السحرية والقداس الالهي (لاتوجد مقاعد في الكنيسة) لمدة تفوق اربع ساعات، ثم يشربون قليلاً من الماء الحار مع النبيذ كيلا يبقى اي من بقايا القربان بين الاسنان ويخرج مع الكلام، ثم يلتقون جميعهم على مائدة المحبة التي تكون اساساً من بقايا البروتة، وبأطعمة ساهم كل منهم في تقديمها…
اما جمع الاحسانات وصواني اللم او التقدمة المالية للكنيسة بالشموع والخمر والزيت…
السهرانية في الأديار الرهبانية
فقد اعتادته البيعة المقدسة منذ أصاب فلسطين وكل المسكونة جوع شديد في ايام الرسل في عهد كلوديوس قيصر، فأخذت كنائس العالم المسيحي الناطقة باليونانية، وخصوصاً في الامبراطورية الرومانية تُرسل المساعدات المادية “للقديسين المقيمين في اورشليم وجوارها”(اعمال الرسل) وهذا مافعلته البطريركية الانطاكية ايام البطريرك غريغوريوس الرابع لدعم ابناء الكنيسة الروسية التي نكبتها الثورة الشيوعية 1917 ومابعدها حتى العام 1925 بنشوء “الكنيسة الروسية ماوراء الحدود”، وأيضا مافعلته البطريركية في مساعدة كنائس فلسطين في ثورة فلسطين 1936 وفي مساعدة ابناء القسطنطينية عام 1953 بتلك الهجمة التركية الغوغائية الرسمية والشعبية على البطريركية المسكونية وحرق كنائسها…
أما عدد القربانات الخمس، اي الخبزات المقدمة للتبريك في غروب الاعياد الكبرى، كعيد الكرسي الانطاكي في 29 حزيران، فهو خمسة اشارة الى الخبزات الخمس التي باركها الرب يسوع في القفروكسرها واعطاها لتلاميذه ليشبعوا بها خمسة آلاف رجل عدا النساء والأولاد.
خامساً عيدالفصح المجيد
راينا موسى كليم الله، يوصي في الفصح الناموسي قائلاً:” ويكون متى سألك ابنك غداً قائلاً: ماهذا؟ تقول له: بيد قوية أخرجنا الرب من مصر من بيت العبودية فيكون لك علامة على يدك وعصابة بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك فتحفظها في وقتها من سنة الى سنة” ( خروج 13 : 8 / 14)
ورأينا نحميا الكاهن يدعو شعب الله الى السرور يوم العيد قائلاً:” امضوا كلوا المسمنات، واشربوا الحلو، ووزعوا حصصاً على الذين لم يهيأ لهم، لأنه يوم مقدس لربنا، فلا تحزنوا لأن فرح الرب قوتكم” ( نحميا 8 :10)
وراينا الرب يسوع يختم الفصح الناموسي محتفلاً به وقائلاً لتلاميذه:” شهوة اشتهيت ان آكل الفصح معكم قبل أن أتألم” ( لوقا 22: 15)، ثم شاهدناه على الأثر يدشن الفصح المسيحي عهداً جديداً فيقيم اول قداس الهي محولاً الخبز الى جسده الطاهر والخمر الى دمه الكريم، الأمر الذي دعا الذهبي الفم في ميمره في عيد الفصح الخلاصي ينادي قائلاً: ” ايها الأغنياء والفقراء افرحوا معاً: المائدة ملآى فتنعموا كلكم، العجل سمين فلا أحد ينصرف جائعاً، تناولوا كلكم مشروب الايمان، تمتعوا كلكم بغنى الصلاح، لايشكو احد فقراً فإن الملكوت العام قد ظهر، ولايندب احد معدداً آثاماً فإن الفصح قد بزغ من القبر مشرقاً.”
فيض النور المقدس من القبر السيدي في كنيسة القيامة يوم سبت النور
سادساً بيض الفصح
اما عادة تبادل الهدايا في عيد القيامة المجيدة بيضاً مسلوقاً، أو معجنات مسبوكة من حلويات وكعك العيد على شكل البيضة فللدلالة على زفنا البشري بعضنا الى بعض بقيامة المسيح من القبر، فالبيض يحوي صفاراً يتحول لدى التفقيس الى صوص ينقر القشرة بمنقاره ويبرز منها حياً، كذلك نهض يسوع من قبره بقوته الالهية ظافراً على الموت ومنتصراً.
سابعاً عادة إطلاق العيارات النارية في الباعوث والهجمة
درجت العادة في مشرقنا عامة، وفي سورية خاصة ومنذ انتشار الاسلحة النارية، ان يتم اطلاق العيارات النارية في الهجمة، او في مساء أحد القيامة البهية، والكثير من المناسبات كعشية “عيد الحج” اي مولد العذراء في دير سيدة صيدنايا البطريركي، وعيد الصليب في معلولا، هي ليست خروجاً عن النظام العام وحباً برفع الاسلحة النارية تفاخراً، بل هي تعبير عن الابتهاج بهذه الاعياد وخصوصا بعيد القيامة وانبعاث الرب يسوع من القبر ناهضاً، كما انها تذكرنا بالمسيحيين الأولين الذين كانوا في مثل تلك الاوقات يصدون اعداء الايمان القويم اي الآريوسيين الذين كانوا يتسلقون جدران المعابد الارثوذكسية ليرموا المستقيمي الرأي بالحجارة وغيرها كما رموا القديس غريغوريوس اللاهوتي بطريرك القسطنطينية صباح احد الفصح المجيد. ومن الجدير ذكره ان اثنين الباعوث كان يقام بشكل حافل في الكاتدرائية المريمية منذ اواخر القرن 19 والى عهد قريب وكذلك ثلاثاء الباعوث في كنيسة الصليب المقدس بالقصاع منذ 1932 والى عهد قريب حيث تتم المناسبتين برئاسة البطريرك الانطاكي.
ثامناً عادة هز الثريات اثناء صلاة سحر الفصح ( الهجمة)
ايقونة القيامة
اما هذه العادة اي هز الثريات وشموعها متقدة سحر نهار احد الفصح المجيد، بدفعها اولاً الى الجهة الغربية وهي مشعة، ثم تركها تندفع في سماء الكنيسة غرباً فشرقاً، فذلك للدلالة على ان نورها يمثل نور المسيح الاله الظاهر في الجسد متنازلاً من السماء الينا، أما دفعها نحو الغرب فللدلالة على انحدار المسيح الى الجحيم بالروح بعد موته بالجسد على الصليب، ليضيء للثاوين في ظلال الموت، وينقذهم من عبودية ابليس، وأما رجوعها صعوداً نحو الشرق علواً فيمثل صعود المسيح من الجحيم وقيامته من القبر بمجد منهضاً معه آدم وكل ذريته من أعماق الهاوية الى أعلى السماوات.
ولكن هذه العادة صرنا نراها نادرة الا في الاديار الرهبانية، وقلما نراها في الكنائس القاعدية الكبرى وكانت منتشرة في انطاكيتنا برمتها كنائس واديار.
تاسعاً عدم الركوع والسجود اثناء ايام الآحاد
كما اسلفنا في عادة تقديس يوم الرب وهو الاحد، لأن هذا اليوم عندنا نحن الارثوذكسيين هو يوم فرح وسرور لقيامة السيد له المجد.
وقد تسلمنا بالتقليد الشريف ان لانحني ركبنا، وخصوصاً طيلة الخمسين (فترة البنديكستاري) اي الممتدة مابين احدي الفصح والعنصرة. ( القانون 15 لبطرس رئيس اساقفة الاسكندرية)
عاشراً السجدة مساء اثنين العنصرة
أما عن السجدة او الركوع ثلاث ركعات في مدات (جمع مدة) معينة مساء احد اثنين العنصرة فقد تسلمنا من القديس كيرلس اسقف انطاكية الذي عاش في اواخر الجيل الثالث واواخر الجيل الرابع للمسيح ان نسجد لدى تلاوة الكاهن أو الأسقف أو البطريرك كلاً من الأفاشين الثلاثة التي للثالوث الأقدس، وذلك نظراً للأعجوبة التي حدثت مساء نهار احد العنصرة، إذ فيما كان هذا القديس يتلو في كاتدرائية انطاكية أول الأفاشين الثلاثة وهو منتصب مع جميع المصلين إذا بريح تعصف داخل الكنيسة، نظير التي عصفت يوم حلول الروح القدس على الرسل فتجْبِرْ الواقفين ان يحنو رؤوسهم وركبهم عبادة للثالوث الأقدس. وكانت الريح تعود لدى تلاوة الافشين الثاني ثم لدى تلاوة الافشين الثالث، ففهم القديس وجمهور الشعب من ذلك الحادث ان الله تعالى يريد ان نسجد له محترمين أقانيمه الالهية الثلاثة. ومن ذلك الحين عم السجود في الكنيسة الأرثوذكسية للثالوث الأقدس مساء أحد العنصرة عند تلاوة الأفاشين الثلاثة.
بيض الفصح
حادي عشر الاتجاه نحو المشرق أثناء الصلاة
ان اتجاه الكنائس نحو المشرق، واتجاهنا في بيوتنا نحوه في الصلاة، يشير الى ان مخلصنا ظهر للعالم من مشرق المشارق حين طلعَ علينا كشمس عقلية من البتول الكلية القداسة، فدل على ذلك النجم الذي ظهر في المشرق. ولذلك سمعنا امنا الكنيسة الارثوذكسية تنشد ليلة عيد الميلاد:” لقد افتقدنا مخلصنا من العلى من مشرق المشارق، فنحن الذين في الظلمة والظلال قد عثرنا على الحق بمولد الرب من البتول.”
ثاني عشر القمح المسلوق
كانت الكنيسة توزع علينا القمح المسلوق، نهار السبت الأول من الصوم الاربعيني المقدس، فالقمح المسلوق هو ليذكرنا بالعجيبة التي تمت في الاسبوع الأول من هذا الصوم المقدس عام 362 مسيحية على يد الشهيد العظيم القديس ثيودورس التيروني، حين كان يوليانوس العاصي، وقد رجع الى الوثنية قد لَّوث بذبائح الاصنام كل الخضار والحبوب في الاسواق، ليفسد على المسيحيين صومهم، فإذا بالشهيد المذكور يظهر لأفوكيوس اسقف القسطنطينية، ويوعز اليه ان يوصي في الكنائس جميع المؤمنين ان يتجنبوا طيلة ذلك الاسبوع أكل الخضار والحبوب المعروضة في الاسواق، ويقتصروا على أكل القمح الذي في بيوتهم مسلوقاً. وهكذا خذل الله يوليانوس الجاحد.
اما القمح المسلوق الذي تقدمه الكنيسة عن نفوس الراقدين، فهو للاشارة الى أن الراقدين سيقومون بعد انحلال اجسادهم في الارض كما تنبت حبة القمح بعد دفنها في الثرى.لذلك تأتي عادة القمح المسلوق في عيد البربارة وكل القديسين الشهداء الذين باستشهادهم نمت المسيحية كدفن حبة الحنطة في الارض لتنبت بعد موتها سنبلة قمح.
ثالث عشر القداديس والجنانيز
” إن جناز الثالث الذي يقام لراحة نفوس الراقدين يشير الى أن الأخ الراقد قد حصل من البدء على تركيبه من الثالوث الأقدس كما ذكر الأب سمعان التسالونيكي.
وأما جناز التاسع فيعني ان الذي انحلّ الى ماكان مركباً منه مزمع ان يُحصى مع المراتب الملائكية التسع غير الهيولية لأنه هو ايضاً أصبح غير هيولي. واما جناز الأربعين فيوضح أنه في القيامة المستقبلة سيرجع الى تركيبه، ولكن بدون فساد وعلى منوال أكثر سمواً، ويصعد كما صعد الرب، ويُخطف في السحب الى استقبال الديان وهذه الحالات الثلاث تدل عليها ايضاً جنانيز الأشهر الثلاثة والستة والتسعة”.
رابع عشر المشاعل والمصابيح
هنالك عادة قديمة عند المسيحيين القدامى، الغاها يوليانوس الجاحد ( ولعله بفعله هذا قد أحسن هذه المرة)
كان المسيحيون القدامى يقومون بدفن امواتهم ليلاً وسط المشاعل والمصابيح.
أما عادة اضاءة شمعة أمام الميت في الكنيسة او البيت فهي للدلالة على ان الراقد قد خرج من عالم الظلمة الى عالم النور، وأنه يواجه النور الأزلي وجهاً لوجه. واما اضاءة الشموع امام الرسائل او الصليب او الانجيل فللدلالةعلى أن الصليب المكرم او الكتاب المقدس هو نور العالم.
خامس عشر عادة تغطية المرأة رأسها في الكنيسة
لقد نبه الرسول بولس خواطرنا الى ذلك حين قال: (1كو1 : 1- 16) ” اريد ان تعلموا ان رأس كل رجل هو المسيح، وان رأس المرأة هو الرجل، ورأس المسيح هو الله، فكل رجل يصلي أو يتنبأ ورأسه مغطى يشين رأسه، وكل امرأة تصلي او تتنبأ ورأسها مكشوف تشين رأسها…”
لم يُخلق الرجل لأجل المرأة بل خلقت المرأة لأجل الرجل، لذلك ينبغي للمرأة أن يكون على رأسها غطاء علامة الخضوع”. ( اي ان الرجل يكشف رأسه دلالة على سيادته البيتية لكونه يمثل الله في بيته).
وبكل اسف في واقعنا الحالي فإن الكثير من شبابنا ورجالنا، كنوع من العصرنة والحداثة، يضعون القبعات على رؤسهم في كنائس المدينة، و العقال والكوفيات في كنائس الريف في القداديس الالهية والصلوات المتنوعة، اما وضع النساء الغطاء على رؤسهن فصارت عادة نادرة في مجتمعنا الذي كان يأنف من المرأة حاسرة الرأس في الكنيسة، وكانت المرأة تتباهى بغطاء الرأس وهذا ماوعينا عليه…
ولكن ناهيك عن التخلي عن هذه العادة المباركة في كرسينا الانطاكي العريق اساساً في تمسكه بالأصول، مع بقية الكنائس في كل مكان وعند كل الطوائف في مشرقنا، بعكس تمسك الأشقاء الأقباط في مصر بمنديل الرأس، وتمسك ابناء الكنائس السلافية الارثوذكسية برمتها في كراسي موسكو وبلغاريا ورومانيا وجورجيا ورئاسات اساقفة اوروبة الشرقية الذين تذهل الناظر طريقتهم في التمسك بهذه الاصول الايمانية، حتى عند الطفلات الصغيرات، فيما تنتشر بشكل غير مسبوق ظاهرة عدم الاحتشام في اللباس في الكنائس والخدم الالهية واتمام الاسرار كالأكاليل والعمادات والمناولات الاحتفالية (اول قربانة) في كنائسنا المشرقية الارثوذكسية والكاثوليكية بكل اسف في مجتمع عام يزداد تشدداً…
الخاتمة
تلك هي تقاليدنا الارثوذكسية الشريفة والعريقة والتي يجب ان نبقى محافظين عليها لحرصنا عليها وبأننا نحي ماضي كنيستنا الانطاكية المجيدة حيث “دعي المسيحيون اولاً” وكرسينا المؤسس من هامتي الرسل القديسين بطرس وبولس العام 42 للمسيح، وان بطرس الرسول اول بطاركته من 45- 53للمسيح، قبل ان يؤسس كرسي رومة بعشرين سنة ويكون اول اساقفته ويستشهد ، وان اسقف انطاكية حظي بتسمية البطريرك بمفرده وقبل اي اسقف لكرسي رسولي من الكراسي الرسولية الخمسة في القرون الخمسة الأولى للمسيح…
بكل الم عندما نفتخر بأبناء كراسي روسيا وسائر الكراسي في اوربة الشرقية بتمسكهم بالأصول ننسى او نتناسى او لانعرف اننا نحن من بشرناهم بأرثوذكسيتنا وهم يتمسكون اكثر بأصولنا الارثوذكسية المباركة ونحن نتخلى عنها، ونسينا اننا بصمود اجدادنا واولادنا في مسيحيتهم، ولولاهم لمابقيت المسيحية المشرقية.
لذا يتوجب علينا ان نتمسك بماضينا القويم والمستقيم الرأي المجيد.
المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة
توطئة روحية
أيتها الكواكب المنيرة للقطب العقلي……..
أضيئوا منيرين بشعاعاتكم فكري على آريوس
إن آريوس قال أن الابن غريب من جوهر الآب……..
الشعار الرثوذكسي
فليكن هو غريباً ومنفياً من مجد الله الآب
إننا نعيد هذا العيد الحاضر لهذا التدبير الذي صار وذلك بعدما لبس ربنا ومخلصنا يسوع المسيح له المجد جسدنا وفعل كل التدبيرلأجلنا بحالٍ يحتجزوصفه بشرياً، بتجسده وصلبه وآلامه وموته على الصليب ودفنه الثلاثي الأيام، وقيامته من بين الأموات ثم عاد إلى العرش الأبوي بصعوده المبارك، فأراد الآباء القديسون أن يوضحوا أن ابن الله صار إنساناً بالحقيقة، وأنه صعد وهو إنسان تامٌ وإلهٌ تامٌ، وجلس عن يمين العظمة الالهية، يمين ابيه السماوي في الأعالي.
لقد كرزمّجْمَعَ الآباءِ القديسين المجتمع في نيقية من أعمال بيثينية بهذا، واعتُرف به جهاراً أنه مساوٍ للآب في الجوهر والكرامة. فلهذا السبب رتبوا بإلهام إلهي هذا العيد الحاضر بعد الصعود المجيد كأنهم تقدموا فرفعوا شأن مجمع آباء هذا مقدارهم الذين كرزوا به أعني أن هذا الصاعد بالجسد إله حقيقي وهو إنسان تامٌ بحسب الجسد.
تاريخ عقد هذا المجمع
هو المجمع “المسكوني” الأول وهو ليس المجمع الأول على العموم، ذلك أن مجامع كنسية عدة إلتأمت في القرون الثلاثة الأولى لأهداف خاصة وفي ظروف طارئة لبحث أمور معينة تهمّ الجميع. غير أن ما يميز مجمع “نيقية” (اسم المدينة التي عُقد فيها المجمع المسكوني الاول) عمّا قبله هو أن المجامع الأولى “كانت أحداثا اكثر منها مؤسِسة”، كما يقول الاب جورج فلورفسكي. وكان مجمع نيقية، بالتالي، نموذجا للمجامع اللاحقة، وذلك لأن إهتداء الإمبراطورية الرومانية جعل الظروف تتغير عما قبل، فاستلزم وضع الكنيسة الجديد عملا مسكونيا هو بالحقيقة موجود وأصيل في الكنيسة ولكنه بان بشكل مرئي اكثر.
عقد هذا المجمع على عهد المعادل للرسل الملك قسطنطين الكبير في السنة العشرين من ملكه، حيث ان قسطنطين هذا تملك أولاً في رومية عاصمة الأمبراطورية الرومانية بعدما أمر بكف الاضطهادات الدامية بحق المسيحيين عندما اصدر براءته الشهيرة السنة 314 من ميلانو والمعروفة ببراءة ميلان التي غيرت مجرى التاريخ البشري لأنه اوقف حمامات الدم بحق المسيحيين رعايا الامبراطورية الرومانية واباح لهم حرية العبادة واطلاق ايمانهم، وكان الفضل في ذلك لأمه هيلانة ولانتصاره المدوي على قيصر الشرق ليكيانوس بالصليب الوضاء في السماء في رابعة النهار، وبعد ذلك بنى عاصمته المسماة باسمه القسطنطينية، ودشنها في السنة 320 مسيحية،، وجعلها مدينة الله العلي وحرم اقامة اي هيكل وثني فيها، ولا اقامة اي طقس وثني فيها بل جعلكها مدينة الله وعاصمة المجد الرومي المجيد، وذلك في السنة خمسة آلاف وثمانمائة وثمانية وثلاثين لآدم.
هرطقة اريوس
ولما نشأت هرطقة آريوس الذي كان من ليبيا وصار من اكليروس كرسي الإسكندرية، وفيها تشرطن شماساً من بطريركها القديس الشهيد بطرس ورئيس اساقفتها. اريوس هذا تتلمذ على لوقيانوس الانطاكي. أنكر ألوهية الإبن فأعتقد بأنه كان هناك وقت لم يكن الإبن موجودا فيه، وأعتبره رفيعا بين مخلوقات الله ومِنْ صُنْعِهِ، كما أن الروح القدس من صُنْعِ الأبن ايضاً.
ومالبث أن بدأ يجدف على ابن الله مدعياً إنه مخلوق وليس ابن الله، وإنه صار من العدم، وبعيدٌ عن الرتبة الإلهية وإنه عندما يقال له:” حكمة الله وقوته” فهو تعبير مجازي، وبالتالي حتى ان هذا التعبير المجازي مخالف لزعم “صاباليوس الملحد” القائل أن اللاهوت وجهٌ واحدٌ وأقنومٌ واحدٌ، فوقتاً ما يصير آباً وتارةً يصير ابناً وقتاً روحاً قدساً.
لذلك ورداً على تجديفه الضلالي هذا بادر معلمه بطريرك الاسكندرية القديس بطرس الشهيد فجرده من الثوب الاكليريكي واعلن بقوله: “انه ابصر المسيح مثل طفل على المذبح المقدس لابساً ثوباً مشقوقاً، وقال أن آريوس قد شقهٌ بضلاله وهرطقته”، فجرده من الكهنوت.
بعد وفاة رئيس اساقفة الاسكندرية القديس بطرس تولى السدة اشيلاس فحلّ آريوس من تجريده وحرمانه من الكهنوت، على شرط أنه يرجع عما كان يقوله من هرطقة، فوافق اريوس ظاهريا، وتابع فرسمهُ أيضاً قساً وجعله قيماً على المدرسة، فلما توفي اشيلاس انتخب الكسندروس رئيس اساقفة على الاسكندرية، هذا وجد آريوس مجدفاً اكثر من الأول، فأقصاهُ بواسطة مجمع محلي، وإنه قال قول ثاودوريطوس المجدف “أنه اعتقد أن طبيعة المسيح متغيرة، وأن الرب اتخذ جسداً خالياً من العقل والنفس”، ثاودوريطوس هذا تم تجريده أولاً، وأما آريوس فإنه اقتاد إلى إلحاده كثيرين، وكتب ناشراً بدعته الهرطوقية فاختص لذاته اتباعا انتموا الى هرطقته منهم افسافيوس أسقف نيقوميدية، وبافلينوس أسقف صور، وافسافيوس أسقف قيسارية، وغيرهم. وتطاول على الكسندروس اسقف الاسكندرية.
قام الكسندروس فأنفذ إلى أصقاع الدنيا بأسرها مخبراً عن تجديف آريوس وعن قطعه له، فانهض كثيرين إلى الانتقام منه.
اضطربت الكنيسة برمتها من هذا الالحاد ومن انشقاقها ونمت الاريوسية بشكل مخيف وصارت الاعتداءات الدموية من الاريوسيين على الارثوذكسيين، ولم يظهر اي مؤشر لوقف التدهور مع النمو المتسارع لهذه الهرطقة الشنيعة.
الدعوة للمجمع
اختلفت الآراء حول تحديد من هو صاحب المبادرة لعقد المجمع المسكوني الأول، وتنوعت حول مَنْ رئسه. غير أن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه عُقد في نيقية في ىسيا الصغرى ورئسه اسقف ارثوذكسي (ربما يكون: أوسيوس اسقف قرطبة، او افسافيوس اسقف انطاكية)، وأن الإمبراطور قسطنطين الكبير حضر افتتاحه. اول ما يَلفت نظر الباحثين هو أن علامات الاضطهادات والتعذيب لأجل المسيح – التي هدأت – كانت ظاهرة جلياً على أجساد معظم الآباء الذين أتو من كنائس العالم الروماني والفارسي ليشهدوا للمسيح الحي والغالب على الدوام. فأعضاؤهم المشوّهة او المبتورة وآثار الجروح والضرب والجلدات شهادة على أن الإيمان الحيّ الذي دونوه في نيقية كان محفوظا في قلوبهم وعقولهم ومكتوبا على صدور أجسادهم. وبصبرهم ولا يُخفى على أحد أن هذه الآلام بقيت – وسوف تبقى – رفيقة القدّيسين الشاهدين، ولعل أبرز شهادة عليها هي أن الشمَّاس اثناسيوس، الذي رافق رئيس اساقفة الاسكندرية ألكسندروس الإسكندري الى المجمع كان بطل نيقية، نُفي بعد تَرأسه سدّة البطريركية في الإسكندرية خمس مرات، وبقي خارج كنيسته ما يزيد على العشرين سنة
وفي شهادة اخرى انه ولرأب الصدع ولأن الامبراطور هو حامي الايمان الارثوذكسي القويم، تدخل الامبراطور قسطنطين ووجه الدعوة الى آباء ولاهوتيي الكنيسة قاطبة من الشرق والغرب لحضور مجمع مسكوني، وارسل اليهم مركبات ملوكية تقلهم الى نيقية من اعمال بيثينية في آسيا الصغرى، و يقال انه حضر هو بنفسه المجمع ورئسه، وقد جلس كل الآباء الحاضرين كل الى كرسيه المعد له، عندها جلس هو في كرسي عادي، وليس على كرسي الامبراطوربكل تواضع.
أعمال وقوانين المجمع
بدأ مجمع نيقية جلساته في ال 20 من أيار عام 325 حضره حوالى ال318 أُسقف معظمهم من الشرق
دحض الآباء بدعة آريوس وشهدوا للإيمان المستقيم . يعتقد بعض المؤرخين أن الآباء في نيقية سدّوا آذانهم اشمئزازاً حال سماعهم الأقوال التجديفية من اريوس، وأكتفوا ببعض العيِّنات المقروءة من رسالة آريوس “المثالية” للحُكْم عليه ، فاعترفوا بأن المسيح إله حقيقي وهو وحده يستطيع أن يفتح للإنسان طريق الاتحاد به، فلو كان يسوع أحد المخلوقات – كما إدَّعى آريوس – لاستحال عليه أن يخلّص العالم، وتاليا أن يوصله الى غاية تدبير الله الآب، وأعني التأله. وَضعَ الآباء في نيقية دستور الإيمان الذي نتلوه في القدَّاس الإلهي والعماد وغيرهما من الصلوات، ومما جاء فيه أن المسيح “إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر (هومووسيوس)”. في دستور نيقية إعلان إيمان واضح بالثالوث القدُّوس وإنما من دون توسّع بعلاقة الأقانيم في ما بينها، فالإبن الذي هو متميّز – حسب الأقنوم – عن أبيه علّةِ الوحدة في الثالوث، هو غير منفصل عن جوهره الإلهي. إصطلاح “هومووسيوس omoousios” (مساوٍ للآب في الجوهر) سببَ جدلاً كبيراً داخل المجمع وخارجه، لأن أصحاب الرأي المشؤوم ومَنْ إنقاد الى ريائهم قالوا بأن العبارة غير كتابية، واتّهموا الآباء بالوقوع ببدعة صاباليوس (الذي اعتقد بإله واحد ذات أشكال ثلاثة)، وذلك لأن عبارة “هومووسيوس” – في العالم اليوناني – كانت تفيد “الكيان الواحد”.
الافلاطونية الحديثة و الغنوصية (العرفانية) في القرن الثالث استعملتا اللفظة للدلالة على الكائن العاقل أو الشخص. بيد أن آباء المجمع الذين دحضوا “شكلانية” صاباليوس (اي الاعتقاد بإله واحد ذات أشكال ثلاثة)، والذين هم، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي، من أتباع طريق الصيادين – الرسل وليس طريقة الفلاسفة، سَمَوا فوق الفلسفة البشرية وجميع مناهجها، فعمّدوا لفظة “هومووسيوس” اي أنهم أعطوها معنى مسيحياً مؤكدين أنها وإن لم توجد حرفيا في الكتاب المقدس إلاَّ أنها مستوحاة معنوياً منه. وقد ورد في مجموعة الشرع الكنسي للارشمندريت حنانيا كساب (ص 45) أن القديس إيريناوس أسقف ليون إستعمله أربع مرَّات، كما أن الشهيد بمفيليوس روى أن اوريجانس المعلم إستعمله أيضاً بالمعنى ذاته الذي أراده له المجمع النيقاوي.
مما قاله آباء المجمع ايضاً
“بما أن الإبن هو من جوهر الآب، فالإبن إله كما أن الآب إله، وتالياً يجب القول إن المسيح هو من الجوهر الواحد مع الآب. وضع مجمع نيقية تحديداً في تعيين تاريخ عيد الفصح، فأقرّ القاعدة التي كانت كنيسة الإسكندرية تحتفل بموجبها بالعيد، وهي التي تجعل عيد الفصح يقع بعد أول بدر بعد الاعتدال الربيعي في 21 آذار وبالتالي الاحتفال به بعد عيد الفصح الناموسي عند اليهود. كما عني المجمع بتنظيم الكنيسة الإداري فسنَّ عشرين قانونا، منها تثبيت رفعة مكانة الكَراسي الثلاثة الكبرى وهي رومية والإسكندرية وأنطاكية (قانون 6) وقرر أن يحتل كرسي أُورشليم مكانة الشرف الرابعة على أن يبقى خاضعا لمتروبوليت قيصرية فلسطين. لم يأتِ مجمع نيقية على ذكر القسطنطينية لأن مدينتها دُشنت بعد المجمع بخمس سنوات.
آباء المجمع النيقاوي
وكان بين هؤلاء الآباء القديسين مئتان واثنان وثلاثون رئيس كهنة وكاهن وشماس وستة وثمانون راهباً، وكان العدد الاجمالي ثلاثمائة وثمانية عشرأباً وكان اشهرهم سلبسترس اسقف رومة وميطروفانيس القسطنطيني الذي كان مريضاً فحضر هذان الاسقفان الكبيران بوساطة نوابهما، وحضر الكسندروس الإسكندري مع اثناسيوس الكبير لأنه كان في ذلك الوقت رئيس الشمامسة، وافسطاثيوس البطريرك الإنطاكي ومكاريوس الأورشليمي، والبار كوذروفيس الأسقف وبفنوتيوس المعترف ونيقولاوس وسبيريدونس تريميثوندس الذي هناك قهر الفيلسوف وعمده لما أوضح له النور المثلث الشموس، واثناء عقد هذا المجمع انتقل إلى الخدر الالهي اثنان من رؤساء الكهنة، فوضع قسطنطين الكبير شعار هذا المجمع المقدس في تابوتيهما وختمهما، “فوجد ذلك الحد مختوماً، وممضى منهما بكلمات الله التي لا يُلفظ بها”
فلما انقضى مجمع نيقية، وكانت القسطنطينية التي بناها قد اكتمل بناؤها استدعى قسطنطين الكبير جميع أولئك الرجال القديسين فذهبوا معه جميعهم، ولما صلوا ختموا وثبتوا أن هذه المدينة القسطنطينية كفؤ لأن تصير ملكة المدن وأوقفوها لأم الإله العذراء الطاهرة تنفيذا لرغبة الملك قسطنطين وهكذا توج الآباءه القديسون كل منهم إلى مكانه.
موت اريوس
لكن قبل أن ينتقل قسطنطين الكبير إلى الاخدار السماوية في حضن الله، لما كان يدبر الملك مع ابنه قسطنديوس تقدم آريوس إلى الملك قائلاً له أنه ترك هرطقته ويريد أن يعود الى كنيسة الله، فكتب تجديفه في قرطاس وعلقه في عنقه على صدره، وكأنه خاضع للمجمع وكان يضرب بيده على تلك الكلمات المكتوبة في القرطاس، ويقول إني أذعن لهؤلاء اي لاباء المجمع، فاقتنع الملك بكلامه ورغب الى بطريرك القسطنطينية أن يقبل آريوس في الشركة الإلهية مجدداً، وكان في ذلك الوقت البطريرك الكسندروس بطريرك الاسكندرية لايزال في القسطنطينية وكان عارفاً برداءة وخداع اريوس، فكان مشككاً به ومرتاباً ومتضرعاً إلى الله أن يكشف له الحقيقة، إن كان حسب إرادته تعالى يريد أن يشترك مع آريوس في الذبيحة الالهية، فلما حضر الوقت الذي فيه وجب أن يقدس مع اريوس استمر الكسندروس البطريرك في الصلاة، ريثما يصل اريوس الى الكنيسة.
اما آريوس فلما كان آتياً إلى الكنيسة ليقدس مع الكسندروس، وهو عند عامود السوق اصيب بمغص مفاجىء مؤلم، فدخل إلى مستراح عام في السوق، وهناك انشق جوفه كما حصل بالخائن يهوذا لأنه في تجديفه على المعلم الالهي وجعله مخلوقاً عاديا، ساوى نفسه بخيانة يهوذا وبتسليم الرب مقابل ثلاثين من الفضة، ووجدوه ميتاص في اقذر مكان وبأشنع الميتات وكان مشقوقاً جزاء على شقه الكلمة الالهية الرب يسوع من الثالوث الأقدس، وبذلك ارتاحت كنيسة الله من اذيته.
فبشفاعات قديسيك الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر المتوشحين بالله أيها المسيح إلهنا ارحمنا آمين.
العدوان الفرنسي على دمشق ومذبحة حامية البرلمان في 29 ايار 1945
مقدمة
شهد شهر أيار على مر التاريخ أحداثاً عظاماً حددت مسارات أمة وخيارات شعب، لكن ما كرسه هذا الشهر من معانٍ سامية، يميزه عن الشهور الأخرى، وخصوصاً لدى الشعب العربي السوري، الذي يُذَّكره أيار بتضحية الذين ناضلوا في سبيل حرية بلدهم واستقلالها، فدفعوا حياتهم ثمناً غالياً للوطن الأغلى، وأغدقوا على مذبح التضحية من خصوبة أرواحهم وطهره دمائهم الكثير.
شهداء الدرك والشرطة في البرلمان بالعدوان الفرنسي
لقد حفل شهر أيار في منتصف القرن العشرين بأيام مشهودة سواء على الصعيد العالمي أو المحلي، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية بإعلان استسلام ألمانيا النازية في التاسع من أيار من عام 1945، تبدى واقع جديد في العالم مع نشوء توازنات جديدة تحكمه، ورفعت الشعوب التي كانت محكومة بالاستعمار الأجنبي في مختلف القارات صوتها مطالبة بالحرية والاستقلال، في مسعى أن تأخذ بيدها مقدراتها وتتحكم بمسار تطورها وحياتها، وفيما حاول الاستعمار القديم الاحتفاظ بمواقعه السابقة، كان مسار التاريخ يأخذ تطوره الطبيعي، وشعوب الأرض قاطبة ترفع رأسها ووتيرة مطالباتها، ومن بينها شعوبنا العربية التي أحبطها سابقاً حجم الخديعة التي تعرضت لها إبان الحرب االكونية الاولى من دولة واحدة بقيادة الشريف حسين الى تقسيم المنطقة بسايكس بيكو كغنيمة حرب بين القوى الكبرى، متمثلة آنذاك بالاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي.
أماسورية، فقد كانت على موعد مع يوم عظيم، وكما عرفت في6 ايار 1916 اعدام قوافل الاحرار بأمس السفاح التركي احمد جمال في دمشق وبيروت ليعود المستعمر الفرنس في 29 ايار 1945 باعدام شهداء سورية من الدرك والشرطة ومدنيين بغدر وقصف وحشي على دمشق وبرلمانها لأن سورية ممثلة بحكومتها الوطنية طالبتهم وانتصرت عليهم بضرورة خروجهم من سورية كما وعدوا قبيل احتلالهم لسورية.
ولمّا تراجع الاحتلال الفرنسي عن وعوده، وأراد أن يفرض الأمر الواقع على شعب ودولة اعتادا التمرد والثورة على كل ظالم، انتفض الشعب السوري بكل طبقاته وفئاته ورفض الإذعان لإملاءات القوة الاستعمارية، فكان ما كان من تدمير دمشق واستشهاد عناصر حامية البرلمان السوري، الذين سطروا أروع صور البسالة في مقارعة العدوان الفرنسي والدفاع عن رموز وطنهم وحريته واستقلاله. الأرضية التاريخية
لعب نشوب الحرب العالمية الثانية دوراً كبيراً في تغيير الأوضاع على المستوى الدولي، فقد انخرطت الدول الاستعمارية الرئيسة في صراع حاد مع دول المحور مما أدى إلى تغير في موازين القوى، إذ وجدت دول كبرى سابقة – كبريطانيا وفرنسا – نفسها عرضة للاحتلال أو التدمير، وتمكنت الجحافل النازية من احتلال أوربة وروسيا ووضعت بريطانيا فيما يشبه الحصار.
لكن دخول الاتحاد السوفييتي الحرب على طول جبهته الواسعة ودخول الولايات المتحدة كطرف قوي على الجبهة الغربية حولا مسار الحرب لصالح الحلفاء مجدداً، فأطبقت قوات الحلفاء من الشرق والغرب على ألمانيا مما أدى إلى انكسار القوات الهتلرية، وبدأت تباشير هذه الهزيمة تلوح في عام .1944
مبنى البرلمان االسوري عام 1936
وضع المستعمرات
كانت الشعوب الواقعة تحت الاستعمار تغلي على وقع توالي الأحداث التي هزت العالم، فقد ترافق تعاونها مع الدول الاستعمارية إبان الحرب العالمية الثانية للتخلص من النازية، بآمال عراض لنيل الكرامة والاستقلال، فبدأت الهند كبرى المستعمرات البريطانية تجيش بثورات شعبية سلمية يقودها زعيمها التاريخي المهاتما غاندي، وفي إفريقيا كما في آسيا كانت الشعوب تطمح إلى الاستقلال والحرية كسياق طبيعي بعد الحرب العالمية الثانية التي خاضتها شعوب أوربة – ومنها شعوب الدول المستعمَرة – تحت نفس الشعارات
ولم يكن الوضع في سورية بعيداً عن هذا الاصطخاب العالمي الكبير، ففرنسا – البلد المستعمر – انقسمت بين جماعتين واحدة موالية لألمانيا النازية وعرفت بحكومة فيشي، فيما أعلن الجنرال ديغول الذي كان قائد القوات الفرنسية في الجزائر الانشقاق عن حكومة فيشي وترأس ما كان يسمى حكومة فرنسا الحرة ومقرها مدينة الجزائر.
وهكذا شهدت سورية صراعاً بين القوات التابعة لحكومة فيشي وقوات حكومة الجنرال ديغول بالتحالف مع الإنكليز، حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سورية في صيف عام 1941
وبعد أن استتب الأمر للقوات المتحالفة قام الجنرال ديغول بجولة في سورية ولبنان اجتمع خلالها بزعماء البلاد، وأصدر قراراً بتسمية الجنرال كاترو مفوضاً سامياً لحكومة فرنسا الحرة في سورية ولبنان عام 1942.
وعلى إثر ذلك أذاع الجنرال كاترو (باسم الجنرال ديغول) وثيقة كاترو الذي وعد فيه سورية ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.
جريدة القبس 23 حزيران 1941 سورية تحصل على الاستقلال قام الجنرال كاترو بتعيين الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية الوليدة، وذلك في حفل رسمي دعا إليه المعتمد الإنكليزي والقنصل المصري والقنصل الإيراني وبطريرك دمشق، ونفراً من الرجالات السوريين، وتلا كتاب الاعتراف بالدولة السورية، وطلب من الشيخ تاج الدين الحسيني تولي رئاسة الدولة، فقبل الشيخ الحسيني طلبه. إلا أن ذلك لم ينل رضا القوى الوطنية السورية التي كانت ترى في الحسيني ولاءً مطلقاً للسياسات الاستعمارية السابقة، فاشتدت الاحتجاجات والضغوط على الجنرال كاترو لتغيير هذا القرار، ومن ذلك أن الزعيم الوطني المحبوب
فخري البارودي ارسل فيها عريضة للجنرال كاترو،
يحتج فيها على قرار التعيين هذا جاء فيها «”إذا كان في عزم السلطة الشروع في مفاوضات عتيدة لعقد المعاهدات التي ضمنها تصريح الحلفاء، فليست هناك وسيلة صالحة لهذا الغرض إلا استشارة أبناء البلاد عن طريق مجلس نيابي دستوري ينتخب انتخاباً حراً. إنها وسيلة وحيدة، وكل وسيلة سواها ليست إلا إثارة للقلاقل والاضطرابات.” وبناء على هذا الاحتجاج الواسع، تم في عام 1942 إجراء انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية. ومع وفاة الشيخ تاج الدين الحسيني في 17 كانون الثاني من عام 1943، ارتأى كاترو أن يتنازل للقوى الوطنية، فقام بتعيين السيد عطا الأيوبي رئيساً للحكومة السورية المكلفة بإجراء انتخابات تشريعية جديدة ورئيساً لدولة سورية بالوكالة. وفي 22/3/1943 تم الاتفاق بين ممثلي الحكومتين السورية واللبنانية وبين قائد الجيش الفرنسي في سورية ولبنان الجنرال كاترو على تسليم الصلاحيات الدستورية التي تمثلها سلطات الاحتلال إلى الحكومة السورية، وزف سعد الله الجابري وهو يبكي البشرى للمجلس النيابي وللشعب، حيث عدت تلك الجلسة جلسة إعلان الاستقلال، فعم الفرح والابتهاج كل المحافظات والمدن السورية. وقد جرت هذه الانتخابات فعلاً في 7 تموز من عام 1943 والتأم المجلس النيابي الجديد، فتم انتخاب فارس الخوري رئيساً له، وانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعدالله الجابري، وكان هذا بداية عهد الجمهورية الثالثة في سورية والتي أصبح اسمها “الجمهورية السورية.” إلا أن مخططات الاحتلال الفرنسي لم تكن متوافقة مع رغبة الشعب العربي السوري في الحصول على استقلاله الناجز الكامل، ومن ذلك تصريح الجنرال كاترو الذي نشرته صحيفة صوت الأحرار بأن «السلطات الفرنسية ستحتفظ بالجيش الخاص بها إلى ما بعد نهاية الحرب، وأنها لا تقبل أي حل آخر.” ومر عام 1944 في عملية تسليم واستلام بين إدارات الانتداب والإدارات السورية الناشئة وقد سلمت سلطات الانتداب إلى السلطات السورية جميع المصالح الحكومية ماعدا ادارتين اثنتين: القطعات العسكرية وإدارة الأمن العام.
جميل مردم بك وطلبت الحكومة السورية ممثلة بوزير خارجيتها جميل مردم بك من المفوض السامي الجديد للحكومة الفرنسية الجنرال بينيه السرعة في تسليم هاتين الإدارتين إلى الحكومة السورية في بداية 1945 ولكن المفوض السامي استمهل لمشاورة حكومته ثم عاد باقتراح غريب، وهو عقد معاهدة جديدة تحدد العلاقات بين فرنسا وسورية لمدة 25 عاماً قابلة للتجديد، ورد عليه وزير الخارجية السورية بأنه جرى عقد معاهدة سابقة بين الطرفين عام 1936 ولكن الحكومة الفرنسية تجاهلتها ولم تصدقها لذا فلا مجال للعودة إلى الوراء! المخططات الفرنسية في بقاء الاحتلال مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، أخذت تتبدى شيئاً فشيئاً مخططات المستعمر الفرنسي في الحفاظ على وضعه الاستعماري السابق، وعدم إفساح الفرصة أمام الشعوب – وخصوصاً الشعوب العربية – في الحصول على استقلالها الناجز التام، خصوصاً بعد رجحان كفة الحلفاء في الحرب، وقرب هزيمة ألمانيا النازية، حيث حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على بلاد الشام (وخصوصاً سورية) وأخذت تماطل في تسليم كافة السلطات للحكومة السورية الشرعية
صورة قديمة لمجلس الشعب قضية الجيش الوطني وتبدت هذه المماطلة بأجلى صورها، في ممانعة سلطات الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال كاترو لقيام جيش وطني سوري مستقل، يأخذ أوامره من الحكومة السورية بدلاً من أن يتلقاها من سلطات الاحتلال، وقد وصلت هذه القضية ذروتها مع مطلع العام 1944، عندما عقد المجلس النيابي جلسة بتاريخ 3-1-1944 احتج فيها بشدة على تصريحات الجنرال كاترو، وطالب النواب فيها بشدة من الحكومة أن تأخذ زمام المبادرة بغض النظر عن الموقف الفرنسي، وتباشر في تشكيل جيش وطني لا علاقة له بالسلطات الفرنسية، وكان قد عقد في اليوم الذي سبقه اجتماع شعبي كبير في منزل أحد قدماء المحاربين طالبت فيها الفعاليات الشعبية والعسكرية بإنشاء جيش وطني وخرج بعدها الشباب الحاضرون في مظاهرة مرددين شعار “ما في عيش بلا جيش”، وقد انتقلت المظاهرات إلى بقية المدن السورية مرددة المطالب ذاتها. أثارت قضية تبعية الجيش للسلطات الفرنسية الشعور الوطني لدى كافة طبقات وفئات الشعب السوري الذي رأى فيها مسألة مصيرية يتم فيها تحديد حقيقة استقلال سورية من عدمه، ومع مطلع العام 1945 كانت الأمور قد وصلت إلى ذروتها، فقد عقد المجلس النيابي جلستين بتاريخ 13-1 و24-1-1945 لبحث قضية الجيش وتبارى النواب بالضغط على الحكومة لتقصيرها في هذه المسألة ومحاباة فرنسا، وأكد بعض منهم أن الشعب سيقوم بإنشاء الجيش بالقوة وأن النواب سيدعون كل الضباط والجنود السوريين للانضمام إلى الجيش الوطني فورا.ً وبتاريخ 1 شباط عقدت جلسة أخرى سرية، واتفق فيها النواب على الخطوات الآتية 1- شراء السلاح حتى ولو عن طريق التهريب 2- إنشاء نواة للجيش والبدء بتسليحه 3- منح الحكومة صلاحية دعوة ضباط الجيش السوري وأفراده للالتحاق بالجيش الوطني. وبتاريخ 1-5-1945 بحثت القضية مرة أخرى، حيث أصر النواب على عدم البحث بالتشريع الخاص بالجيش قبل استلام الجيش من السلطات الفرنسية. وفيما كان النواب يبحثون عن الطريقة التي يدفعون بها السلطات الفرنسية للوفاء بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها في إعلان كاترو الشهير، كانت فرنسا تعد العدة لانتهاج أسلوب آخر في التعامل مع المطالب السورية المشروعة، سواء منها الرسمية أو الشعبية، مما دفع الوضع برمته إلى منعطف خطير.
الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي بسورية الأيام التي سبقت العدوان الفرنسي بدأت التحرشات الفرنسية بالحكومة السورية مع إطلالة شهر أيار وانتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الحكومة السورية أعلنت الثامن من أيار يوم احتفال بالنصر على النازية، إلا أن حدة التوتر في البلاد كانت في ارتفاع مستمر، وانطلقت المظاهرات الغاضبة في مختلف المدن السورية.
الجنرال أوليفا روجيه
قائد حامية دمشق الفرنسية وبتاريخ 18-5-1945 عقدت مباحثات بين وفد فرنسي بقيادة الجنرال بينيه المندوب العام مع وزيري خارجية سورية ولبنان، ورفضت سورية أن يكون الجنرال أوليفا روجيه من ضمن الوفد الفرنسي مما جعله يحقد على سورية والمسؤولين فيها. وقد جاءت المطالب الفرنسية أثناء المفاوضات متنافية مع السيادة والحرية واتخذت طابع الإنذار والفرض، وتزامن ذلك مع إنزال تعزيزات عسكرية فرنسية كبيرة في ميناء بيروت، ونتيجة لذلك قررت الحكومتان السورية واللبنانية قطع المفاوضات وتهيئة البلاد لجولة من العنف الذي ستمارسه القوات الفرنسية. وقد تزامن كل ذلك مع الإعلان عن الحالة الصحية الصعبة لرئيس الجمهورية السورية الرئيس شكري القوتلي فنشأ عن ذلك ارتفاع في حدة التوتر الشعبي واتسعت المظاهرات الصاخبة فشملت معظم المناطق وارتفعت أصوات النواب تحت قبة البرلمان تدعوا للمقاومة واستدعى جميل مردم بك رئيس الوزراء بالوكالة الزعيم عبد الله عطفة بتاريخ 21-5-1945 لوضع خطة لاستدعاء ضباط وجنود الوحدات الخاصة لتشكيل جيش وطني، وشرعت المدن السورية تتأهب لرد أي عدوان مسلح وقدم المئات من الشبان أنفسهم كمتطوعين لحمل السلاح كما بدأ الضباط والجنود بالالتحاق بقوى الدرك والشرطة وكذلك فعل العديد من النواب اللذين ارتدوا اللباس العسكري وصاروا يتدربون على القتال في ثكنة الشرطة الموجودة في القلعة. في 23-5-1945 طلب الجنرال باجيت القائد العام للجيش البريطاني التاسع من مقر قيادته في مصر من الجنرال الفرنسي أوليفا روجيه تجنب الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها المدرعات الفرنسية المرابطة في شوارع دمشق
وديرالزور بين الفرنسيين والأهالي وسقط فيها العديد من القتلى والجرحى.
أثر القصف الفرنسي على أحياء دمشق النية المبيتة للعدوان على دمشق كانت نية الفرنسيين في العدوان على دمشق قد غدت جلية للعيان، حيث نقل العسكريون الفرنسيون عائلاتهم إلى ثكنات المطار والمعسكرات، واستقدموا قوات جديدة نزلت على الشواطئ اللبنانية، وبدؤوا بنشر المصفحات والدبابات في الأماكن الرئيسية الحساسة في دمشق. الخطة الفرنسية في العدوان على دمشق كانت الخطة الفرنسية التي وضعها الجنرال الحاقد أوليفا روجيه تهدف إلى ضرب المجلس النيابي السوري وقتل كافة الوزراء والنواب من أجل إحداث فراغ دستوري يسمح للفرنسيين أن يأتوا بأعوانهم إلى سدة السلطة، وضرب مركز الشرطة والدرك في القلعة واحتلال جميع دوائر الدولة وتجريد الشعب من السلاح وفرض الحكم العسكري الفرنسي المباشر. وحدد يوم 29 أيار لبدء العدوان حيث كان مقرراً عقد جلسة للمجلس النيابي يحضرها الوزراء في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، ومن أجل إيجاد ذريعة لبدء العدوان طلب الفرنسيون من حامية المجلس النيابي أن تصطف لتحية العلم الفرنسي عند إنزاله مساءاً من فوق سارية دارالأركان الفرنسية (دار المندوبية) التي كانت تقع مقابل البرلمان مباشرة (في الموضع الذي شيد عليه بناء السكري فيما بعد).
العسكريون السوريون يعلنون التمرد في ذلك الوقت كان العسكريون السوريون العاملون تحت إمرة القوات الفرنسية في حالة تململ وتوتر بسبب خطورة الوضع الذي اتضحت أبعاده، وأخذت أعداد كبيرة من الضباط وصف الضباط والجنود يفرون من ثكناتهم ويلتحقون بالقوات الوطنية، فيما رفض أولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار تنفيذ الأوامر، مما حدا بالقيادة الفرنسية إلى استشعار الخطر وارتأت القيام بتحرك سريع وحاسم قبل أن يفلت من أيديها زمام الأمور.
الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي
أمام مدخل مبنى البرلمان بعد دماره وقائع العدوان في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 29 أيار 1945، وجه الجنرال روجيه إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي يهدده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين يعتدون على الجنود الفرنسيين، ويطلب إليه أن تقوم قوات الشرطة والدرك السورية المرابطة حول المجلس بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس. وكان عدد قليل من النواب قد جاؤوا لحضور جلسة البرلمان ولما لم يكتمل النصاب طلب رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري من النواب الانصراف، وقد ألغيت جلسة مجلس النواب في تمام الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه، وكذلك انصرف الوزراء الذين حضروا إلى المجلس. وعقدت الحكومة الوطنية اجتماعاً سرياً طارئاً في منزل أحد الوزراء لبحث الوضع، بعد أن طوقت المصفحات الفرنسية دار الحكومة والمجلس النيابي، وكانت حشود من جماهير دمشق قد خرجت إلى الشوارع للإعراب عن غضبها على التصرفات الفرنسية في محاولة لفك الحصار عن المجلس النيابي، فوجدت نفسها في مواجهة القوات الفرنسية وقد رفضت حامية مبنى المجلس النيابي (البرلمان) أداء التحية للعلم الفرنسي أثناء إنزاله من على ساريته في دار الأركان الفرنسية الذي يقع في مقابل مبنى المجلس، بعد أن تلقى قائدهم مفوض الشرطة سعيد القهوجي أمراً بالرفض من رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري، فاتخذ الفرنسيون ذلك ذريعة لمهاجمة حامية البرلمان، مستخدمين قوات السنغال، المزودة بالأسلحة الفتاكة من مدافع هاون ورشاشات كبيرة وصغيرة ودبابات ومصفحات.
بعد قصف البرلمان وتدمير معظم مبانيه
تم تخريب ونهب ما سلم من الأثاث ومكاتب البرلمان في تمام الساعة السادسة وخمسين دقيقة فتح جنود الحامية الفرنسية المرابطون في شارع النصر النار على المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية، وفي نفس اللحظة دوى صوت القنابل وطلقات الرصاص وهي تنطلق من دار الأركان الفرنسية تجاه البرلمان، ولم يطل الوقت حتى كانت جميع المراكز الفرنسية في دمشق تشارك في إطلاق الرصاص والقنابل، فيما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيرانها باتجاه مبنى البرلمان بكامل قوتها، بينما استحكم رجال الدرك السوري ورجال الشرطة المولجون بالدفاع عن البرلمان وراء متاريسهم، وشرعوا في مقاومة ضارية لوقف تقدم القوات الفرنسية، معتمدين على أسلحتهم المتواضعة، رافضين الاستسلام لقوات المستعمر، ومدفوعين بحب الوطن والدفاع عن عزته وكرامته، ولم يمر وقتاً طويلاً حتى أخذت ذخيرة المقاومين تنفذ، والخسائر بين صفوفهم تزداد، وهم يقاتلون في مواجهة آلة عسكرية تفوقهم قدرة على نحو كبير، واستمروا بالقتال حتى نفذت ذخيرتهم، عندها اقتحمت القوات الفرنسية مبنى البرلمان لتنفذ أبشع جرائمها الوحشية، بتمزيق أجساد الناجين من المقاومين بالسواطير والحراب، والتمثيل بجثث من استشهدوا، ومن بين المدافعين الذين كان عددهم ثلاثين مقاوماً، استشهد ثمانية وعشرون، وبقي اثنان من عناصر أمن المجلس النيابي، هما شهير الشراباتي (ورد في بعض المراجع باسم شهير الترياقي أو الشراياتي) وإحسان بهاء الدين اللذان استطاعا الفرار والنجاة من الموت المحقق بأعجوبة، بالإضافة إلى الشرطيين إبراهيم الشلاح ومحمد مدور، اللذين تظاهرا بالموت بعد أن رميا نفسيهما بين القتلى، ليصبحا الشهيدين الحيّين، وليرويا فيما بعد وقائع هذه المجزرة الرهيبة، (كما يذكر أبناء عائلة برنية أن شقيق الشهيد عبد النبي برنية – محمد برنية – كان موجوداً وتعرض لنفس المعاملة، ولكن الله كتب له النجاة وأصبح مختاراً لحي برنية فيما بعد). وقد تم التمثيل بأجساد الشهداء أشنع تمثيل وقد شوهدت بعض الجثث بلا آذان وبعضها مقطعة الأيدي وبعضها مفقودة العينين كما شوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.
محمد مدور
شاهد عيان على المجزرة شهادة الشهيد الحي محمد مدور: وقد روى الشهيد الحي محمد مدور فيما بعد شهادته التي تقشعر لها الأبدان، ومما قاله في تقريره: “حوالي الساعة السابعة تماماً من مساء يوم الثلاثاء الواقع في 29 أيار 1945، أنزل الفرنسيون علمهم دون أن نحييه كما كانوا قد طلبوا منا، لذلك فتحوا النار من جميع الجهات، وكنت واقفاً مع ثلاثة من زملائي هم: ياسين البقاعي وأحمد القصار ويحيى اليافي، فما شعرت إلا وهم يسقطون صرعى، فألقيت بنفسي من سدة السلك الدبلوماسي إلى بهو المجلس، وقد كسرت ساقي وزحفت قليلاً حيث شاهدت المفوض سعيد القهوجي ومحمود الجبيلي ومشهور المهايني وإبراهيم الشلاح وهم يطلقون النار على المهاجمين من بنادقهم ويصيحون: «الله أكبر، الله أكبر»، وعندما شاهدوني حاولوا إسعافي، ثم تراجعوا إلى القبو، وبعد لمحة شاهدت العريف عبد الله باش إمام وبيده رشاش كان يطلق منه النار على زمرة من الجنود السنغال لكنهم تغلبوا عليه وطلبوا منه أن يحيي فرنسا والجنرال ديغول، فرفض فقتلوه شر قتلة، ثم مثلوا بجثته. بعدئذ اندفعوا إلى القبو حيث عثروا على المفوض سعيد القهوجي ورفاقه، وبعد أن قتلوهم جميعاً وقطعوهم إرباً إرباً بواسطة السواطير، سلبوا نقودهم وساعاتهم، وأثناء عودتهم مروا بي وأنا ملقى على الأرض مضرجاً بالدماء ،الأمر الذي جعلهم يظنون بأني من الموتى. ثم ساد السكون بعد ذلك وشعرت بأربعة جنود يحملونني ثم يلقون بي بين الجثث في سيارة شحن كبيرة، سارت مدة ثم توقفت، ولا أعلم أين كان ذلك، ثم صعد جندي فرنسي أخذ يركل الجثث واحدة تلو الأخرى، وهو يعدهم، وقد وصل ذلك العدد إلى ثمانية وعشرين جثة، ولما جاء دوري في الركل بدرت مني بادرة حياة، الأمر الذي دعاه إلى إلقائي على الأرض ثم مناداة المشرف على عملية دفن الموتى في حفرة كبيرة، وكان هذا لحسن الحظ من الضباط، فأمر بنقلي إلى المستشفى العسكري الذي كان قريباً من المجلس النيابي، حيث تماثلت بعد مدة للشفاء وعلمت أن ما حصل لي، قد حصل لزميلي إبراهيم الشلاح.”
إبراهيم الشلاح
شاهد حي على المجزرة شهادة الشهيد الحي إبراهيم الياس الشلاح في التاسع من حزيران عام 1945 استدعى المفوض يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق الشرطي إبراهيم الشلاح إلى مقر شرطة دمشق، مخفر المركز بناء على أمر من مديرية الشرطة العامة القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم الشلاح، وأعد المفوض يوسف سقاباشي التقرير التالي: “في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الموافق في التاسع من شهر حزيران 1945 نحن مفوض المركز يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق نثبت ما يلي: بناء على أمر مديرية الشرطة العامة، القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم شلاح رقم 287 الذي أصيب بجروح مختلفة ضمن البرلمان أثناء الحوادث الأخيرة، وعليه فقد ذهبت إلى مستشفى الإيطالي وقد شاهدته ممدداً على فراشه وهو مصاب بجروح في رأسه وأنفه ويده وساقه وعليه فقد بوشر بالتحقيق معه على الوجه التالي: هويته: اسمي إبراهيم إلياس الشلاح من سكان محلة باب توما رقمي 287 شرطي في مجلس النواب عمري 35 سنه متأهل ولي أولاد متعلم سوري. إفادته: حدثنا عن كيفية مصرع المفوض سعيد القهوجي ورفاقه وأسباب الحادث الذي أصبت فيه. فأجاب: “في مساء يوم الثلاثاء الواقع في التاسع والعشرين من شهر أيار 1945 بينما كنت في البرلمان مع بقية المراتب وعلى رأسنا المفوض سعيد القهوجي، وكان اجتماع لمجلس النواب يعقد بالبرلمان في الساعة الخامسة، وإذ بسلطة إفرنسية من الأركان الحربية ترسل إنذاراً إلى الحامية الموجودة في البرلمان من الدرك والشرطة بوجوب أخذ التحية الرسمية للعلم الفرنسي حين إنزاله من على بناء الأركان الحربية وإلا فالسلطة المذكورة مضطرة لإطلاق النار وبالحال انفضت جلسة مجلس النواب لأنه لم يكتمل النصاب القانوني. وفي الساعة التاسعة عشرة أنزل العلم الفرنسي ولم يأخذ الشرطة أو الدرك التحية الرسمية للعلم الفرنسي، وبعد برهة عشر دقائق بوشر بإطلاق الرصاص والقنابل وغيرها من الأسلحة المتفجرة على البرلمان من جميع أطرافه، أخذنا بالرد عليهم بالمثل حتى نفدت الذخيرة فدخلنا إلى قاعة البرلمان الداخلية ودام إطلاق الرصاص والمتفجرات حتى الساعة العشرين والنصف تقريباً بشكل متواصل.
جثث ضحايا القصف الفرنسي لدمشق وفي هذه الأثناء طلب مني السيد شفيق المملوك قائد الدرك الصعود إلى الطابق العلوي لإسعاف الجرحى فأخذت معي ثلاثة من الدرك وبينهم السيد ياسين البقاعي وزحفنا كي لا نصاب بشظايا القنابل، أنزلنا الجرحى وأثناء نزولنا أصيب السيد ياسين البقاعي بطلقة رصاص في رأسه وتوفي في الحال، وأخذنا بإسعاف الجرحى في الصالون بوسائل بدائية ومن بين الجرحى زميلي السيد محمد مدور الذي أصيب بشظايا قنبلة، واستمر إطلاق النار حتى تهدمت واجهة بناء المجلس النيابي فسألت عن المفوض السيد سعيد القهوجي فقالوا إنه خرج إلى الحديقة فتبعته ووجدته مع اثنين من الشرطة وهما السيدان مشهور المهايني ومحمود الجبيلي، وإذ بالدبابات والمصفحات تهجم من الباب الخلفي الحديدي وبرفقتها مشاة من السنغال وهم يطلقون النار وكنا أربعة، مشهور المهايني ومحمود الجبيلي وسعيد القهوجي وأنا، واتجهت الدبابات إلى باب المجلس الداخلي وأخذوا يطلقون النار عليه حتى تهدم فخرج رجال الدرك والشرطة الموجودون في المجلس فإذا بالجنود الفرنسيين يطلقون عليهم الرصاص والرشاشات، وما زلنا نسمع أصوات الاستغاثة والأنين وإذ بخمسة من رجال الدرك يدخلون إلى القبو حيث نحن موجودون من النافذة الخلفية، وقد شوهدوا من قبل الجنود الفرنسيين فاتجهت أنظارهم إلينا وأخذوا يطلقون نيران أسلحتهم وكانت ذخيرتنا قد نفدت وطلب منا قائد الحامية الفرنسية الخروج فخرجنا رافعين أيدينا إلى الأعلى فتقدموا منا وأخذوا ينحروننا ويفتشوننا وكانوا يأخذون الأشياء الثمينة كالساعات والخواتم والنقود وغيرها وحاول أحد الجنود أن يخرج خاتماً من إصبع أحد الدرك فلم يستطع إخراجه فما كان منه إلا أن ضربه بساطور على مفصل إصبعه فقطعه وأخرج الخاتم وصاح الدركي من الألم وللحال ضربوه بالرصاص من الرشاشات وما زلنا ننتظر مصيرنا حتى فرغوا من تفتيشهم، وصفونا نحن الثمانية: أربعة من الشرطة وأربعة من الدرك، صفاً واحداً وأخذوا يطلقون الرصاص من بنادقهم وسقطنا جميعاً على الأرض وكانوا يضربون كل فرد يتحرك إذا وجدوه لا يزال حيا.ً
ضحايا المجزرة وكان نصيبي من هذه الرصاصات رصاصة دخلت في ثديي الأيسر وخرجت من ثديي الأيمن وأخرى في خاصرتي والثالثة في يدي حطمت عظم مشط الكف وحين حركت رأسي ضربني أحد الجنود السنغال على رأسي محاولاً قطعه فأصابني في أنفي وأخذ الدم يسيل على وجهي وحين حركت يدي من دون شعور داس أحدهم عليها بحذائه العسكري فلم أعد أتحرك أبداً وضربني ضربة أخيرة من بسطاره على رأسي لكي يتأكد من موتي وبقيت محافظاً على وعيي الكامل على الرغم من كل هذه الإصابات التي أصبت بها وذلك حفاظاً على حياتي. وتوجهوا إلى المفوض السيد سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي في الحال كما قام الجنود بربط أحدهم في شباك البرلمان وأخذوا يضربونه بالحراب في كل أنحاء جسمه حتى فارق الحياة، ثم دخلوا إلى مبنى المجلس فوجدوا السيد عبد اللـه برهان ابن حسين باش إمام فأخرجوه وسألوه عن بقية الأفراد، فقال:” قتلتوهم اللـه يقتلكم” فصاح الجنود تحيا فرنسا فقال:” فلتسقط فرنسا” فما كان من أحد الجنود إلا أن قطع رأسه بضربة ساطور فتدحرج رأسه على الأرض ونفر الدم على باب المجلس ولا يزال أثره موجوداً، وخطا خطوة ونصف الخطوة من دون رأسه ثم سقط على الأرض وكان بدني يقشعر من هول هذه المناظر الوحشية، ثم تركونا وذهبوا إلى جهة البرلمان اليسرى فلويت رأسي إلى الجهة اليسرى، وشاهد حركتي هذه أحد الجنود فأطلق رصاصة على رأسي ولكن اللـه لم يرد إصابتي فلم تنطلق الرصاصة فتركني وذهب. وفي نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً جاء بعض الجنود ومعهم سيارة كبيرة وأخذوا ينقلون جثث القتلى من الدرك والشرطة فشعرت أنني بينهم وجثث القتلى فوقي وتحتي وسارت بنا السيارة إلى حيث لا أدري وتوقفت السيارة وأخذوا يلقون الجثث في حفرة كبيرة وحينما وصل دوري بدرت مني حركة، فصاح الجندي هذا حي وألقاني على الأرض، وجاء آخر ومد يده إلى عنقي وحسبته يريد خنقي فصرخت فقال هذا حي حقاً خذوه إلى المستشفى وقال آخر ما فائدة نقله إلى المستشفى؟ وطلب أن يصب عدة رصاصات في رأسي حتى يريحني ولكن اللـه سلمني وذهب صوت الجندي هباء، ونقلت إلى السيارة ثم إلى المستشفى العسكري الفرنسي حيث وجدت نفسي بين يدي الأطباء الدكتور صباغ والدكتور شارل ( الفرنسي وهو كبير اطباء المستشفى الافرنسي والدكتور بيرقدار وبعدها غبت عن الوعي. وفي اليوم التالي شاهدت الدركي عبد النبي برنية مضروب برأسه بضربة ساطور وفارق الحياة بعد مدة وجيزة. ثم جاءت سيارة الجيش البريطاني ونقلوني إلى المستشفى الإيطالي، وهكذا استطعت أن أروي قصة البرلمان لأنني الوحيد الذي بقي حياً من هذه المجزرة الرهيبة والعمل الإجرامي من قوم يدعون المدنية وينادون بشعار الحرية” هذا التقرير محفوظ لدى وزاره الداخلية، ونشر بحرفيته. شهداء الدفاع عن المجلس النيابي من رجال الدرك والشرطة السورية
شهداء 29 أيار شهداء الدرك وكيل الضابط محمد طيب شربك العريف برهان باش إمام العريف طارق أحمد مدحت الدركي شحادة إلياس الأمير الدركي خليل جاد الله
الدركي الشهيد الحي ابراهيم الياس الشلاح الذي روينا قصته اعلاه ومن فمه…
الدركي الشهيد الحي محمد مدور وشهادته اعلاه ومن فمه… الدركي إبراهيم فضة الدركي محمد حسن هيكل الدركي يحيى محمد اليافي الدركي زهير منير خزنة كاتبي الدركي ممدوح تيسير الطرابيشي الدركي محمد أحمد أومري الدركي محمد خليل البيطار الدركي سعد الدين الصفدي الدركي ياسين نسيب البقاعي الدركي زين محمد ضبعان الدركي عيد فلاح شحادة الدركي إبراهيم عبد السلام الدركي أحمد محمد القصار
الدركي جورج أحمر الدركي محمد عادل المدني الدركي واصف إبراهيم هيتو الدركي عبد النبي برنية الدركي سليمان أبو سعد
الدركي أحمد مصطفى سعيد شهداء الشرطة المفوض سعيد القهوجي الشرطي مشهور المهايني الشرطي محمود الجبيلي ويضاف إلى هؤلاء الشهيد الدكتور حكمت التسابحجي الذي أصيب وهو يحاول إسعاف المصابين من مبنى المجلس النيابي وكي تبقى أسماء أولئك الشهداء الأبطال راسخة في أذهاننا، تم اعتبار يوم 29 أيار من كل عام يوماً خاصاً لتخليد ذكرى رجال الأمن الداخلي الذين استشهدوا في ذلك اليوم الأغر، وجميع رجال الأمن الداخلي الذين تتجلى بطولتهم في ميادين الشرف والدفاع عن الوطن وأبنائه.
جريدة الكفاح
2 حزيران 1945
وقد تناقلت الروايات والشهادات بطولات هؤلاء المدافعين الأبطال، ومنهم وكيل الضابط محمد طيب شربك وكان له من العمر 22 عاماً فقط، حيث ظل يدافع عن البرلمان مع جنوده حتى نفذت الذخيرة، فأمر جنوده أن يقاتلوا بالمسدسات حتى نفذت آخر طلقة منهم. وكذلك فعل الشهيد البطل محمد سعيد القهوجي رئيس قوة الشرطة التي كانت تحمي البرلمان. لقد دخل الفرنسيون مبنى البرلمان المدمر على أجساد هؤلاء الأبطال، وعثر على جثثهم المشوهة لاحقاً في حفرة كبيرة في المزة من بين خمسة وعشرين جثة، ثم بعد ذلك شيعوا إلى مقرهم الأخير في مقبرة بلال الحبشي، وتقديراً لبطولتهم الفائقة وتفانيهم المطلق، خرج سكان دمشق إلى قبورهم وهم يذرفون الدموع وينثرون الورود والزهور إجلالاً لعظمة تضحيتهم. وكان هناك اقتراح بنقل رفاتهم إلى حديقة البرلمان وأن يقام لهم تماثيل أمام البرلمان رمزاً لبطولتهم.
جريدة الكفاح
3 حزيران 1945 في تلك الأثناء راحت المدفعية الفرنسية تقذف المدينة بالقنابل مركزة القصف على قلعة دمشق لوجود قوى الدرك والشرطة فيها، واستمر القصف وإطلاق النار حتى الصباح، وقد نتج عن هذا القصف الشديد هدم العديد من الأبنية ومهاجع السجن في القلعة وظلت الجثث تحت الأنقاض ويقال أن عدد الشهداء من درك ومواطنين وسجناء يزيد عن ثلاثمئة قتيل وأصيب هرانت بك قائد الدرك السوري بجراح كما أصيب القادة عبد الغني القضماني وعبد الرزاق قولي وفخري البارودي بجراح أيضاً ولم تنم عين دمشق في تلك الليلة المشؤومة.
جريدة البلد
5 حزيران 1945 مذكرة الحكومة السورية وقد أبلغ الاجتماع السري الطارئ للحكومة ممثلي الدول الأجنبية في دمشق المذكرة التالية، التي سلمها إليهم وزير الخارجية: “أتشرف بأن أطلعكم على التطور الخطير الذي طرأ على الموقف بسبب الاستفزازات المتواصلة الصادرة عن الجنود التابعين للقيادة الفرنسية،
إن الأعمال التي ارتكبها هؤلاء الجنود قد تجاوزت كثيراً درجة العنف التي عرفتها البلاد من قبل، فقد صبت المدفعية الفرنسية نيرانها في مدينتي حمص وحماة فقُتل وجرح الكثيرون، وسددت الرشاشات نيرانها دون انقطاع إلى عابري السبيل في دمشق وحلب، وأفضى استفزاز الأهالي في درعا إلى الاصطدام بالقوات الفرنسية وصبت الطائرات نيرانها على الأهالي، والدماء تسفك في جميع المدن السورية تقريباً، والحكومة السورية ترفع صوتها بأشد الاحتجاج على هذه المجازر التي يصاب بها الأهالي الذين لا ذنب لهم سوى تمسكهم بحرية بلادهم واستقلالها، مناشدةً ممثلي الدول الصديقة أن يشهدوا بالوقائع، وأن يتدخلوا لمصلحة قضية سورية العادلة التي هي في الوقت ذاته قضية الشعوب الديمقراطية والمحبة للحرية. دمشق في 29-5-1945 وزير الخارجية” إلا أن الوقت كان قد فات لأي تحرك جدي فقد أعملت آلة القتل والدمار الاستعمارية في دماء وجثث المقاومين الحرق والتمزيق والتشويه، بأبشع طريقة يمكن تخيلها، على يد من ادعوا أن قاتلوا النازية للدفاع عن الحرية والديمقراطية وتحقيق كرامة الإنسان.
تصريح لمطران الأرمن
جريدة البلد 5 حزيران 1945
استمرار العدوان في اليوم التالي، 30 أيار 1945 مع بزوغ صبيحة اليوم التالي، كان العدوان الفرنسي مستمراً في تدمير مدينة دمشق التي تحول أفقها إلى جحيم، وصبت المدفعية والدبابات والرشاشات حممها على المدينة المسالمة الحرة، فلم يكن يسمع إلا دوي الانفجارات، ودمدمة الرشاشات، واشتعلت الحرائق في كل مكان من المدينة، فامتدت من شارع رامي الذي التهمته النيران بأكمله، إلى المرجة التي احترقت حوانيتها ومكاتبها، وفي ناحية أخرى كان شارع النصر قد شاعت فيه النيران التي وصلت إلى جامع دنكز، وشب حريق كبير آخر في زقاق المغسلة وامتد إلى شارع فؤاد الأول حتى بوابة الصالحية كذلك شبت النار في العصرونية وسوق الخياطين فالتهمت عشرات المخازن والحوانيت وبعض الكراجات على ضفة بردى. عند بداية طريق بيروت ودمرتها بالكامل الليلة الثانية من العدوان لم تنم عين دمشق في الليلة الثانية من العدوان، وقد بدأ نزوح الأهالي من الأحياء التي يكثر فيها القصف والحرائق تحت جنح الليل إلى الأحياء البعيدة وبعض قرى الغوطة، حيث استقبلهم أبناء بلدهم بالترحاب محاولين التخفيف عن مصابهم العظيم، كما عملت الجمعيات الإنسانية والطبية كجمعية الهلال الأحمر وطلاب كلية الطب على نقل الجرحى إلى المستشفيات التي لم تسلم هي بدورها من الاعتداءات الدنيئة، فيما تعرض المسعفون والأطقم الطبية إلى خطر الموت، ومنذ ذلك استشهاد الدكتور مسلم البارودي أثناء أدائه واجبه في إسعاف المصابين وكان يرفع علماً أبيض على سيارته، مظهراً مدى الوحشية التي وصل إليها المحتلون. الفعاليات السياسية الوطنية في مواجهة العدوان لقد انخرط الشعب السوري بكافة طبقاته وفئاته الاجتماعية والسورية في رد العدوان والدفاع عن الوطن الغالي، وكان لكل منهم دوره في هذه الملحمة الوطنية الكبيرة، وقد اندفع الساسة السوريون إلى مقاومة العدوان بوسائلهم السياسية والدبلوماسية، وبما يتمتعون به من إمكانيات تنظيمية ومادية. فقد استدعى رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي الذي كان يتعافى من مرض أصابه ممثلي الدول الكبرى وأبلغهم بأنه سينزل إلى الشوارع على نقالة ليستشهد مع أبناء شعبه إذا لم تتحرك دولهم لإيقاف هذه المجزرة المروعة، كما رفض عرضاً من السلطات البريطانية بأن يذهب تحت حماية الدبابات البريطانية إلى الأردن، وقال للسفير البريطاني: “سأموت مع شعبي هنا في دمشق”، وقد نقل السفراء والدبلوماسيون كلامه وطلباته إلى حكوماتهم. أما رئيس مجلس النواب سعد الله الجابري فقد غادر البرلمان بعد إلغاء الجلسة وذهب إلى فندق الشرق حيث يقيم، وفور وصوله استهدف الفرنسيون الفندق بنيرانهم بغية اغتياله، إلا أن وجود بطريرك موسكو والاتحاد السوفييتي أنقذه من موت محقق، إذ جاء السفير السوفييتي لأخذه من الفندق وأوصله إلى الحدود اللبنانية، ومنها تمكن من الوصول إلى بيروت، حيث فضح العدوان الفرنسي وأعلم العالم بما يجري، ومن هناك غادر إلى مصر حيث طالب بعقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية.
جريدة البلد
10 حزيران 1945
وكان الوزراء والعديد من النواب قد غادروا إلى دار الحكومة (السراي) في ساحة المرجة، حيث استهدفهم جنود الاحتلال المتمركزون في شارع النصر بالقنابل والرصاص، وقد استبسل رجال الشرطة والدرك في الدفاع عن مقر الحكومة وردوا عدة موجات من الهجوم لاحتلال السراي، ومع مجيء الليل، استطاع الوزراء والعديد من النواب مغادرة مقر الحكومة بحماية رجال الدرك السوري واللجوء إلى دار السيد خالد العظم في سوق ساروجة حيث الأزقة ضيقة ولا تسمح بتقدم العربات الفرنسية، لكن قوات الاحتلال أمطرت المنطقة بقنابلها وأصابت عدداً من الدور القريبة في حي السمانة، حيث مات جميع من كان في هذه الدور وتناثرت أشلاؤهم بتأثير ضرب القنابل وكذلك أصيبت بعض الدور في حي العمارة، وقتل قاطنوها. سورية ترد على العدوان اندلعت أعمال المقاومة في جميع أنحاء سورية ترد على العدوان الفرنسي الشرس، فشهدت أنحاء سورية بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها أعمالاً بطولية عظيمة، فقد هزمت القوات الفرنسية في حوران وجبل العرب.
كما أظهرت حماة مقاومة ضارية وأوقعت الهزيمة بالقوات الفرنسية وتمكنت من قتل قائدها والكثير من جنودها وأسرت العديد منهم وتم إسقاط طائرتين حربيتين، وفي دير الزور حوصر الفرنسيون في ثكناتهم وهاجم أفراد الشعب كافة المراكز العسكرية في المدينة ودمروها، وكذلك في حلب واللاذقية، كما التحق حوالي 70 % من ضباط القطعات الخاصة و40 % من الجنود بقوى الدرك الوطنية وانضموا إلى قوى الشعب. الخسائر المادية والبشرية صرح رئيس مجلس الوزراء آنذاك في اجتماع صحفي أن مديرية الصحة في دمشق أصدرت تقريراً رسمياً جاء فيه: أن عدد القتلى من المدنيين بدمشق بلغ 600 شهيد، وأن الجرحى والمشوهين بلغوا 500 جريح، والذين أصيبوا بجراح يمكن معالجتها بلغوا 1000 جريح، وهناك 120 شخصاً من الدرك بحكم المفقودين أما الخسائر المادية فهي جسيمة جداً.
المظاهرات في بيروت بعد أحداث أيار
التداعيات الدولية، التدخل البريطاني لوقف العدوان بتاريخ 31-5-1945، أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال ديغول يطلب منه إصدار الأوامر لقواته بوقف إطلاق النار، وأبرق في نفس الوقت إلى الجنرال باجيت القائد العام البريطاني يأمره باستلام القيادة العليا في الشرق، وإنذار الجنرال الفرنسي بينيه بأن كل عمل عسكري يجب أن يتوقف وأن على القوات الفرنسية الانسحاب فوراً إلى ثكناتها. وقد نصت البرقية التي أرسلها الرئيس تشرشل إلى الجنرال ديغول على ما يلي: “بالنظر للحالة الخطيرة التي آل إليها الأمر في سورية ولبنان، وبالنظر للقتال الدامي، وللحيلولة دون إراقة دماء أخرى، فقد اتخذنا هذه الخطوة حرصاً على الأمن في ربوع الشرق الأوسط كله، وتحاشياً لأي اصطدام بين القوات الإنكليزية والفرنسية، نطلب إليكم أن تأمروا الجنود التابعين لكم التوقف عن إطلاق النار في الحال.”
الدبابات البريطانية في شوارع دمشق بعد ذلك وصلت القوات البريطانية من البقاع في لبنان، واستلم الجنرال باجيت القيادة الفعلية وأبرق إلى لندن يقول: “لقد أبيحت المدن للنار والنهب وإن عمل القوات الفرنسية والسنغالية هو تخريب اعتباطي”، ووصل المستر ألن شو وزير بريطانيا المفوض والجنرال البريطاني باجيت ترافقهما أربع مصفحات بريطانية ضخمة إلى منزل رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وجاء إلى المنزل أعضاء الوزارة السورية وبعض النواب لاستلام الدوائر السورية، ورفع العلم السوري على بناء البرلمان، وخرج الأهالي بمظاهرات رائعة مشت في الشوارع الرئيسية وهم يهتفون للعدل والحرية والاستقلال، واخترقوا أسواق العاصمة وهم يلوحون بالأعلام السورية هاتفين بحياة سورية والاستقلال. وقد بعث الرئيس شكري القوتلي برسالة شكر الى رئيس وزراء بريطانيا تشرشل
يشكره على جهوده لوقف العدوان، ولكن الجواب الذي تلقاه من تشرشل كان مستفزاً وخالياً من اللباقة، حيث قال: “الآن وقد أتينا لمساعدتكم، لا تجعلوا مهمتنا أكثر صعوبة بسبب الغضب والمغالاة، إن الفرنسيين يجب أن يعاملوا بالعدل ونحن البريطانيين لا نريد شيئاً مما تملكونه إلا الاعتدال”، وقد ذهب تشرشل إلى أبعد من ذلك في برقيته لرئيس الوزراء العراقي، حيث قال فيها: “لقد أنقذناهم من خطر عظيم وهم يقولون أن هذا واجبنا، إن نظرتهم المتهورة هذه يجب أن تناقش، ليس من واجبنا حفظ الأمن في وسط هذه الزمرة المشاغبة، بل يجب أن نقول لهم : إن السلطة التي خنقت الفرنسيين يمكن بسهولة أن تستخدم ضدهم فيما إذا وضعوا أنفسهم في موقف من أجل نصرة الشعب السوري”، وكما هو متوقع فإن الاستعمار واحد مهما تلونت أشكاله.
الاجتماع الأول لمجلس الجامعة العربية ردود الفعل في البلدان العربية، وموقف الجامعة العربية في لبنان عمت المظاهرات الصاخبة جميع المدن اللبنانية، وعقد المجلس النيابي جلسة طارئة تبرع فيها النواب برواتبهم لعائلات الضحايا، وأعلنت الأحزاب اللبنانية الإضراب خمسة أيام احتجاجاً على ما يجري في سورية. وفي مصر كان الاهتمام بالعدوان على سورية عظيماً جداً، وغادرت بعثتان من الهلال الأحمر المصري مصر إلى سورية لإسعاف المصابين والضحايا. وفي العراق عقد المجلس النيابي العراقي جلسة طارئة، وهدد رئيس الحكومة العراقية البريطانيين أنهم إذا لم يتدخلوا لوقف نزيف الدم فإن حكومته سترسل قوات لمساعدة السوريين. وفي الأردن بلغت المظاهرات الصاخبة أوجها في عمان، وقد تعرض السفير الأردني في دمشق إلى إطلاق نار من الجنود الفرنسيين أدت إلى بتر ساقه في درعا، فيما عقدت الجامعة العربية جلسة طارئة في الرابع من حزيران هدفها نصرة سورية. نتائج العدوان جرت محاولات عديدة سواء من فرنسا وبريطانيا للإبقاء على المصالح الفرنسية في سورية ولبنان، لكنها كانت تقابل بالرفض، مع إصرار السوريين على انسحاب جميع القوات الأجنبية من أراضيهم، وعدم منح أي امتياز أو وضع خاص لأي قوة مهما كانت. ولما لم يجد الفرنسيون أي أمل في بقائهم قرروا الرحيل لكنهم اشترطوا أن يرحل البريطانيين معهم، وهذا ما حصل بالفعل. وهكذا اضطرت الحكومة الفرنسية لإصدار بيان في بيروت وباريس بتاريخ 8 تموز 1945 جاء فيه: “لما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية ترغب في إجابة الطلب الذي تقدمت به الحكومتان السورية واللبنانية فيما يتعلق بتسليم الوحدات العسكرية المتطوعة محلياً، ورغبة منها أن تظهر لحكومتي سورية ولبنان نيتها الطيبة عن طريق إرضاءهما إرضاء تاماً بهذه الوحدات، وبما أن الحرب قد انتهت في أوربا ولم يعد هناك أي اعتراض حول الرغبة المشروعة التي أبدتها الحكومتان السورية واللبنانية بشأن تشكيل جيوش وطنية لها. لذلك نصرح بتسليم هذه القوات إلى الحكومتين السورية واللبنانية وفق تشكيلات ستحدد خلال 45 يوماً على أبعد حد.” وهكذا سلمت فرنسا خلال شهر تموز 1945 جميع الثكنات العسكرية إلى الحكومة السورية. وفي 22 تموز استلمت الحكومة السورية جميع ثكنات الحميدية والعباسية (الجامعة السورية) باحتفال مهيب، وكان آخر الثكنات المسلمة المستشفى العسكري ومبنى الأركان العامة في الصالحية، ونادي الضباط. حيث رفع العلم السوري عليها وأصبح الجيش كله تابعاً للحكم الوطني. وتم تعيين اللواء عبد الله عطفه قائداً لهذا الجيش، وشرع مع رفاقه الضباط أركان الجيش بإعادة تنظيمه من جديد. وقد تم الاتفاق بين القيادتين في يوم 27 تموز 1945 على نقل مسؤولية الإشراف على القطعات العسكرية الخاصة إلى الحكومة السورية منذ الساعة صفر من اليوم الأول من شهر آب 1945 الذي كان تاريخ ميلاد الجيش الوطني السوري، ولهذا أصبح اليوم المذكور عيداً للجيش يحتفل به كل عام! وقد عرضت قضية جلاء القوات الأجنبية عن سورية على الأمم المتحدة بتأييد من الاتحاد السوفييتي فاضطرت فرنسا وبريطانيا التعهد بسحب قواتهما بالتدريج، وقد تم ذلك في الساعة العاشرة من يوم الخامس عشر من نيسان عام 1946، واحتفلت سورية بهذه المناسبة السعيدة بتاريخ 17 نيسان عام 1946،
واعتبر هذا اليوم – الذي سمي بعيد الجلاء وليس عيد الاستقلال عيداً قومياً وهكذا حققت سورية الاستقلال التام دون أن ترتبط بأي معاهدة تنتقص من سيادتها، ولم ترتبط إلا بميثاق الجامعة العربية وميثاق الأمم المتحدة، فكان لها السبق على كل الدول العربية في نيل الاستقلال التام. المصدر : اكتشف سورية بتصرف…
لم تعان المدنية الحديثة في عصر من عصورها ازمة جانحة عنيفة كهذه التي تعانيها اليوم، وأغلب الظن لدى من تقرى اصولها واكتنه اسبابها انها في جوهرها ازمة قيم.
فلقد اطاحت أعاصير الحربين العالميتين، والحرب الباردة التالية، وسقوط احد المعسكرين العالميين الرئيسين الاتحاد السوفيتي وتفككه مع كل المنظومة الشيوعية، والازمات المشتعلة اللاحقة في كل مناطق العالم، وتفكك دول كبرى كالاتحاد اليوغوسلافي، ونشوء دول متعادية كانت منضوية في هكذا دول جامعة، وخاضت حروبا خطيرة فيما بينها غذتها الايديولوجيات الدينية والمذهبية والعرقية… وقد صارت بؤراً دائمة للتوتر كالشرق الأوسط، فدوماً فتيل الازمات ملتهب، يشعل فيها حرائق لاتبقي ولا تذر، وتقضي على الاخضر واليابس، كما في مادعي بمصطلح “الربيع العربي” المعد في اروقة السياسة العالمية والصهيونية، وحريق دول الشرق الاوسط بنتيجة هذا الربيع المزعوم امثال العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان ومصر والسودان والصومال… وكلها عواصف تكفيرية، مليئة بالطائفية والمذهبية المدمرة، وفعلاً كانت كوارثها اكبر من تحتملها دول عظمى، فما بالنا بدول ضعيفة محدودة الموارد عانت، ولا تزال، من الخطاب التحريضي الديني، اطاحت هذه الازمات المدمرة بالسلام الداخلي فيها وبتوازن مجتمعاتها، وزجت في ميدان الصراع التاريخي بأشكاله الدينية والمذهبية والعرقية بكتل فعالة منظمة من الجماهير والاحزاب، تصدعت امام حاجاتها ورغائبها وانطلاق امكانياتها أسس الكيانات الاجتماعية، واسوار انظمة الحكم، وافسحت لها في صدرها منزلاً رحباً. ومن البديهي ان يرافق هذا الانقلاب في توازن القوى الفاعلة في سير التاريخ انقلاب في الاوضاع الاجتماعية، وان يحاول انسان اليوم، وهو وليد هذه الثورة الانسانية العميقة الشاملة، إقامة العلائق الاجتماعية على اسس تنسجم وجدول القيم الجديد، بعد ان انهارت في عينيه قيم الأمس، وتبدلت مفاهيم السلوكين العقلي والخلقي معاً.
مطرقة المحكمة وميزان العدل
والتشريع هو الضابط الاجتماعي الأول، الناظم علاقات الفرد بالفرد من جهة، وعلاقات الفرد بالمجتمع من جهة أخرى، سواء اكان المجتمع قد بلغ في مراحل نشوئه ونموه شكل الأسرة، وهي الخلية الاجتماعية الاولى، او شكل العشيرة او المدينة أو الدولة او ما وراءها. ومن الطبيعي ان يتم التشريع عن وقائع الحياة الاجتماعية في اتجاهاتها المتولدة المتحركة الدائبة، وعن توازن القوى والمصالح فيها وان يتلمس صياغة الحلول السلمية العادلة للتناقضات التي يحملها النظام الاجتماعي في صلبه.
والتشريع، كسائر العلوم الاجتماعية، يرتكز على وقائع الحياة الاجتماعية وفعاليات الأفراد والجماعات وادراك قواعدها ورسم معطياتها، واكتناه قواها، وايجاد الصيغ العاجلة لخلق التوازن بينها، فالتشريع من هذه الناحية علم كسائر العلوم، يخضع في ولادته ونموه وانقراضه للقواعد الحياتية. واقول: “انقراضه” وذلك لأن القوانين تفنى بفناء المؤسسات الاجتماعية التي تعبر عنها وتصونها.
وكما تخلق الوظيفة العامة العضو في الحقل الحياتي، كذلك تخلق المؤسسة في الحقل الاجتماعي، وتحافظ عليه بالتشريع، حتى اذا ماتداعت الوظيفة الاجتماعية، تداعت المؤسسة، ومن ورائها نظامها الحقوقي.
بيد ان التشريع ليس علماً فحسب قوامه التجربة والملاحظة وتقرير قواعد العلاقات الاجتماعية الراهنة، ولكنه فن ايضاً، يهدف من حيث الأساس، الى تلبية مقتضيات النظام الاجتماعي في سيره نحو تحقيق مبادىء العدالة، كما يهدف من حيث الشكل الى هندسة الصيغ المثلى للتعبير عن هذه العدالة.
ان التشريع يجمع من معطيات الحياة الاجتماعية المواد الأولية ليشيد بها للعدالة صرحها.
وهذه المواد الأولية: إما أن تكون اقتصادية يُعبر عنها بالمصالح، وإما دينية خلقية يعبر عنها بالتقاليد والأعراف والعقائد، واما سياسية اجتماعية يعبر عنها بالمذاهب.
فالمصالح والتقاليد والعقائد والمذاهب هي العناصر الرئيسة التي ينبغي على التشريع ان يحل محلها من التقدير والاعتبار عند تنظيم العلائق الحقوقية.
واذا كانت مقتضيات العدالة تستلزم انتقاداً وانقضاضاً على واقع اجتماعي ظالم يحميه التشريع القائم، فعلى المشترع ان يعرف ماهي القوى الاجتماعية المعاكسة التي تفيد من بقاء هذا الواقع الاجتماعي والتي تبذل جهدها للاحتفاظ به والاستمرار فيه ولذا فالتشريع ينطوي على قوتين متصارعتين:
– قوة سكون واستقرار وجمود ومحافظة تدعو الى إقامة نظام حقوقي ثابت متين والى دعم النظام الاجتماعي الراهن وإقراره وإلباسه لباس المشروعي وحمايته من عبث العابثين.
– وقوة حركة وتطور وتقدم تستلزمها تقلبات الحياة الاجتماعية وتحولات علاقات الأفراد ورغائبهم وحاجاتهم. وهذه القوة المتحركة المولدة ترمي الى بلوغ مثل أعلى في العدل.
والعدل ليس واقعاً يمكن تدوينه في صلب قالب معين، ولكنه مثلٌ أعلى يجهد المشترع نفسه لبلوغه وتحقيقه عند تحديد العلائق الاجتماعية، وتعيين قواعد سلوك الأفراد والجماعات.
فالاستقرار، او الأمان الحقوقي كما يسميه بعضهم، هو إذن اول القيم الاجتماعية التي يهدف التشريع الى تحقيقها في المجتمع منذ ان كان التشريع وكان المجتمع…
إنه قوام الحياة الاجتماعية وشريطة لازمة من شرائط وجودها واستمرارها، بل هو الركيزة الكبرى لانطلاق الفعاليات الفردية والجماعية وانصرافها الى الأخذ بأسباب السعي لكسب السعادة والى الانشاء والانتاج والتقدم. الأمان الحقوقي هو اشاعة الاحساس بالأمن بين الناس، هو ايمان الفرد بالتحرر من الخوف وشعوره بالاطمئنان الى يومه وغده، هو يقينه بأنه سيدَ قَدَّره وانه لا يضار في سلامة شخصه ولا في حريته ولا في ثروته ولا في كرامته، لأن جميع هذه المقدسات والحرمات هي في ذمة النظام الحقوقي وفي حمى القانون. الأمان الحقوقي – بكلمة موجزة – هو توطيد دعائم السلم والنظام والأمن والاستقرار في المجتمع.
ويكتسب التشريع هذه الفضيلة الكبرى، فضيلة الأمان الحقوقي والاستقرار الاجتماعي بالوضوح والدقة والسهولة والانسجام، فليس أدعى الى قلق المواطن واغتمامه، ولا أقرب الى تعسف الحاكمين من غموض القوانين وتعقيدها وتشعبها وهلهلتها واضطرابها، ومن شرائط حصول الطمأنينة أن يشعر المواطن بأن التشريع القائم إنما هو تعبير عن رغائبه وحاجاته، ولا سبيل الى غرس هذا الشعور الا اذا اقتنع بأن القوانين إنما تصدرها السلطة صاحبة حق التشريع، وانها تصدرها بوحي من نفسها لا بوحي من غيرها، وأنها تسن قواعدها مستلهمة وجدانها الحقوقي كسلطة آمرة مسؤولة لا تستلهم افراداً او جماعات غير مسؤولين، وانها لاترمي من ورائها الى حماية مصالح فئة او ايذاء مصالح فئة اخرى. فليس ثمة أدعى الى انهيار النظام الحقوقي وضياع حرمته من النفوس من ارتياب المواطنين في مشروعية السلطة التي تصدر عنها القوانين والأنظمة والقرارات وشكهم في سلامة وجدانها الحقوقي.
وقد تقتضي سلامة الأمة وحماية مصالحها العليا في العهود الانقلابية او الثورية، عندما يتمخض المجتمع عن نظام حقوقي جديد، يعبر عن قيم جديدة ووقائع اجتماعية جديدة، ولكن من الخير كل الخير لمثل هذا المجتمع وافراده أن لايطول امد المخاض، وان يعجل بخلق الصيغ الجديدة لتوازن القوى الاجتماعية وتنسيق مصالح الأفراد والجماعات، وسن القواعد لتحديد اختصاصات السلطات، وعلاقاتها ببعضها على ضوء القيم الاجتماعية الجديدة التي اسفر عنها المخاض، وليس الاسراع في تحقيق هذا الهدف شرطاً من شرائط النجاح والاستقرار والديمومة فحسب، وانما هو ايضاً وفي الدرجة الاولى قاعدة اساسية من قواعد الحكم الصالح الذي يرمي الى الاحتفاظ بوحدة الامة وسلامتها وصيانة مصالحها الكبرى.
ولكن الأمان الحقوقي – هذه القيمة الاجتماعية التي تستهدفها القواعد الحقوقية- بجميع ماتستلزمه من اشاعة الشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار وتوطيد دعائم النظام، قد لايكفي وحده لبلوغ الغاية من التشريع مالم يقترن بقيمة اجتماعية اخرى ألا وهي العدالة. واية فائدة تجنيها الامة او المواطن او يجنيها الفرد او المجتمع من الحفاظ على الأمن والنظام وتحقيق الاستقرار، اذا لم يشعر الجميع افراداً وجماعات بعدالة النظام الاجتماعي، الذي يرمي التشريع القائم الى حمايته واستمراره. فالعدالة اذن في تاريخ تطور الحقوق في العالم هي مفهوم ديناميكي، يدعو الى الثورة على كل وضع راهن ظالم، ولو اقره التشريع القائم، ولا بُدع في ذلك فان توخي العدالة يدعو باستمرار الى اعادة النظر في الاسس التي ترتكز عليها المؤسسات الاجتماعية، وتعديل التشريعات التي تعمل على ابقائها تعديلاً يزيل عنها مظالمها ويمحو مساوئها، ومهما اختلف رجال القانون والاجتماع والأخلاق في تعريف العدالة وتعيين مضمونها فانهم متفقون على التفريق بين عدالة التعامل وعدالة التوزيع.
فالعدالة في التعامل
او عدالة المعارضة، كما يقول عنها ارسطو، هي مايعبر عنه مفكرو القرن الثامن عشر بالمساواة امام القانون.
وتتجلى هذه العدالة في حيز السلوك الاجتماعي بمفهومي المسؤولية والحرية ولا سيما حرية التعاقد، وتدعى في السياسة بالمذهب الحر، وفي الاقتصاد بالمذهب الفردي فهي اذن عدالة فردية لاتهتم بتنسيق العلائق الاجتماعية وتنظيمها قدر اهتمامها بمنح جهود الافراد في فعالياتهم الاجتماعية اكبر قسط ممكن من الحرية.
اما العدالة في التوزيع
فهي العدالة الاجتماعية ولها ركنان:
اولهما تكافؤ الفرص وماينجم عن هذا المبدأ من تشريعات تهدف الى محو الفوارق والامتيازات المصطنعة الناجكة عن غير الكفاية وترمي الى تساوي جميع الافراد في نقطة الانطلاق.
ثانيهما فهو انتقاء الأنسب واحترام الكفايات.
ومعنى ذلك ان يتمتع كل فرد من الافراد بخيرات المجتمع الذي ينتمي اليه بالنصيب الذي تؤهله له قابلياته وكفاياته. وقديما قيل:” الويل للمجتمع الذي يسود عليه اشراره ويُقصى عنه اخياره.”.
والنظام الاجتماعي العادل هو ذلك الذي يسمح للصفوة من ابنائه، وللصفوة وحدها، ان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع وتوجيهه، وكل تشريع يرفع غير الصفوة، ويقيس بغير مقياس الكفاءة ويصد العبقريات عن مصاعدها، ويُعيق النخبة عن القيام برسالتها والشعور بمسؤوليتها ويلهب بالحرمان والخيبة نفوسها لايمكن اعتباره ظالماً فحسب، وانما هو تشريع خطر ينسف قواعد سلامة المجتمع من اساسها، وتغدو اجهزة الحكم في ظله فماً يلتقم ويداً تنتقم، والعدل الاجتماعي وحده هو الذي يؤمن للأمة غنيها وفقيرها كبيرها وصغيرها، هذا القاسم المشترك الذي لاغنى عنه لسلامة وحدتها، وتمتين اواصر التضامن بين ابنائها واستمرار بقائها.
ومن البديهي ان نتساءل الآن: لماذا نريد من التشريع ان يحقق النظام والأمن والاستقرار والطمأنينة وان يسعى الى إقامة قسطاط العدل وماذا وراء ذلك كله؟
انه التقدم الاجتماعي الذي ينم عن توق الانسان الدائم الى بناء مجتمع افضل وحياة ارغد وعالم أمثل. وعلى التشريع ان يسعى للتعبير عن هذه القيمة الاجتماعية الانسانية في القواعد التي يضعها, وليس حفظ النظام والاستقرار والعدل الاجتماعي الا رسائل تهدف الى تمكين الأفراد والجماعات من التفرغ للتسامي بالقوى الانسانية الى أقصى امكانيات الازدهار والتفتح والانطلاق، والا فأية قيمة للأمان والعدل في مجتمع لا مجال للتسامي فيه ولا يبيح لأفراده وجماعاته مسايرة الركب الانساني والمساهمة بقسط متواضع في بناء المدنية، هذا التراث الانساني المشترك الذي يحقق للانسان انسانيته وللجماعات ازدهارها ورفاهيتها واتساقها.
الأمان أو الاستقرار الاجتماعي والعدل الاجتماعي تلكم، هي القيم الاجتماعية الكبرى التي تجعل من التشريع الناظم الأكبر للعلاقات الاجتماعية والمهندس الأعظم في تنسيق جهود الأفراد والجماعات وتعاونها لاقامة صرح المدنية الحديثة وبلوغ الانسانية مرتبة الكمال حيث التمتع المطلق بقيم الحق والخير والجمال والحرية.
من اسمه ولقبه يستبين انه دمشقي المولد والهوى، من ذلك لقبه الآخر المعرب عن اسمه اليوناني “كريسوروس” اي” دفاق الذهب” وكان لقبه اليوناني هذا تشبيها بعطائه المشابه لعطاء نهر بردى بفروعه السبعة لدمشق وغوطتها التي تحيط بدمشق في وقته احاطة السوار بالمعصم الذي يهبها الخير والجمال ولدمشق الحياة، واول من اطلقه على قديسنا الدمشقي هو المؤرخ ثيوفانيس الذي دون ذلك بين سنتي 810 و814 مسيحية.
القديس يوحنا الدمشقي راهباً
وهو يوحنا الدمشقي (دامسكينوس) في المراجع اليونانية، ويحنا ابن المنصور في المراجع القبطية، وقوريني بن منصور في تاريخ ابن العبري للسريان وابن سرجون في كتاب الأغاني للأصفهاني.
منشأه
نشأ يوحنا الدمشقي في بيت غنى ووجاهة وعلم، ولابد ان تكون دمشق قد نعمت بمدرسة عالية كغيرها من مدن ذلك العصر وهي أشهرهم وأعرقهم وأقدم مدينة مأهولة في التاريخ، واليوم هي اول وأقدم عاصمة مأهولة في التاريخ الانساني… فماري بن سليمان يقول ان الاساقفة حذوا حذو فوطيون كاثوليكوس النساطرة، فأنشأوا المدارس في مراكز أبرشياتهم، ولكن سرجيوس والد يوحنا آثر التهذيب الخصوصي، ففتش عن مهذب لائق يُعنى يتعليم ولده هذا وولده بالتبني قوزما وتهذيبهما، ووافق هذا وجود راهب متقدم في العمر اسمه قوزما كان اسيراً رومياً عند الخليفة الأموي، فلما رآه سرجيوس، وجد فيه ضالته المنشودة في تهذيب يوحنا وقوزما مَثَلَ امام الخليفة، واستوهبه هذا الراهب، فأعطاه اياه، فأخذه وأقامه على تربية ابنه يوحنا وابنه بالتبني قوزما، وكان هذا الراهب يدعى قوزما ايضاً، وكان ماهراً في العلوم والآداب والفنون، فأخذ يلقن الولدين اللغة اليونانية وآدابها، والعلوم والفلسفة والموسيقى، ثم وجد في الولدين ميلاً الى الإلهيات فلقنهما مبادىء علم اللاهوت.
في البلاط الأموي
وعول الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان على تعريب الدواوين في دمشق العاصمة، وفي سائر الولايات، ولكن الولاة الحوا بوجوب الاحتفاظ بالكتبة والموظفين المسيحيين لباعهم الطويل في الادارة والدواوين، ولمعرفتهم باللغات اليونانية والسريانية والعربية، ولاخلاصهم للعمل والدولة، فخلف يوحنا اباه وجده في الادارة، وصار كاتباً عند الخليفة، متقدما عنده، وصاحب سره، وامين “بيت مال المسلمين” وهي الوزارة الرئيسة مع “ديوان الجند” في وزارات الدولة الاسلامية.
قام يوحنا بمنصبه احسن قيام، مسخراً لذلك مواهبه وعلمه ومبادئه المسيحية السامية، الى ان ترك الوظيفة العامة (بعد تلك المكيدة من الامبراطور البيزنطي التي افقدته يمينه بقرار قطعها بأمر الخليفة متهماً اياه بأنه خان الدولة… ثم اعادتها له العذراء داحضة تلك المكيدة واعتذار شديد من الخليفة والحاحه عليه ليعود الى عمله الا ان يوحنا اعتذر…).
ايقونة الايدي الثلاثة عندما قطع الخليفة يد القديس يوحنا الدمشقي عقاباً له على خيانته المزعومة عاد ومعه يده المقطوعة في بيته وسجد للعذراء لأنها منحته هذا الشرف فلم يجد الا يده سليمة وآثار القطع عليها وهذا ماجعل الخليفة يعتذر منه ويرجوه العودة لوظيفته امينا لبيت مال المسلمين… وتم تخليد هذه الاعجوبة بهذه الايقونة
يوحنا راهبا في دير القديس سابا
قصد يوحنا دير القديس سابا في القفر الفلسطيني، ليبتعد عن ضوضاء العالم واكاذيبه. وهكذا انتقل من قصر العائلة الشامي الشهير الذي كان في منطقة اشبه بالفردوس بين الخضرة خلف باب الفراديس (اي باب الجنان تبعاً لموقعه) الشمالي في السور، وانتقل من قصر الخليفة حيث البلاط والوجاهة وابهة الحكم والوظيفة العامة بخدمها وحشمها وحراسها الى الصوامع الرهبانية والقفارالموحشة في حياة رهبانية شظفة ترذل مباهج العالم كلها لجهة الطعام والتجرد للصلوات والاعمال الديرية، وكان اسمه قبلاً قد ملأ الدنيا لشهرته رغم حداثة سنه.
هناك في الدير خشي الرهبان ان يكون شوق يوحنا للحياة الرهبانية ريحاً عاصفة، فيعود بعد مدة الى بيته وسابق عهده، فامتحنوه وذلك بأن أقاموا عليه مرشداً طاعناً في السن شديداً على نفسه وعلى غيره، فأمره الا يسير بموجب ارادته في أمر من الامور، والا يفتر في البكاء عن ذنوبه الماضية، والا يعمل عملاً دون رأيه ومشورته، ولا يكتب رسالة لأحد، فلبى يوحنا وخضع، ولم يخالف لمرشده أمراً فكان كبيراً في نسكه وتواضعه بقدر ماكان قبل رهبنته كبيرا في مكانته الاجتماعية ومنصبه الحكومي السابق.
رغب الرؤساء في ترقية يوحنا بعدما شاهدوا من مثاليته الرهبانية في كل شيء، الا ان مرشده لم يرضَ، واستمهلهم الى ان تثبت فضيلة تابعه الظاهرة بالامتحان، وهذا ماتم، فمعلمه ومرشده لايرد له كلام.
أمر المرشد الراهب يوحنا بحمل كمية من السلال التي كان يحوكها الرهبان، ويذهب بها الى دمشق ليبيعها في اسواقها، وزاد المرشد ثمن السلال وأوصاه ألا يعود حتى يبيعها كلها. فشد يوحنا على حمار الدير، وحمله جبلاً من السلال، وساقه في طريق دمشق، ووصل الى مسقط رأسه وتجول في عاصمة الأمويين، عارضاً سلاله فلم يجد من يشتريها لارتفاع سعرها، ومالبث ان عرفه الناس، فتألبوا عليه لينظروا ذلك الوجه الكبير الذي أمسى راهباً حقيراً بائع سلال، وأمطروه بالأسئلة وتغامزوا وسخروا منه ومن مظهره وثيابه الرثة، واستنكروا أسعاره الغالية وتهكموا عليه، أما هو فحافظ على هدوئه ولم يقابل ماسمع إلا بالصمت والإطراق، ثم أطل عليه أحد خدمه القدماء وكان خادماً وفياً له رد احتضان يوحنا له القديم، فابتاع السلال كلها وبالسعر العالي، وأنهى عذابه ومحنته، وعاد يوحنا الى الدير منتصراً على شيطان الكبرياء والظهور.
يوحنا الدمشقي نبع عطاء في العقيدة المستقيمة الرأي
وانقطع قديسنا الى الدرس والتعمق في اللاهوت على يد يوحنا الرابع البطريرك الاورشليمي (706-734)، الذي رسمه كاهنا واعظاً، فكان يصعد من الدير الى المدينة المقدسة ليعّلم ويعظ في كنيسة القيامة وغيرها. وتجلت مواهبه في هذه الفترة من حياته فجاءت عظاته ومصنفاته بليغة العبارة لطيفة الكتابة قوية الحجة.
القديس يوحنا الدمشقي راهباً في دير مار سابا في فلسطين
وتآليف يوحنا الدمشقي عديدة، بعضها لاهوتي فلسفي، وبعضها جدلي، وبعضها زهدي رهباني، وبعضها تفسيري، والبعض الآخرتسبيحي طقسي، ولكن الدمشقي لاهوتي في الدرجة الأولى، فما نظم ولا نثرولا ناظرولا علم إلا إثباتاً للحقيقة المنزلة أو تمهيداً لها أو دفاعاً عنها او تبياناً لأسرارها، وأشهر ماصنف في اللاهوت “ينبوع المعرفة”، و”المقدمة في العقائد والايمان الحق”، و”الثالوث الأقدس”، و”إيضاح الإيمان”، وأشهر هذه المصنفات وأكملها كتاب “ينبوع المعرفة”.
وأساس الإيمان عند دفاق الذهب هو الوحي الالهي لا براعة العقل البشري، فالنفس بحاجة دائمة الى معلم والمعلم المنزه عن الضلال هو المسيح، “ولنسمع صوته في الكتاب المقدس، فإن النفس التي تقرع بنشاط وثبات باب روضة الكتاب المقدس الغناء كالشجر المغروس عند مجاري المياه”، والدمشقي شديد التمسك بالتقليد الرسولي، لأن الكتاب المقدس نفسه يوجب هذا التمسك.
وحاول الهراطقة الدفاع عن اضاليلهم بفلسفة ارسطو، فصرخ الدمشقي بهم:
“أتجعلون ارسطو قديساً وثالث عشر الرسل، ام تعتبرون الوثني أكثر من الكتبة الملهمين” ثم انبرى يحارب هؤلاء بسلاحهم بفلسفة ارسطو، ولم يكن عمله هذا أمراً يسيرا فموقف ارسطو من القوى فوق الطبيعة مناقض لعقائدنا المنزلة، لاسيما سر الثالوث الأقدس والتجسد الالهي، ولكن الدمشقي وُفق الى اصلاح بعض نظريات ارسطو/ لاسيما فيما يتعلق باللاهوت الطبيعي وعلم الاخلاق وخلود النفس/، وأخذ عن ارسطو كثيراً من التحديدات، ولكنه اضاف اليها أشياء وأشياء، كالفرق بين الطبيعة والجوهر والأقنوم، واستعان بها على انشاء تعابير خاصة بعلم اللاهوت مستقلاً عن المذاهب الفلسفية العديدة دقيقة خالية من الالتباس الذي ادى فيما مضى الى الجدل والخصام والشقاق، وهكذا كان فإن قديسنا أدرك قوة فلسفة ارسطو، فانتزعها من ايدي اعداء الايمان، وسخرها فنصَّرَّها ووضعها في خدمة رجال اللاهوت الذين اتوا بعده كبطرس اللومباردي وتوما الاكويني، فأصبح بحق مؤسس اللاهوت السكولاستيكي.
ويعتبر الدمشقي في تاريخ الفكر المسيحي لاهوتي “سر التجسد الالهي”، فقد عالج هذا السر العجيب في اكثر مؤلفاته اللاهوتية، فوُفق كل التوفيق الى الاستخراج من عقيدة الاتحاد الأقنومي، جميع مانقول به في الايمان واللاهوت، ودعم استنتاجاته المنطقية بنصوص الكتاب المقدس، وشهادات الآباء، فلم يترك مجالاً للشك في صحة ماذهب اليه.
دير القديس سابا في فلسطين
وصنف الدمشقي في الجدل، فجاءت رسائله صحيحة الاستدلال، واشهر ماكتب في الجدل رسائله الثلاث في “الدفاع عن الايقونات”، وقد سطرها فيما يظهر بين السنة 726 والسنة 730 فحوت وجه الصواب في “إكرام القديسين” وحددت المسائل المتعلقة بهذا الموضوع. ولانزال حتى يومنا هذا نعتمد كلام هذا القديس العظيم في موقفنا من الايقونات.
من آثار قديسنا رسالتان في “الرد على النساطرة” يثبت فيهما الوهية السيد له المجد ووحدة شخصيته، ورد ايضاً على من قال ب”المشيئة الواحدة” ناسجاً على منوال القديسين صفرونيوس ومكسيموس.
وكانت “المانوية” قد عادت للظهور في منتصف القرن السابع متخذة ثوباً جديداً فعرفت ب”البولسية”، واضطربت بها الالسنة وتفشت في ارمينية والجزيرة مابين النهرين، وسورية، وتذرع اصحابها بالآية:” حيث العابدون الحقيقيون يعبدون الآب بالروح والحق”، فرفعوا الايقونات من الكنائس والأديرة، ومنعوا السجود للصليب المقدس، واستغنوا عن اكرام العذراء والقديسين. فأمسك قديسنا يراعه وجال جولة موفقة في ميدان العقيدة لاسيما الخريستولوجية منها، وصنف رسالتين في الرد على المانويين البولسيين.
وجاء في التقليد بأنه ايضاً، نظم عدداً كبيراً من قوانين الخدمة، وانه لعب دوراً هاماً في تنظيم (تيبيكون القديس سابا) وأنه لحن معظم “الأكطوئيخوس” كما لحن عدداً كبيراً من القوانين والطروباريات، وأنه أدخل تحسينا ملموساً في الموسيقى البيزنطية الكنسية بتنظيمها الى ثمانية الحان فأوجد ثورة حمتها من الانجراف بالمؤثرات المحلية كما حصل لكثير من موسيقى الطوائف المسيحية، لابل جيَّر مقامات تلك الموسيقى المحلية والفارسية، وواءمها ببراعة مع الالحان الكنسية البيزنطية، فأنتج موسيقى رومية بيزنطية، والرومية صارت ابنة المشرق وجمعت كل موسيى المنطقة واحتوت الكثير من المحليات فكانت الحاناً بمقامات شرقية بديعة (حجاز كار وعجم عشيران والرصد…) ، وجاء ايضاً أنه اول من نظم السنكسار الرومي.ولا نعلم ما اذاكان قديسنا كتب شيئاً في لغتنا العربية، ولكنه خلف أثراً ملموساً في علم الكلام وفن الجدل الاسلاميين العربيين، فالخطة التي رسمها لتأليف كتابه “ينبوع المعرفة” هي الخطة عينها التي اتبعها علماء الكلام فيما بعد، فهم يبدأون مثله بمقدمة فلسفية ثم ينتقلون مثله الى بحث ٍ في الملل والنحل قبل الخوض في صلب الموضوع.
قوس النصر في الشارع المستقيم بدمشق القديمة بجانب المريمية
ولا يقف الكلاميون عند هذا الحد في الأخذ عن يوحنا الدمشقي، فإنهم ينسجون على منواله في تنسيق الكلام عن العقيدة فيعالجون موضوع الله وصفاته اولاً ثم ينتقلون مثل الدمشقي الى الكلام في الله وأعماله ثم يبحثون في النبوة.
لعل اجمل ماكتب وصنف الدمشقي هي “الدمشقيات” وهي صلوات الجنائز بألحانها الثمانية، كل قطعة على لحن من الثمانية، وهي ادعى للخشوع وتذكر الانسان بآخرته…
وفاته
وتختلف المراجع في تعييين السنة التي توفي فيها يوحنا الدمشقي اختلافاً كبيراً ولكن يستدل مما جاء في اقوال المؤرخين على انها كانت عام 749 مسيحية في دير القديس سابا حيث ينسك، وقد دُفن فيه، ثم نقلت عظامه في اواخر القرن المسيحي الثاني عشر، أو اوائل القرن الثالث عشر الى القسطنطينية الى كنيسة جميع القديسين في جوار كنيسة الرسل، ثم نهب الفرنجة الغزاة (الصليبيون) هذين المقامين، وجاء الاتراك العثمانيون بعدهم فهدموها لانشاء جامع السلطان محمد الثاني.
خاتمة
ملأ قديسنا الدمشقي يوحنا الكنيسة بعبير فضائله وعلمه، فأكرمه المؤمنون في حياته، وبعد وفاته، وردد المجمع المسكوني السابع (787مسيحية) صدى هذا الاكرام وثبته، بإعلانه قداسة يوحنا الدمشقي في جلسته السابعة وهتف:
“ليكن ذكره مؤبداً وخالداً”.
ثم نظم استفانوس المرنم مديحاً ليوحنا في اواخر القرن الثامن فأتحفنا بما لانزال نردده ونرتله في يوم عيده في الرابع من كانون الأول من كل عام.
في دمشق مدينة يوحنا التي حمل اسمها الى الابد واحبها ولقبوه بدفاق الذهب كناية عن انهار بردى السبعة، ارادت نخبة ارثوذكسية رد الدين لابن البلدة البار القديس يوحنا
فأسسوا في ثمانينات القرن التاسع عشر في دمشق (وهو عصر النهضة الانطاكية الارثوذكسية عامة والدمشقية خاصة،والتي ادت الى نضال الدمشقيين المستميت لتعريب السدة البطريركية الانطاكية وهو ماحصل بالبطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي 1898) جمعية ثقافية باسم جمعية القديس يوحنا الدمشقي الارثوذكسية، اسهمت في بعث النهضة العلمية والادبية في دمشق عاصمة الكرسي الانطاكي المقدس فأسست لها مدرسة ابتدائية وانشئت مكتبة عريقة ضمت مئات المخطوطات والاف الكتب المتنوعة واتخذت من احدى قاعات مدارس الآسية الارثوذكسية قاعة للمكتبة وبنفس الوقت قاعة عامة للمطالعة اضافة الى تنظيم مباريات ادبية طلابية للأولاد برعاية الصرح البطريركي.
دير سيدة البلمند الرهباني اللاهوتي الانطاكي
وعلى صعيد الكرسي الانطاكي فقد انشيء عام 1974 في عهد البطريرك الياس الرابع على اسم هذا القديس الغريد معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند بمنحة من المتروبوليت انطونيوس بشيرراعي ابرشية اميركا الشمالية، ثم خلفه المتروبوليت فيليبس صليبا، وخُصص عدا عن كونه ديراً رهبانياً اعاد بعث الرهبنة الرجالية الانطاكية العريقة في كرسينا الانطاكي المقدس، خُصِّصَ معهداً لاهوتيا متميزا لتخريج الكهنة واللاهوتيين الاكفاء للكرسي الانطاكي المقدس ويدرس فيه ايضاً طلاب واكليريكيون من الكرسي الاورشليمي، وهو اليوم كلية لاهوتية عريقة تضاف الى مجموع كليات واقسام جامعة البلمند.
“اجتزنا المعاقل الأخيرة لسلسلة جبال لبنان الشرقية الموحشة، حيث بدأ يواكبنا قسم من مياه دمشق العذبة الذي ينبع من هذه الجبال، ( بينما ينبع الجزء الآخر من جبل حرمون) إنه مجرى مخضر (يقصد نهر بردى) شفاف يحاذي الطريق ليروي خضرة الغوطة الغناء وترتفع فوقه صخور رائعة يغمرها نور إلهي وردي ومذهب اللون إنه لتناقض بديع بين حفيف الأوراق والمياه العذبة والصخور ذات اللون الأحمر المرمد التي احرقها حر الشمس والجفاف، تلك الصخور التي ترتسم صورتها بعظمة وجلال في السماء الزرقاء الصافية.
صورة من قاسيون في القرن 19 لدمشق
عندما نقترب من دمشق تتسع أمامنا الحدائق من كل الجهات، وتتفجر المياه لتنساب بين الأحجار وتقفز كالنوافير الصاخبة، فتعطي المدينة رداء متلألئاً وشفافاً، إنه هبة ثمينة من الجبال التي تحيط بها لتغمرها بنسيمها العليل وتموجاتها الزاخرة فتضفي بنسيمها العليل وتموجاتها الزاخرة فتضفي على دمشق السحر والخصوبة منذ قرون عديدة.
ليس هناك في اعتقادي واحة خلابة تفوق دمشق في العالم كله…
هنا تعتدل الحرارة بفعل الارتفاع، والقرب من الصحراء يجعل الهواء نقياً، ان منظر المدينة يعطي انطباعاً أخّاذاً بالسكون إلى جانب الضوضاء المتمثلة في المدينة القديمة والتي تشكل تناقضاً جذاباً مع ذلك الهدوء.
من قمة جبل قاسيون، هذا الجبل الأجرد حيث نستمتع بمنظر رائع، تتراءى المدينة من هنا رشيقة بيضاء بأسطحتها المستوية ومآذنها الممشوقة وسط بساط من أوراق الأشجار المحيطة بها كالبحر الصغير، أو البحيرة الكبيرة بلونها الأخضر الداكن المائل الى الزرقة. وتعطيها أشعة الشمس لوناً قرمزياً هادئاً، إنها لاتبدو واسعة جداً، وسط غيطانها وبساتين أشجارها المثمرة، وفي الخريف، وعندما تتعرى الجبال والسهول التي تعانق الواحة، تخال أنك في الصحراء ضمن إطار بديع، وخصوصاً في هذه الساعة من النهار، حيث تغطي سحابة وردية اللون قمم جبال لبنان الشرقية وجبل الشيخ.”