
سافرت إلى دمشق عبر الطريق البري من بيروت لزيارة أهلي. لا أعرف ما الصدفة التي جعلت سيارة الأجرة التي كانت تقلنا، زوجي وأنا، تقف لعطل في محركها بين الحدود اللبنانية والحدود السورية. أكثر من ساعة ونحن معلقون بين لبنان وسورية. لا أحب التشاؤم عادة، لذا لم أشأ أن أفكر في هذا العطل على أنه علامة شؤم للزيارة. بالعكس، هي مغامرة أن أمضي وقتًا مستمتعة فقط بحقيقة الجغرافيا والتاريخ، ومنكرة لوهم الحدود ولواقع الحروب.
رأيتها… رأيت دمشق مدينتي
وقت قليل، تابعنا بعده رحلتنا باتجاه دمشق التي لم تتضرر من الحرب كغيرها من المدن السورية. ولكن من قال إن الضرر هو دمار البيوت وحده؟ ماذا عن دمار البشر ودمار الأمل؟ دمشق حتمًا تضررت وتألمت وتعافت مئات المرات خلال السنوات الثماني الماضية. هي الحروب، تغير وجه المدن ووجوه أهلها، تصقل ابتساماتهم بالألم. لم أكن، ولن أدعي يومًا أنه بمقدوري أن أكون موضوعية في حديثي عن سورية. لذا أستطيع أن أعترف أن دمشق بأهلها ووجهها الحزين وشتائها الجاف وقاسيونها الأجرد وزحمة طرقاتها ما زالت قادرة على بث البهجة، وما زلت أشعر أني صغيرتها المدللة.
كنت قد وضعت قائمة بأماكن أرغب بزيارتها، لكن الحرب جعلت الوصول إليها مستحيلًا. في قائمتي زيارة المدينة القديمة التي «زينت» شوارعها وبعض حيطانها شظايا الحرب. بادر شباب بتجميلها، فرسموا حولها بيوتًا وتركوا ندوب الحرب واضحة، كي لا ينسوا يوم تُطوى صفحة القتال كيف باغتت الحرب حياتهم. غريبة هي قدرة الإنسان على التأقلم مع الحرب والتماهي معها، لقد بت أتخيل أن الحرب كانت دومًا هنا، ولدنا وكبرنا على ضجيج أسلحتها، درسنا على الشمع، اصطففنا على أدوار الخبز والغاز والمازوت.
ترعبني فكرة أن أفقد ما تحمله ذاكرتي عن مدينتي قبل الحرب. بالعودة إلى القائمة التي وضعت، كان على رأسها زيارة ضريح أبي وزيارة منزلنا الذي يقع في منطقة قريبة من القتال. توفي أبي مع بداية العنف في سورية. لم يشهد منه إلا بضعة أشهر. أظنه اختار الرحيل طوعًا. أذكر أنه عقب وفاته، وفي زياراتنا الأولى لضريحه، كانت تواريخ القبور قديمة، وبدا لي المكان أرضًا مهجورة. أما اليوم، فيبدو المكان مختلفًا، أكثر ازدحامًا بشواهده البيضاء، مَلِيئًا بالقبور التي أُرخت بسنوات الحرب السبع، ومزدحمًا بالزوار الموتى منهم والأحياء.
كم تشبه حال هذا المكان حال المدينة؟ أكثر حداثة وازدحامًا ولكن كما كان شبح الموت مخيمًا على المكان، كان شبح الحرب يستوطن سماء مدينتي.
زرت منزل عائلتي، حيث غرفتي التي كبرت وبكيت وضحكت فيها، غرفتي التي ما أزال أحتفظ داخلها بلعب الطفولة وصور المراهقة وكتب الجامعة. غرفتي التي ما أزال أحتفظ بنفسي داخلها. لم يتضرر منزلنا فعليًّا، إلا أن بعض الشظايا مرت به، وخاصة بغرفتي. وقفت أمام المرآة التي هشمتها شظية. لم أعرف متى استقرت هنا؟ ولا من أين؟ ولا من أطلقها؟ ولكني أعرف جيدًا أن ما رأيته في المرآة هو وجهي الجديد.
هكذا هي الحروب تشوه وجوه المدن ووجوه أهلها.
(,
آندى الخطيب- موظفة بقسم الإعلام الرقمي بمقر اللجنة الدولية في جنيف)مجلة الانساني – اللجنة الدولية للصليب الأحمر
لعلّ أرقى ما مرّ على تاريخ الإنسانية هم أناس أحبّوا فعاشوا، وأدنى ما مرّ على تاريخها أيضاً هم آخرون كرهوا فقتلوا، أمّا أكثرهم قدسية، هم من أحبّوا فماتوا طواعية لأجل الحب.
وإلى جانب التاريخ الحافل للحروب البشرية، تبقى روايات الحب، بقصصها وقصائدها وألحانها، ضوءاً خافتاً في نهاية نفق التاريخ، يضيء أملاً بسيطاً في قدرة البشرية على الاستمرار رغم ما آلت إليه. لأنه حين ينطفئ، ننطفىء، وإن كان ولايزال يضاء بدم العديد من العشّاق، لأجل أن نحيا.
إليكم أبرز قصص الحب وأشهر العاشقين الذين مرّوا في تاريخ الواقع والأدب والكتب…
روميو وجولييت
تعتبر قصتهما أشهر قصة حب في التاريخ، حتى أصبحا رمزاً للحب حول العالم. وهي قصة تراجيدية من تأليف ويليام شيكسبير، مليئة بالحب والمأساة في الوقت عينه.
تبدأ المسرحية في مدينة فيرونا الإيطالية، بعداء طويل بين عائلتي مونتاغ وكابوليت. يُغرم روميو وجولييت ببعضهما في إحدى الحفلات المقامة آنذاك، لكن كل منهما منحدر من العائلتين اللتين تكرها بعضهما، الأمر الذي جعل من زواجهما أمرا مستحيلا.
ومع استمرار الصراع بين واقع الكراهية بين العائلتين والحب بين الشّابين قرر الراهب لورنس مساعدتهما، ليتزوجا بعد حينٍ بالسر خوفاً من معارضة عائلتيهما. لكن قبل الزواج بليلة واحدة، قام روميو بقتل قريب جولييت في مبارزة بينهما، مما فرض عليه الرحيل قبل بزوغ الفجر، وإن عاد يوماً ما إلى المدينة، فقتله سيكون محتّماً من قبل عائلة جولييت.
فقام أهل جولييت بإجبار ابنتهما على الزواج من الرجل المدعو باريس، وهما لا يدركان أنها متزوجةً بالفعل من روميو قبل ذلك. فما كان عليها سوى أن ترفض الأمر بدايةً، إلى أن قبلت بالمفاوضة على ذلك بعد حين، مخططة لتلفيق موتها كي يتسنى لها الهروب مع روميو إلى الأبد، وذلك أيضاً بمساعدة الراهب لورنس. حيث صمم لورنس الخطة، معطياً جولييت جرعة من شراب منوّم لتبدو كأنها ماتت، مما دفع عائلتها إلى تشييعها ووضع جثمانها في القبر.
لكن روميو لم يعلم أن الأمر برمّته هو خطة ملفّقة للهروب، وأن حبيبته جولييت لم تمت حقاً، فقام بزيارة قبرها، وبحزن شديد عليها، قتل نفسه هناك. وحين أفاقت جولييت من نومها العميق، رأت روميو ميتاً قربها، مما دفعها إلى قتل نفسها بالقرب منه أيضاً.
كليوباترا ومارك أنتوني
بعد أن هزم مارك أنتوني كلّ من بروتوس وكاسيوس بعيد اغتيال يوليوس قيصر، أصبح أنتوني واحداً من الحكّام الثلاث للإمبراطورية الرومانية، إلى جانب أوكتافيوس قيصر وليبيدوس، مع استلامه مسؤولية حكم الجزء الشرقي من الإمبراطورية. وهناك، يقع في غرام كليوبترا، ملكة مصر، ويستقر في الإسكندرية.
لكن بعد أن تعرضت الإمبراطورية الرومانية لتهديد حركة تمرد سيكتوس بومييي؛ ابن بومبيي الذي تعرّض للهزيمة قبلاً من قبل يوليوس قيصر، كان على أنتوني العودة إلى روما، عاصمة الإمبراطورية.
تموت زوجة أنتوني، ليقرر أن يتزوج أوكتافيا؛ أخت أوكتافيوس، في محاولة لفضّ الصراع القائم بينه وبين الإمبراطور أوكتافيوس. وبعد الصلح، قاما بعقد السلام مع المتمرد بومبيي. لكن حين سمعت كليوباترا بخبر زواج أنتوني، فقدت صوابها لكثرة الغيرة، على الرغم من ثقتها بأن أنتوني لا يحب أوكتافيا حقاً.
لاحقاً يرحل أنتوني إلى أثينا، إلى حين اندلاع الحرب بين قيصر وبومبيي مرة أخرى، ليقوم بإرسال أوكتافيا إلى روما، ويعود بدوره إلى مصر. الأمر الذي أثار سخط قيصر معلناً الحرب على كلّ من أنتوني وكليوباترا. وحين وصل الرومان إلى مصر، أعطوا لأنتوني حرية الاختيار في كيفية شنّ القتال، لكن على الرغم من شهرته كأعظم مقاتل برّي في العالم، اختار أنتوني خوض الصراع في خضّم البحار. إلّا أن البحرية المصرية كانت غير كافية للقيام بهكذا حرب، فقامت بالهرب والعودة أدراجها إلى مصر، متبوعةً بأنتوني وجنده، حيث لحق قيصر بهم وقام بهزيمة أنتوني.
ونتيجة الهزيمة ووصول قيصر إلى مصر، قررت كليوبترا أن ترحل إلى ضريحها وتبعث برسالة إلى أنتوني، مخبرةً إياه فيها أنها توفيت، الأمر الذي دمّر أنتوني فقرر حينها أن ينهي حياته لكنه فشل في عملية الانتحار، وانتهى الأمر ببضعة جروح وإصابات مع بقائه على قيد الحياة. ليأخذه أتباعه إلى ضريح كليوبترا، حيث مات بين يديها.
تشعر كليوبترا بعدها بأن حياتها قد تمزّقت إرباً، لأنها فقدت حبيبها أنتوني، وأضحت تحت رحمة قيصر في الوقت عينه. ولأن الأمر أثقل كاهلها قررت أن تلجأ إلى الانتحار، حيث طلبت من أحدهم إرسال عدد من الأفاعي السامّة إليها، وحرّضتهم على لسعها. وصل قيصر بعد موتها، ليأمر بدفن هذين العاشقين سوياً.
أبولو ودافني
كان أبولو يسخر كثيراً من إيروس، إله الحب، ولمعاقبته، قام أيروس برماية أبولو بإحدى سهامه الذهبية، مما جعل أبولو يغرق في حب الحورية دفني، إلهة من إلهات الطبيعة. ولسوء حظ أبولو، قام أيروس أيضاً برماية دافني بسهم قيادي معاكس، مما جعلها ترفض أبولو.
كان أبولو يلاحق دافني التي كانت تحاول الهرب منه، مما جعلها تطلب مساعدة أبيها، إله النهر. وحين كان أبولو على وشك الإمساك بها، قام والدها بتحويلها إلى شجرة غار مما حطّم قلب أبولو. وحتى عندما تحولت دافني إلى شجرة، كانت ترتعد من لمسة أبولو لها.
باريس وهيلين
أُهينت إيريس، إلهة النزاع، لأنها لم تُدعَ إلى زفاف بيلوس وثيتيس. وانتقاماً لذلك، رمت تفاحة ذهبية بنقوش تقول ”إلى الأعدل“، علماً منها أن ذلك سيسبب جدلاً بين الإلهات الأخريات. حيث طلبت كل من أفروديت، هيرا وأثينا من زيوس أن يقرر لمن منهن تنتمي التفاحة، لكن زيوس لم يرد أن يسبب مشاكل أكثر لأنه عبر اختياره لإحداهن سيجلب على نفسه امتعاض الأخرتين. وبدلاً من ذلك، قرر أن يعطي مهمة الاختيار لباريس، الإله الخالد. حيث وعدت كل واحدة منهن الإله باريس بشتى الهدايا في حال قام باختيارها.
وكانت إحدى الهدايا التي عرضتها أفروديت، هي هيلين، أجمل امرأة في العالم، وزوجة مينيلوس الإسبرطي. قامت أفروديت بجعل هيلين تقع في حب باريس، ولأخذ جائزته المزعومة من أفروديت، سافر باريس من طروادة إلى مجمع مينيلوس حيث تم تكريمه على أنه ضيف. فقام باريس بإغراء هيلين التي هربت معه في سفينته إلى طروادة، الأمر الذي يعتبر اختطافاً بصرف النظر عن قبول هيلين بالأمر.
وحين علم مينيلوس بأمر اختفاء هيلين، قاد مع أخيه أغاميمنون قواتهم الخاصة وأبحروا نحو طروادة لشنّ الحرب عليها مستعنين بقوة البطل الإغريقي أخيل. حيث حصلت حرب تروجان الطاحنة التي استمرت لأكثر من 10 سنوات، مات فيها كلّ من هيكتور أخ باريس، وأخيل، والعديد من الأشخاص من كلا الشعبين.
لم يكن من المؤكد موت باريس في تلك الحرب، حيث تقول بعض الروايات أن سهم مسموماً قد أصاب باريس من قبل الرامي الإغريقي فيلوستيت، لكن إصابة السهم كانت خفيفة فلم تستطع القضاء عليه. ومع انتشار السم في جسده، لجأ إلى زوجته الأولى أونون، حورية البحر، لتخلّص جسده من أثر السموم. غير أنّها لم تقبل بذلك، مما أدى إلى وفاة باريس. وبعيد وفاته، تزوّج أخوه ديفوبوس من هيلين، الذي ما لبث أن قُتل على يد ميلينوس زوج هيلين الأول. ليعودا معاً إلى إسبرطة ويعيشا سوياً مجدداً بعد كلّ التراجيديا التي حدثت.
قيس وليلى
كان قيس بن الملّوح في طفولته يرعى أغنام والده مع ابنة عمه ليلى بنة العامريّة، حيث ترعرعا معاً حتى أصبحا ناضجين، وغُرم قيس بليلى التي أخفت حبّها له طوالاً. فراح يكتب له كثيراً من قصائد الحب العذري التي ذاعت في قبائلهما، إلى أن جمع أجود أنواع النوق ليطلب يدها من عمّه.
إلّا أن والد ليلى رفض طلبه لأن القبائل آنذاك كانت تمتنع عن تزويج اثنين ذاع حبّهما وإن كان عذرياً كما في قصائد قيس، وذلك لدحر العار. وبعد فترة وجيزة، تزوجت ليلى من ورد بن محمد العقيلي نزولاً عند رغبة أسرتها ودون موافقتها، ورحلا سوياً إلى مدينة الطائف. الأمر الذي فطر قلب قيس، فقرر أن يرحل إلى البادية ليبقى وحيداً دون أحد سوى الحيوانات، وامتنع عن الطعام حتى أصبح هزيلاً جداً.
ونسبة لأفعاله المجنونة التي قام بها نتيجة حبّه الكبير لليلى، أُطلق عليه لقب المجنون، ”مجنون ليلى“. ولحسرة بعض الأصحاب لما آل إليه وضع قيس المزري، توسط العديد منهم إلى أبي ليلى، حتى قامت بعض الصراعات والحروب بين القبائل، وفيها هزمت قبيلة العامرية، إلّا أنّه ورغم كل الصراعات والهزائم، لم يقبل والدها أن يتزوج قيس من ابنته ليلى وقوفاً عند تصرفاته التي عكست عدم اتزان عقله.
فمرضت ليلى لشدة حسرتها وأساها على زواجها من رجل آخر، إلى أن وافتها المنية لشدة الحزن. لكن قيس لم يعلم بالأمر لأنه كان تائهاً في البرية يكتب القصائد ويزهد بما حوله. وحين علم بالأمر، قضى يبحث عن ضريحها بأسى كبير، حتّى وجده، فبكى كثيراً عليها إلى أن توفي بقربها، وهناك دُفنا إلى جانب بعضيهما.
تعتبر هذه الأسطورة البابلية هي التي استمد منها شكسبير رائعته روميو وجولييت، حيث تبدأ القصة في بابل العراقية من شاب دُعي بيرم، واشتهر بكونه من أجمل شبّان البلاد.
كان بيرم يسكن بجوار ثيسبي، وهي فتاة بابلية جميلة، ويفصل بينهما جدار متلاصق مشترك واحد. وبعد أن ترعرعا إلى جانب بعضهما والحب ينمو معهما، قررا الزواج حين نضجا، لكن تقاليد العائلات وقفت عائقاً أمام حبّهما الطويل ومنعتهما من الارتباط.
سرعان ما اكتشفا شقاً صغيراً في جدار الحائط المشترك الذي أصبح الوسيلة الوحيدة المتاحة للقاء كلماتهما، ليلاً ونهاراً، ومن كلّ جانب. وذات ليلة، قرر كلّ منهما الهروب من المدينة إلى البراري حيث لا يمكن لأحد إيقافهما من الزواج والحب، واتفقا على أن يكون اللقاء بالقرب من شجرة ذات ثمار بيضاء بين الأوراق الخضر، وذلك إلى جانب ضريح الملك نينوى.
وعند وقوع ليلة الهروب، وصلت ثيسبي إلى شجرة التوت وقبر نينوى، لكنّها لم تجد بيرم هناك، فقررت انتظاره في رهبة البراري وحدها إلى حين وصوله، حتّى رأت لبوة من بعيد تخرج من بين الأشجار متجهة نحو النبع بعد أن تناولت فريستها وتضرّجت بالدماء. الأمر الذي أرهب تيبسي، فهرعت تركض بعيداً قبل أن تلحظها اللبوة، حين أسقطت منديلها ولم تأبه لاستعادته في طريق الهروب.
مرّت اللبوة قرب المنديل ونهشته ومزقته بفهما المليء بالدماء، قبل أن ترتوي من النبع وتعود إلى عرينها، تاركةً منديل تيبسي الممزق جانباً على الأرض. وحين وصل بيرم، لم يجد سوى منديل تيبسي ممزقاً ومرمياً ومملوءاً بالدماء، وخطى اللبوة على طول الطريق إلى العرين، فتراءى له أن وصوله متأخراً أدّى إلى موت حبيبته تيبسي عبر افتراسها من قبل لبوة البراري دون قدرتها على المقاومة، فأكلتها وتركت منديلها دليلاً على ذلك المشهد الفظيع.
هرع بيرم إلى المنديل وقبله بحرارة والدموع تحرق وجنتيه، ثم اتجه نحو شجرة التوت مكان ميعادهما، مخاطباً إياها قائلاً ”إنك الآن ستشربين من دمي“. فحرر سيفه وطعن نفسه بين ضلوعه، ليفور الدم ويلطخ الثمار البيضاء التي انصبغت بلون دمائه، فولّدت التوت الشامي أحمر اللون. وعندما تحلّت ثيبسي بالشجاعة، وقررت العودة إلى مكان اللقاء، وجدت ثمار التوت تغيرت لونها وصارت حمراء، فاستغربت كثيراً، إلى أن سمعت أنيناً بالقرب منها، فنظرت إلى الأرض لتجد حبيبها بيرم ملقاً على الأرض ومحاطاً ببركة من دمائه. سارعت إلى احتضانه بين يديها، ورجته أن ينظر إليها مرة واحدة، ففتح عينيه ورمقها بنظرة الوداع الأخير قبل أن يرحل عن العالم.
فرددت له كلماتها الأخيرة بحسرة كبيرة ”لقد قتلت نفسك لشدة حبك لي، وأنا وعدتك ألّا يفصل بيننا سوى الموت. أمّا الآن، فحتّى الموت لن يفرقنا.“ واستلّت السيف ذاته الذي قتل به بيرم نفسه، لتغرزه في قلبها، وتموت بالقرب من حبيبها. فحتى إله الحب فجعت من حزنها على حبّهما الراحل الكبير، وبقيت ثمار التوت الشامي الأحمر تخليداً لحبّهما العظيم، وقد وضع رمادهما في زجاجة واحدة، حيث لم يفرق بينهما أي شيء، ولا حتى الموت.
شاه جهان وممتاز محل
دارت أحداث هذه القصة في الهند عام 1607، حين رأى الأمير خرم ولي عهد الإمبراطورية ذو الخامسة عشر ربيعاً، فتاة جميلة ابنة أحد النبلاء المقرّب من البلاط، واسمها ارجمند بانو بكم، في الرابعة عشر من عمرها، فتولدت مشاعر حبّه لها على الفور، وغرم بها، حتى طلب من والده الامبراطور جهانكير أن يخطبها له، ليتزوجا بعد الخطبة بخمسة أعوام.
على الرغم من زواج الأمير خرم من ثلاث فتيات أخريات، إلّا أن قلبه بقي ملكاً لأرجمند وحدها، فأطلق عليها اسم ممتاز محل، واصطحبها معه في كافة غزواته وحروبه، وأنجبت له أربعة عشر طفلاً أميراً.
وبعد وفاة والده الإمبراطور، صار الأمير خرم إمبراطور البلاد، وأطلق عليه لقب شاه جهان؛ ملك العالم. ونتيجة إحدى الغزوات التي قامت ضده، اضطر إلى الذهاب إلى أفغنستان لمواجهة أحد حكام مدنها، مصطحباً معه زوجته ممتاز على الرغم من كونها حاملاً في أشهرها الأخيرة. لكن مشاق الرحلة التي طالت، أرهقتها وعسّرت ولادتها، مما أدّى إلى احتضارها بالقرب من زوجها الذي غرق في دموعه.
وقبل وفاتها، أوصته بأمرين، أولهما ألّا يتزوج بعدها لكي لا ينجب أطفال من امرأة أخرى فيصارعوا أولادها على العرش، والثاني أن يشيّد لها ضريحاً فريداً يخلّدها للأبد. ثم توفيت ممتاز، واعتكف بعدها الامبراطور لمدة طويلة حزناً على رحيل زوجته المفضلة، ليخرج بعدها شائباً، هزيلاً وذا قامة منحنية.
وفي العام ذاته من وفاة زوجته، بعث رسله إلى كافة أصقاع الأرض، لاستحضار أجود المهندسين والفنانين، منفقاً أموالاً طائلة على ذلك، لبناء أعظم ضريح لزوجته الراحلة، ضريح تاج محل في الهند. وعند وفاته، دفن بالقرب من زوجته في الضريح ذاته.
تقول بعض الأساطير أن شاه جهان قام بقطع أيدي جميع العاملين والفنانين الذين ساهموا بتشييد القصر، وذلك لكي لا يتسنى لهم تشييد بناء مماثل له في المستقبل.
نشأت مانيا سلادوفسكي اليتيمة في بولندا، أثناء فترة الحرب الروسية على بلدها. وعلى الرغم من أن العلم كان ممنوعاً على النساء آنذاك وعقوبته النفي إلى سيبيريا، تعلّمت مانيا مع نساء أخريات بولنديات سرّاً، لاسيما أنّها تعلمت القراءة والكتابة عبر مشاهدة أختيها وهما تتعلمان ذلك، وصارت معلمة لدى أسرة ريفية ثرية مدة ثلاث سنوات، وذلك في السر أيضاً.
سافرت إلى باريس لتكمل دراستها في جامعة السوربون الفرنسية وهي في الرابعة والعشرين، حيث دعيت باسم ماري، لتنال جائزة في الفيزياء، تبعتها جائزة أخرى في الرياضيات. ورغم الظروف الصعبة التي أجبرتها على التقشف لجمع المال والقوت، استكملت دراستها وصارت واحدة من بين اثنتين من النساء المتبقيات في الجامعة، لتتصدر ترتيب الأنوثة في مجال العلوم.
وأثناء بحثها عن عمل لتوفير المال والعلم، سنحت لها فرصة عمل في مختبر بيير كوري؛ الباحث والدكتور في جامعة السوربون، والذي لم يكن يرى جدوى من العلاقات العاطفية لانهماكه في أمور العلم. لكنه سرعان ما وقع في غرام ماري، ليتزوجا بعد ذلك بمدة وجيزة عام 1895. ونتيجة حبّهما العاطفي والعلمي الكبير، وعملهما المشترك بين العاطفة والكيمياء، اكتشفا معاً عنصر الراديوم والبولونيوم عام 1898، ليحصلا بعدها على جائزة نوبل في الفيزياء.
أنجبا طفلة دعيت إيرين، وتابعا تربيتها بطريقة علمية، مدونين ملاحظات طوال فترة نموها، لتكبر أيرين وتحصل على جائزة نوبل مع زوجها أيضاً! توفي بيير كوري نتيجة حادث سير عام 1906، فأخذت مكانه في السوربون لتصبح بذلك أول أستاذة أنثى تدرّس في الجامعات، مستكملة وحدها عزل معدن الراديوم الخالص. وفي عام 1934، توفت ماري نتيجة مرض في الدم لكثرة تعرضها للأشعاع.
الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت
تتحدث قصة الحب هذه عن الملكة البريطانية التي ندبت وفاة زوجها لمدة 40 سنة. كانت فيكتوريا شابة مليئة بالحياة والتفاؤل وكانت مولعة بالرسم. اعتلت عرش بريطانيا عام 1837 بعد وفاة عمّها الملك ويليام الرابع. وتزوجت أول نسيب لها، الأمير ألبرت، أمير ساكس كوبرغ غوثا.
وفيما كان الأمير ألبرت يفتقر للشعبية في بعض الأماكن كونه ألمانياً، صار فيما بعد محبوباً جداً لصدقه وجهده وإخلاصه لعائلته. أنجب الزوجان تسعة أولاد، وأحبت فيكتوريا زوجها كثيراً. حيث اعتمدت على نصائحه فيما يخص أمور الدولة، لاسيما في الأمور الدبلوماسية.
وحين مات ألبرت عام 1861، أصيبت فيكتوريا بانهيار كبير، وامتنعت عن الظهور أمام العلن لمدة ثلاث سنوات. الأمر الدي ولّد انتقاداً كبيراً لدى الشعب نتيجة عزلتها المطوّلة. كما قد أقيمت العديد من المحاولات لاغتيال الملكة فيكتوريا. لكن بعد مدة، وتحت تأثير سلطة الوزير الأول بينجامين ديزرايلي، أكملت فيكتوريا حياتها العامّة، مفتتحةً البرلمان البريطاني عام 1866. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقف فيكتوريا عن ندب وفاة حبيبها الأمير، واستمرت في ارتداء ملابس سوداء حتى وفاتها عام 1901.
هيلويز وأبيلارد
حوالي عام 1100، سافر أبيلارد إلى باريس ليدرس في مدرسة نوتردام الفرنسية، حيث اكتسب سمعة واسعة لكونه فيلسوفاً رائعاً. فيما بعد، عيّن فولبرت؛ كاهن نوتردام، أبيلارد ليقوم بتعليم ابنة أخيه هيلواز. حيث وقع كلّ من المعلم أبيلارد و طالبته هيلواز بغرام بعضهما، حمِلت بطفل منه، وتزوجا في السر.
فقد الكاهن فولبرت صوابه حين علم بالأمر، فعمد أبيلارد إلى إرسال حبيبته الصغيرة إلى دير رهبنة قريب لكي تكون بأمان. وحين اعتقد الكاهن بأن أبيلارد كان يسعى لهجرة هيلواز، أرسل خدمه لإخصاء أبيلارد أثناء نومه. فكرّس فيما بعد حياته للتعليم، وصار ناسكاً. أمّا هيلواز ذات القلب المنفطر، فصارت راهبة. وعلى الرغم من بعدهما ومعاناتهما الكبيرة، حافظ كل منهما على حبّه الصادق وإخلاصه للآخر. ونشرت فيما بعد رسائل الحب التي تبادلاها، وصارت قصتهما إحدى أشهر قصص الحب المثيرة للمشاعر في التاريخ.
تيريزا مالفاتي هي موسيقية نمساوية، كانت صديقة مقربة للموسيقي المشهور لوفيج فان بيتهوفن. أحبّها بيتهوفن كثيراً، إلّا أنّها تزوجت من صديقه ايجنز فون غلانغنستاين.
لكن بيتهوفن استمر في إرسال رسائل حبّ كثيرة لها، ورغم تكوّن ارتباط عاطفي انعكس بعلاقة حب كبيرة بينهما، لم يستطيعا الارتباط ببعضهما نتيجة حكم المجتمع الطبقي آنذاك، الأمر الذي وقف عائقاً أمام تتويج علاقتهما بارتباط رسمي. فلم يكن على بيتهوفن سوى أن يهديها أفضل ما يتميز به، وهو مقطوعة مؤلفة ومهداة لأجلها، مقطوعة ”من أجل إيليزا“ عام 1810، والتي تعد إحدى أشهر مقطوعاته. حيث عثر على هذه المقطوعة في أوراقها الشخصية، مخطوطة بألحان حبيبها بيتهوفن.
شهرزاد وشهريار
قرر السطان شهريار؛ ومعنى اسمه ملك المدينة، أن يتزوج من إحدى شابّات المدينة ليستقر ويكوّن أسرة له. لكن سرعان ما تخونه زوجته تلك مع أحد عبيد البلاط، كما فعلت سابقاً زوجة أخيه الصغير. وحين يكتشف شهريار ذلك، يولّد الأمر فيه حالة شديدة من الكره والبغض تجاه النساء نتيجة تعرضه للخيانة وعدم قدرته على الثقة بهنّ بعد ذلك، لاعتباره أن النساء خُلقن لأجل المتعة فقط. فيعلن بعد ذلك قراره بزواج امرأة عذراء في كل يوم، ليقتلها بعد دخلتها في مطلع الفجر.
وبعد أن طبّق الأمر وقام بقتل العديد من النساء بسيف قاطع ونفس مسرورة، وصل الأمر إلى شهرزاد، ابنة وزيره، التي تقرر بحكمة أن تنقذ نفسها وقريناتها من الموت المحتّم والأليم وظلم السلطان. فتبدأ بسرد قصة تلو الأخرى كل يوم، حتى مطلع الفجر، لتتوقف عن متابعة أحداثها دون أن تنهيها. واستمرت بسرد قصة جديدة حين انتهاء سابقتها، مؤجلة بذلك قرار موتها ليلة بعد ليلة، رغبةً من السلطان بمعرفة النهاية.
استمر الأمر مدة ألف ليلة، حتى استطاعت في نهاية الأمر أن تستولي على قلب السلطان شهريار الذي وقع في حبّها، منقذة بذلك جميع نساء المملكة من جبروت السلطان، بعد أن استعاد عاطفته الرقيقة تجاه عظمة النساء وحبّهن الكبير، بحكمة شهرزاد.
بينجامين بريتن وبيتر بيرز
كان بنجامين ملحناً بريطانياً كبيراً وعازف بيانو، ويعتبر من أشهر ملحني ومؤلفي موسيقى القرن العشرين. وفي عام 1937، توفيت والدته، والتي كان متعلقاً بها إلى حد كبير، ما أصابه باكتئاب وتحطّم شديد، وفي الوقت ذاته، أتاح له الأمر فرصة تكوين علاقة شخصية مع آخرين للمرة الأولى في حياته.
فالتقى بعدها ببيتر بيرز، صاحب الصوت الصادح، ليعملا معاً في مجال الموسيقى. وإضافة إلى علاقة العمل، نشأت بينها روابط عاطفية كبيرة، إلى أن اكتملت هذه العلاقة في رحلتهما إلى الولايات المتحدة الأميريكية عام 1939. لكن المثلية آنذاك كانت جريمة مصرّحة في القانون، لذا تحفّظا على إظهار حبّهما العاطفي علناً، رغم أن الشرطة جاءت إلى منزل بينجامين أثناء ملاحقتها لعدد من المثليين واعتقالها العديد منهم بتهمة المثلية.
دامت علاقتهما حتى وفاة بريتن، وذلك عام 1976 نتيجة فشل في القلب. ورغم أن السلطات عرضت أن يُدفن في كنيسة ويستمنستر، إلّا أن بريتن دفن في كنيسة بطرس وبولس في ألديبرغ لأنه أوصى قبل وفاته أن يُدفن إلى جانب حبيبه وشريك حياته بيتر بيرز، حيث دُفن بيرز حين توفي أيضاً وذلك عام 1986. أمّا المنزل الأحمر في ألديبرغ، حيث عاش كل من بيرز وبريتن طوال حياتهما معاً، فحفظ بتصميمه الأساسي، وأصبح مقراً لمؤسسة بريتن-بيرز التي تأسست لدعم إرثهما الموسيقي.
الخاتمة
آلاف الأعوام قضت على تاريخ البشرية، ولم يخلّد ما فاق الحروب والألم. نتساءل لم وصل العالم إلى وحشيته هذه، ونبحث في التاريخ لنجد أن حتى أروع قصص الحب لم تسلم من تراجيديا التقاليد والصراعات. فالبشر وعلى مرّ العصور، قضوا سنين يطورون مفاهيم التفرقة بين طبقة ودين وجنس ولون، دون أن يجتمعوا معاً مرة على أسس الحب والوحدة. لو أن العالم آمن بالحب بقدر إيمانه بالحرب، لما مات إنسان. فحتّى أشد الطغاة لم يقدر على الحياة دون الحب، ولم يقدر عليه سوى البغض.
في نهاية الأمر، أسوة بكل من رحلوا لأجل الحب، سماً وحجارةً وسيوف ومن أعلى شاهق، نقول ألّا حي سواهم، ونحن الأموات. تعددت الأسباب، والموت لن يكون واحد. سلام من الأرض إلى أحضان عشتار، وأفروديت، لحد العاشقين في سلام الحب.
“غيرترود بيل” الجاسوسة التي رسمت حدود العراق
تمهيد
غيرترود بيل Gertrude Bell
مواليد 14 تموز 1868، باحثة ومستكشفة وعالمة آثار بريطانية عملت في العراق مستشارة للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس في عقد العشرينيات من القرن العشرين، واسمها الكامل غيرترود بيل ولقد جاءت إلى العراق في عام 1914، ولعبت دورا بالغ الأهمية في ترتيب أوضاعه بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، فقد كانت بسعة علاقاتها ومعارفها وخبراتها بالعراق أهم عون للمندوب السامي البريطاني في هندسة مستقبل العراق، ويعرفها العراقيون القدماء بلقب الخاتون، بينما يعتبرها البعض جاسوسة بريطانية.
كانت مس بيل ذات شخصية مؤثرة شاركت مجالس سيدات المجتمع في ذلك الوقت، وكانت تنتقد أسلوب التحدث الجماعي للنسوة، كما كانت معروفة على المستوى الشعبي وهناك قصة لها مع أحد قطاع الطرق المعروف باسم (ابن عبدكه) وهو قاطع الطريق المشهور في مناطق شمال بغداد، عند بدايةالقرن العشرين، ولقد حدث ان استولى ابن عبدكة على القطار الصاعد من بغداد ، والتقى “مس بيل” المسؤولة الإنكليزية المعروفة، التي كانت تستقل القطار، وحين عرفها اكرمها، وعاملها بحفاوة، فتوسطت له، واسقطت عنه الملاحقات القانونية، ووظفته في الدولة، ولقد زارت منطقة حائل في السعودية وأوردت مشاهداتها عنها في مذكراتها.
فيصل بن الحسين ملكاً للعراق
اقترحت مس بيل مع توماس إدوارد لورنس قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية بهدف تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق.
تبتسم الضابطة عندما أضاءت في هذا اليوم من عام 1921 إحدى وعشرون طلقة تحيةً في سماء بغداد. “يحيا الملك!”، صاح خطيب الاحتفال. وصفق عرب ويهود ومسيحيون في باحة القصر، وعندما لمح الحاكم الجديد الضابطة في الصف الأمامي، أدت له التحية العسكرية بهدوء.
كانت غيرترود بيل سعيدة، لأن تتويج ربيبها فيصل الأول كملك على العراق هو أيضا تتويج لمشروع حياتها. “ولكن يمكنك أن تعتمد على شيء واحد”، كتبت قبل ذلك إلى والدها، “لن أحاول بعد هذا صنع ملوك. إنه أمر متعب للغاية”.
كان حدثاً تاريخياً في تلك السنوات بعد الحرب العالمية الأولى، بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، فقد تم إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد. قسمت إنكلترا وفرنسا المنتصرتان وفقا لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المفلسة فيما بينهما وخلقتا من أقاليمها دولاً جديدة. وهكذا توحدت الولايات العثمانية، بغداد والبصرة والموصل، لتشكل هيكلاً متماسكاً، هيكل أصبح، اسمه ابتداء من عام 1921 المملكة العراقية، التي قامت بتأسيسها غيرترود بيل: فحددت الجزء الأكبر من حدودها واختارت حاكمها.
“ابنة الصحراء وأم المؤمنين”
ملكة العراق غير الـمُتَوَّجة. ابنة الصحراء. أم المؤمنين. كانت تلك بعض الألقاب، حيث وصلت في هذا العام 1921 إلى قمة سلطتها. بدأ كل شيء بنية سليمة. بدأت قصة غيرترود بيل وبالتالي تاريخ العراق أيضا بثوب للرقص.
لندن عام 1889. بيل في عمر 21 عاما تبحث عن زوج. اكملت ابنة العائلة الصناعية الثرية دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد بامتياز، والآن ترقص في حفلات الرقص في لندن، الذي كان سوق الزواج للشباب الأثرياء.
ولكن أكثر من ذلك تأسرها الصحراء. في رحلتها إلى بلاد فارس عام 1892 تكتشف بيل عشقها للشرق. تبدأ في تعلم اللغة العربية، وتدرس علم الآثار، وتقوم بأول رحلة بحث في الصحراء السورية.
الإمبراطورية البريطانية في حالة حرجة
مفتونةً بالعالم الغريب، كانت متعددة اللغات ذات الشعر الأحمر التي تتقن ثماني لغات منغمسةً لسنين عديدة في ذاتها. إلى أن وصلتها برقية في أحد أيام تشرين الثاني عام 1915 – مفادها: الإمبراطورية البريطانية بحاجتك. إنها الحرب العالمية الأولى.
وضع إنجلترا محرج في صراعها ضد الإمبراطورية العثمانية المتحالفة مع ألمانيا والنمسا-المجر. في البداية هزيمة عام 1915 في غاليبولي، وبعد ذلك بقليل وضع حرج في (مدينة) كوت العمارة (العراقية). الآن يجب على المخطط الذي يدور في أروقة الدبلوماسية السرية أن يقلب الموازين: يريدون ضم القبائل العربية إلى حلفهم، والتحريض على الثورة ضد الأتراك. ومن أجل ذلك هم في حاجة إلى معلومات حاسمة:
من هي القبائل التي تكن ود للإنجليز؟ من منهم يمكن أن يشاكس؟ عدد قليل من الإنجليز لديه الأجوبة، وبيل واحدة منهم. سافرت آلاف الأميال على ظهور الجمال في الصحارى العربية، تقاسمت الخبز والملح مع شيوخ البدو كعلامة للصداقة، وكانت تصغي دائماً الى آرائهم السياسية.
عربية أكثر من أن تكون إنجليزية
“على الرغم من أنها ليست سوى امرأة”، قال ذات مرة زعيم قبلي، “ولكنها قوية وشجاعة”، كان السكان المحليون يثقون بهذه الغريبة ذات العيون الخضراء، وكانت بالنسبة لهم عربية أكثر من أن تكون بريطانية.
رست في صباح الثالث من آذار عام 1916 سفينة القوات البريطانية في ميناء البصرة في جنوب بلاد الرافدين. نزلت امرأة على الرصيف تمسك بيد تنورتها الطويلة وتحمل في اليد الأخرى قبعة. إنها غيرترود بيل. بعد فترة عمل قصيرة في مكتب المخابرات في القاهرة، انتدب نائب الملك في المستعمرات البريطانية الممتدة من الهند إلى البصرة “امرأة ذكية بشكل ملحوظ لها دماغ رجل”.
على الفور بدأت بالعمل: ترسم الخرائط التي ستدل الجيش الزاحف على بغداد، وتضع ملفات شخصية للقبائل البدوية وتحاول الإيقاع بينهم وبين زعمائهم من أجل إقناعهم بالتحالف مع إنكلترا.
الرائد ميس بيل
فجأة أصبحت معلومات بيل مطلوبة للغاية، بدأ نجمها يصعد: كانت أول ضابط مخابرات نسوي في الجيش البريطاني (الرائد ميس بيل) وقد استفيد من خبرتها ومعرفتها عن المنطقة وكذلك مكانتها الحميمية عند شيوخ الصحراء العرب.
ابتداء من عام 1917 أصبحت سكرتيرة للشؤون الشرقية، حيث ساهمت في وضع الإطار السياسي للدولة العراقية المقبلة. بالإضافة إلى خبراتها، كان لديها بصيرة سياسية أثارت ضجة في لندن، حيث يرى الآخرون التفاصيل فقط، كانت هي ترى غالبا الكل الكبير. فقط: لدى غيرترود بيل مشكلة. أنها تُربك الجنرالات المحليين خاصة. يشعر الكثيرون بسبب ثقافتها واعتدادها بالنفس بأنهم محشورون في الزاوية، على سبيل المثال عندما تنتقد ضابطا بشكل لاذع أمام الجميع فتقول له: “أيها العفريت الصغير”، ويتبعه جزاء.. يتحدث زميل لها عن “الاعتداد بالنفس الذي لا حدود له” والديبلوماسي البريطاني مارك سايكس كبير مفاوضي معاهدة سايكس بيكو شتمها قبل سنين بأنها “بلهاء، ثرثارة، مغرورة وسطحية”.
لكن الذي أدى إلى التصعيد هو وجهات نظر بيل السياسية: فقد أصبحت من أشد أنصار فكرة تقرير المصير العربي، في وقت كان زملاؤها البريطانيون يستخفون بالناس المحليين في كثير من الأحيان بوصفهم بكلمة “ملابس” .
عراق حديث كنموذج لعموم المنطقة العربية
بدأت الدسائس تحاك ضد بيل، وتم استبعادها، وتحديد حركتها. لكنها مستعدة لأن تصلب نفسها من أجل قناعتها”، نعم أكثر من ذلك: معالم رؤيتها لمستقبل العراق بدأت ملامحها تظهر. تريد خلق دولة متسامحة، حديثة رائده، كنموذج لعموم المنطقة العربية. حتى – وإن كان ذلك بتوجيه من إنجلترا. على الرغم من أنها تعمل دائما من أجل القضية العربية، فهي في نهاية المطاف بريطانية، تخدم مصالح وطنها وفي بلاد الرافدين اسم المصلحة: البترول.
مع ذلك: رغم المشاحنات في العمل، كانت بيل كلها حيوية في بغداد – حيث تعيش منذ عام 1917: تحب ركوب الخيل، والنزهات تحت أشجار النخيل مع المقربين منها، مع مُزارع الفواكه والخضار الحاج ناجي، الحديث لساعات طويلة مع تجار البازار، تشرب معهم الشاي الحلو وتدخن السجائر وتسمع آخر الشائعات في البلاد. ولكنها تحب أيضا أن تقوم بدور المضيفة في لقاءات يوم الأحد بعد الظهر – ففي حفلات الحديقة في منزلها، تتناقش مع أصحاب النفوذ في البلد حول التطورات السياسية. والشيء المبهر هو كيف بإمكانها أن تحلل في دقيقة واحدة النزاعات القبلية المعقدة، وتتحول مباشرة إلى موضوع الرقصات الحديثة الحالية في إنجلترا، أو كم عقدة تحتاج البوصة الواحدة لنسيج السجاد الفارسي الأصلي. يبدو أنها نسيت علاقتَيْ الحب الفاشلتين في الماضي البعيد، حيث كاد بسببهما أن يتكسر قلبها.
“تحيا الحكومة العربية!”
عام 1920 بسط الخريف ظلاله على بغداد، وفجأة تسارعت الأحداث. وبسبب انتفاضة العراقيين قررت سلطة الانتداب البريطاني نقل البلاد إلى الحكم الذاتي الذي وعدت به منذ فترة طويلة. “تحيا الحكومة العربية! فهي ستعمل ألف مرة أفضل منا”، تهلل بيل. تشكلت حكومة محلية وتم تعيين رئيس وزراء، وسن قانون انتخاب.
ينقص الحاكم فقط. طبعا غورتريد بيل متأكدة على مَن سيقع “الخيار الأول” – فيصل ذو الـ 36 عاما، ابن شريف مكة، قائد الثورة العربية ضد الأتراك. ملك سورية عام 1920 التي انحلت بعد غزوة ميسلون في 24 تموز 1920 الفرنسية، وهو الأكثر قدرة للحفاظ على تماسك البلاد الهش بين الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين واليهود. واستطاعت بيل أن تفرض رأيها: أولاً في مؤتمر القاهرة عام 1921 عند أمين عام المستعمرات تشرشل، ثم في إقناع العراقيين أنفسهم. وجرى استفتاء فاز به فيصل بـ 96 في المئة من الأصوات. في حين يقول المؤرخون ان 90% من السكان كانوا اميين، وبدأت الاستعدادات لحفل التتويج.
كانت بيل منهكة لكنها راضية، لقد عملت الخير للعراق، دون أن تدرك أنها بقراراتها على امتداد كل هذه السنوات زرعت بذور الصراعات الدموية التي يتم حصدها اليوم. بدايةً عند بناء المؤسسات بالتهميش السياسي للشيعة عمدا لصالح السنة، أو بدمج محافظة الموصل (الغنية بالنفط) بأكرادها مع العراق.
تضاؤل النفوذ
في 23 آب عام 1921 صاح خطيب الاحتفال “يحيا الملك!” ودوت واحد وعشرون طلقة تحية فوق بغداد، وعزفت الفرقة الموسيقية “حفظ الله الملك”. مازالت الدولة من دون نشيد، وحدودها النهائية لم تُرسم بعد. كان ذلك آخر مهمة كبيرة تقوم بها بيل، والتي اختتمتها بهذه الكلمات: “قضيت صباحاً مفيداً في المكتب لرسم الحدود الصحراوية الجنوبية للعراق”، لكن بعد ذلك بدأ نفوذها يتقلص، لم يعد في حاجة إليها. وأخيرا انتهى زمانها.
انعزلت بيل، أصبحت كئيبة. كان استئناف عملها كعالمة آثار بديلا عن السلطة سابقا. وفي عمر 54 عشقت الرائد بيل بشعرها الأشيب للمرة الثالثة والأخيرة. ولكنها فشلت مرة أخرى.
في مساء الحادي عشر من تموز عام 1926، طلبت بيل من الخادمة أن توقظها الساعة السادسة في صباح اليوم التالي. ذهبت بيل إلى الفراش ولم تستيقظ بتاتاً. على المنضدة جانب السرير زجاجة صغيرة لحبوب النوم، لقد تناولت منها جرعة إضافية. هل كان ذلك عمدا؟ هذا لم يتم توضيحه إطلاقاً. قبل يومين من عيد ميلادها الـ 58 غفت إلى الأبد، وهي ترقد إلى يومنا هذا حيث كانت تتمنى: في الأرض العراقية. في البلاد التي خططت لها مشاريع كبيرة.
وفاتها
توفيت في 12 تموز 1926 بسبب تناولها جرعة زائدة من الدواء، ولا يعرف إن كانت قد قصدت الانتحار ام لا، شيعت تشييعاً مهيباً حيث شارك فيه الملك فيصل الأول، ودفنت في مقبرة الإنجليز في باب المعظم وسط بغداد.
قبل أن تدخل غرفتها في بيتها ببغداد، وتتناول حفنة من الأقراص المنوّمة لتنهي بذلك حياتها عام 1926، شكّلت غيرترود بيل فعلياً الشرق الأوسط الجديد، ورسمت حدود العراق، وبذلت كلّ ما لديها من علم ومهارات وحنكة لوضع النظام السياسي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تدخلت بتشكيل نظام الملكية الدستورية في العراق، وتنصيب الملك فيصل حاكماً له، بالتنسيق مع الاستعمار البريطاني الذي اتخذ “مكتب القاهرة” مكاناً للتخطيط.
“كانت بيل صديقة ومصدر ثقة الملك الجديد فيصل، ومحركاً أساسياً لرسم حدود الدولة وتأسيس الملكية الدستورية هناك، إضافة للبرلمان ومرافق الخدمات المدنية والنظام القضائي”، بحسب ما قالت ليورا لوكيتز في كتابها “السعي في الشرق الأوسط: جيرترود بيل وتكوين العراق الحديث”، الصادر عام 2006، ليحكي تفاصيل حياة بيل، ويوثق دورها السياسي واضطرابات حياتها الشخصية.
غيرترود بيل، أشهر جاسوسة بريطانية، غابت عن الذاكرة العربية الجمعية لعقود طويلة، على عكس الإصدار الذكوري منها “لورانس العرب”، وذلك على الرغم من أنها كانت أهم امرأة في منظومة الاستعمار البريطاني وفي المنطقة العربية في تلك الفترة، حيث كانت أحد الخبراء الـ39 الذين دعاهم وينستون تشرتشل لمؤتمر القاهرة عام 1921 للتشاور معهم حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط في فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية، ورسم حدود الدولة القومية.
فبعد أن كانت أول خريجة بامتياز من جامعة أكسفورد قسم التاريخ، أدارت بيل ظهرها للعالم الأرستقراطي الذي ترعرعت فيه في إنجلترا حيث عاشت مع عائلتها النخبوية، لتجوب العالم وصحاريه بصفتها مستكشفة وباحثة في الآثار ومستشرقة.
وبعد أن جابت أرجاء العالم اتجهت بيل لبلاد الفرس، في رحلة مع عمّتها ماري، التي كان زوجها سفيراً إنجليزياً هناك، ومن هنا كانت طهران بوابة بيل للمشرق، فخلال ترحالها الطويل تعلمت لغات عدة، منها العربية والفارسية والتركية، وأتقنتها بشكل كبير، أدت بها لسبر أغوار الحضارة العربية والعادات والثقافة، والتغلغل داخل المجتمع المشرقي، وجمع المعلومات حوله من أحاديث الناس؛ النساء خاصة.
أتقنت “خاتون بغداد” (اللقب الذي كانت تنادى به بيل أثناء إقامتها في بغداد) العربية والفارسية والألمانية والفرنسية وقليلاً من اللغتين الايطالية والتركية، وسجّلت أغلب معايشتها لأهل المدن التي زارتها وربما يكون كتابها الأبرز “سوريا: الصحراء” (1907) الذي اعتبر مرجعية لدى العديد من الدارسين لتاريخ بلاد الشام.
في نهاية عام 1909، أتت إلى العراق ضمن بعثة آثار لزيارة قصر الأخيضر وبابل وبعض المدن كالنجف وقامت برسم بعض الخرائط عنها، إلى جانب جمعها معلومات عن العشائر التي مرّت بها، ثم أرسلت من قبل المخابرات البريطانية إلى القاهرة حيث التقت هناك بلورانس العرب، ثم عادت إلى البصرة في مهمّة تتصل بترتيبات سايكس بيكو.
في تلك الفترة، يبدو أن مقترحات بيل نالت موافقة حكومة بلادها؛ وأهمها رسم خارطة العراق الحالية التي ضمّت ثلاث ولايات عثمانية؛ بغداد والبصرة والموصل بعد جدل حول وضع الولاية الأخيرة ضمن حدود الدولة الحديثة في أروقة السياسة البريطانية، وترشيحها فيصل بن الحسين ليكون أول ملك يحكمها، ورفضها إقامة دولة مستقلّة للأكراد.
عُيّنت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق سير برسي كوكس، وكانت علاقتها متوترة مع عدد من شخصيات الحركة الوطنية آنذاك، وفق الفيلم الذي يعرض لرسائل متبادلة بينهم وبينها، ومنهم المحامي سليمان فيضي، ممّن كان يدافعون عن حقهم في الاستقلال، لكنها تمتّعت بشعبية عالية حيث خرجت الآلاف في جنازتها، وقد دفنت في بغداد.
– تجليات النسوية المبكرة
لا يعود غياب قصة غيرترود بيل عن الأدبيات العربية– والغربية كذلك- لسبب واضح، لكن ظهورها في حقبة زمنية اتسمت بالذكورية إلى حد بعيد، يعد أحد الأسباب التي غيّبت اسمها عن أذهان المؤرخين الذين جمعوا وكتبوا عن تلك الفترة، على الرغم من أن دورها كان مشابهاً، وربما أكثر أهمية من دور لورانس العرب الذي حظي بذكر أكبر في المؤلفات المكتوبة والمرئية مبكراً.
في هذا السياق تقول المؤرخة والكاتبة لوكيتز: إن “المؤرخين الكبار كانوا رجالاً، ولم يأخذوا (بيل) على محمل الجد لكونها امرأة”.
إلى جانب ذلك، نظراً لأن بيل وثقت حياتها عن طريق كتابات شخصية شملت أيضاً أحاديث عن الفساتين واللقاءات الاجتماعية، قد يكون ذلك أسهم في تغييب سيرتها.
عقود طويلة قبل تأسيس الحركة النسوية في الغرب، كان طابع حياة وعمل غيرترود بيل يثير التساؤلات أحياناً والإعجاب في كلّ الأحوال، إذ كان الحيز العام في السياسة خاصة مخصصاً للرجال بشكل كامل، لكن غيرترود كانت المرأة الوحيدة بين الخبراء الذين استعان بهم تشرشل لتشكيل الدول القومية، وترسيم الحدود، وهو ما يثير التساؤلات حول مساهمة بيل– بشكل واعٍ أو غير واعٍ- بالتراكم المستمر الذي أثر لاحقاً على دور المرأة في الحيز العام.
وفي هذا السياق تقول لوكيتز: إن “غيرترود قد تكون هي تجلّي النسوية المبكر، أو نسوية لأجل نفسها (…) فقد نسيت أن النساء المنتميات لطبقة اجتماعية أقل من مكانتها، لم تكن ستتوفر لهن الظروف لتحقيق ما حققته هي”.
وتضيف أن بيل لم تتحدَّ أو تنتقد النظام الأبوي في السلطة والمجتمع، بل عملت من خلاله.
– العودة لذاكرة الحاضر
تأسيس المتحف العراقي
لها الفضل في تأسيس المتحف العراقي وظل المتحف حافظاً لأهم الآثار التي وجدتها والآثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف حتى عام2003، حيث سرقت وتحطمت بعض الآثار في ظل تدهور الأوضاع اثناء الغزو الأميركي للعراق، فقد نهبت وخربت الكثير من الآثار وقد أرجع البعض منها خلال الفترة ما بعد عام2006
التجاهل
لم يكتب المؤرخون عن غيرترود كثيراً، إلا أنه بعد عقود من التجاهل وجدت الكاتبة والباحثة ليورا لوكيتز كنزاً ثرياً، وهو كتابات ومذكرات أهم مرأة في الإمبراطورية البريطانية، واعتماداً على ما تكشفه الأوراق من تفاصيل حياتها الشخصية، وتقلباتها النفسية، ودورها السياسي، ألفت لوكيتز كتابها وهو السيرة الذاتية الشاملة لحياة بيل، وتعمل حالياً على جزء ثانٍ له.
في الوقت الذي يشهد فيه العراق منذ أكثر من عقد انهياراً مستمراً للنظام السياسي، وتحديات معقدة كثيرة، توثق إصدارات مرئية قصة المرأة التي رسمت حدود العراق، وأنهت حياتها قبل أن تعرف مصيره.
ففي فيلم “ملكة الصحراء”– من إنتاج هوليوود 2015- تجسّد الممثلة الأمريكية نيكول كيدمان، شخصية غيرترود ومراحل حياتها، إلا أن نقداً كبيراً واجه الفيلم؛ لكونه يركز بشكل كبير على جانب حياة بيل الرومانسي والاجتماعي، ويظهر أسلوب حياتها الأرستقراطي الذي أخذت جزءاً منه معها إلى الشرق أيضاً.
في حين يضع الفيلم في الهوامش دور غيرترود السياسي البارز وتداعيات تنفيذ مخططها والحدود التي رسمتها للعراق، والذي نتج كما نرى اليوم عن إقامة دول تصنف سنوياً ضمن قوائم الدول “الفاشلة” وتعاني من نزاعات داخلية مستمرة أو من تدخل عسكري أجنبي.
وثمة فيلم آخر: “رسائل من بغداد”، بعد تجنيده لدعم مادي شعبي عبر حملة جمع تبرعات إلكترونية، وهو يعرض صوراً وقصصاً نادرة للمرأة التي استثناها التاريخ من أوراقه. بقالب وثائقي دراميّ يعتمد الفيلم على رسائل بيل ليحكي قصتها الاستثنائية، إذ كان لها دور أكثر تأثيراً من صديقها وزميلها لورانس العرب، الذي خلده ذكر المؤرخين والكتب العربية والأفلام منذ الستينيات.
“رسائل من بغداد” عنوان الفيلم الوثائقي الذي أنتج بالاستناد إلى لقطات أرشيفية لعدد من البلدان العربية قبل مائة عام لم يسبق عرضها من قبل ووثائق بريطانية، يتناول العمل قصة بيل؛ الجاسوسة والدبلوماسية وعالمة الآثار في مرحلة حسّاسة ساهمت خلالها في تشكّل جغرافيا المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسمها بين بريطانيا وفرنسا.
تؤدّي أدوار بطلة الفيلم والشخصيات التي عايشتها مجموعة ممثلين يقدّمون ضمن حواراتهم محطّة غيرترود بيل الأولى بعد تخرّجها من “جامعة أكسفورد” إلى إيران حيث كان عمّها يعمل فيها سفيراً لبلاده، لتصدر بعد كتابها “صور من بلاد فارس” (1892)، تصف فيه مشاهداتها هناك، ثم يصوّر رحلتها إلى فلسطين وسورية في مهمة محدّدة تتعلّق بدراسة أوضاع دولة آل الرشيد في شمال الجزيرة من خلال اتصالها مع عدد من القبائل العربية، وإرسال تقييمها الخاص لمستقبل دولتهم.
غيرترود التي استثناها التاريخ، وانتحرت بعد معاناتها من اكتئاب حاد، ساعدت على ترسيم الحدود في الشرق الأوسط، وإقامة متحف العراق. وكان لها موقف مخالف للإنجليز فيما يخص فلسطين والحركة الصهيونية، فقد وجد بين أوراقها رسالة لعائلتها تقول فيها: “أنا أكره الإعلان الصهيوني للسيد بلفور، ففي رأيي ليس هناك إمكانية لتطبيق الأمر، تلك البلاد غير ملائمة لطموح اليهود، فهي أرض فقيرة لا يمكن تطويرها، وثلثا سكانها من العرب المسلمين الذين لا يحبون اليهود، هذا مخطط اصطناعي أتمنى له ألا ينجح”.
الخاتمة
هي واحده من الاشخاص الذين استعان بهم تشرشل لتشكيل الدول القوميه في الوطن العربي وترسيم الحدود لهذه الدول وهو مايثير التساؤلات الكثيره حول شخصية هذه الامراه التي لعبت دورا كبيرا في التاثير على الحياة السياسيه في العراق في العهد الملكي ولحين وفاتها، فلقد لعبت دوراً لايقل اهمية بالنسبة لبريطانيا عن دور لورنس العرب…
عد احتلال الجيش الأميركي للعراق عام 2003، عادت إلى التداول مجموعة رسائل كتبتها الباحثة والآثارية الإنكليزية غيرترود بيل (1868 – 1926)، ورغم أنها نشرت بعد رحيلها بعام كاشفة عن دورها في رسم الحدود الحالية وترشيحها لعدد من زعماء المنطقة ليحكموا بلدانهم، وحضورها القوي في المملكة العراقية الناشئة ووضع سياساتها، إلى جانب اشتباكها مع المجتمع وتمتين علاقاتها بعدد من رموزه وشخصياته العامة.
المصادر
– خليج اون لاين
– القنطرة ايريس موستيغل، ترجمة سليمان توفيق
– ويكيبيديا
الصليب المحيي
تعيّد الكنيسة في الرابع عشر من أيلول من كل سنة لرفع وظهور الصليب الذي صلب عليه ربّ المجد، لقبت الكنيسة الصليب بلقب “المحيي” لأن صليب ربنا هو قوة حقيقية للخلاص، هــذا هو إيماننا الذي تسلمناه من الرسول بولس بقوله: “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأمّــا عندنا نحن المخلصين فهي قوة اللــه” (1كو 1 : 18).
إن خشبة الصليب التي مات عليها الرب موته المحيي ثم قام ، انعكست كل أمجاد القيامة وأفراحها على موت الرب ، إذاً تكريم الصليب نابع من كرامة القيامة ، لأن الموت الذي باشره الرب على الخشبة أثمر القيامة ، فبالتالي مجداً. إذاً الصليب هو مجد.
لذا الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر هذا العيد من أكبر أعيادها، ولهذا كان يعرض الصليب المقدس على المؤمنين للسجود له قبل العيد بثلاثة أيام، ولم تكتف الكنيسة بتعييده ليوم واحد بل خصصت له يومين آخرين تخصصهما بالسجود للصليب، وهو الأحد الثالث من الصوم الكبير، والأول من شهر آب، دفعاً للأمراض، ويتخذون في هذا العيد الريحان وأجناس الزهور.
إن الصليب الذي يقدسه ويكرمه مسيحيّو العالم أجمع، ويسجد له باحترام ملايين البشر في أماكن مختلفة من المسكونة ، لم يبدأ ظهوره بظهور المسيحية ، بل إن له تاريخ يرجع إلى مئات الألوف من السنين ، كان الصليب رمزاً دينياً لدى الكثير من الشعوب ، مثل المصريون لم يجهلوا الصليب ، فكان بالنسبة إليهم إشارة مقدسة يرسمونه في معابدهم كرمز للحياة ، وأيضاً الشعوب الهندية والصينية كانوا يحفرون الصليب على
قبورهم للبركة والتقديس وللحراسة من الشرير ، وكذلك وجد الصليب على قبور الآشوريين والفرس كعلامة للتبريك ، وفي أواخر عهد الآشوريين بدأ الصليب يستعمل كأداة للتعذيب والموت ، ثم انتقلت هذه العادة إلى الإغريق الذين شرعوا في استخدام الصليب في تنفيذ أحكامهم في المجرمين ، ومن البديهي أيضاً أن يكون الرومان قلّدوا الإغريق هذه العادة ، ومن الرومان أخذ اليهود الصليب أداة للتعذيب واللعنة . أما المسيحية اعتبرت الصليب رمزاً لها ، وقد اقتبس ذلك من الصليب الخشبي الذي رفع عليه يسوع المسيح عندما تآمر عليه كهنة اليهود وشكوه إلى بيلاطس الحاكم الروماني في فلسطين ، فقضى عليه بالموت صلباً ( متى 27 : 1 / 66 ) ، ( مرقس 15 : 1 / 47 ) ، ( لوقا 23 : 1 / 56 ) ، ( يوحنا 19 : 1 / 42)
ولذا دفن اليهود خشبة الصليب وهالوا عليه التراب والقمامة وبقي في مكانه ثلاثة قرون ونيفاً ، حتى أخرجته القديسة هيلانة أم الأمبراطور قسطنطين الكبير ، وأقامت في مكانه كنيسة القيامة ( الأناستاسيس ) .
فأرادت الكنيسة في هذا العيد أن تقوّي وتحثّ الحدث الزمني ، إيماننا بالحقيقة الحيّة التي نعيشها . فنحن نعيش في صليب ربّنا كل يوم ، ليس مدفوناً إنما مرفوعاً وظاهراً في القلوب والأفكار والأعمال ، نعم لا نعيّد للصليب ابتداء من ظهور خشبة الصليب التي كانت مدفونة تحت التراب ، إنما عيّدنا منذ رُفع عليه ربّ المجد .
أول من أشار إل حادثة اكتشاف خشبة الصليب بواسطة القديسة هيلانة، القديس امبرسيوس أسقف ميلان ( 339 – 397 م )، وقد ذكرها في إحدى عظاته عن ( انتقال ثيوذوسيوس ) سنة ( 395 م )، وأيضاً نقل قصة اكتشاف خشبة الصليب عن القديس امبرسيوس كل من القديس يوحنا الذهبي الفم ( 347 – 407 م ) ، والقديس يولينوس ( 353 _ 431 م).
لكن الأسقف كيرلس الأورشليمي ، هو أكثر من استفاض في ذكر اكتشاف خشبة الصليب في عظاته التي ألقاها سنة ( 348 م )، وكان يخاطب المؤمنين وهو داخل كنيسة القيامة مشيراً إلى التابوت الموضوع فيه الصليب وكان قد مرّ على اكتشافه ما يقرب 25 سنة، إذ قال في إحدى عظاته:” لقد صلب المسيح حقاً ، ونحن إن كنّا ننكر ذلك فهذه الجلجلة تناقضني، التي نحن مجتمعون حولها الآن. وها هي خشبة الصليب أيضاً تناقضني التي وزّع منها على كلّ العالم”.
لما تمت القديسة هيلانة ذلك الاكتشاف الفائق الشأن، أسرعت بالرجوع إلى القسطنطينية تحمل لابنها قسماً من الصليب. وأبقت القسم الآخر وهو الأكبر في أورشليم، وقد وضعته في إناء نقش من فضّة وسلّمته للقديس مكاريوس ليكون موضوع تكريم المؤمنين، ثم قسمت أيضاً ذخيرة القسطنطينية فأرسلت قطعة منها إلى روما، ولم تزل ذخيرة أورشليم على هذه الحال إلى عهد هرقل الملك. فلما أطلق كسرى ملك الفرس جنوده على بيت المقدس سنة 614، هدموا وبعثروا وسلبوا الأموال والنفائس ومنها ذخيرة الصليب، غير أن كسرى لم ينتهك حرمتها، بل أكرمها وأبقاها على سلامتها، إلى أن عاد هرقل واسترجعها إلى القدس، فوضعها في احتفال عظيم ( 629 م ) إلاّ أن هرقل نقل قسم آخر من الذخيرة إلى القسطنطينية، ومنذ ذلك الزمن بدأ توزيع الذخيرة المقدسة على مدن كثيرة غير روما والقسطنطينية .
المصلوب والصليب
في القرون الأولى للمسيحية، لم يوجد شيء من التصاوير والنقوش تصوّر المسيح مصلوباً، بل كان هناك رسماً للصليب مصحوباً بكتابات، إلاّ أنهم كانوا يمارسون إشارة الصليب ففي أحد النصوص القديمة لترتليانوس يوصي باستعمال إشارة الصليب في كل مكان وزمان: ” في جميع أعمالنا حين ندخل أو نخرج، حين نلبس، أو نذهب إلى الحمامات أو نجلس إلى المائدة، أو نستلقي على السرير، أو نأخذ كرسياً أو مصباحاً، نرسم إشارة الصليب على جباهنا “.
أيضاً كانت إشارة الصليب تستعمل منذ أيام الرسل ، من ذلك الحين لما صعد المسيح إلى السماء ورفع يديه وبارك تلاميذه ، شرع الرسل يباركون بشعار الصليب المؤمنين بالمسيح اقتداء بمعلمهم الإلهي .
في سنكسار القديس يوحنا الإنجيلي ، كتب تلميذه بروخورس أن القديس يوحنا شفى مرّة برسم إشارة الصليب ، إنساناً عليلاً مطروحاً على الطريق، وأيضاً في سنكسار القديس الرسول فيلبس، ورد أنه أمر أحد المسيحيين المسمّى أباروس أن يرسم إشارة الصليب على أعضاء أريسترخوس المريضة فلما عمل أباروس ما أُمر به شفيت بالحال يدّ أريسترخوس اليابسة، فأبصر وسمع وتعافى بكليته.
هناك الكثير الكثير من أخبار القديسين ، الذين استعملوا إشارة الصليب، لطرد الشياطين، ولشفاء النفس والجسد.
ثمة سؤال يطرح نفسه، لما لم يكون هناك رسماً للمصلوب سوى الصليب؟ الجواب على هذا السؤال، يذهب إلى أن قدماء المسيحيين لم يريدوا أن يعرّضوا الصليب للهوان والهزء من قبل الوثنيين، وعليه فإنهم اكتفوا بالرموز التي تذكر بعلامة الربّ، ومن هذه الرموز الشهيرة الصليب المرساة مع العارضة المصلبة، السمكة، سارية السفن مع العوارض الشراعية، وأيضاً من الرموز صورة الرجل الباسط يديه للصلاة… إلاّ أن هناك سبب آخر عن عدم أو قلّة رسم الصليب أو المصلوب ، هو تفضيلهم رسوم تدلّ على خلود النفس ورجاء الحياة الأبدية ، مثل صورة “طاووس”، ” المرساة “.
إذاً المسيحيون لم يرسموا أو ينقشوا المصلوب في لوحاتهم ومنقوشاتهم قبل القرن الرابع الميلادي ، حيث تمّ السلام القسطنطيني وأصبح الصليب رمزاً للمسيحيين وفخر لهم ، فأخذت الكنائس تشيّيد وتزيّن بصلبان ونقوش تمثّل أحداث العهد القديم والعهد الجديد، لكن مع إعلان ممارسة الحرية في ممارسة الشعائر الدينية أيام قسطنطين لم تظهر صورة المصلوب على الصليب بشكل واضح بالرغم من تكريم خشبة الصليب تكريماً فائقاً ، لأن المسيحيين لا يرون آنذاك في الصليب إلاّ العظمة والفخر، لا يريدون أن يمزجوا آيات النصر والانتصار بذكر الآلام والهوان، هذا ما حتم على الإمبراطور قسطنطين أن يصدر حكماً أو أمراً بأن لا يقتل بعدئذ المجرمون صلباً، ليكون الصليب دليل الشرف، فهذا لم يعد يعني إلاّ المسيح الذي مات لأجل خلاص جميع البشر.
من آثار القرن الرابع هناك صليب في وجهه حملاً في الوسط بدلاً من المسيح، وأيضاً صليب عليه أول حرف من اسم المسيح، يحيط به إكليل من الغا.
إنما أول أثر ورد فيه صورة المسيح مصلوباً هو حجر من اليشب الأحمر في غزة من القرن الخامس. ومن أشهر النقوش التي تظهر المسيح مصلوباً ، هي التي نقشت على غلاف الإنجيل السرياني الذي يعرف بإنجيل رابولا(586 م).
مما ساعد في تصوير المسيح مصلوباً هو المجمع الخلقيدوني ( 451 م ) الذي أراد مقاومة اليعاقبة الذين ينكرون الطبيعة البشرية في المسيح، ويجحدون حقيقة ذبيحته على الصليب، لهذا تصدّوا لهم وأكثروا من تصوير المصلوب ليقرروا الطبيعة البشرية في الرب، من هنا نستنتج أن صورة المصلوب كثرت في الشرق بعكس الغرب، ولم تدخل صورة المصلوب إلى الغرب إلاّ في القرن الثامن الميلادي، على يدّ الرهبان الشرقيين عند دخولهم إلى إيطاليا.
روحانية الصليب
محبّة الله لا ترى إلاّ الإنسان، ولا تهدف إلاّ إلى خلاصه، وهذه هي المحبة الحقيقية التي يمثلها الصليب، الله لم يحبّ الإنسان لأنه ذكي أو غنيّ، الله أحبّ الإنسان لضعفاته وسقطاته، أحبّه لأنه يعرف أن الإنسان بحاجة إلى هذه المحبة ليخلص، المحبة هي وحدها القادرة على تخطي الضعف والسقوط، صليب المسيح وحده أنقذ الخليقة وانتصر على الموت، بصليب انتصر المسيح على مملكة الجحيم، وبه ننتصر نحن على كل ضعف فينا، لننموا إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح (أفس 4 / 13). لهذا ردد يسوع :” من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني” (متى 16 / 24)
هذا إن لم تزهر محبة المسيح محبة في قلوبنا، وأن نصلب عن خطايانا ، وأن تتخلى عن كل شيء حتى ذاتك، وأن تتبع السيد وتتطبق وصاياه وتعاليمه، وأن لا تتطلب أي شيء لذاتك بل كل شيء لله، وأن تحبّ الجميع وحتى الذين لا يحبوننا، وإن لم تمت مع المسيح فلن تشهد للقيامة، ولن تعرف الطمأنينة والسلام الداخلي. لقد صلب المسيح ليكون لنا المثال والمعلم، وقد علمنا الرسول بولس من أراد أن يفتخر فليفتخر بصليب المسيح وحده لأنه أداة الفداء ونبع الحياة الأبدية، ولم يعد الصليب عاراً أو ذلاّ بل أصبح رمزاً للنصر والظفر، نصر المسيح والمسيحيين بالتالي نحن نبشر ” بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة “. (1 كو1/ 23)
إذاً لنتمسّك بالصليب، إذ به نتبرّك ونتطهر، ولنمتشق معلقين ذاتنا وإنساننا العتيق طامحين أن نكون به خليقة جديدة صارخين: “لصليبك يا سيّد نسجد ولقيامتك المقدسة نمجّد”.
يقول القديس يوحنا كرونشتادت
إن أهمية الصليب لا تكمن في كونه عارضتين خشبيتين بل لأنه يحمل صفة شخصية ملازمة للمسيح يسوع كما يعرّفه الملاك لمريم المجدلية “اني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب” (متى5:28)، وكما يكرز به بولس الرسول: “نحن نكرز بالمسيح مصلوباً”
(1كورنثوس 23:1).
ومع هذا فتفسير خشبتا الصليب: العمودية هي علاقتنا مع الله والأفقية هي علاقتنا مع الناس.
هناك أيقونتان رُسمتا دلالة على الحدث المقدس:
† نعاين الصليب مرفوعاً وعن يمينه ويساره القديسان قسطنطين وهيلانة فهما من سعيا لاسترجاع عود الصليب المكرّم.
† أيقونة يرفع فيها البطريرك مكاريوس الصليب، ونجد وراء الصليب وحوله القديسان قسطنطين وهيلانة و رؤساء الكهنة والكهنة والشعب المقدس لله يحتفل بهذا اليوم العظيم يوم ظهور الصليب المكرم مرفوعاً لخلاص البشر.
فرح الكنيسة بهذا اليوم هو فرح محبة الله لنا وتعلقنا نحن به. “فحينما ترفع نظرك الى خشبة الصليب المعلّقة فوق الأيقونسطاس (حامل الأيقونات الذي يفصل الهيكل عن صحن الكنيسة) أُذكر مقدار الحب الذي أحبنا به الله حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به.
فأينما وُجد الصليب وُجدت المحبة، لأنه هو علامة الحب الذي غلب الموت وقهر الهاوية واستهان بالخزي والعار والألم.
الصليب” و”جنود مسيحيي الشرق”
يظن كثيرون أن ” الفرنجة”(1) القادمين من الغرب كانوا أول جنود “ارتدوا الصليب” وأخذوه شعاراً لجيشهم ودولهم.
في الحقيقة إن هذا الاعتقاد خاطئ، ذلك أن أول “الجيوش” و”الدول” التي “جعلت الصليب شعارها” كانت في “الشرق”، وقبل حملات الغزاة الفرنجة بقرون عديدة.
أول حملة افرنجية “غربية” بدأت عام 1094، وقد دامت حملات الفرنجة وعددها اربع عشرة حملة دامت قرنين من الزمان، في حين ارتدى أول “جندي مسيحي شرقي” رمز الصليب عام 312 م أي قبل الفرنج بسبعة قرون على الأقل.
كان ذلك في خريف عام 313م عندما ظهرت لقسطنطين الملك، إشارة الصليب في السماء، مكتوب عليها :”بها تنتصر”. فأمر بإلباسها لجنوده، وانتصر بالفعل على أعدائه بقيادة القيصر مكسنديوس، فوحّد الامبراطورية الرومانية ، وهزم مكسنديوس الوثني الذي كان ينازعه على العرش، ثم أعطى المسيحيين حرية العبادة ببراءة ميلان عام 314م، وبنى “القسطنطينية” في الشرق لتكون “عاصمة مسيحية” للامبراطورية الرومية، بعدما حفلت ذاكرة روما – العاصمة الغربية القديمة باضطهاد المسيحيين.
منذ ذلك الوقت صارت راية الصليب ، الراية الرسمية لامبراطورية الروم، وصار الصليب هو “الرمز” الذي يرتديه “جيشها” دفاعاً عنها، من أنطاكية وسائر المشرق وفلسطين وآسية الصغرى إلى الاسكندرية والقسطنطينية .
لا يزال الروم إلى اليوم يرتلون في عيد الصليب، طروبارية الصليب الخاصة، التي تقول في أصلها اليوناني :” خلص يا رب شعبك وبارك ميراثك، وامنح ملوكنا المؤمنين الغلبة على البربر، واحفظ بقوة صليبك جميع المختصين بك”.
إن تعبير “وامنح ملوكنا الغلبة على البربر”νίκας τοῖς βασιλεῦσι κατὰ βαρβάρων δωρούμενος” هو دليل قاطع على أن “الصليب” كان يتقدم جنود الروم في دفاعهم عن أرضهم وعرضهم ومقدساتهم. ورأوا فيه رمزاً “للفداء” و”القيامة بعد الموت”، وهو المبدأ الذي يناضل “الجندي” بموجبه إذ إنه “بالدم يفدي شعبه” فيموت هو ليحيا الشعب وتبقى القيم.
شهادت المسلمين
عام 634 مسيحية عندما احتل العرب بلاد المشرق التي كان يحكمها الروم ، يخبر الواقدي وهو أول وثيقة عربية تؤرخ لذلك أن العرب المسلمين، في مشروعهم لاحتلال بلاد المشرق المسيحية آنذاك، كانوا يواجهون في كل مدينة شامية مشرقية جيشاً من أهلها المقاتلين “تتقدمهم الصلبان”. هكذا يصف حصار العرب ل”حمص” و”دمشق” و”طرابلس” و”حلب” و”انطاكية” و”بعلبك” وغيرها.
فهو يقول إن خالد بن الوليد عندما قرر أن يحتل دمشق، “تحصن أهل دمشق بها وأعدوا آلة الحصار، ورفعوا السيوف والطوارق، وعلوا على الأسوار، ورفعوا الأعلام والصلبان”. وعندما يتحدث عن معركة اليرموك الشهيرة بين الروم والعرب يقول :”أقبلت علينا عساكر الروم بالرايات والصلبان”.
وابن كثير يقول عن المعركة إن “الروم أقبلت رافعة صلبانها ولها أصوات مزعجة كالرعد”. (ابن كثير ، البداية والنهاية).
احتل العرب المشرق، فمنعوا المسيحيين من حمل السلاح مجدداً ومن رفع صلبانهم. وذلك بموجب “العهدة العمرية” التي يدل نصها بشكل صريح على” أن المسيحيين الذين بقيوا تحت حكم المسلمين يمنعون من حمل السلاح ومن رفع الصلبان”، وذلك بشكل “عهد وقعه المسيحيون تحت الضغط ” وفيه عبارات واضحة : “ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا… ولا نظهر صلباننا … ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً …”
جيوش الروم في البلاد التي بقيت حرة بقيوا يرفعون صليبهم ، والقائد نيكيفوروس فوكاس عندما حرر المشرق من جديد عام 966 ، كان جنوده “يرتدون راية الصليب”.
أما في القرنين العاشر و الحادي عشر ، فكنت “إذا قصدت القصر الملكي في القسطنطينية عاصمة الروم تقرأ على جدران بعض البنايات العمومية عبارة “المسيح الامبراطور” . وقد تسمع في طريقك إلى القصر جماعات يرتلون . فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنوداً حاملين الصليب عالياً هاتفين :”المسيح المنتصر”. (5). كما كان هناك في القصر عرشان ، أحدهما عليه الإنجيل وهو عرش المسيح الملك والثاني للملك”.
بعد الصليبيين ، وقبل احتلال الأتراك للقسطنطينية ، بقي الروم على تقليدهم النضالي القديم . ففي عام 1331 أيضاً ، وأثناء معركة بيليكانون ، ارتدى جنود أندرونيكوس الثالث الصليب عندما قاتلوا الأتراك ، وقد كتب كانتاكوزينوس :” هاجموا البرابرة بعدما تسلّحوا بالصليب”.
رأى مسيحيو الشرق في “الصليب” على الدوام رمزاً لانتصارهم على “الموت” و”الحروب والدمار” ، ولذلك جعلوه رمزاً دائماً لنضالهم. فلنحذ حذو الأجداد ، ولننطلق نحو…القيامة.
( من كتاب “روم المشرق حرفياً: الهوية واللغة “— للمحامي رودريك الخوري —- ص 499- 502).
حاشية
(1) تم هنا استبدال كلمة الفرنجة والفرنج تغيير بالصليبيين، فتسمية الفرنج والفرنجة كما كان يستخدمها مؤرحو المسلمين المعاصرون، ولأن هذه التسمية تشكل جرحا للمسيحيين لأن خلفية مستخدميها تظهر تعصباً مسيحياً فالصليب في هذه الحملات هو شعار حربي عند الفرنج كما كان النسر عند الرومان والنسر ذي الرأسين عند الدولة الرومية البيزنطية، اضافة الى ان غزوات الفرنج للمشرق ذات بُعد استعماري يهدف الى احتلال المشرق، وبُعد صراع عقيدي بين الكنيسة الغربية برئاسة بابا رومية وملوك اوربة وبين الكنيسة الارثوذكسية والامبراطورية الرومية لذا نرى الحملة السابعة احتلت القسطنطينية لمدة 70 سنة وسلبت كل ذخائر القديسين واخذتها الى رومة، وكانت منذ الحملة الأولى قد احتلت انطاكية والقدس وقتلت البطاركة واستبدلتهم مع مطارنة الكرسيين الانطاكي والاورشليمي بلاتينيين…وكان القصد هو قلب انتماء ابناء الكرسيين مع الكنائس الشرقية الى الكثلكة لذلك كانت الكنيسة المارونية اول كنيسة شرقية تعلن خضوعها لبابا رومية.
صيحة الحماس في الامبراطورية الرومية
توطئة
لكل الشعوب والاقوام صيحات حربية يطلقها المحاربون لدب الحماس في نفوسهم وايقاع الرعب في نفوس الخصوم ومنها صيحة الله اكبر عند المسلمين…
فهل كان لجنود وشعب الامبراطورية الرومية صيحة حماس ايضاً؟
صيحة الحماس في الامبراطورية الرومية
الجواب ، نعم فقد درجت عادة الروم عند حماسهم، أن يصيحوا صيحة واحدة بصوت عظيم، وبلغتهم اليونانية: ” كيرياليسون” ، وتعني بالعربية: “يا رب ارحم”. كما نستخدمها في الليتورجيا الرومية في كنيستنا الرومية الارثوذكسية والروم الكاثوليك: كيرياليسون…يارب ارحم ويستخدمها السريان ” قورياليسون”
إذ تدلنا الأخبار التاريخية أنه أثناء الحروب بين الروم والمسلمين، كان يتم تبادل الأسرى بينهم على جسر لامس فيصيح المسلمون: “الله أكبر”، فيجيب الروم :”كيرياليسون”.
هذا، وعندما اكتشفت البعثة الامبراطورية عود الصليب في اورشليم في 14 أيلول 326 م، ورفعه أسقف المدينة مباركاً، صاحت جماهير الروم في اورشليم بصوت واحد: “كيرياليسون”.
ويبدو لنا أن روم المشرق حافظوا على هذا التقليد قروناً بعد احتلال العرب. إذ تدلنا الوثائق التاريخية أنه بعد أكثر من 4 قرون على تعريب الروم المشرقيين ” وعندما غزا الإفرنج (الصليبيون) مدينة انطاكية كان الشعب المسيحي يصرخ كيرياليسون، لكي يفهم الغزاة أنه شعب مسيحي ولا يصاب بأذى، وكان البعض يرتلون تراتيل (رومية) يونانية.”
وعندما احتل الإفرنج الصليبيون القسطنطينية عام 1204 م، عاد الروم فحرروها من جديد، ليلة عيد السيدة في 14 آب عام 1261 م . وفي اليوم التالي، أي في يوم العيد، دخل الروم المدينة بقيادة امبراطورهم ميخائيل الثامن باليولوغوس. “فصعد متروبوليت كيزيكوس إلى أحد الأبراج حاملاً أيقونة السيدة. وصلى على مسمع من الجماهير 13 أفشيناً، وكان الفسيلفس (اي الملك) عند تلاوة كل افشين، يكشف رأسه ويركع على الأرض فيحذو حذوه سائر الحاضرين. وعند نهاية كل افشين كانوا ينهضون ويصرخون معاً “كيرياليسون” يا رب ارحم. وبعد ذلك مشى ميخائيل وراء الأيقونة إلى دير الستوديون حيث وضعت. ثم امتطى جوادا وتوجه إلى كنيسة آجيا صوفيا. فصلى وشكر وذهب إلى القصر”…
المصدر (صفحة نسور الروم)
لا يمكننا تجاهل الإسهامات العديدة التي قدمها العلم للبشرية، من الكهرباء والطب الحديث إلى المعلومات التي ساعدتنا على فهم الكون من حولنا. بالنسبة للعالم الأمريكي الشهير (تشارلز كيترينج): ”99.9٪ من النجاح مبني على الفشل“، وكمثال نظري على آلية عمل الانتقاء الطبيعي، فإن تاريخ العلوم هو عبارة عن بعض النظريات القديمة والخاطئة التي تم استهلاكها بشكل تدريجي واستبدالها بنظريات أخرى، لا يشير هذا الأمر إلى الفشل، بل إنه يظهر القدرة البشرية على تقديم نظريات جديدة والبحث المستمر عن اكتشافات علمية من شأنها أن تطور المستقبل البشري، ولكن بعض من هذه النظريات والمفاهيم التاريخية الخاطئة هي وليدة الجهل والتخلف.
على عكس بعض الفرضيات الشائعة، فإن فكرة الأرض المسطحة هي فكرة حديثة النشأة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، كما هو موضح في هذه الخريطة التي رسمها (أورلاندو فيرجسون) عام 1893م.
سنقدم لك في هذا المقال 20 نظرية علمية اعتمدها بعض الأشخاص والثقافات عبر التاريخ والتي قد تبدو لنا أقرب للجنون من العلم:
النظرية العلمية التي كانت منتشرة في جميع أنحاء أوروبا أثناء عصر النهضة، والتي تنص على أن البشر عبارة عن أشكال مصغرة وكاملة داخل الحيوانات المنوية للذكور، ثم تنمو عند دخولها لرحم الأنثى:
يعود أصل هذه النظرية لليونان القديمة، كما ساهم الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورث في تعزيزها، حيث اعتقدوا أن الأب هو المساهم الرئيسي في منح الخصائص الأساسية للذرية البشرية، في حين أن الأم عبارة عن وعاء أو فرن يحتضن الطفل أثناء نموه.
انتقلت هذه النظرية إلى أوربة عبر الفيلسوف أرسطو، بعد ذلك ساهم (جالينوس) في تدعيمها، إلى أن بدأ هذا الاعتقاد يواجه بعض الاختبارات والفحوصات للتأكد من صحته في مطلع القرن السابع عشر. ومع ذلك بقيت الفكرة الأساسية المتمثلة بكيفية تحول المادة غير المنتظمة إلى حياة منتظمة تثير قلق علماء الماضي إلى أن توصلوا لاستنتاجات مدهشة.
على عكس المفهوم العلمي الحديث عن التطور الجنيني، ادعى بعض علماء الطبيعة قديماً أن البشر يكونون في حالة تشكل مسبقة، وقد طور العالم الهولندي (أنطوني فان ليفينهوك) هذه النظرية وقام بنشرها، حيث أصر على نفي الاعتقاد السابق بوجود إنسان مصغر داخل السائل المنوي، ومن هنا نشأت نظرية ”التشكل“، حيث اعتقد (ليفينهوك) أن السائل المنوي البشري يحتوي على أجنة بشرية ولكن نموها غير مكتمل، لذلك تنتقل إلى الرحم من أجل الحضانة، بقيت هذه النظرية سائدة خلال القرن الثامن عشر إلى أن جاء الكيميائي البريطاني (جون دالتون) بنظريته الذرية للمادة في مطلع القرن التاسع عشر والتي كانت نقطة تحول مهمة في التاريخ العلمي البشري.
منذ الاكتشاف الإسباني للأمريكيتين، تم اعتبار شبه جزيرة (باخا كاليفورنيا) على أنها جزيرة لمئات من السنين:
في عام 1510، ذكر المؤلف (غاري رودريغيز دي مونتالفو) لأول مرة في روايته الرومانسية Las sergas de Esplandián جزيرة تسمى بجزيرة كاليفورنيا والتي شبهها بالجنة على الأرض، وكانت هذه الجزيرة مأهولة بنساء سوداوات دون وجود رجال بينهن.
عند وصول المستكشفين الأوائل لاستكشاف الساحل الغربي للقارة الأمريكية الشمالية أخطأوا في التعرف على شبه جزيرة (باخا كاليفورنيا) واعتقدوا أنها جزيرة، حيث اعتقد المستكشف الإسباني (إرنان كورتيس) أنه قد وصل إلى جزيرة كاليفورنيا الأسطورية التي وصفها (مونتالفو) في روايته، ولكن بعد ست سنوات فقط اكتشفت بعثة استكشافية قام (كورتيس) بإرسالها أن (باخا كاليفورنيا) هي شبه جزيرة وليست جزيرة.
على الرغم من البعثات الاستكشافية المتعاقبة التي توجهت إلى هذه المنطقة، إلا أنه في ذلك الوقت كان من الصعب أن تستبدل الاكتشافات الجديدة والواقعية المفاهيم الراسخة والقديمة، حيث ظهرت لفترة قصيرة بعض الخرائط التي تعود لعصر الاستكشاف والتي تصور شبه جزيرة (باخا كاليفورنيا) بطريقة صحيحة، وعلى الأخص في خرائط (ميركاتور)، ولكن استمر رسامو الخرائط برسمها على أنها جزيرة خلال القرن السابع عشر، وعلى الرغم من مرور وقت طويل على استكشاف شبه جزيرة (باخا كاليفورنيا)، إلا أن المستكشفين التبشيريين لم يتمكنوا من تصويب هذه المفاهيم الجغرافية الخاطئة المتعلقة بكونها جزيرة حتى منتصف القرن الثامن عشر.
قبل مئتي عام فقط، كان يتم استخدام ”المعالجة المثلية“ -الطب التجانسي- لشفاء المرضى عبر تطبيق قول ”داوها بالتي كانت هي الداء“:
أول من اقترح هذه الفكرة هو أبقراط في العام الـ400 قبل الميلاد، حيث كان يقوم بوصف جرعات صغيرة من جذور نبات (الماندريك) التي تسبب الهوس لعلاج الحالات النفسية، بعد قرون تبنى الكيميائي والطبيب (براكلسوس) هذا المفهوم الطبي عبر قوله: ”الشيء الذي يجعل الرجل مريضاً يمكن أن يشفيه أيضاً“.
في عام 1796، جاء الطبيب الألماني (صمويل هانيمان) بفكرة الطب البديل، فقد كان يرفض الأساليب العلاجية السائدة في ذلك الوقت التي كانت تعتمد على إراقة الدماء، وتوصل لفكرة ”المعالجة المثلية“ عام 1807، معتقداً أن المواد التي تسبب ظهور أعراض المرض، يمكن استخدامها لشفاء هذا المرض.
انتشرت الممارسات الطبية لـ(هانيمان) في الولايات المتحدة عام 1825، حيث عمل أتباعه الأمريكيون المتعصبون على نشر المعالجة المثلية عالمياً، ولكن في العقود المنصرمة واجهت هذه الطريقة العلاجية انخفاضاً في معدلات القبول إلى أن أصبحت مجرد علم زائف لا يقدم أي فائدة طبية للبشرية.
كان البشر قديماً يقومون بتحديد شخصية الفرد من خلال مظهره الخارجي، انحسر علم الفراسة خلال العصور الوسطى ليعود مجدداً خلال الحقبة الحديثة المبكرة:
تبنى أرسطو بعض المفاهيم القديمة التي كانت تعتقد بوجود علاقة تربط بين المظهر الخارجي للفرد مع السمات النفسية والداخلية، حيث اعتبر أرسطو أنه من الممكن معرفة شخصية الفرد من مظهره الخارجي، كما كان من المؤيدين الأوائل لنظرية الفراسة.
اعتُمدت هذه النظرية العلمية خلال القرون الوسطى على نطاق واسع، ولكن بحلول القرون الوسطى المتأخرة منع الملك الإنكليزي (هنري الثامن) من تدريس هذه النظريات الخاطئة، كما كان (ليوناردو دافنشي) من المناهضين لعلم الفراسة معلناً أنه لا يرتكز على أي أساس علمي.
قام القسيس السويسري (يوهان كاسبار لافاتو) بإحياء علم الفراسة مجدداً في أواخر القرن الثامن عشر، حيث اعتمد بشكل كبير على أعمال الفيلسوف الإنكليزي الـ(سير توماس براون) مؤكداً وجود شيء غامض بتقاسيم وجوهنا، حيث أنها تحمل الكثير من شعائر نفوسنا.
ساهم (لافاتو) في تجديد النقاشات حول علم الفراسة وتضاربت ردود الفعل حوله، ولكن ومع ذلك ازدادت شعبية هذا العلم، حيث تم استخدام علم الفراسة خلال الفترة المتبقية من القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر في أسس علم الإجرام وكذلك لأغراض عنصرية، ولكن بحلول العصور الحديثة سقط علم الفراسة بعد رفض المجتمع العلمي له واعتباره علماً غير دقيق وخالي من أي أساس علمي.
بقيت فكرة مركزية الأرض سائدة في علم الفلك لآلاف السنين إلى أن تمكن كوبرنيكوس من دحضها في القرن السادس عشر:
وُجدت هذه النظرية في فلسفة ما قبل سقراط وتم اقتراحها من قبل الفيلسوف (أناكسيماندر)، حيث قدم نموذجاً استعرض فيه أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس والقمر والنجوم والكواكب الأخرى تدور حول الأرض، مع وجود بعض النجوم الثابتة والتي تدور مرة واحدة يومياً وتظهر في قطبي الأرض، ويبدو أن الفلكيين القدامى اعتبروا أنه من المنطقي أن الكواكب هي التي تدور حول الأرض وأن الأرض ثابتة بمكانها. أصبحت هذه النظرية العلمية لاحقاً سائدة في القرن الرابع قبل الميلاد مدعومة من قبل أرسطو وأفلاطون، كما تم دمج فكرة مركزية الأرض مع فكرة كروية الأرض.
طرأت بعض التعديلات الطفيفة على النظام البلطمي أو المركزية الأرضية، حيث أظهر بعض علماء الفلك الإسلاميين معارضتهم لهذه الفكرة خلال القرن العاشر الميلادي، كما نشر العالم البولندي (كوبرنيكوس) في كتابه ”حول دوران الأجرام السماوية“ عام 1543 أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، سبب هذا الكتاب ضجة كبيرة خلال الحقبة العامة.
ومع مرور الوقت تدهورت نظرية مركزية الأرض تحت وطأة بعض الأدلة التجريبية وتطوير التلسكوب عام 1609 بالإضافة للملاحظات التي قدمها غاليليو للبشرية في أوائل القرن السابع عشر.
على الرغم من سخافة الفكرة، فقد كان يُعتقد بوجود نوع من النبات في آسيا الوسطى قادر على إنتاج الحملان من براعمها مثلها مثل الزهور:
كان يُنظر لنبتة الحمل التتارية التي كانت تعيش في آسيا الوسطى على أنها حيوان ”نبات“ أسطوري، حيث اعتقدوا قديماً أنه مزيج من حيوان ونبات في وقت واحد، مرتبط بالأرض عبر حبل سري.
يُعتقد أن هذا المخلوق هو وليد بعض المفاهيم الخاطئة في العالم القديم، حيث كتب المؤرخ اليوناني (هيرودوت) عن الأشجار في الهند: ”ثمارها صوف“، أي أن نبتة القطن لم تكن معروفة آنذاك، في حين يشير الفولكلور اليهودي في الألفية الأولى إلى وجود مخلوق أسطوري يعرف باسم Yeduah مشابه لأسطورة حمل التتار المتصل بالأرض، أما بالنسبة للأساطير الصينية فكان لديهم حيوان أسطوري يطلق عليه اسم ”خروف الماء“ الأسطوري، وهو مزيج من النبات والحيوان، متصل بالأرض عن طريق الجذع، فإذا قام أحدهم بقطع جذعه فسيموت الحمل.
على الرغم من سخافة فكرة نمو الأغنام كالفاكهة، إلا أنها لاقت رواجاً واسعاً في أوروبا في القرن الرابع عشر، عندها طالب الدبلوماسي والبارون النمساوي (سيغيسموند فون هيربرشتاين) في منتصف القرن السادس عشر من الشعب تقديم وصف مقنع وحقيقي لهذا الحيوان الأسطوري.
في النهاية، انطلق الطبيب الألماني (إنلبرت كايمبفر) عام 1683 في رحلة استكشافية إلى بلاد فارس للتأكد من حقيقة هذه الأسطورة، ولكن لم يجد (كايمبفر) أي دليل على نبات الحملان، وعاد إلى أوروبا لنشر وتثقيف الشعب الأوروبي ودحض هذه الفكرة الحمقاء.
تنتقل الأمراض المعدية مثل الكوليرا عبر الهواء الملوث، كانت ”نظرية ميازما“ تعتبر واحدة من أهم النظريات الطبية التي كانت سائدة في العصر الحديث:
منذ فترة طويلة من الزمن كانت هناك نظرية طبية تعرف باسم نظرية ميازما التي أكدت أن الأمراض والأوبئة كالكوليرا والموت الأسود –الطاعون– تنجم عن التلوث ”ميازما“، فقد كان الناس آنذاك يعتقدون أن الميازما تنبعث من تعفن المواد العضوية، حيث يصاب كل شخص يستنشق هذا الهواء الملوث بالأمراض والأوبئة الخطيرة.
وصف الكاتب الروماني (فيتروفيوس) الآثار القوية للميازما في بداية الحقبة العامة خلال القرن الأول قبل الميلاد قائلاً: ”عند شروق الشمس، تهب نسائم الصباح باتجاه البلدة حاملةً معها الضباب، حيث يستنشق السكان هذه الانبعاثات السامة وتعشش داخل أجسادهم“.
بقيت هذه النظرية حية طوال العصور الوسطى واستمرت حتى خمسينيات القرن العشرين، وكانت لا تزال تستخدم لتفسير تفشي وباء الكوليرا في كل من لندن وباريس، حيث كان الاعتقاد أن العدوى لا تنتقل من شخص إلى آخر بل إنها تنتقل من البيئة إلى الشخص دون وجود أي علاقة للنظافة الشخصية في انتقال هذه الأمراض، كما دعمت الممرضة البريطانية (فلورانس نايتنجيل) هذا الاعتقاد.
في نهاية القرن التاسع عشر تم دحض هذه النظرية غير العلمية واستبدالها بنظرية الجراثيم بعد اكتشاف وجود البكتيريا، كما صرح الطبيب الإنكليزي (جون سنو)، وهو من مؤسسي علم الأوبئة، أن مرض الكوليرا ينتقل عبر المياه وليس عبر الهواء كما كان شائعاً.
علم فراسة الدماغ هو علم زائف وقديم، حيث كان يعتقد البشر قديماً أنه بإمكانهم تحديد السمات الشخصية للفرد عبر قياس حجم الجمجمة البشرية وإجراء بعض الفحوصات عليها:
اعتقد أبقراط وأتباعه قديماً أنه بإمكانهم فهم الطبيعة الإنسانية عن طريق تركيز أبحاثهم على عقل الإنسان بدلاً من قلبه، كما ساهم الطبيب (جالينوس) في تخليد الاعتقاد الذي ينص على أن النشاط العقلي ”الروح الحيوانية“ تسكن في الدماغ الأمر الذي زاد الاهتمام بالعضو القحفي لدراسة سمات الشخصية البشرية، أما بالنسبة لـ(يوهان كاسبر لافاتر) فقد قدم نظريته في سبعينيات القرن الثامن عشر التي تنص على أن الأفكار والروح البشرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإطار البدني للإنسان، حيث أكد أن الجبهة الطويلة هي دليل على العجز الفكري للشخص، فيما بعد تبنى الكثيرون أعمال وأفكار (لافاتر).
أسس الطبيب الألماني (فرانز جوزيف غال)، الذي أصبح رائداً في مجال علم الفراسة، بعض الإثباتات العلمية التي زعم أنها تساعد على فهم العلاقة بين الجمجمة والشخصية الفردية، وسرعان ما تم استخدام علم الفراسة الذي يفتقر لأي أساس علمي لأغراض العنصرية العلمية كما استخدم كوسيلة لاضطهاد الأقليات العرقية والاجتماعية، ولكن في أواخر القرن التاسع عشر تم رفض علم الفراسة على نطاق واسع، على الرغم من استمرار السلطات البلجيكية استخدامه لتبرير تقدم قبيلة التوتسي على قبيلة الهوتر.
يحتوي اللسان على مراكز تذوق منفصلة، لا تزال هذه النظرية العلمية الخاطئة تُدرّس في معظم مدارس الولايات المتحدة:
هناك اعتقاد خاطئ وشائع حول خريطة اللسان أو خريطة التذوق، حيث يُعتقد أن اللسان مقسم إلى أجزاء مختلفة وكل جزء مسؤول بشكل حصري عن تذوق الطعمات الأساسية المختلفة، يُعتقد أن هذه النظرية قد نشأت عن ترجمة سيئة لورقة مكتوبة عام 1901 باللغة الألمانية من قبل عالم نفس في جامعة هارفرد، والتي كانت تحتوي على رسم توضيحي أظهر الاختلافات الدقيقة في التذوق على سطح اللسان، ولكن فيما بعد وبسبب الترجمة السيئة تم فهم هذه الاختلافات بطريقة مختلفة، إلى أن ظهرت هذه المغالطة العلمية التي تنص على أن كل جزء من اللسان مسؤول عن تذوق طعمات مختلفة.
في عام 1974، قامت العالمة (فيرجينا كولينجز) وهي باحثة من جامعة بيتسبيرغ بالتحقق من صحة هذه النظرية، ووجدت أنه على الرغم من وجود اختلافات بسيطة في تركيز المستقبلات الذوقية، إلا إن أحاسيس التذوق تأتي من جميع أجزاء اللسان، وعلى الرغم من دحض هذه النظرية، إلا أنها لا تزال تدرس عبر بعض الثقافات والتعليمات الشعبية المضللة في أمريكا.
قبل ظهور علم الوراثة، كان البشر يعتقدون قديماً أن الجنين يتأثر عقلياً وجسدياً بأفكار ومشاعر أمه:
كان الإيمان بمدى تأثر الطفل بطبع والدته بعد الولادة شائعاً للغاية في جميع أنحاء العالم القديم، حيث كانوا يعتقدون بوجود صلة عقلية تربط الأم الحامل بجنينها، وأكدت هذه النظرية أن انطباع الأم وحالتها العقلية قادرة على التأثير نفسياً وجسدياً على الطفل الذي تحمله في رحمها، سبب هذا الرأي الطبي انتشار الخوف بين النساء خلال القرون الوسطى، فقد كانت النساء في ذلك الوقت يعملن بجهد لترك انطباع إيجابي على أطفالهن وذلك لتجنب لوم المجتمع لهن في حال تسببن بتشوه أطفالهن بسبب أعمالهن وأفكارهن السيئة أثناء الحمل.
على سبيل المثال، كان يُعتقد أن سبب تشوه الرجل الفيل هو أن أمه قد أصابها خوف شديد من إحدى الفيلة أثناء حملها به، كما كان يُعتقد أن الأمراض العقلية سببها بعض التصرفات الهستيرية للمرأة الحامل، أي أن جميع العيوب الخلقية والاضطرابات العقلية كانت تفسر بمثل هذه الطرق، واستمر هذا الاعتقاد حتى القرن العشرين، وكانت الضربة القاضية عند اكتشاف علم الوراثة الذي وجد تفسيراً لكل هذه الأمور وحل مكان النظريات العلمية الزائفة.
يوضح لنا التاريخ الطبي للبشرية فيما يتعلق بكل من التبغ والراديوم كيف أننا نتبنى طرقاً علاجية دون أن نبذل أي جهد للتأكد من سلامتها:
في عام 1911، تم اكتشاف الراديوم وقدراته العلاجية للحالات المرضية المستعصية واعتبر أنه معجزة طبية، وبسبب ظهور العديد من الحالات السرطانية، تجاهل الأطباء الأضرار الجسيمة التي تسببت بها المستويات العالية للإشعاع في الجسم البشري واستخدموه لعلاج الخلايا السرطانية، حيث أصبح الراديوم في متناول الجميع كما أنه أصبح مكوناً رئيسياً في الكثير من المنتجات المنزلية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، كأملاح الاستحمام، ومع معاجين الأسنان، وكريمات الوجه، كل ذلك بسبب اعتقادهم احتواء هذه المادة المشعة على فوائد علاجية.
على الرغم من الفشل الذريع للراديوم في علاج السرطان إلا أن الولايات المتحدة قد استمرت في عشرينيات القرن الماضي في إصرارها على دعم هذا العلاج الوهمي، إلى أن تم حظره في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب مخاطره الصحية، أما في القرن التاسع عشر، فقد ظهر دخان التبغ واستخدم كعلاج مفيد طبياً على الرغم من أضراره العديدة، حيث انتشرت حقن التبغ الشرجية على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا وخاصة في لندن خلال القرن، فقد زعم الأطباء في ذلك الوقت أن للتبغ فوائد صحية عديدة، إلى أن أطلق النازيون حملات لمكافحة هذا العلاج، حيث أصبح العلم لاحقاً يصب تركيزه على التأثيرات السلبية للعلاج قبل إصداره.
كان علم الكيمياء قديماً ”الخيمياء“ حاضراً على مدى آلاف السنين من التاريخ البشري، إلا أن الغرض الرئيسي منه قديماً لم يكن تحويل المعادن الأساسية إلى ذهب:
كانت الخيمياء فرعاً قديماً من فروع الفلسفة والعلوم الطبيعية، ولكن على الرغم من ارتباط الكيمياء في أيامنا هذه بدراسة خواص المواد وبنيتها وتركيبها وتحويل بعض المعادن الأساسية كتحويل الرصاص إلى ذهب، إلا أنه قديماً كان الغرض من استخدام الكيمياء أكثر تنوعاً، فبحسب بعض الروايات القديمة، كان الصينيون يسعون لتسخير العلوم الكيميائية لاستخلاص إكسير الخلود العظيم، والذي عرف لاحقاً باسم حجر الفيلسوف، حيث كان الكيميائيون يستخدمون البارود لاستخلاص هذا الدواء الشافي الأسطوري.
انتشرت الكيمياء القديمة في أوربة اللاتينية خلال القرن الثاني عشر عن طريق بعض العلماء العرب، إلا أنه بعد مرور قرن من الزمن عاود الأوروبيون السير على خطى الصينيين في تسخير الخيمياء للحصول على إكسير الخلود العظيم، حيث حاولوا خلط بعض المعادن مع النباتات العلاجية إلا أنهم وصلوا لطريق مسدود في محاولاتهم هذه، حيث لم يتوصلوا لأي اكتشاف جديد من شأنه أن يفيد البشرية.
كان البراز قديماً يدخل كمكون أساسي في العلاجات الطبية:
كان أطباء العصور الوسطى يلجأون لأفكار غريبة خارجة عن المألوف لعلاج الأمراض المستعصية، ومن بين هذه العلاجات غير العلمية والضارة هو الاستخدام الواسع للبراز كعلاج طبي، فمثلاً كانت قبائل الأنجلو سكسون الجرمانية تستخدم براز الماعز والعجول والثيران والحمام كمكون رئيسي في المجال الطبي، كما كانوا يمزجونه مع بعض المكونات المنزلية لتحضير الوصفات الطبية، فمثلاً كانت تستخدم وصفة براز الحمام مع دقيق القمح وبياض البيض لعلاج الصداع الشديد.
بقيت هذه الطريقة العلاجية متبعة طوال عصر النهضة، حيث عالج الطبيب (روبرت بويل) خلال القرن الـ17 مرض الساد –إعتام عدسة العين– عن طريق رش مسحوق البراز البشري على المنطقة المصابة.
لم يقتصر استخدام البراز كعلاج طبي على الأطباء الأوربيين، بل إن الأطباء الصينيين قد استخدموا البراز لعلاج مجموعة من الأمراض خلال القرن الرابع قبل الميلاد، حيث استمروا في استخدام البراز لعلاج ومكافحة أمراض البطن لمدة 1200 عام، كما استخدم براز الجمال كعلاج بدوي شعبي خلال الحرب العالمية الثانية.
لا يزال طب البراز موجوداً حتى يومنا هذا، ولكن بشكل مختلف عن الطرق المستخدمة قديماً، حيث يقوم الطب الحديث بأخذ جرعة صغيرة من البكتيريا الموجودة في الأمعاء السليمة وزرعها في أمعاء شخص مريض.
استمرت النظرية العلمية القديمة، التي تنص على أن الأطفال الرضع لا يشعرون بالألم، لمدة مئة عام إلى أن تم دحضها:
قبل أواخر القرن التاسع عشر، اعتُقد أن الأطفال يشعرون بمستويات أكبر من الألم مقارنة بالأشخاص البالغين، حيث قال (فيليكس فورتز) عام 1656: ”الجلد لدى الأشخاص البالغين يكون بغاية الحساسية، فكيف سيكون الأمر بالنسبة لجلد الأطفال حديثي الولادة؟“.
لكن في نهاية القرن التاسع عشر، بدأت هذه النظرية بالتغير لدرجة أن الأطباء في ذلك الوقت اعتقدوا أن الأطفال الرضع لا يشعرون بالألم على الإطلاق، معتقدين أن الألم هو عبارة عن رد فعل عكسي، حتى أنهم اعتقدوا أن المنطقة المسؤولة عن الألم في دماغ الطفل لم تنضج بعد، لذلك لم يستخدموا مواد التخدير والمرخيات العضلية ومسكنات الألم عند معالجة الأطفال الرضع.
بقيت هذه النظرية سائدة في العالم الطبي حتى عام 1985، عندما خضع الطفل (جيفري لوسون) لعملية جراحية في القلب، وعندما اكتشفت والدته (جيل لوسون) أن طفلها قد خضع لعملية جراحية دون تخدير، قامت بإطلاق حملة عامة انتهت بدفع بعض الأطباء لإجراء بعض الدراسات الطبية، وبعد بضع سنوات أظهرت هذه الدراسات أن الأطفال يشعرون بألم أكبر بكثير مقارنة بالأشخاص البالغين، كما أن عدم توفير العلاج الكافي لتخفيف الآلام الشديدة التي قد يعاني منها الطفل الرضيع قد ينعكس بشكل سلبي على صحته النفسية والفيزيولوجية في السنوات المقبلة.
الطاقة، أو ”الشرارة الحيوية“ هي الشيء الوحيد الذي يفصل الكائنات الحية عن العالم غير الحي، كان المذهب الحيوي من المبادئ التوجيهية للعلوم الطبيعية طوال التاريخ البشري:
المعتقد السائد في هذا المذهب هو أن ”الكائنات الحية تختلف كثيراً عن الكائنات غير الحية، وذلك لكونها تحتوي على بعض العناصر غير المادية“، حيث يؤكد المذهب الحيوي أن جميع الكائنات الحية تحتوي على عنصر الحياة الأساسي وغالباً ما يتم ربط مفهوم ”الشرارة الحيوية“ بمفهوم الروح.
تعود جذور هذا المذهب إلى كل من مصر واليونان القديمة اللتان كانتا تصدران العلوم والفلسفة الخاصة بهما إلى كل أنحاء العالم، وكان يعرف هذا المذهب الحيوي باسم (تشي) في الشرق الأوسط، بقيت هذه الأفكار متجذرة ومهيمنة على العقول البشرية حتى في العصور الحديثة.
تمكنت الكثير من هذه النظريات العلمية المعاصرة من النجاة، ولاسيما نظرية التخليق التي توصل لها (يوهان فريدريك بلومنباخ) عام 1781، حيث بقي المذهب الحيوي مسيطراً حتى أنه أثر بشكل كبير على الممارسات الطبية على مدى قرون عديدة، حيث ركز الأطباء على إعادة التوازن للروح البشرية بدلاً من علاج أعراض المرض، وبقيت الأمور على حالها إلى أن اكتشف عالم البيولوجيا الجزئية (فرانسيس كيرك) الحمض النووي عام 1967، حيث سخر (كيرك) من أنصار المذهب الحيوي وذلك بسبب تصديقهم لمثل هذه النظرية دون وجود أي دليل علمي يثبت صحتها.
توصل البشر إلى الكثير من الاستنتاجات التي لا أساس لها من الصحة فيما يتعلق بالجنس الأنثوي، وأهمها الاستنتاجات والنظريات الخاطئة المتعلقة بالأعضاء التناسلية للأنثى وذلك بسبب الاضطهاد والكره الذي عانت منه النساء لآلاف من السنين:
استمر اضطهاد الرجل والمجتمع للمرأة على مدى عصور عديدة وانعكس هذا الأمر سلباً على الطب النسائي والمعرفة المحدودة فيما يخص جسم المرأة، حيث لا يوجد مجال للمقارنة بين تشريح الذكور وتشريح الإناث ويعود ذلك لعدم وجود فحص دقيق وفهم علمي لجسم المرأة، فعلى سبيل المثال أظهرت رسومات (ليوناردو دافينشي) نقصاً كبيراً في النظام التناسلي للإناث، وهذا ما يعكس المعلومات الخاطئة والمحدودة التي كانت منتشرة في جميع أنحاء العام القديم وكيف أن الأعضاء التناسلية الأنثوية تنتج النطاف، فقد كانت المرأة مكروهة منذ الأزل، فخلال العصور الوسطى كان ينظر للرحم على أنه يحتضن الكثير من الأمراض كما أنه يسمح لهذه الأمراض بالانتشار في جميع أنحاء جسد المرأة ويسبب لها نوبات من الهستيريا.
في أواخر القرن التاسع عشر، ارتبطت الأمراض العقلية بالمرأة واعتبرت الدراسات العلمية أن هذه الأمراض هي من المكونات الأساسية للجسم الأنثوي، حيث قال الطبيب النمساوي (سيغموند فرويد) المختص في التحليل النفسي، أن هزات الجماع التي تصيب البظر غير طبيعية كما أنها ضارة، مؤكداً أن هذه الهزات علامة على المرض العقلي للنساء، واعتقد أن تحفيز البظر هو المسبب الوحيد لظهور النساء المثليات، كما توصلت كلية هارفرد الطبية في عام 1873 إلى حقيقة غريبة وهي أن عقول النساء أقل تطوراً من عقول الرجال، وخاصةً أثناء الحيض، حيث أظهرت المرأة خلال فترة الحيض عجزها عن استيعاب التعليم العالي.
كان الاعتقاد السائد خلال عصر النهضة والحقبة الحديثة المبكرة بأن هناك حياة على جميع الكواكب، كما اعتقد عالم الفلك البريطاني (ويليام هيرشل) وجود حياة على سطح الشمس:
صنف عالم الفلك (وليام هيرشل) أكثر من خمسة آلاف جسم سماوي بعد أن أمضى عقوداً في رصدها ومراقبتها، كما أنه اكتشف عام 1781 كوكب أورانوس، ولكن على الرغم من الإنجازات الهائلة التي نُسبت له كعالم فلك، إلا أنه لم يختلف كثيراً عن باقي علماء الفلك الذين اعتقدوا وجود حياة على سطح جميع الكواكب في النظام الشمسي، وانتشرت هذه النظرية بشكل كبير خلال عصر النهضة على الرغم من رفض الكنيسة لها، إلا أن (هيرشل) لم يتوقف عند هذا الاعتقاد بل إنه كان يؤمن بوجود حياة على سطح الشمس أيضاً.
ناقش (هيرشل) هذا الاعتقاد في مقالته بعنوان «حول طبيعة وبنية الشمس والنجوم الثابتة»، واعتبر أن نجمنا المركزي هو مجرد كوكب ضخم مشع ومضيء ولكنه يحتوي تحت هذا الغطاء المشع على جميع مظاهر وأشكال الحياة، متفقاً في هذا الاعتقاد مع الكثير من علماء الفلك خلال القرن الثامن عشر. بطبيعة الحال، نحن نعلم الآن أن شمسنا لا تدعم الحياة، حيث تصل درجة حرارة سطحها إلى حوالي الـ 5,505 درجة مئوية.
كانت النظرية الشائعة في الغرب الأمريكي قديماً هي أن المطر يتبع الأراضي المحروثة:
ظهرت هذه النظرية في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر أثناء التوسع الغربي للمستوطنات الأمريكية، حيث تسببت عمليات التخضير وتحول النباتات الجافة والصفراء إلى نباتات خضراء إلى ظهور بعض التكهنات والنظريات العلمية بقيادة عالم المناخ المعروف (سايروس توماس)، الذي وضح لنا العلاقة التي تربط الهجرة المستمرة بهطول الأمطار وتوصل لوجود علاقة طردية بين الهجرة والمطر، حيث ارتأى لـ(توماس) أن قدرة التربة الزراعية على الامتصاص تتزامن مع كثرة الهطولات المطرية، منتهكاً في هذا الاعتقاد المبدأ العلمي الأساسي الذي ينص على أن ”الترابط بحد ذاته ليس دليلاً على السببية“، فبالنسبة له يجب أن يكون الحدثان مرتبطين.
وبسبب حراثة التربة فإن الطبقات الرطبة من الأرض تُكشف للسماء، وسرعان ما انتشرت نظرية (توماس) وتم تبنيها كحقيقة على نطاق واسع بغضون سنوات فقط وذلك كتأكيد للمصطلح الأمريكي ”القدر المتجلي“.
خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، كان البشر يقومون بحراثة السهول الكبرى على أمل أن تجذب هذه الطريقة أكبر قدر من الأمطار إلى المنطقة، إلا أن هذه الفرضية قد اثبتت لاحقاً أنها واحدة من أكبر المغالطات التي يجب تصويبها، حيث إن التغيرات المناخية قصيرة المدى تحدث بسبب التغيرات المفاجئة للتضاريس، وغالباً ما كان ينتج عن هذه النظرية زيادة في الهطولات المطرية إلا أنها سببت زيادة في العواصف الغبارية وبالتالي حرمان مناطق أخرى من الهطولات المطرية.
هيمنت هذه النظرية العلمية الغريبة: «النظرية الخلطية» –أو المزاجات الأربعة– على الرأي الطبي لأكثر من ألفي عام، حيث اعتُقد أنه لضمان حياة صحية وطويلة كان لابد من إبقاء سوائل الجسم الأربعة الأساسية في حالة توازن:
نشأت النظرية الخلطية في مصر القديمة أو في بلاد ما بين النهرين وقد تبنى أبقراط هذه النظرية، تفترض هذه النظرية وجود أربعة سوائل جسدية حيوية وهي: الدم، الصفراء، البلغم وعصارة المرارة الصفراء والسوداء، حيث اعتقد أبقراط أن جميع الأمراض تنتج عن فائض أو عجز في واحدة او أكثر من هذه المزاجات الأربعة، قائلاً: ”هذه هي العناصر التي تدخل في تركيب بنية الجسم وهي المسؤولة عن آلام الجسم وصحته، يكون الجسم صحي في حال كانت هذه العناصر الأربعة متناسبة ومتوازنة بين بعضها البعض“، سببت هذه النظرية التي تبناها أبقراط والتي كانت متبعة من قبل أسلافه، على توجيه الممارسات الطبية نحو موازنة هذه السوائل الجسدية الأربعة.
حيث اتجهت الممارسات الطبية الغير علمية إلى إراقة الكثير من الدماء واستخدام المسهلات والمقيئات وذلك لتصويب الخلل وإعادة التوازن بين هذه السوائل. بقي هذا المفهوم الطبي سائداً في جميع أنحاء العالم الغربي والإسلامي، إلى أن أتى عالم التشريح البلجيكي (أندرياس فيزاليوس) عام 1543 وبدأ بسعيه نحو إثبات مغالطة هذه النظرية، ومع ذلك بقيت النظرية الخلطية مسيطرة على الطب إلى أن ظهرت النظرية الخلوية وعلم الأحياء المجهرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
نظرية ”التولد العفوي“ التي تفترض أن الحياة قد نشأت من مواد غير حية، ولكن في القرن التاسع عشر تم دحض هذه النظرية بعد اكتشاف الحياة المجهرية:
الفيلسوف (أناكسيماندر) هو أول الفلاسفة المؤمنين بنظرية الانفجار الكبير والذي بسببه نشأت الحياة البدائية على سطح الأرض، حيث حاول تقديم تفسير علمي ومنطقي لظاهرة الحياة دون اللجوء إلى التفسيرات الإلهية، إلى أن ظهر أرسطو وتبنى هذه النظرية ودرسها بشكل أدق وتوسع بها، فعلى الرغم من وجود بعض أشكال الحياة التي نتجت عن التكاثر الطبيعي، إلا أن أرسطو قد اقترح أن هناك بعض الكائنات الحية التي قد تنشأ من مواد ومكونات غير حية، حيث اقترح أرسطو أن تفاعل المادة الأولية مع الحرارة قد ينتج عنه حياة.
على الرغم من تراجع هذه النظريات بعد سقوط روما في القرن الخامس، إلا أن أعمال أرسطو ونظرياته قد لاقت قبولاً واسعاً بين العلماء الإسلاميين، على الرغم من تعارض أفكاره مع ما هو متعارف عليه، حيث يعود الفضل في الحياة على الأرض للقوى الإلهية وليس للقوى الطبيعية.
بقيت هذه النظرية من النظريات الرائدة خلال العصور الوسطى، إلى أن ظهر (لويس باستور) عام 1859 وحل هذا الخلاف عبر اكتشافه للحياة الجرثومية التي تعجز العين البشرية عن رؤيتها.
لماذا تُبارك الكنيسة الأرثوذكسية ثمار الرُّمان في عيد رفع الصليب المُحيي؟
من التقاليد الكنسيّة والشعبية الأصيلة والعريقة الخاصّة بعيد رفع الصليب المقدس أن يحمل المؤمنين معهم الى الكنيسة بعضاً من ثمار الرُمّان، ويقوم الكاهن في نهاية قداس العيد بمباركتها وتوزيعها عليهم.
انّ أصل هذا التقليد وجذورهُ تَمتدّ الى العهد القديم، حيث جاء قول الرب لشعبه: “وأوائلُ بواكيرِ أرضِكَ تأتي بها الى بيتِ الربّ الهك” (خروج 19:23). وقد لعبت التقوى الشعبية لدى الشعب الأرثوذكسي على بقاء أثر هذه التقاليد واستمرارها والحفاظ عليها، والتي الغاية منها التعبير عن شُكر الخالق الذي مَنَّ على الأرض بالأمطار واعتدال الأهوية التي آلَت الى الخِصب والنضوج والغلال الوافرة، فيُعلن المؤمنون من خلال تقديم بواكير ثمار الأرض ونتاجها عن فَضلِهم وامتنانهم للخالق على عطاياه وخيراته.
وفي الواقع يتزامن عيد رفع الصليب سنوياً مع بلوغ ثمار الرُمّان الى أوجِ نُضوجها وقطفها.
ان من يتأمّل ثمرة الرمان يُلاحظ أن قشرتها الخارجية قاسية وجافّة كما أنها مُرَّة الطعم والمذاق،
ولكن داخل هذه القشرة تختفي حُبيبات الرمان الحمراء اللون وحلوة الطعم، وقد وجدَ فيها الآباء القدّيسون والرهبان النُسّاك منذُ القرون الأولى للمسيحية رمزاً لسرِّ الصليب والموت والقيامة، حيث أن الحياة مع المسيح هي حياةُ جهادٍ روحيٍّ مُتواصل، تتطلّب من المسيحيّ المؤمن الموت كل يوم عن أنانيتهِ وكبريائه وانكاراً لذاته “من أراد أن يتبعني فليُنكر نفسه ويحمل صَليبه ويتبعني (متى 16 : 24 )، كما تتطلّب صَلباً لشهوات الانسان العتيق المُميته للروح “الذين هم للمسيح قد صَلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات (غلاطية 5: 24).
، كما أنّ العُصارة الحمراء لحُبيبات الرُمان ترمز الى دم المسيح الذي سُفك على الصليب لأجل فداء الانسان، ويرمز أيضاً الى دم كل الشهداء عبر العصور الذين حملوا الصليب في حياتهم بايمان وقاسوا الاضطهادات والقتل متمثّلين بسيّدهم ومعلّمهم، فكانت “دماء الشهداء بذار المسيحية” وعاملاً قوياً في نموّها.
معركة قادش 1274 ق.م
وقعت هذه المعركه بين قوات الملك رمسيس الثاني ملك مصر والحيثيين بقيادة الملك مواتللي الثاني بمدينة قادش التي تقع علي الضفه الغربيه لنهر العاصي في سورية جنوب بحيرة حمص بعدة كيلومترات، وهذه المعركه مؤرخه بالعام الخامس من حكم الملك رمسيس الثاني (العام الخامس فصل الشمو, اليوم التاسع)أي حوالي العام 1274 ق.م علي وجه التقريب
Full-length
يمثل اللون الأخضر الامبراطورية المصرية فى عهد رمسيس الثانى… ويمثل اللون الأحمر الامبراطورية الحيثية فى أقصى امتداد لها. 1279 قبل الميلاد…
نسخة من اتفاقية السلام بين الفراعنة و الحيثيين منقوشة على لوح من الطين تم اكتشافها فى عاصمة الحثيين حاتوسا بشمال آسيا الصغرى، ومعروضة فى متحف آثارإسطنبول.
الوقائع
1 خلفيه تاريخيه
2 حملة قادش
3 المعركه
4 النتيجة
5 معاهدة السلام
خلفيه تاريخيه
بدأ انحسار النفوذ المصري في آسيا في عصر اواخر ملوك الاسره الثامنة عشر كنتيجة مباشرة للاضطرابات التي خلفتها الحرب الأهلية في مصر أثناء ثورة إخناتون الدينية في الداخل. مما جعل الحثيون يستغلون هذه الاضطرابات لكي يقوموا بقيادة تحالف ضد مصر، ونجحوا في ذلك، وبالتالي فقدت مصر الكثير من مناطق نفوذها في آسيا الغربية، وذلك دون أن يتحرك الملك اخناتون لتلبية طلبات النجدة التي كان يرسلها إليه امراء المدن الآسيويه الموالون لمصر فيما عرف بخطابات تل العمارنه.
وبعد وفاة الملك اخناتون وفشل ثورته الدينية والعودة الي عبادة الآلهة التقليديه والإله امون مره أخرى، وتولي الملك حور محب عرش مصر في نهاية الأمر، والذي يعتبر آخر فراعنة الاسره الثامنة عشرالذي قام بتنظيم الشؤون الداخليه لمصر، والذي توفي دون وريث بعد أن نجح في اعادة الامن الي البلاد.
تولي عرش مصر أحد قادة الجيش وهو رمسيس الأول مؤسسا بذلك الاسرة التاسعة عشر.
استعادة النفوذ المصري، وقد أخذ ملوك هذه الاسرة على عاتقهم استعادة النفوذ المصري في آسيا مرة أخرى، فبعد وفاة الفرعون رمسيس الأول بعد سنتين من الحكم، بدأ ابنه وخليفته سيتي الأول حملاته العسكريه ضد الحثيين ،حيث كان يرمي الي صد التقدم الحثي وما كان عليه في عهد الفرعون تحتمس الثالث في عصر الاسرة الثامنة عشر، وبالفعل نجح سيتي الأول بعد عدة حملات عسكريه وتقابل مع جيوش الحثيين بالقرب من قادش في سورية الحالية، وأخيرا عقد الصلح معهم (كما ذكر في نقوشه علي جدران معبد الكرنك) بمعاهدة شهيرة، وربما قام بتوقيع معاهدة مع الحثيين، ومات بعد 14 عاماً من الحكم، وتولي من بعده ابنه رمسيس الثاني.
رمسيس الثاني
وقد شن الفرعون رمسيس الثاني حملته الأولى في العام الرابع من حكمه وعبر فيها فلسطي،ن ووصل بجيوشه الي نهر الكلب (بالقرب من بيروت) حيث اقام لوحة تذكارية هناك، واستعاد مقاطعة آمور من الحثيين. وبغرض السيطرة على سورية تحرك الفرعون رمسيس الثاني بجيوشه في العام الخامس من حكمه، وتابع تقدمه شمالاً في سورية، وتواجه مع جيوش الحثيين عند مدينة قادش على نهر العاصي.
حملة قادش
خرج رمسيس الثاني بجيوشه من قلعة ثارو الحدودية، وذلك في ربيع العام الخامس من حكمه. وبعد مرور شهر وصل بجيوشه الي مشارف مدينة قادش عند ملتقى احد فروع نهر العاصي. وكان الجيش المصري يتكون من اربعة فيالق: وهي فيالق آمون ورع وبتاح وست وهي أسماء آلهة مصر الكبرى، بينما كان الملك مواتللي ملك الحثيين قد حشد جيشاً قوياً انخرط فيه الكثير من الجنود بالإضافة الي جيوش حلفائه (ومن بينهم ريميشارينا امير حلب)، واتخذ من قادش القديمة مركزاً لجيوشه.
المعركة الفاصلة
فيما كان رمسيس معسكراً بجيشه بالقرب من قادش(التي كانت علي مسيرة يوم واحد)، إذ دخل معسكره اثنان من الشاسو (البدو) ادعيا انهما فارين من جيش الملك الحثي، واظهرا الولاء للفرعون الذي اسلمهما بدوره الي رجاله ليستجوبوهما عن مكان جيوش الحثيين، فاخبرا الفرعون بان ملك الحيثيين قد بعد عن الموقع وهو جاليآ في حلب شمال سورية.
كان هذان جاسوسين حثيين، وعلي أساس هذه الأخبار وبدون التأكد من صحتها اسرع الملك رمسيس علي رأس فيلق امون وعبر مخاضة لنهر العاصي، ثم سار الي مرتفع شمال غربي قادش وأقام معسكره هناك في انتظار وصول باقي الجيش ليتابع السير في اثر جيش خيتا الذي كان يظن انه في الشمال حسب ما أخبره الجاسوسان، وفي هذه الأثناء قبض جيشه علي اثنين من جنود العدو الكشافة وبعد التحقيق معهما استخلصا منهما الحقيقة، وهي ان الحثيين كانوا كامنين في قادش، وان جيوش الحثيين كانت في طريقها لعبور نهر العاصي ومفاجأة الجيش المصري هناك.
وبالفعل عبر نصف الجيش الحثي مخاضة نهر العاصي وفاجأوا رمسيس الثانى الذي كان قد ارتكب خطأ تكتيكيا بترك مساحات كبيرة بين فيالقه فهاجموا فيلق رع ودمروه تدميرآ كاملآ وبذلك قطعوا الاتصال بين رمسيس وبقية فيالقه، واتجه الجيش الحثيي بعد ذلك بعرباته الحربية وتابع تقدمه وهاجم فيلق آمون الذي فقد نتيجة ذلك العديد من جنوده، وهنا وفي مواجهة خطر التطويق والهزيمة المحتمة، قاد رمسيس بنفسه هجوماً ضد الحثيين حيث سلك بالجيش المصرى ممراً ضيقاً ليلتف حول الحثيين ودفع بهم حتي النهر، و كانت اللحظة الفارقة في ذلك وصول إمدادات من جنوده القادمين من بلاد امور والمسماه (نعارينا) وقد فاجأ ذلك الحثيين فوجدوا أنفسهم محاصرين من الجيش المصرى واضطر الحثيون لترك عرباتهم الحربية والسباحة فى نهر العاصى أمام هجوم الرعامسة.
اليوم الثاني من المعركة
و فى اليوم التالى دارت معركة أخرى غير حاسمة، و قد ادعى رمسيس الثانى فى كتاباته ان مواتللي الثاني قد أرسل فى طلب الصلح فى ذلك اليوم، و لكن ليس هناك اية دلائل من جانب الحثيين تؤكد صدق هذه الرواية.
وبعد معارك ضارية بين الطرفين و الخسائر الفادحة التي لحقت بهماأتفق الطرفين على الصلح، وهكذا انتهت المعركة دون نصر حاسم لأي من الطرفين.
ظهر فى تلك المعركة تفوق المركبات الحربية المصرية السريعة التي يقودها رجلان على المركبات الحثية البطيئة التي يقودها ثلاثة رجال.
النتيجة
فشل رمسيس الثانى فى كسر دفاعات قادش، ونجح الحثيون بإبقائها تحت سيطرتهم، وانتهت المعركة باحتفاظ كلٍ من الطرفين بنفس مكاسبه السابقة، وخسائر فادحة لكلا الطرفين فى المعركة. وعاد رمسيس آفلاً الى دمشق . ذكر رمسيس الثاني انتصاره في المعركة، والتي قام بنقش تفاصيلها بالكامل علي جدران معبد الرمسيوم وكذلك معبد الأقصر، بالإضافة إلى معبده بأبو سمبل (على جداره الشمالي فيما عرف بانشودة معركة قادش)
وقد ذكر الملك مواتللي من ناحيته في وثائق بوغازكوي بان المعركة كانت انتصاراً له وان أمور قد وقعت في أيدي الحثيين، بينما وفي خلال السنوات العشر التي مرت بعد ذلك قام رمسيس بعدة حملات الي آسيا واستولي علي دابور بعد حصارها، واضطر الحثيون في النهايه الي التراجع تاركين أكبر جزء من سورية دون حماية كافية. وفي أعقاب وفاة مواتللي تولي ابنه الحكم وبعد عدة سنوات من الحكم حل محله عمه الملك خاتوشيلى الثالث وانتهز رمسيس هذه الفرصة وتقدم نحو تونيب أو توشب واستولي عليها.
وهنا بدأت قوة الاشوريين في الظهور وتهديد مناطق النفوذ المصرية والحثيه، مما حدا بالطرفين الي توقيع معاهدة سلام بينهما وذلك في العام الحادي والعشرون من حكم الملك رمسيس الثاني (حوالي 1258 ق.م)والتي سجلت بالخطين الحثى(علي لوح من الفضة باسم الملك خاتوشيلى) والهيروغليفي على جدران معبدي الكرنك والرامسيوم في طيبه(الأقصر حاليا) في جنوب مصر.
معاهدة السلام
تم توقيع معاهدة سلام رسمية في عام 1258 قبل الميلاد، تم نقش المعاهدة على لوح من الفضة، ووصل الينا منها نسخة على رقيم طيني نجا في العاصمة الحثية حاتوسا Hattusa الموجودة جغرافيا في آسيا الصغرى، و معروضة في متحف الآثار في اسطنبول. و هناك نسخة طبق الاصل لمعاهدة قادش معلقة فى المقر الدائم للأمم المتحدة كأول معاهدة سلام مكتوبة، وموثقة فى التاريخ. النسخ الموجودة في آسيا الصغرى منقوشة على ألواح الطين و النسخ المصرية مكتوبة على أوراق البردي.
مسيح دجال، وطقوس مريبة، وهتلر قديساً!..
تعرّف على الكنيسة البالمارية حديثة المنشأ الآخذة في التوسع
مقدمة…
على الرغم من أن أتباع هذه الكنيسة يدعون كونها مذهباً كاثوليكياً، غير أن الملاحظ يرى بوضوح بعدهم التام عن كل القيم الكاثوليكية المعروفة.
رؤى عن المسيح الدجال، وهتلر قديساً، وممارسات مذهبية غريبة، وبابا بدون عيون.. نعم إنها قصص من ”الكنيسة البالمارية“ التي تبدو للسامع وكأنها مستخلصات من إحدى روايات وقصص المؤلف (دان براون) الخيالية (على الرغم من أن هذا الأخير قد اقتبس بعضا منها لإدراجه في إحدى رواياته بالفعل)، لكن ما قد يثير دهشتك عزيزي القارئ هو أن كل ما يتم تداوله عن هذا المذهب الكاثوليكي هو حقيقي بالفعل.
يتواجد أفراد الكنيسة البالمارية الخاصة بـ”كرملية الوجه المقدس“، أو ”الكنيسة الكاثوليكية البالمارية“ في مختلف بقاع العالم تقريباً، والغريب فيهم أن حقيقة ممارساتهم المذهبية هي في الواقع أغرب من الخيال في حد ذاته.
بدايات متصدعةبلدة (إل بالمار دي ترويا) هي مدينة صغيرة تقع في عمق المنطقة الأندلسية في الجنوب الإسباني، على بعد حوالي 50 كيلومتر عن مدينة إشبيلية. ليست هذه البلدة الصغيرة مصدر جذب للسواح كما أنها ليست في معزل تام عن العالم الخارجي، وللسواد الأعظم من تاريخها ظلت هذه البلدة الصغيرة في نوع من الظلام، حتى وصول سنة 1968 حيث وجدت نفسها في مركز تصدع ديني بين الكنيسة الكاثوليكية ومذهب جديد أقل ما يقال عنه أنه متمرد.
في شهر آذار من سنة 1968، شهدت أربع فتيات تلميذات أنهن رأين ”مريم العذراء“ التي بدرت لهن على شجرة بالقرب من مدينة (بالمار دي ترويا). في تلك الأثناء، اشتهر الناس بسفرياتهم على مسافات طويلة تقدر بمئات الكيلومترات من أجل أن يشهدوا إحدى هاته الرؤى، أو إحدى المعجزات، وبعد فترة وجيزة منذ شهادة الفتيات الأربع، تدفق الآلاف من الناس إلى تلك المدينة الصغيرة من مختلف أنحاء البلد.
بينما قال عدة من هؤلاء الوافدين الزوار أنهم شهدوا نفس الرؤيا في نفس الموقع، فإن الكثيرين لم يأخذوا الأمر بمحمل من الجدية واعتبروا رؤيا تلك الفتيات الأربع محض ادعاء. أعلن مطران محلي أن تلك الرؤى لا أساس لها من الصحة وأمر سكان البلدة ومن فيها بما في ذلك الفتيات الأربع أن يعودوا لأعمالهم اليومية وحياتهم الطبيعية، غير أن رجلا واحدا بقي مصراً على أن الرؤيا كانت حقيقية، وأنه هو الآخر قد شهد حصته منها، وأن الرؤى صارت تراوده أكثر فأكثر.
البابا الكاثوليكي الروماني بولس السادس، والبابا البالماري ”المكفوف“ (غريغوري السابع عشر).
عرف هذا الرجل باسم (كليمنت دومينغيز غوميز)، وكان عاملاً مكتبيا بسيطا من إشبيلية. استحوذت هذه ”الرؤى“ المزعومة على (دومينغيز) لدرجة أنه في سنة 1975 شكل نظامه الديني الخاص الذي كرسه لاتباع التعاليم التي أصدرتها له ”مريم العذراء“ شخصيا عندما كانت تبدر له في رؤاه. أطلق على نظامه الديني هذا اسم ”نظام كرملية الوجه المقدس“، وادعى أنه مكرس للبابا الحالي آنذاك وهو (بولس السادس).
وبينما لم يكن (دومينغيز) في الواقع رجل دين على الإطلاق، فإنه كان ينشد تعيينه كأسقف في إحدى الكنائس الكاثوليكية. على الرغم من أن عدة من رجال الدين رفضوا منحه مبتغاه، فإنه وجد ضالته في نهاية المطاف عند المطران الفيتنامي (نغو دينه ثوك)، الذي كان شديد الالتزام بالتقاليد، وما يجعله مهما جداً بالنسبة لـ(دومينغيز) هو أنه مفوض بابوي، وأن نفوذه قد يساعد على إضفاء نوع من الشرعية على قضية (دومينغيز).
في نهاية المطاف، قام المطران (ثوك) بجعل (دومينغيز) وأربعة من أتباعه أساقفة، كما عين عدة رهبان آخرين تابعين لـ(دومينغيز)، ولأن (ثوك) لم يحصل على الإذن للقيام بهذا الأمر من عند البابا، قام هذا الأخير بتحريم التعامل معه كنسياً، وكذا مع الرجال الذين عينهم مؤخراً، هذا على الرغم من أنه [البابا] هو نفسه الرجل الذي ادعى هؤلاء إخلاصَهم له وأعلنوا أنهم في خدمته، ومنه لم يعد (دومينغيز) يرغب في منح دعمه للبابا بولس السادس، وبدأ عملية بناء كنيسته الجديدة وتحويلها إلى أمر آخر تماماً.
الكنيسة البالماريةعندما توفي البابا بولس السادس في سنة 1978، ادعى (دومينغيز) أن الأحقية في البابوية هي من نصيبه، وعلى الرغم من أنه كان مجرد أسقف وكان بعيدا كل البعد عن منزلة الكاردينال، فإنه أعلن أنه قد تم تتويجه في منصب البابا من طرف اليسوع نفسه وأن مراسيم التتويج لم تعد ضرورية بعد ذلك. حمل (دومينغيز) الاسم البابوي (غريغوري السابع عشر)، وقام بتعيين كرادلته بنفسه، وحول ”كرملية الوجه المقدس“ إلى ”الكنيسة البالمارية الكاثوليكية“.
على الرغم من أن الكنائس الكاثوليكية التقليدية، والبابا الجديد آنذاك (يوحنا بولس الأول)، والفاتيكان رفضوا ادعاءاته على الفور، فإن (دومينغيز) واصل المضي قدما في مذهبه الجديد ذاك.
في الكنيسة البالمارية الكاثوليكية، لا يدعي البابا كونه أسقف روما مثلما هو الحال عليه في الكنيسة الرومانية الكاثولكية، بل يدعي أنه نوع آخر من البابوات، نوع أكثر قوة ونفوذاً. يعتقد أتباع هذا المذهب الجديد والمثير للجدل أن اليسوع يعينهم في مراتبهم التي يشغلونها من خلال الرؤى التي تبدر لـ(دومينغيز). بالإضافة إلى ذلك، وبينما يتقدم البابوات في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في المراتب ويتم انتخابهم من طرف مجمع الكرادلة، فإن البابا البالماري يُختار من طرف اليسوع شخصياً.
كان أول ما قام به (دومينغيز) بعد أن أعلن نفسه بابا الكنيسة البالمارية هو تحريم التعامل كنسياً مع بابا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في الفاتيكان الذين كان آنذاك (يوحنا بولس الثاني). كما قام كذلك بتقديس بعض الشخصيات الديكتاتورية على شاكلة الجنرال الإسباني (فرانشيسكو فرانكو) و(أدولف هتلر)، وبعض الشخصيات الأخرى مثل المستكشف الشهير (كريستوف كولومبوس).
اشتهر (دومينغيز) كذلك بكونه بابا الكنيسة البالمارية ”الذي لم تكن لديه عينان“، وذلك بعد أن فقد عيناه في حادثة سيارة، واستمر في إقامة القداسات وعيناه مغلقتان تماماً، وبالطبع لم يمنعه هذا الأمر من الادعاء بأن فقدانه لبصره فتح له المجال أمام تعزيز قدراته في الرؤى الروحانية التي صارت أعظم شأناً.
بابوات الكنيسة البالمارية الآخرون
بعد وفاة (دومينغيز) في سنة 2005، خلفه (مانويل ألونسو كورال)، واتخذ لنفسه الاسم البابوي (بطرس الثاني). وكان قد وقع عليه الاختيار في خلافة (دومينغيز) بعد أن ”بدرت لهذا الأخير رؤيا بهذا الشأن من طرف اليسوع نفسه“ قبل عدة سنوات من وفاة (دومينغيز)، ومنذ ذلك الحين وهو [كورال] يحضّر نفسه لهذه الخلافة. وكان أول ما فعله بعد ذلك هو أن حذر أتباعه من قرب زمن المسيح الدجال، الذي قال عنه أنه قد ولد في سنة 2000، وقال عنه بأنه سيخرج للعلن عند بلوغه سن الثانية عشر، ثم سيختفي حتى يبلغ عامه الثلاثين، وبعدها سيبتّ في حياته المذكورة في الكتاب المقدس.
بعد وفاة (بطرس الثاني)، استلم مقاليد البابوية البالمارية (غريغوري الثامن عشر). ولد هذا الأخير حاملا اسم (غينيس جيسوس هيرنانديز)، وكان واحدا من أشد القادة الموالين والمتعصبين للكنيسة البالمارية الكاثوليكية، ويعزى له فرض بعض من أكثر القوانين والقواعد تشددا، حيث قام وفقاً لها بتحديد خيارات أتباعه فيما يتعلق بالملابس، وحرم عليهم الذهاب للسينما، كما حدد حتى عدد السجائر التي يمكنهم تدخينها في اليوم الواحد، وفرض صلوات شاقة تدوم ساعات على أتباعه، كما طالب بالتوبة والتذلل والخنوع والطاعة التامة لسلطته البابوية.
في سنة 2016، وبعد أقل من خمسة سنوات من تقلده منصب بابا الكنيسة البالمارية، تنازل عنه بشكل مفاجئ، ثم راح يستنكر ذات الكنيسة التي كان في يوم من الأيام من أشد المدافعين عنها، وهو الآن يقول بأن تلك الكنيسة ما هي إلا مذهب يعمل على غسيل أدمغة الناس مُقادٌ برغبات قادته الجنسية وحبهم للمال.
الكنيسة البالمارية اليوممازالت الكنيسة البالمارية قوية اليوم مثل سابق عهدها، بل أكثر من أي وقت مضى. على الرغم من أن عدد أفرادها لا يتعدى 2000 تابع، غير أن إخلاصهم وإيمانهم بها قوي جداً. يلتزم البابا الحالي (بطرس الثالث) بتعاليمه التي ينشرها ودائما ما يحث أتباعه على التقيد بتعاليم المذهب والحفاظ على إيمانهم.
على الرغم من أن (غريغوري الثامن عشر) لم يتمكن من إثبات أي من ادعاءاته بخصوص النوايا الخفية لقادة الكنيسة البالمارية، فإنه منذ تأسيس هذه الكنيسة، تدفقت إليها عشرات من التبرعات السخية التي تعدت 200 ألف دولار قادمة من متبرعين مجهولين، ومازال الناس إلى يومنا هذا يساهمون فيها ويتبرعون لها بالمال.
بعد مضي أسابيع قليلة على نهاية الحرب الأهلية الأميركية والتي أسفرت عن سقوط ما يزيد عن 600 ألف قتيل، كانت الولايات المتحدة الأميركية على موعد مع أسوأ كارثة بحرية على مر تاريخها حين غرقت سفينة دولابية وسقط بها آلاف الضحايا. وقد عرف شهر نيسان سنة 1865 أحداثاً متسارعة…
فبينما استسلم الجنرال روبرت إدوارد لي من ذلك الشهر لصالح قوات الاتحاد، شهد منتصف نيسان 1865 واقعة اغتيال الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن في مسرح فورد. وبعد نحو عشرة أيام، صعق الأميركيون بحادثة غرق الباخرة الدولابية سلطانة Sultana.
واقعة الغرق
وكانت سلطانة Sultana سفينة بخارية دولابية مصنوعة من الخشب دخلت الخدمة في حدود العام 1863 عقب نهاية أشغال بنائها بمنطقة سينسيناتي Cincinnati، وقد اعتادت هذه السفينة الإبحار بنهر ميسيسيبي لنقل شحنات القطن بين نيو أورلينز وسانت لويس، وفي يوم 13 نيسان 1865، انطلقت سلطانة كعادتها لنقل حمولة من القطن لكن بعد يومين فقط شهد الأميركيون واقعة اغتيال الرئيس أبراهام لينكولن. وحال سماعه لهذا الخبر، اتخذ قائد السفينة سلطانة القبطان ماسن Mason Cass. J قراراً سيئاً بالسفر جنوباً لنقل خبر مقتل الرئيس بولاية ميسيسيبيوكان ان تلقى القبطان ماسن عرضاً غريباً من أحد المسؤولين الجنوبيين لنقل حوالي 1500 أسير سابق من القوات الاتحادية إلى المناطق الشمالية مقابل حصوله على مبلغ يتراوح ما بين 5 و10 دولارات عن كل أسير ينقله، وأمام هذا العرض المادي المغري، وافق القبطان ماسن، مؤكدا استعداده لإنجاز هذه المهمة
في ذلك اليوم، الموعود تواجدت “سلطانة” برفقة العشرات من السفن الأخرى بفيكسبيرغ لنقل أعداد كبيرة من الأسرى نحو الشمال.
في الأثناء، كانت السفينة “سلطانة” آخر السفن المغادرة لمنطقة فيكسبيرغ، ولهذا السبب أجبرت الأخيرة على نقل جميع من تبقى من أسرى قوات الاتحاد المحررين المقدر عددهم بألفي شخص…
مثلت عملية نقل هؤلاء الأسرى مجازفة حقيقية، حيث لم تكن “سلطانة” تتسع سوى لنحو 376 راكبا كأقصى تقدير، لكن القبطان ماسن فضل نقل هذا العدد الهائل من الأسرى من أجل الحصول على مزيد من المال.
إن غرق الباخرة سلطانة ، يُعتبر كارثة و خسارة كبيرة ، خاصةً في ظل وجود الحرب الأهلية العالقة اّنذاك ، حيث شهد الرجال على متن الباخرة كل أنواع الموت ، و الخوف و اليأس الشديدين .
حصدت حادثة غرق السلطانة من الأرواح أكثر من حادثة غرق التايتانيك، غير أن هذه المأساة البشرية تبقى نوعاً ما منسية في التاريخ الأمريكي والعالمي. لكن ما لا يعلمه الكثيرون، هو أنه خلف هذه المأساة تقبع عدة ظروف من بينها التواطؤ والفساد والإهمال، مما يشير بقوة إلى أنه كان بالإمكان تفادي وقوعها أساساً.
الإهمال والفساد على متن السلطانة
عقب نهاية الحرب الأهلية الأمريكية في سنة 1865، سارع كل من الاتحاديين والانفصاليين إلى لملمة شتاتهم إثر الخراب الذي خلفته الحرب. تضمن انتهاء الحرب إطلاق سراح المساجين من كلا الجانبين. أُحضر الآلاف من جنود الاتحاد، الذين كانوا مسجونين في معسكرات ومعتقلات كونفيدرالية في سالما بالقرب من ألاباما وأندرسنفيل في جنوب جورجيا، إلى معسكر صغير خارج مدينة فيكسبرغ في ولاية ميسيسيبي، وكانوا بحاجة إلى عبور آمن إلى الشمال.
في تلك الأثناء، كان القبطان جايمس كاس مايسون في قيادة سفينة بخارية تحمل اسم ”سلطانة“ وكان متجها إلى ميسوري. كانت تلك السفينة الخشبية الصغيرة تقل طاقما من 85 رجلاً وكانت معدة لنقل القطن قبل أن يتم إيعازها بمهمة نقل الجنود بدل ذلك.
خلال توقفها لوهلة في فيكسبرغ من أجل عملية إصلاح على مستوى أحد المراجل البخارية [الغلايات]، تلقى قبطان السفينة البخارية الصغيرة عرضاً من حكومة الولايات المتحدة التي كانت مستعدة لدفع مبلغ 5 دولارات عن كل جندي يقله ومبلغ 10 دولارات عن كل ضابط، وذلك بالطبع باتجاه الشمال.
استحوذ الطمع على القبطان مايسون الذي راح يحلم بتحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال من خلال نقل هذه ”البضاعة“ البشرية، فاغتنم الفرصة وقام برشوة أحد الضباط الذي سمح له بنقل أكبر عدد ممكن من الجنود بغض النظر عن طاقة استيعاب السفينة البخارية، وفي خضم تسرعه ذلك ولهفته، اختار القبطان مايسون أن يصلح العطل الحاصل على مستوى مرجل السفينة تصليحاً جزئياً ومؤقتاً وليس مثلما كانت تقتضيه الحالة.
كان القبطان يخشى أنه بانتظاره حتى تنتهي عملية التصليح الشاملة كان جنود الاتحاد ليعثروا على وسيلة نقل أخرى تقلهم إلى الشمال. وفقاً لـ جيري بوتر، وهو محامي وصحفي ومؤلف كتاب «مأساة السلطانة: أعظم كارثة بحرية أمريكية»، فقد حمّل القبطان على متن السفينة أكثر من طاقتها من الرجال، فقال: ”كانت طاقة استيعاب السفينة حوالي 376 مسافراً، غير أنها تم تحميلها بأزيد من 2500 مسافر“.
غرق سفينة السلطانة
في 24نيسان سنة 1865، انطلقت السلطانة المكتظة من مدينة فيكسبرغ وعلى متنها كان حوالي 1960 سجين حرب، و22 حارساً، و70 مسافراً مدنياً وطاقم السفينة الذي كان يتكون من 85 رجلاً. كان معظم سجناء الحرب المحررين حديثاً في حالة صحية متدهورة.
بالإضافة إلى الاكتظاظ الكبير، كان يوم إبحار السفينة ذا طقس سيئ للغاية، فقد كان نهر الميسيسيبي يعيش أعلى مستويات المياه فيه بينما كانت الثلوج تذوب من على قمم الجبال المحيطة لتصب في ضفافه، كما كانت مياهه ذات التيارات القوية مليئة بأجذع الأشجار الساقطة والطمي. لقد كان الإبحار في هذه الظروف صعبا للغاية ناهيك عن كونه في عتمة الليل، غير أن القبطان مايسون أصر إلى إيصال ”شحنته“ هذه إلى وجهتها بأسرع وقت ممكن.
توقفت السفينة البخارية لوقت وجيز في مدينة ممفيس ثم استمرت في رحلتها تحت جنح الليل.
حوالي الساعة الثانية صباحاً، وفي يوم 27 نيسان، وعلى بعد بضعة كيلومترات من مدينة ممفيس، انفجر أحد مراجل السفينة سلطانة، ولأن السفينة كانت مكتظة للغاية، كان الكثير من المسافرين جالسين بمحاذاة المراجل.
قتل الانفجار على الفور المئات من المسافرين، الذين كان معظمهم جنوداً من كل من كينتاكي وتينيسي والذين كانوا جالسين مباشرة بمحاذاة المراجل. لقي العديد منهم مصرعه على الفور سواء بسبب الشظايا، أو البخار الحارق، أو المياه الحارة جدا المنبعثة من المراجل نفسها.
يشرح المؤرخ الباحث في حادثة غرق سفينة سلطانة ما حدث بعد انفجار المرجل على سطحها:
تلى الانفجار الأول انفجار المرجلين الإثنين المتبقيين. كتب بوتر: ”في لحظة ما كانوا [المسافرون] نائمين، ثم في اللحظة التي تلتها وجدوا أنفسهم يكافحون من أجل السباحة في مياه نهر الميسيسيبي الباردة. مات بعض المسافرين حرقاً على متن المركب“، ثم أعقب قائلاً: ”تشبث المحظوظون منهم بالركام العائم فوق النهر، أو الأحصنة والبغال التي قفزت من السفينة، على أمل الوصول سالمين إلى الضفة التي لم يكن بمقدورهم رؤيتها لأن الظلام كان دامساً وكان عرض النهر في تلك النقطة تقريباً تسعة كيلومترات“.
سادت الفوضى السفينة سلطانة، حيث وجد المسافرون على متنها أنفسهم بين خيارين لا ثالث لهما: بين البقاء على متن القارب ومواجهة احتمال الموت حرقاً، وبين القفز في المياه الباردة ومواجهة احتمال الغرق. في كلتا الحالتين كانت حظوظ النجاة هزيلة جداً، فوجد الجنود الذين كانوا قد ارتاحوا من الحرب لتوهم أنفسهم يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة مجدداً.
بينما بدأت السلطانة تغرق بالقرب من مدينة ماريون الصغيرة في جنوب الأقاليم الكونفيدرالية، همّت القوارب المارة والسكان المحليون لمد يد المساعدة في عملية إنقاذ فوضوية من أجل إنقاذ حياة الجنود على متنها.
ورد في تقارير الصحف أن رجلاً محلياً يدعى جون فوغلمان وأبناءه كانوا من بين الرجال الذين هموا للمساعدة. يقول فرانك فوغلمان، وهو من نسل جون فوغلمان، وعمدة بلدة ماريون الحالي، أن اتجاه القارب الذي كان يسير به جعل الرياح توجه ألسنة اللهب ناحية مؤخرة السفينة، ثم تفككت عجلة المجداف على أحد الجوانب وتسببت في التفاف المركب قبل أن تنهار عجلة المجداف الثانية على الجانب الآخر.
يقول العمدة فرانك فوغلمان حول بطولة سلفه: ”يقال أن آل فوغلمان تمكنوا من إعداد عوامة خشبية من بعض جذوع الأشجار ثم انطلقوا لنقل المسافرين من على السلطانة المحترقة إلى ضفة النهر“، وأضاف: ”من أجل عدم إضاعة الوقت، كانوا يضعون الناس فوق أغصان الأشجار على الضفاف، ثم كانوا يعودون إلى القارب من أجل إنقاذ المزيد“.
كان الجنود على متن السلطانة قد نجوا لتوهم من أهوال الحرب الأهلية العنيفة، كما عانوا الأمرّين خلال فترة حبسهم في السجون الكونفدرالية، فوجدوا أنفسهم تلك الليلة وجها لوجه أمام الموت مرة أخرى بينما راح القارب الذي كانوا على متنه تتآكله ألسنة اللهب لتترك منه حطاماً يجرفه تيار مياه نهر الميسيسيبي الباردة.
يقول أحد الناجين من حادثة سلطانة: ”عندما استعدت الوعي وجدت نفسي محاطاً بالحطام وفي وسط الدخان والنار“، وتابع نفس الجندي قوله: ”لقد كانت صرخات وأنين الجرحى مهولة، وكانت رائحة اللحم المحترق لا تُحتمل وفاقت قدرتي على الوصف بأشواط“.
كتب ناجٍ آخر من ولاية أوهايو قائلاً: ”قتل البعض بفعل الإنفجار، وكانوا ملقيين على الأرض تدوسهم أقدام من بقي حياً، وبينما كان البعض يبكي ويصرخ كان البعض الآخر يشتم وآخرون كانوا يغنون… لن أنسى هذا المنظر أبداً في حياتي، يراودني غالباً في نومي.“
لم يستغرق الأمر من السلطانة سوى بضعة ساعات قليلة حتى بلغت قاع نهر الميسيسيبي. كان بعض من هب لمد يد المساعدة من جنود الانفصال الكونفيدراليين الذين كانوا يقطنون بالمناطق المحيطة بالنهر، مما يجعلنا نقف مذهولين بفكرة أن هؤلاء الرجال قبل بضعة أسابيع فقط كانوا يتناحرون ولا يتوانون في قتل بعضهم البعض، لكنهم بدلا من ذلك وقفوا إلى جانب بعضهم البعض وغلبت الإنسانية على الخلافات السياسية.
استمرت جثث ضحايا السلطانة تطفو بشكل مروّع فوق مياه نهر الميسيسيبي على مدى أشهر كاملة منذ الحادثة، وبينما عُثر على بعض الضحايا فإن الكثيرين منهم لم يعثر لهم أثر أبداً، ومن بين الضحايا الذين لم يعثر عليهم كان القبطان مايسون نفسه.
مما لا شك فيه أن الكثير من العوامل التي تضافرت فيما بينها وأدت إلى وقوع كارثة السفينة سلطانة كان من الممكن تجنبها، ومن بين هذه العوامل وأبرزها هو الاكتظاظ الهائل على متنها، والذي لم يكن ممكناً هو الآخر لولا رشوة المسؤولين في الجيش من طرف القبطان مايسون، هذا ناهيك عن ظروف الطقس السيئة التي واجهها المركب لدى انطلاقه.
ثم لدينا التعامل السيئ واللامسؤول مع العطب الحاصل في أحد المراجل البخارية التي تعمل الباخرة عليها، فعلى ما يبدو أصدر القبطان مايسون ورئيس مهندسيه أوامراً لأحد الميكانيكيين في السفينة بأن يجري عملية تصليح سريعة ومؤقتة من أجل الانطلاق بالمركب مجددا في أقرب وقت ممكن.
لماذا نسيت ذاكرة التاريخ هذه الكارثة بهذه السهولة؟
إن أكثر تفسير منطقي لهذا قد يكون وقوعها بالتزامن مع حادثة اغتيال الرئيس لينكولن، التي كانت مأساة ذات بعد تاريخي أكبر وأوخم، فبينما وقعت حادثة اغتيال الرئيس السابق ذكره قبل أسبوعين من وقوع حادثة سلطانة، فإن تأثيرها ظل مستمراً لفترة أطول.
ومن جهة أخرى، يبدو وكأن الشعب الأمريكي صار قاسي المشاعر بعض الشيء وذلك راجع لكونه تحمل أهوال الحرب الأهلية التي دامت أربعة سنوات، فبالنسبة للبعض، كانت خسارة 2000 رجل آخر مجرد حدث آخر ونتيجة أخرى من نتائج الحرب.
في نهاية المطاف، لم يتم توجيه أية تهم فيما يخص حادثة غرق السلطانة، حتى بعد أن تم إجراء تحقيقات معمقة تلتها بعض المحاكمات العسكرية.
إرث صامد في وجه التاريخ
فقد أكثر من 1800 رجل حياته في حادثة غرق السفينة سلطانة، على وجه المقارنة أسفر عن غرق التايتانيك الشهيرة حوالي 1500 ضحية، مما يجعل من مأساة السلطانة أسوأ كارثة بحرية في التاريخ الأمريكي.
بعد أكثر من عقدين على وقوعها، أخذ الناجون من مأساة السلطانة من مختلف أنحاء الولايات المتحدة يجتمعون ويلتقون سنوياً لتخليد ذكرى الحادثة والترحم على أرواح ضحاياها.
بعد أن توفي آخر الناجين في سنة 1936، تسلم أحفاد وأبناء أحفاد الناجين المشعل وواظبوا على هذا التقليد، ومازالت هذه الاجتماعات السنوية تعقد إلى يومنا هذا.
على سبيل المثال، مازالت ماري بيث مايسون، وهي من أحفاد أحد الناجين من حادثة السلطانة يدعى ويليام كارتر وارنر، تتذكر بطولته إلى يومنا هذا، فقد كان وارنر قد انضم لصفوف جيش الاتحاد عندما كان مراهقاً قبل أن يتم أسره وسجنه خلال الحرب الأهلية، وفي نهاية المطاف وصل به القدر على متن سفينة السلطانة المشؤومة، وعندما ضربت المأساة تمكن وارنر من السباحة ليصل إلى ضفة النهر سالماً.
تقول ماري بيث: ”كان من المحتمل أن يلقى جدي حتفه في سجن كاهابا عندما كان يبلغ من العمر 16 سنة“، واستطردت بالقول: ”كما كان من الممكن أن يموت على متن السلطانة، غير أنه لم يفعل.. بالطبع إنه أمر مهم في عائلتي، ما كان أبي ليولد، وما كنت لأرى نور الحياة أبداً“.
حتى يومنا هذا، مازالت ماري بيث مايسون تحتفظ بالشهادة التي نالها جد جدها في شهرايلول سنة 1888 والتي أصدرتها جمعية الناجين من حادثة السلطانة.
بالنسبة لأحفاد الناجين من السلطانة على شاكلة ماري بيث، فإن إبقاء الذكرى حية هو طريقة مهمة نحو تكريم الأسلاف. يجتمع 100 شخص تقريباً من نسل الناجين من الحادثة سنوياً بالنيابة عن هؤلاء من أجل تكريمهم، يقول نورمان شو، الذي أسس “جمعية أحفاد وأصدقاء السلطانة”: ”لقد قمنا بالكثير من أجل الإبقاء على القصة حية ومن أجل نشرها“، وأضاف: ”لقد شعر هؤلاء بأن التاريخ ربما نسيهم… نحن هنا لنلبي أمنيات الناجين الأصليين المتمثلة في الإبقاء على قصتهم نابضة بالحياة“.
«أين غلبتك يا موت!؟»
الآن بعد أن أقام المخلِّص جسده لم يعد الموت مرعباً بعد، لأن كل الذين يؤمنون بالمسيح يدوسون الموت كأنه لا شيء،ويفضلون أن يموتوا عن أن ينكروا إيمانهم بالمسيح!
لأنهم يعلمون يقيناً انهم حينما يموتون
لا يهلكون بعد بل يحيون،
ويصبحون عديمي الفساد بفضل القيامة…
إنهم يحتقرون الموت إلى هذه الدرجة
حتى إنهم يقبلون إليه باشتياق
ويصيرون شهودا للقيامة التي انتصر المخلِّص عليه!…
وهكذا بعد أن غلب المخلِّص الموت وشهر به على الصليب،
حتى صار الموت بمثابة من هو مقيد الأيدي والأرجل،
فإن كل الذين في المسيح حينما يجوزون الموت أمامهم يدوسونه ويستهزئون به، شاهدين للمسيح وساخرين من الموت،
قائلين له ما كُتب ضده قديماً:
«أين غلبتك يا موت،
أين شوكتك يا هاوية!؟» (١كو ١٥:٥٥ .)
القديس اثناسيوس
تجسد الكلمة، فصل ٢٧
الوهية الرب يسوع
هل آمن المسيحيون الأوائل بألوهية “يسوع المسيح”
هل آمن المسيحيون الأوائل بألوهية “يسوع المسيح” قبل مجمع نيقية؟ أم أنه تم بالاجماع – كما يدّعي المتشككون- مستندين إلى رواية شيفرة دافشني الخيالية؟ يتشكك أصحاب الأديان الأخرى وبعض نُقاد المسيحية بأصالة ايماننا المُسلّم من الرسل مدعين أنها بتأثير من الوثنية، فألوهية يسوع ابن الله الحي المتجسد هو “حجر الزاوية” الذي لم ولن يقدر عليها أبواب الجحيم!
اثباتات من التاريخ
بنعمة المسيح سنثبت لكم بأدلة من التاريخ كحجة للرد على المتشككين بأصالة هذا الإيمان.
كيف يمكننا أن نعلم؟
الجواب ببساطة: بالعودة إلى التقليد المُسلّم من آباء الكنيسة المبكر قبل نيقية من القرون الأولى، وتعتبر كتاباتهم وسيرهم من العناصر الأساسية في التقليد الكنسي الذي من خلاله وصل إلينا الإيمان فإذاً لدينا شهادات ورسائل من الآباء قبل مجمع نيقية تدحض زعم المتشككين، وقد جمعت لكم بعض مختارات لاقتباسات آباء الكنيسة:
1-القديس اغناطيوس الانطاكي حوالي (35 م الي 107 م )
كتب القديس أغناطيوس الأنطاكي ثالث بطاركة انطاكية عدة رسائل قبل عام 107 م اخترنا بعض اقتباسات تحدث فيها عن ألوهية المسيح في رسالته إلي روما ” وإلهنا كلنا يسوع المسيح ” (روما53:3)، وفي رسالته إلى سميرنا ” المسيح إلهنا ” (سميرنا 1:107). ويختم رسالته إلي القديس بوليكاربوس بقوله ” وداعًا في إلهنا يسوع المسيح ” (بوليكاربوس1:1).
ويقول أيضًا أنَّه اللَّه الذي تجسَّد وصار إنسانًا ” لقد صار اللَّه إنسانًا لتجديد الحياة الأبديَّة ” (أفسس3:19) كما يصف الدم الذي سفكه المسيح بأنَّه دم اللَّه فيقول: “وقد أكملت عمل الإخوة حتى النهاية بدم اللَّه” (أفسس1:1).
2- القديس إكليمنضوس الرومانيّ
;كتب في رسالته إلي كورنثوس حوالي سنة 96م، عن لاهوت المسيح الذي أخفي عظمته الإلهيَّة وجاء متضعًا ” أنَّ صولجان جلال اللَّه، الربّ يسوع المسيح ، لم يأتِ متسربلاً بجلال عظمته – كما كان في استطاعته – بل جاء متواضعًا كما تنبَّأ عنه الروح القدس ” و أيضا كتب رسالة إلى كنيسة كورنثوس يشرح في هذه الرسالة عن الرب الإله:جزء 2 ص 147 الي 148 “ونصلي باحتراس الى كلمة الله وثبتوه بعمق في عقولكم حيث كانت الامه امام عيونكم”.
3-القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا (65- 155م)
وهو تلميذ القديس يوحنا الحبيب -أحد تلاميذ المسيح – المرجع
Epistola Ecclesiae Smyrnensis de Martyrio Polycarpi
كتب في نص رسالة صلاته قبل استشهاده:
“لهذا ولاجل كل شيئ اسبحك واباركك وامجدك وانت واحد مع الابدي والسماوي المسيح يسوع ابنك الوحيد الحبيب ومعه ومع الروح القدس تكون ممجدا الان وكل اوان امين”
“كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنّه قد جاء في الجسد هو ضدّ المسيح؛ ومن لا يعترف بشهادة الصليب هو من الشيطان (رسالته الي فيلبي 1:7)
4-يوستينوس الفيلسوف الشهيد (100 إلى 165م)
يروي في كتابه “حوار مع تريفون” كيف انتقل من الفلسفة إلى المسيحية، وكان ذلك في مدينة أفسس في عهد هادريان.وفي دفاعه الاول جزء 6 ص 47 ” الله الحقيقي ابو العدل والرحمه وكل فضيلة ومعه لا اختلاط للشر. ولكن هو والابن الذي اتي منه واعطانا التعليمات ومع روح النبوة . نحن نعبد ونعشق ونصلي لهمونقدم احترام حقيقي ومناسب ولا نقدم لاخر ” وايضا في حواره مع تريفو جزء 34 ص 130
” اعلن المسيح انه ملك وانه كاهن وانه الله وانه الرب وانه ملاك وانه انسان وانه الرئيس وانه الصخرة وانه الابن المولود وانه قادر علي الالام وانه يرجع الي السماء وايضا ياتي في مجده ويبدا ملكوته الابدي “.
5-اثيناغوراس ( 170 م )
Athenag Legat pro christianis c 10 p 286-7 المرجع
” كل الاشياء صنعت به ومن خلاله الاب والابن كيان واحد ولان الابن في الاب والاب في الابن بالوحدانية في قوة الروح فان ابن الله هو عقل وكلمة الله” ويقول في صفحة 22 من نفس المرجع
” نتكلم عن الاب انه الله والابن انه الله والروح القدس, لنظهر في نفس الوقت قوتهم في الوحدانية وتميزهم في الترتيب”.
6-القديس ايريناوس اسقف ليون ( 130 الي 202 م )
-” انه بالابن الذي هو في الاب والاب فيه، هو الله الحقيقي الذي ظهر لنا “
-” تذكروا انكم افتديتم بجسد ربنا وانقذتم بدمه وهو الراس لكل جسد الكنيسة ويجب ان نعترف بكل من انه هو الله ونخبر ايضا بطبيعته البشرية”
-“المسيح هو الله لأن إسم “عمانوئيل” يدل على ذلك”
7-اكليمنضوس الاسكندري( من سنة 153 الى 193 م )
-“نقدم تسبيح وشكر للواحد، للاب والابن، والابن والاب، للابن الذي هو خالق ومعلم ومعا مع الروح القدس في كل شيئ واحد وفيه كل الاشياء ومن خلاله كل الاشياء واحد وفيه الابدية “.
-” قوة الله الاب ودم الله الابن”
لأنه هو الله والخالق:”لان كل شيء به كان و بغيره لم يكن هناك شيء”
لكن معلمنا هو الله القدوس يسوع، الكلمة، والذي هو مرشد لكل للبشرية جميعها. الله المُحب هو معلمنا.
8-العلامة ترتليان (160 الى 225 م)
” سوف اعرف اننا لسنا لانفسنا ولكن اشترينا بثمن , واي ثمن ؟ دم الله “
ويقول ايضا في المرجع
Tertullianus Apol v 21 p 19
” تعلمنا ان انه اتي من الله ومولود ولهذا يدعي ابن الله وهو الله لانه واحد في الجوهر : لان الله روح وعندما يخرج الشعاع من الشمس لاتزال الشمس في الشعاع لان الشعاع هو شعاع الشمس فهو بدون انفصال ولكن امتداد وكذلك الروح انبثق من الروح والله من الله كما يكون نور شمعه من نور شمعة … وكلهم واحد “9-اوريجانوس ( من 185 الي 254 م )
” هو الكلمة كائناً منذ البدء مع الله واتي في الجسد لكي يستوعب بهؤلاء الذين لا يقدرون ان ينظروا اليه لانه الكلمة وهو كان مع الله وهو الله”.
10-ديونيسيوس الاسكندري من القرن الثالث المسيحي
يقول ” الدم المقدس لالهنا يسوع المسيح غير قابل للفساد ليس مثل دم البشر الفانيين مثلنا ولكن لانه الله “.
المصدر((Christian Orthodox Sword
لكي لا يندثر تاريخ سورية الكبرى
سرجون الأكادي
حاكم الإمبراطورية الأكادية
توطئة
تمثال نصفي لحاكم الإمبراطورية الأكادية، عُثر عليه في نينوى، يعود تاريخه إلى فترة القرنين الثاني والعشرين، أو الثالث والعشرين قبل الميلاد. قد يعود التمثال لسرجون. وقد يعود هذا التمثال لنارام سين حفيد سرجون.
الفترة في حدود 2270 قبل الميلاد – 2215 قبل الميلاد
الاسم الكامل الاسم عند الولادة: غير معروف
الاسم عند التتويج: سرجون (ويعني الملك الحقيقي أو الملك الشرعي)
ألقاب ملك كيش ولجش وأما والوركاء والحاكم الأعلى لسومر وعيلام زماري، ويارموتي
الخلف ريموش
قرين لـ تاشلولتوم
العائلة الملكية عائلة سرجون
سلالة سلالة أكادية
الأب لائيبم (الوالد)
أكي (المربي)
الأولاد إنهيدوانا وريموش ومانيشتوشو وإباروم وأبيش تاكال
سرجون الأول (بالأكادية: “شارّو كِن”، بمعنى الملك الاسد) هو مؤسس السلالة الأكادية. امتدت إمبراطوريته الواسعة من عيلام إلى البحر المتوسط، واشتمل ذلك بلاد ما بين النهرين والأناضول. حكم منذ عام 2334 حتى 2279 ق.م.، من عاصمة جديدة وهي أكاد، التي تقع في الضفة اليسرى لنهر الفرات بالقرب من كيش. ولم يكن سرجون هذا من أبناء الملوك، ولكن الأساطير السومرية إصطنعت له سيرة روتها على لسانه، فهو يقول: “وحملت بي أمي الوضيعة الشأن، وأخرجتني إلى العالم سراً ووضعتني في قارب من السل كالسلة وأغلقت علىَّ الباب بالقار”. ونجاه أحد العمال، وأصبح فيما بعد ساقي الملك، فقربه إليه، وزاد نفوذه وسلطانه. ثم خرج على سيده وخلعه وجلس على عرش أكاد، وسمى نفسه “الملك صاحب السلطان العالي” وإن لم يكن يحكم إلا قسماً صغيراً من أرض الجزيرة. ويسميه المؤرخون سرجون “الأعظم” لأنه غزا مدناً كثيرة، وغنم مغانم عظيمة، وأهلك عدداً كبيراً من الخلائق. وكان من بين ضحاياه لوجال- زجيزي نفسه الذي نهب لكش وانتهك حرمة إلهتها، فقد هزمه سرجون وساقه مقيداً بالأغلال إلى نبور. وأخذ هذا الجندي الباسل يخضع البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فاستولى على عيلام وغسل أسلحته في مياه الخليج العربي العظيم رمزاً لانتصاراته الباهرة، ثم اجتاز غرب آسية ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وظل يحكمها خمساً وخمسين سنةً، وتجمعت حوله الأساطير فهيأت عقول الأجيال التالية لأن تجعل منه إلهاً. وانتهى حكمه ونار الثورة مشتعلة في جميع أنحاء دولته.
اصله ونشأته
ولد سرجون سنة 2300 ق م وسرجون الاكادي هو ملك من اصول سامية قصة ولادته تشبه قصة ولادة موسى عليه السلام وثم انتشله ساقي ملك كيش اور زبابا الذي اسمه اكي(ساقي) تقول النصوص السومرية ان هناك حربا اندلعت بين سلالتي اوروك و كيش انتصر بها ملك اوروك لوغال زاغيزي سي وتمكن من السيطرة على مدينة كيش وقام لوغال زاغيزي سي بأسر اور زبابا واسره إلى اوروك وقتله هناك.
بعد فترة قصيرة قرر سرجون الثأر لما حصل لمدينة كيش ولما حصل لملكها اورزبابا فجمع تأييد سكان مدينة كيش وحشد جيشاً لمهاجمة لوغال زاغيزي سي في مدينته اوروك فتمكن من هزيمته وأسره من هناك وجلبه امام تمثال الالهة إنانا وتمكن بذلك من توحيد الدويلات السومرية .
بعد ذلك قام سرجون ببناء مدينة أكاد التي موقعها حتى الان غير معروف وسمي بسرجون الاكادي نسية إلى مدينة أكاد التي بناها وجعلها عاصمة لامبراطوريته. لكن يقال بأن اينشاكوشانا ملك أوروك هو الذي بنى مدينة أكاد، وان سرجون الاكادي اعتمدها كعاصمة له، بسبب وجود معبد الالهة إنانا فيها، والذي يعتقد بان اينشاكوشانا هو جد سرجون، وهناك من يقول ان اينشاكوشانا هو الملك نمرود الذي ذكر في التوراة، والذي يقول النص التوراتي بان نمرود كان ابتداء مملكته في بابل، وثم بنى أكاد وأوروك وكلنة وكذلك هناك من ينسبون، بأن سرجون الاكادي هو الذي بنى مدينة بابل مقابل مدينة كيش، وكذلك فان اخذ من تراب مدينة بابل ونقله إلى أكاد عاصمته اذ كان يظن بان بابل هي مدينة مقدسة.
انشاء مملكة سرجون
بعد ان تمكن سرجون من السيطرة على مملكة كيش، تمكن من السيطرة أيضا على مملكة أوروك، وثم تمكن من السيطرة على مدينة اوما، وبعد ذلك تمكن من الاستيلاء على نيبور، وبعد ذلك تمكن من الاستيلاء على اور وثم اتجه شرقا نحو لكش، ووحدها ضمن مملكته. وبعد ذلك اتجه إلى جنوب شرق بمحاذاة الخليج العربي وبهذا تمكن من توحيد جميع المدن السومرية.
بعد ذلك برز خصم اخر لسرجون الاكادي، وهو كاشتوبليا ملك مدينة كازالا التي تقع قرب مدينة ماري الشوباري، لكن سرجون الاكادي تمكن من هزيمته وضم مملكته اليه. بعد ذلك قام سرجون بتأسيس جيش قوي من السومريين والأكديين الساميين وهذا مما ساعد الساميين الذين كانوا في بلاد ما بين النهرين ان يستولوا على مقاليد الحكم، واصبحت اللغة الأكدية هي اللغة الرسمية في بلاد الرافدين، كما تطورت التجارة بين الساميين في بلاد الرافدين، وبين المدن والمستعمرات السامية في الخليج العربي مثل مجان وميلوحا ودلمون، اصبحت الالهة السامية هي الالهة الرسمية في امبراطورية سرجون لكن الساميين احترموا الالهة السومرية وتركوا حرية العبادة للسومريين، فبرزت الهة سامية مثل الاله انو والآلهة إنليل، وبعد ذلك اتجه سرجون لفتح البحر الأبيض المتوسط وبذلك اصبح سرجون اول امبراطور في التاريخ القديم، واول من وحد اراضي العراق اليوم.
حروب سرجون في الشمال والشرق
بعد ان وحد سرجون المدن السومرية والسامية، قرر توجيه فتوحاته إلى الشمال، وتمكن من السيطرة على مدن ماري ويارموتي وإبلا وثم اتجه نحو غابات الارز في لبنان، والى الجبال الفضية (جبال طوروس) وتمكن الأكاديون من الاستيلاء على الطرق التجارية المهمة، التي كانت تنقل الخشب والمعادن التي كانت بمحاذاة نهر الفرات، وبعد ذلك توجه سرجون نحو الشرق، وتمكن من الاستيلاء على المدن العيلامية، وتمكن من ضم مدينة اوان وثم استولى على مدينة سوسة (إيران) وبارهاشي وكافة المناطق المجاورة لهذه المدن اصبحت تحت السيطرة الاكادية .
فترته الاخيرة
كشفت احدى الملاحم في تل العمارنة المكتوبة بااللغة الأكادية، عن ان سرجون هاجم القبائل الحثية والحورية في قلب الأناضول، وحارب ملك مدينة بوروشاندا وتمكن من ضم تلك المدينة أيضاً، وكان هذا انجازاً كبيراً يحسب لسرجون اذ الذي فعله كان في القرن 23 قبل الميلاد، واكدت الحفريات في آسيا الصغرى (تركيا الحالية) عن وجود الجيش الاكادي في الاناضول، ونفس الملحمة اكدت بأن الملك سرجون قام بالسيطرة على السواحل الغربية للبحر الأبيض المتوسط، وكذلك بأنه تمكن من انشاء اسطول في البحر الأبيض المتوسط واتجه نحو جزيرة قبرص (التي كان اسمها في ذلك الوقت كريت) وقام بمحارية كيفتيو التي كانت احدى المواقع في قبرص، توفي سرجون في سنة 2279 ق م واستمر حكمه لمدة 56 سنة وحكم من بعده ابنه ريموش.
إرث سرجون
حسب بعض المدونات القديمة فأن سرجون توفي سنة 2215 ق م لكن ابنه الأكبر ريموش هو من كان يقوم بادارة الامبراطورية وقمع الثورات ضد سرجون وثم تبعه اخوه مانيشوتشو (الذي حكم لمدة 15 سنة) , سرجون بعد وفاته ترك ارثاً كبيرا عند حكام بلاد الرافدين من بعده، وخاصة الملوك البابليين والآشوريين. وحاول ملوك بلاد الرافدين تشبيه انفسهم بسرجون وحاولوا ضم المناطق التي احتلها سرجون، الملك البابلي الكلداني نبو نيد (556-539 ق م) والذي يعتبر اخر ملك وطني حكم بلاد الرافدين قبل ان يأتي كورش الفارسي الكبير الاخميني واحتلها ابدى اهتماما كبيرا بسرجون الاكادي وقام بزيارة المواقع التي كان يتواجد بها سرجون والكثيرون من المؤرخين الان يرغبون بمعرفة سرجون اكثر .
عائلة سرجون
تزوج سرجون من تاشلولتوم، وانجب منها ابناء، وانجب كذلك اينهيدوانا ابنته الصغرى، والتي ادعت انها الالهة إنانا، واصبحت تحكم في اور. كما انه انجب منها ابنه ريموش. وبعد وفاة ريموش تولى اخوه مانيشوتشو السلطة، وكذلك انجب شو انليل ( ايباروم )ويبايس تكال (ابياش تكال)
أقاويل حول سرجون
يقول المؤرخ الكلداني بيروسوس في كتابه (ملوك الكلدان بعد الطوفان) بأن سرجون كان كلدانياً ولقب نفسه بملك الكلدان العظيم وبما ان سرجون كان من الساميين، فالكثير من المؤرخين يعتقد بوجود الساميين في جنوب ما بين النهرين منذ فجر التاريخ ولقبوا بالفراتيين الاوائل، وهم الذين بنوا مدينة إريدو وكيش وأوروك قبل وصول السومريين اليها، وبأن تسمية الساميين اصبحت اكاديين نسبة إلى مدينة اكاد التي اتخذها الملك سرجون عاصمة له، وبأن عرق سرجون هو كلدي، وكذلك قال المؤرخ العراقي حسن النجفي بان سرجون كان اكادي الموطن وكلدي العرق .
ومن الاقاويل الاخرى بأن سرجون ضم مصر إلى امبراطوريته وكان يسمي مصر بمزر، وان احد ابنائه كان اسمه منس، والذي اصبح بعد ذلك فرعونا لمصر.
ويقال بان الاكاديين وبواسطة سرجون هم من ادخلوا الجزر البريطانية إلى العصر البرونزي، اذ كشفت بعد النصوص الاثرية، بأن بريطانيا دخلت إلى العصر البرونزي في اثناء فنرة حكم سرجون الاكادي، وان امبراطورية سرجون بلغت اكثر من ضعفي امبراطورية الاسكندر الأكبر اذ امتدت امبراطوريته من الهند شرقاً إلى مصر غرباً ومن أوربة شمالاً إلى إثيوبيا جنوباً، وان لهذه الأسباب تجاهل المؤرخين سرجون، اذ كانوا يهابونه ويهابون ما فعله، لكن ذلك يحتاج إلى ادلة دامغة، اذ كان من الصعب أو المستحيل بذلك الوقت، ان تؤسس امبراطورية بهذه السعة وكان من المستحيل عبور جيوش في كل تلك الاراضي لكن شخصية سرجون تيقى تدور حولها الألغاز وعن مافعله في ذلك العصر من انجازات .
ورد في الموسوعة البريطانية ما يلي: إن مصادر معرفتنا بحياة سرجون نستقيها باكملها من الاساطير والحكايات التي جاءت بعد شهرته خلال الفين عام من التاريخ الرافدي الذي سجل بالكتابة المسمارية، وليس من وثائق كتبت في زمنه…
ولد الحسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون بن محسن في استنبول، منفى والده، عام 1854م.
انتقل إلى مكة وهو طفل حيث كان عمه الشريف عبد الله باشا أميراً على مكة.
ولما تولى عمه الثاني إمارة مكة نفاه إلى إستنبول عام 1891م.
عين في استبول عام 1893م، عضواً في مجلس شورى الدولة، وبقي في هذا المنصب حتى الإنقلاب التركي وإعلان الدستور عام 1908م.
عاد إلى مكة بعد وفاة عمه عون الثاني وعمه الثالث عبد الإله، وعين أميراً على مكة عام 1908م.
استعان به الأتراك لإخضاع أمير عسير محمد بن علي الإدريسي.
تفاوض مع الإنكليز في بداية الحرب العالمية الأولى لإعلان الثورةعلى الأتراك، وفي العاشر من حزيران 1916م، أعلن الثورة عليهم وسيطر على الحجاز.
شكل قوات عسكرية بقيادة ابنه فيصل بن الحسين لمساندة الحلفاء في حربهم ضد الأتراك والألمان.
تنحى عن العرش وتنازل لابنه الشريف علي بن الحسين عام 1924م، وانتقل إلى جدة، ثم إلى العقبة، ثم إلى جزيرة قبرص التي أقام فيها ست سنوات قبل ان يعود إلى عمان.
توفي في عمان عام 1931م، ودفن في القدس.
الخطيئة الأصلية
يتساءل البعض عن سبب وجودنا على الأرض… ألم يكن كافٍ أن يغفر الله لآدم وينتهي الأمر؟
إن من يطرح هذا السؤال يبدو وأنه غير واعٍ لحقيقة الأمر… فغفران الله لخطية آدم وإنهاء الأمر يجعل المشكلة في الله وليست في الإنسان… كيف؟
الله لا يتغير ولا يتبدل
لو أن آدم بخطيئته الأولى قد أساء إلى الله فغضب عليه الله فهذا يقودنا إلى أن الله تغير من الرحيم إلى الغاضب… ولو أنها إساءة في حق الله فهذا يعتبر نقص في الله، حاشاه، فكما، والفرق شاسع بين المثال والحقيقة، أن أشعة الشمس تخترق كل الفضلات دون أن تتأثر هكذا خطيئة آدم لم توجه إساءة بحق الله…
الإنسان هو الذي سقط
إذاً ماذا حدث نتيجة الخطيئة؟ إن الإنسان عندما عصى الوصية الإلهية فقد النعمة الإلهية وسقط… طبيعته لم تعد كما كانت… الصورة الإلهية التي خلقه الله عليه لم تعد كمان كانت وتشوهت..
هل ينتهي كل شيء بغفران الله لآدم؟
إذاً كما قلنا أن الإنسان هو الذي سقط وتغير وليس الله فإذاً غفران الله لآدم، من الناحية الحقوقية إن جاز التعبير، سيجعله غير مخطئ في عيني الله وينسى، تعبير بشري، الله خطيئته. أما من الناحية الكيانية والروحية لآدم فلم يتغير شيء إذ بقيت طبيعته ساقطة والصورة الإلهية فيه مشوهة ولذلك هو غير قادر من نفسه على العودة والإتحاد بالله بالنعمة الإلهية.
فلهذا السؤال المطروح آنفاً هو سؤال لشخص غير واعٍ ما هي الخطيئة… وبأن بالخطيئة لم يتغير شيئاً في الله فهو هو الأمس واليوم وإلى الأبد.
وللعلم الكنيسة تؤمن وتعلم بأن آدم قد ندم وتاب ولذلك في أيقونة النزول إلى الحجيم أوأيقونة القيامة نرى أن السيد ينزل ويمسك بيدي آدم وحواء ليصعدهما معه…
وهنا ننتقل إلى سؤال آخر… ألم يكن بمقدور الله أن يعيد الإنسان إلى ما كان عليه قبل السقوط؟
أيضاً إن سائل هذا السؤال يبدو عليه غير مختبر حلاوة ومحبة وعظمة الله ولا يعرف ما هي الحرية والإرادة البشرية..
بالطبع إن الله قادر على كل شيء لكن الإنسان سقط بمحض حريته وبإرادته والله أعظم من أن يقتحم حرية الإنسان وإرادته… ويريد من الإنسان أن يعود إلى كنف الله بملء إرادته .
ولكن كما قلنا سابقاً لا يستطيع الإنسان بقوته الذاتية أن يعيد بهاء ونقاوة الصورة الإلهية التي تشوهت من جراء الخطيئة… ومن هنا كان تجسد وصلب وموت وقيامة الكلمة هو التدبير الإلهي الذي به نستطيع أن ننال نعمة التبني ونعود إلى كنف الآب الضابط الكل بفعل الروح القدس الساكن فينا.
ومن محبة الرب لنا ورحمته علينا أنه سمح للموت أن يدخل على الطبيعة البشرية لئلا تطول أيامنا ونبقى في الخطيئة. والله ليس مسبب الموت بل الإنسان ذاته بسعي الشيطان
وخلال هذه الفترة التي يعيشها الإنسان عليه أن يجاهد لكي يغتصب الملكوت أي يكون مستحقاً له. فيرث مع المسيح لأنه أصبح ابناً في المسيح يسوع ربنا.
والسؤال الذي أيضاً يخطر على بال غير المؤمن أو ضعيفي الإيمان… وما ذنبي أنا لكي أرث خطيئة آدم؟
وأيضاً هذا السؤال ناتج عن عدم وعي لما تعلمه الكنيسة والكتاب المقدس..
الإنسان لم يرث الخطيئة أبداً… بل بما أنه من نسل آدم الساقط في الأساس والتي كانت طبيعته فاسدة والصورة الإلهية فيها مشوهة فأتى هو على نفس هذه الطبيعة الساقطة ولكنه غير مخطئ… أي ورثنا نحن نتيجة السقوط لأننا من أبوين سقطا.. ولم نرث الخطيئة… ففي الإيمان المسيحي لا يوجد توريث للخطيئة… وهذا ما يجهله الكثيرون ويفزعون منه حينما نقول “الخطيئة الأصلية أو الجديّة”.
إما لماذا نولد بهذه الطبيعة الفاسدة والتي من آدم الأول فهذا عائد كما جاء أعلاه لأننا وللتوضيح اسمحوا لنا أن نقتبس التالي
انطلاقاً إذاً من حادث خطيئة أبوي الجنس البشري، دخلت حالة الخطيئة -وليس الخطيئة- التي انتقلت وراثياً مع كل نتائجها إلى كل ذريتهما. وهذه الوراثية يفهمها الآباء على أساس الوحدة السرية غير القابلة للانقسام للطبيعة البشرية. ولذا يصبح آدم كمثل جذر فسُد فأنتج الفساد لكل جنسه. ولتوضيح نظرة الآباء الشرقيين إلى هذه الأمور نعطي مثالين من أقوال أبوين معلمين للكنيسة شرقاً وغرباً أولهما القديس كيرلس الإسكندري رئيس المجمع المسكوني الثالث الذي أدان البيلاجية
“كيف صار الكثيرون بسببه خطأة (بسبب آدم)، وما علاقتنا نحن بزلاته؟
وكيف نحن الذين لم نكن بعد في الوجود حكم علينا معه؟ على الرغم من قول الرب: “لا يموت الآباء من أجل الأبناء ولا الأبناء من أجل الآباء. النفس التي تخطئ هي تموت”؟… لأنه سقط في الخطيئة وانزلق في الفساد الذي تسرب إلى طبيعة الجسد لذائذ مع نجاسات واندس في أعضائنا ناموس متوحش. سقمت إذن الطبيعة بعصيان الواحد أي آدم، وهكذا صار الكثيرون خطأة. ليس كأنهم شاركوا آدم، لأنهم لم يكونوا بعد، بل لأنهم كانوا طبيعته التي سقطت تحت الخطيئة… مرضت إذن الطبيعة البشرية في آدم بفساد العصيان فدخلت فيها الأهواء…”.
أما الأب الثاني فهو القديس يوحنا الذهبي الفم: “ما هي إذن ال (كثيرون صاروا خطأة) يبدو لي أن المستحقين للجحيم والمحكوم عليهم بالموت والذين لم يأكلوا من الشجرة صاروا مثل ذلك الذي سقط، منه جميعاً أموات”.
وهكذا نفهم أننا لم نرث الخطيئة الأصلية بل ورثنا نتائج الخطيئة أي الحالة التي كانت بها طبيعة آدم بعد السقوط… وأن الخطيئة هي ليست مشكلة الله بل مشكلة الإنسان ولذلك إن تاب غفر الله للإنسان فهذا لا يعني أن الإنسان عاد كما كان.. وهذه العودة إلى نقاء الصورة الإلهية في الإنسان غير قادر على تحقيقها الإنسان بمفرده… فكان في تدبير الله أن يتجسد ويصلب ويموت ويقوم ليقيمنا معه..
🕆 *ارثوذكسيتي*🕆
خربشات سياسية 27/9/2019
نظرة الروس نحو العرب… نظرة واقعية
الكرملين يمتلك وثائق لا يرقى اليها الشك حول السيناريو الذي اذ لحظ بعثرة سورية الى شظايا اتنية، وطائفية، وقبلية، انما كان يرمي الى تفجير خرائط المنطقة كلها. التنفيذ بدأ مع الثنائي بوش ـ تشيني، وغزو العراق. تالياً، اعادة تركيب الخرائط، واعادة تركيب الوجوه.
ديبلوماسي روسي تحدث عما هو أكثر اثارة حينما قال «لقد أبلغنا ملوكاً، وأمراء، ورؤساء، عرب، بأننا لم نتدخل في سورية لانقاذ النظام، وانما لانقاذ هذا البلد من حرب المائة عام. لو لم نتدخل لتحولت سورية الى حطام، ولانتقلت الحرائق الى سائر أرجاء المنطقة. لنتصور ماذا كان حدث لو أن أبا بكر البغدادي، أو أبا محمد الجولاني، على رأس السلطة في دمشق»!
منذ قرابة ربع قرن، قال يفغيني بريماكوف «في العقل العربي، الله يحتل المرتبة الثانية بعد أميركا». لو كان السياسي الروسي الفذ لا يزال على قيد الحياة لقال: “في العقل العربي، الله يحتل المرتبة الثالثة بعد أميركا، ثم أميركا”.
وعلى ذلك فان ديبلوماسي روسي يقول «أننا عرضنا على بعض البلدان العربية منظومة الـ«اس.اس ـ 400» التي تتفوق، في أكثر من ناحية، على منظومة الباتريوت الأميركية، وبسعر يكاد يكون دون النصف. لا أحد التفت الى العرض، لا بل أن أجهزة استخباراتنا علمت، من مصادر موثوقة، أن الدول اياها عقدت مفاوضات سرية مع اسرائيل لشراء منظومة القبة الحديدية، مع ما يحيط بها من شكوك تقنية وعملانية».
سأل «أين كان ذلك «الثعبان الغبي» حين كانت طائرات الـ«DRONES» تشق الطريق الى معملي بقيق وجريص السعوديين وتجعلهما قاعاً صفصفاً؟ قناعتنا أن الولايات المتحدة ماضية في تصنيع الصراعات، وفي ادارتها، دون أن يكون ثمة من مؤشر على أن تغيراً ما سيطرأ على المسار الكارثي للشرق الأوسط».
الديبلوماسي الروسي يسخر من دونالد ترامب حين يعلن أمام الملأ أنه من يحمي العروش العربية «هذا الكلام لا يتقبله حتى السذّج. منذ أن دخل ذلك الرجل الى البيت الأبيض، وهو ماض في التقويض المعنوي، والمادي، وحتى في التقويض السياسي، لتلك العروش».
في رأيه أن العرب اذا ما بقوا على تقهقرهم الى منتصف القرن، لن يعثروا على عكاز يتكئون عليه. لا مجال للقول بنهاية وشيكة للصراعات المصنعة، والمصطنعة، مكيافيلياً، وحيث التوظيف المنهجي، والبعيد المدى، لغباء التاريخ، ولغباء الايديولوجيا.
يشير الى أنه خلال قمة أنقرة الأخيرة، دعا فلاديمير بوتين رجب طيب اردوغان الى «التخلي عن رقصة التانغو مع دونالد ترامب الذي، مثلما يسعى لتفكيك ايران، من الداخل، يسعى لتفكيك تركيا من الداخل. في القمة، لاحظ الرئيس الروسي، أمام نظيره التركي، ان تطبيع العلاقات مع دمشق وحده الذي يحفظ أمن تركيا، دون أن يكون هناك من داع منطقي للعب بالنار على الأرض السورية. ونحن لا نستبعد أن يحدث تغير ما في الموقف التركي».
الديبلوماسي الروسي ينصح بعدم الرهان على تبدل دراماتيكي في السياسات الأميركية اذا ما أزيح دونالد ترامب الذي اذ لا يختلف عن اسلافه، في الخلفية الفلسفية، وفي الخلفية الاستراتيجية، انما يفترق عنهم، فقط، في شخصيته النرجسية، وفي مقارباته البهلوانية للعلاقات الدولية. في حملته الانتخابية صرح بسحب القوات الاميركية من سورية، وفي مطلع ولايته الرئاسية صرح ذلك مجددا وانكفأ الاكراد في مسد وقسد وناشدوا النظام الاميركي لعدم الانسحاب وتركهم امام الدولة السورية وتحرك الصقور في اميركا لمنع ترامب من سحب القوات فتنصل تدريجياً…ليس من اختلاف في الادارة الاميركية بين الجمهوريين والديموقراطيين فكليها يأتمر بأوامر الحكومة العميقة لذا لارهان على التغيير…
اليوم تجدد الادارة الاميركية نغمة الكيماوي وان الدولة السورية استخدمته في اللاذقية، وذلك قبل صدور التحقيق من المنظمة، ليلحق ماكرون بالادارة الاميركية ويصرح بوجوب التحقق وبالتالي التدبير الرادع…
هذا الموقف الذي صرحت به الادارة الاميركية قابله اسف واستهجان من الخارجية الروسية التي اعتبرته تعطيلاً اولياً في مسيرة لجنة صياغة الدستور السوري وهي برعاية الامم المتحدة واول جلساتها الاثنين المقبل آخر ايلول الحالي…
في الختام
العرب المنبطحون والسعيدون بانبطاحهم امام الاميركي بالرغم من كارثة الدمام المهولة استدعى موقفهم تصريحا من الدبلوماسي الروسي وهو يهزأ بالعرب قائلاً: «بتأثير تشكيلكم الثقافي، لطالما راهنتم على الصلوات، والأدعية، في تغيير الأحوال. معلوماتنا الاستخباراتية، والديبلوماسية، تؤكد أن الله غسل يديه من هذه المنطقة. حاولوا، أنتم، أن تتغيروا…».
الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس
مقدمة
” لايمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل ولايُوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت” (متى5: 15-14)
اسد جبرائيل رستم، علم اعلام التأريخ في مشرقنا وسراجاً مضيئاً موضوعاً على المنارة الانطاكية منيراً جلد كنيسة المسيح الأنطاكية.
هو مؤرخ الكرسي الانطاكي المقدس بحق، كان كبيراً في عطاءاته جواداً مبدعاً في اسهاماته العلمية الاكاديمية، مهد السبيل أمام اكبر الباجثين في تعريفه الثري لكنيسة المسيح عامة وكرسينا الانطاكي خاصة ونحن والأكبر منا في هذا الفن، من الذين نهلوا من معينه الذين لم ينضب يوما وبقي فواراً باستمرار، وبقيت اسفاره التي كتبها وخاصة السفر العظيم “تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” والانتاج ذا الصلة وما اكثره.
لقد ترك هذا المؤرخ والكاتب الانساني “الاسد الانطاكي” ارثاً عظيماً لكل وافد الى تأريخه لينهل منه، وخاصة آلاف الطلاب ليشقوا طريقهم في دروب الثقافة وخدمة المجتمع وليستنيروا بأسفاره، كما رعا رحمه الله في حياته عشرات الباحثين الأخصائيين في ميادين التاريخ والدراسات العربية وتابعت اسفاره في بناء شخصية هؤلاء العلمية ورؤاهم ونتاجهم الفكري القيم.
قيل عنه الكثير، وقال أئمة التاريخ فرادى، وفي مؤتمرات التاريخ عامة، وفي المؤتمرات للبحث في عطاءاته وشخصيته ما لايُحصى…ولكن برأي اجمل ماقيل فيه، وعنه، كان ماقاله غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر بطريرك
انطاكية وسائر المشرق الكثير مما يعطيه حقه والأبلغ قوله عنه، هو:” رجل الموقف البلوري الواضح والصريح، احب الحقيقة التاريخية، ولم يتردد في التعبير الصريح عنها دون محاباة أو تقيّة. ومن حقيقة التاريخ التي درس ومحص، توجه الى محبة الكنيسة الأرثوذكسية، وآثر العودة اليها رغم مكانته المرموقة بين وجهاء الارسالية الانجيلية المؤسسة للجامعة الاميركية في بيروت، ورغم التضحيات الجمة التي استدعاها قراره هذا.”
وفي كلام غبطته الاشارة الواضحة لعودة علمنا الكبير الى كنيسته الارثوذكسية بعد ان كان بروتستانتياً وله مكانته المميزة في الارسالية الانجيلية التي أسست الجامعة الاميركية.
الدكتور أسد رستم علم كبير ليس فقط علماً لبنانياً بل ومن سورية الكبرى، ومن انطاكية العظمى اي سورية الكبرى الواحدة ومن كل المشرق، و لقد كان إماماً للتأريخ، ومن المؤرخين العالميين وقد دوَّن بكل أمانة “الحقيقة التاريخية”، ولم يُسقِط ْ اية “حادثة تاريخية” بل اظهرها “حقيقة تاريخية” لايمكن التلاعب بها وفق الميل والهوى والانتماء بشتى اشكاله…! كما عند كثيرين…! بل أظهرها بكل تجرد بعد ان كان قد طواها النسيان، لأنه كان إنساناً في المقام الاول، وفي المقام ثانياً عاش حياته متصالحاً مع نفسه ومع ربه، وثالثاً حاضناً لتاريخ وطنه الشامي الكبير، ووطنه لبنان الصغير، وحاضناً /ولعله الاول/ بلا منازع لكنيسته الانطاكية التي تتسع لسائر المشرق… وتأريخه المتميز لكنيسة انطاكية العظمى حاضر ابداً مؤكداً اولويته هذه.
عَزمتُ أن أكتُبَ عنه، استمراراً لنهجي في موقعي هنا، بترجمة أعلامِ كرسينا الانطاكي المقدس، وأعلامِ الوطن…وأعلامِ الكنيسة اعترافاً بفضلهم، وخاصة مؤرخَ الكرسي الانطاكي عَلَمنا ومعلمَنا د. اسد رستم…بحثت طويلا… ثم توقفت عند الكتاب الذي وضعته ابنته السيدة الدكتورة لميا رستم شحادة وهو بعنوان:” أسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي مسيرة عمر” وهو من منشورات بطريركية انطاكية وسائر المشرق العام 2014 موشى بكلمة الناشر وهي لغبطة ابينا يوحنا العاشر بطريرك انطاكية وسائر المشرق وافتخر ان غبطته كان قد قدم لي هذه النسخة…فاعتمدت عليه في كتابة بعض السيرة الذاتية وتفاصيلها في تدوينتي هنا شاكراً لغبطة ابنا البطريرك يوحنا العاشر راعي العلم والعلماء، والباحث ابداً في اعلام انطاكية، والمفتخر بأنطاكية العظمى بمقولته:”لغتنا انطاكية…لغتنا واحدة” والمهتم ابداً في ترجمة هؤلاء الأعلام ونشرها للعلن، ليعرفهم الجميع، فهم منائر أنطاكِّيةْ تنير لأجيال الكنيسة الطريق، ليتابعوا مافعله الآباء والاجداد. وهي شهادتي المجروحة بمسعى غبطته، وبالتالي أُقدم بعد شكري غبطة ابينا البطريرك يوحنا العاشر، الشكر لابنته السيدة د. لميا التي برت بوالدها العظيم بنشر سيرته العطرة…
ويبقى ماكتبته مجرد تدوينة معجمية وقاصرة عن ايفائه حقه، فهي ليست موسوعية، وهذا العلم العظيم يحتاج في ترجمته الى جهد موسوعي، فأنا اقتبست من سيرته الشخصية نبذة من هذا الكتاب، واستقيت شهادات عن علم وفكر وعمل اسد رستم مماكتبه آخرون، ومن مشاركتي في الحلقة الدراسية ” من ذكرى المؤرخ الى تشكيل الذاكرة” البلمند 16 ايار 2003 “اعمال الحلقة الدراسية حول اسد رستم” منشورات جامعة البلمند عام 2004 ، ثم في أعمال المؤتمر المنعقد في دير سيدة البلمند البطريركي 12-14 آذار 2007 وكان بعنوان “مساهمة المؤرخين الأرثوذكس في التأريخ” وكانت من بينها دراسة عن علمنا بعنوان ” جدلية الموضوعية والذاتية في التاريخ الكنسي عند اسد رستم” للأب جورج برباري، وساهمت بدوري في هذا المؤتمر ببحث عنوانه:” الأب المؤرخ ايوب نجم سميا مؤرخ الكاتدرائية المريمية بدمشق”، ويبقى الهدف من تدوينتي هذه هو إظهار هذا العلم الذي نحني الهامات له، معلمنا في كتابة التاريخ الانطاكي تاريخ كرسينا الانطاكي المقدس الذي استحق علمنا بجدارة ان يحمل لقب مؤرخ الكرسي الانطاكي. وهنا اشكر من اطلق علي لقب: اسد رستم جديد” وما انا بمستحقه وهذه قناعتي واكرر الشكر لهم.
الشوير موطنه
الشوير مسقط رأسه، وهي منطقة عالية مرتفعة في فضاء المتن الاعلى بجبل لبنان يصل علو متوسطها الى الف مترعن سطح البحر، وتبعد عن بيروت 26 كم، وعن زحلة 29كم، وهذه الناحية تتألف من الشوير، والضهور وعين السنديانة، والخنشارة، وبتغرين والجوار.
وهي منطقة جبلية جميلة زاد جمالها عندما استُحدثَ استعمال القرميد الأحمر في بناء البيوت، وذلك في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فطغى بجماله على البيوت الأخرى ذات السطوح المسطحة.
وكان علمنا يردد باعتزاز ان بيت اهله هو اول بيت بُني على الطريقة الحديثة وسُقف بالقرميد الأحمر. مع ان سكان الشوير كانوا يستغلون العنب من كرومهم ويحولونه دبساً أو خمراً، الا ان الكمية المنتجة كانت لاتفيهم حاجتهم، لذا كانوا يعتمدون في معظم الأحيان على صنعة البناء التي اقتبسوها من معمار حلبي قدم الى الشوير قبل ثلاثمائة سنة من مدينة حلب. وهو جد عائلة الحلبي في الشوير. وذاعت شهرة الشويريين بهذه الصناعة وانفردوا بها اذ لم يكن في جبل لبنان من يتقنها غيرهم.
بعد انتهاء فتنة 1860 في جبل لبنان، واستقرار الاحوال الامنية في جبل لبنان، انتشرت مهنة البناء وانطلق الشويريون يسعون للارتزاق بها على بعد مسافات طويلة حتى بلغ بعضهم منطقة حوران.
ومن تراث عائلة علمنا انه عندما عزم الأمير بشير الشهابي الكبير على بناء قصره في بيت الدين في اوائل القرن التاسع عشر (سنة 1807 حسب النقوش على البابين الخارجي والداخلي للقصر) ارسل في طلب المعلم رستم مجاعص وغيره للمساعدة في البناء، فأكملوا بناء القصر سنة 1829 وكان المقدم او الرئيس بينهم المعلم رستم مجاعص، الذي ذاع صيته في الارجاء فتكنى أحفاده باسمه الأول “رستم”.
الأسرة
تنتسب الاسرة الى كبيرها رستم مجاعص، معلم العمار الذي خدم الامير بشير الشهابي الكبير مدة طويلة بصفته بّناءً ماهراً، وبقي بين رجال حاشية الامير أكثر من عشرين سنة، أنشأ خلالها قصر بيت الدين، اما حفيده جبرائيل رستم وهو والد علمنا فكان جبرائيل قد تعلم واخويه حنا وميخائيل في مدارس الاميركان الانجيلية في عبيه، وعندما انتقلت ادارة المدارس الانكليزية من سوق الغرب الى الشوير التحق جبرائيل بها معلماً في بعض القرى التابعة لها كأرصون… وكان وأخوه حنا أول من اعتنق البروتستانتية في القرية بالرغم من معارضة والديهما، وكانا يجتمعان كل يوم أربعاء للصلاة في بيتهما مع زملائهما الانجيليين، وكانت والدتهما تريزا شلهوب مجاعص الارثوذكسية المكينة تتألم من هذا الوضع، وكانت تنتظر حتى يكتمل النصاب وقبل خروجها من المنزل تقف عند الباب وتقول:”حنا، حنا، بيتي بيت صلاة يُدعى، جعلتموه مغارة للصوص”؟ (مقتبسة من انجيل متى 13:21)
جبرائيل كان هادئاً دمث الاخلاق. وقد تزوج في سنة 1874 من “ست الاخوة” ابو نخلة مجاعص، وقد سميت بهذه الاسم لأنها البنت الوحيدة بين سبعة صبيان، وعُرفت بجمالها وبعد زواج ثلاث وعشرين سنة، في الرابع من حزيران سنة 1897، رزقا ولداً ذكراً اسمياه اسداً ليطول عمره. والسبب بهذه القناعة انهما
لم يُرزقا ولداً حتى السنة السادسة من زواجهما فأسمياه “خليل”. وكانت والدته “ست الاخوة” قد نذرت أن تُعمده في كنيسة السيدة للروم الارثوذكس في الشوير، ولكن جبرائيل، كونه من الأوائل الذين اعتمدوا المذهب الانجيلي في القرية، رفض أن يُعمده أرثوذكسياً. وتوفي خليل بعد ستة أشهر من ولادته. فانصرفت قناعة والدته “الست” أن هذه المأساة كانت نتيجة عدم عمادته. وقد رزقا من بعده بثلاث بنات…
بكت “الست بحرارة” ونذرت للسيدة والنبي الياس كي ترزق ولداً ذكراً. ولم ينته ذاك الشهر حتى حملت بأسد، وأبصر النور بعد تسعة أشهر في الرابع من حزيران سنة 1897 فربته تربية صالحة، وان اتسمت بالشدة فهي متميزة بالشخصية القوية وتعرف ماتريد وتعمل لتنفيذه، حتى انها كانت قد تعلمت خياطة اللباس الغربي للرجال خصوصاً الذين يريدون الهجرة الى بلاد الغرب وذلك لمساعدة ابنها اسد في تحصيل علمه الجامعي في الجامعة الأميركية.
أمضى أسد رستم طفولته في هذه البيئة الجبلية الجميلة التي تتمتع بمزايا طبيعية فريدة وفي هذه العائلة المسيحية المؤمنة
لمابلغ اسد الخامسة من عمره، أُرسل الى مدرسة الشويرالبروتستانتية ليتعلم القراءة والكتابة وشيئاً من الحساب. وكانت هذه المدرسة قد أصبحت تابعة للمرسلين الأميركيين بعد الانكليز. وهي تُختصَرْ بغرفة واحدة تجتمع فيها كل الصفوف. وكان عم أسد، حنا رستم، الاستاذ الوحيد فيها.
في السنة 1905 اصطحب المعلم جرجس همام (وهو من اعلام كرسينا الانطاكي، وهو صهره زوج اخته) اسد الصغير الى زحلة، ليسجله في الكلية الشرقية بادارة الرهبنة الشويرية، وواظب أسد على جميع الدروس الابتدائية المفروضة زهاء سنتين كاملتين.
وزار مع صهره جرجس همام حمص تلبية لدعوة مطرانها اثناسيوس عطا الله ليستشيره في انشاء مدرسة ثانوية ارثوذكسية في حمص، حيث انشأ المطران اثناسيوس مدرسة “الغسانية” الحمصية الشهيرة.
في خريف السنة 1907، التحق اسد ب”مدرسة الشوير العالية”، وكانت والدته قد اصرت على ان يكون تلميذاً داخلياً فيها حتى لايلتهي عن دروسه. وكانت تأخذ له الطعام يومياً وحتى كوب الليموناضة الطازجة، وذلك يومياً في الساعة العاشرة من كل صباح.
كانت المدرسة بادارة الدكتور ويليام كارسلو القس والطبيب الاسكوتلندي، مع الاستاذين جابر شبلي ويوسف الغريب، اللذين تركا اطيب الأثر في نفس أسد.
وقد نال الفتى اسد شهادة المدرسة العالية الأميركية في الشوير برتبة الثاني في الصف، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره.
تزامنت هذه الطفولة والصبوة مع أفول نجم الاحتلال العثماني الظالم للسكان، واندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع تفتح براعم النهضة العربية واليقظة العلمية، الثقافية والفكرية في المشرق العربي.
هذه العوامل الأربعة طبعت مرحلة الشباب التالية في حياة أسد رستم فإذا به شاباً رصيناً، يتعاطى مع ظروف الحياة وتحولاتها بجدية وتوازن، يجمع بين الحيوية في الحركة والثبات في الموقف، بين التحرّر في التفكير والانضباط في التعبير، منفتحاً على الحضارات يتقبّل تناقضاتها، متعلّقًا بطبيعة لبنان وخصوصيتها، مؤمناً بغنى تراثه وأهمية موقعه على مساحة العالم العربي الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والفكرية.
استمع والده جبرائيل لنصيحة المرسلين الانكليز بأن يمتهن اسد مهنة يعتاش منها، كتصنيع الأحذية وتصليحها لكسب الرزق، بدلاً من ان يتابع تحصيله الجامعي في الجامعة الاميركية، لأن اوضاع الاب جبرائيل المادية كانت لاتسمح، الا ان الوالدة الحازمة “ست الاخوة” وهي (الأمية) انتفضت على هذا الاقتراح ورفضته باصرار واصرت على التحاق اسد بالكلية، ولو أدى الأمر الى الاستدانة ورهن الرزق. فتدخل حينها الصهر المعلم جرجس همام، وأكد استعداده لتقديم المال اللازم شرط إعتباره ديناً عليه يدفعه فيما بعد.
ونزل أسد ومعه امه عام 1911 الى بيروت حامليَّن توصية مدير مدرسة الشوير العالية الى الدكتور هاورد بليس رئيس الكلية السورية الانجيلية في بيروت، وتم قبول اسد في الكلية وأُلحق في صف المبتدئين في كلية الآداب والعلوم، وكان القسط السنوي قي ذلك الحين عشرين ليرة ذهبية. وساعدت أم اسد إبنها مادياً باعتماد الخياطة مصدراً للمال المطلوب لدراسته الجامعية.
التحق علمنا بالكلية السورية الانجيلية في خريف السنة 1911، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره مثقلاً بضيق الحال، فانكب على الدراسة مجتهداً كي لايستدين أكثر من الضرورة. وكان شعوره بالواقع المالي المعسر اكبر حافز له على التحصيل العالي، وكان يدرك ومقتنع بأن الفقر في بعض الظروف نعمة من الله ودافعاً للنجاح.
وقد اشتغل في الكافتريا يُخَّدِّم على المائدة كي يخفف من الدين الذي عليه فوفَّرَ ثماني ليرات ذهبية من أصل القسط. وفي السنتين الثالثة والرابعة اشتغل سكرتيراً للرئيس هاورد بليس، فدفع ثماني ليرات فقط من أصل القسط السنوي. وهكذا اصبح مجموع ماعليه من ديون ثماني وأربعين ليرة ذهبية سددها كاملة في السنة 1921.
كان اسد رستم فيما بعد القيم على 876 مخطوطة أقدمها يرجع الى السنة 900 مسيحية، وثلاثة آلاف وثيقة في اللغة العربية. كما اسس المكتبة الخاصة لقسم التاريخ وكانت مؤلفة من حوالي عشرة آلاف كتاب.
وكان اسد قد سكن في الكلية كأقرانه، وكان يدرس في أروقة البناء على ضوء القنديل بعد نوم جميع الطلبة، وذلك طلباً للتفوق، وكان يحمل غسيله على ظهره في آخر الاسبوع، وينتقل من رأس بيروت الى الشوير مشياً على قدميه، كي تغسل والدته الغسيل فيوفر اجرةغسله في بيروت.
كان يسبق الجميع في الاستيقاظ باكراً ليحضر دروسه قبل بدء دوام الدراسة يومياً.
انتقى اسد حقل التاريخ للتخصص (وفق قانون كلية الآداب آنذاك في مطلع السنة الثانية) لأنه بدأ يُعجب بشخص استاذ التاريخ الدكتور هارولد نيلسون أولاً ثم اختار الرياضيات ثانياً قبل أن يعود إلى التاريخ.
تابع دروسه حتى سنة 1916، حيث نال شهادة البكالوريوس في الآداب، ونظراً لتفوقه في العلوم التاريخية والاجتماعية ونباهته وفصاحته في اللغة الانكليزية، طلب منه بليس ان يكون في عداد المدرسين ويعاون الدكتور هارولد نيلسون في تدريس التاريخ في الصفوف العالية من المدرسة الثانوية، وفي صفي المبتدئين والمحولين من كلية الآداب، فقبل أسد وبدأ التدريس في 2 تشرين الثاني سنة 1916.
دروس اسد العالية
وبالرغم من كل الشدائد التي رافقت الحرب العالمية الاولى، والتي عصفت بالبلاد وبالذات في بيروت ودمشق و… وخاصة المجاعة المدوية حيث كان الاموات من الجوع يملأون الشوارع، وكانت الطنابر تنقلهم سواء في دمشق وبيروت … الى المدافن، اضافة الى موجات الجراد التي أكلت الاخضر واليابس اضافة الى سوق الشباب الى القتال في جبهات بعيدة، وخاصة جبهة ترعة السويس، وتنفيذ الاتراك لخطة للقضاء على اللبنانيين المسيحيين كما خطتهم في ابادة الارمن وابادة الانطاكيين من سوريين ويونان في كيليكيا وارضروم وديار بكر وافراغ ثلاث ابرشيات ارثوذكسية من سكانها واستشهاد مليونين ومائتي الف ارثوذكسي ومليون ونصف ارمني وسبعمائة الف من السريان ومثلهم من الآشوريين في آسية الصغرى، وهروب الناس الى المنافي البعيدة…
بالرغم من كل ذلك الا ان الجامعة الاميركية استمرت، وقد رأى اسد بعد نيله شهادة البكالوريوس في الآداب، ومع عمله في التدريس، رأى ان من المناسب ان يتابع دروسه في التاريخ لينال لفب ” استاذ في التاريخ” خلال سنوات 1917-1919 وقد نال شهادة “استاذ في الآداب” في الثامن عشر من حزيران1919 (اي درجة الماجستير)، ووصف الدكتور نيلسون عمل اسد في هاتين السنتين بأنه “كان ممتازاً، وأن أسد لم يظهر شغفاًً في عمله ومثابرة فحسب بل أظهر قدرة فائقة لمعالجة المواد التاريخية بنجاح.”
جامعة شيكاغو
في نهاية العام الدراسي 1922 انتقل اسد رستم الى الولايات المتحدة لطلب التعليم العالي بمساعدة مالية من رئيس الجامعة بايارد دودج، وزار في طريقه باريس واقام فيها شهراً زار متاحفها ومكتباتها…ودرس في هذا الشهر فن الخط، وكيفية اكتشاف التزوير في المخطوطات أو في التواقيع الشخصية، آملاً ان ينشىء غرفة للمخطوطات في الجامعة الأميركية ببيروت بعد عودته من الولايات المتحدة.
درس الالمانية بجهده الشخصي وهو على متن الباخرة التي اقلته الى شيكاغو حيث التحق بكليتها الشرقية، ودرس التاريخ الشرقي القديم واللغات الأشورية والعبرية واليونانية واللاتينية، وبعد خمسة عشر شهراً في جامعة شيكاغو نال شهادة الدكتوراة في التاريخ الشرقي القديم من رتبة “العليّ الأعلى”. وتم منحه عضوية الجمعية الفخرية “فاي بيتا كابا” ومفتاحها الفخري.
وبالمناسبة فانه ولنباهته، كانت دراسته في مدة سنة وثلاثة اشهر في جامعة شيكاغو بدلاً عن ثلاث او اربع سنوات، كما انه اتبع درساً في مقارنة اللغة المسمارية مع العهد القديم، وقد قال عنه المؤرخ الشهير جون ويلسون:” ان رستم لم يكن يعرف شيئاً من اللغة الآشورية فدرسها بقراءتها بصوت عال ومقارنتها بالعربية، فاستوعب لوحده درس مادة اربع سنوات خلال سنة واحدة”.
مع ان المساعدة المالية التي منحه اياها دودج كانت كافية لأكله ومنامته ومصروفه الشخصي، الا انه كان يعمل في نهاية الاسبوع والعطل الرسمية ببيع التذاكر للألعاب الرياضية ككرة القدم وغيرها، كي يرسل محصولها مع ماتبقى من مصروفه الشخصي إلى أهله وأخته في بيروت.
التدريس في الجامعة الاميركية ببيروت
عاد علمنا ومعه مؤهله العلمي العالي الى بيروت، (وكانت فرنسا قد اعلنت تطبيق انتدابها على لبنان عام 1923) عاد ليدرس التاريخ في كلية الآداب في جامعة بيروت الأميركية برتبة “استاذ مساعد”، وجاء في مجلة “الكلية” لتلك السنة:”اننا سعيدون بمجيء الاستاذ أسد رستم الذي بامكانه كقيصر في القدم:” اتيت، رأيت، فتحت، اذ ان سنته في جامعة شيكاغو كانت مثمرة في دراسة التاريخ، إذ مُنح جوائز شرف أكاديمية مميزة متوجة باستحقاق بشهادة الدكتوراة”.
وبذلك اصبح عدد الاساتذة في دائرة التاريخ ثلاثة، هم هارولد نيلسون، وفيليب حتي، وأسد رستم، وعلى رواية صديقه فؤاد البستاني الذي قال:”كان اسد رستم اول “دكتور” عُرف بهذا اللقب في لبنان دون ان يكون طبيباً، واصبح مرجعاً للمرضى لأن معظم الناس كانوا لايتصورون الدكتور الا “حكيماً”.
انكب اسد على التحضير لحقبة من التاريخ لم تكن ضمن اختصاصه، وهي الاربعمائة سنة الأخيرة من تاريخ العرب اي عهد الاحتلال العثماني، فجاب سورية ولبنان وفلسطين ومصر وتركيا بحثاً عن وثائق تلك الحقبة، وانكب على حفظ آيات من القرآن الكريم لتحسين لغته العربية، في تلك المرحلة تحول لبنان الكبير الى الجمهورية اللبنانية باقرار المجلس النيابي في 23 ايار1926 الدستور اللبناني…
زواج اسد
جاءت السنة 1927 وكانت ام اسد “الست” تناشد ابنها اسد دوماً الزواج والاهتمام بعائلته عوض الاهتمام بعائلتي اختيه، فطلبت من صديق العائلة الاستاذ بولس الخولي أن يعرفه على “بنت بيت والها طلة”
وكان اسد ينوي الذهاب الى حماه لمقابلة المطران اغناطيوس حريكة مطران حماه للروم الارثوذكس بحثا عن مخطوطات يشتريها للجامعة الاميركية، فاغتنم الاستاذ الخولي المناسبة، ونصحه بأن يزور الدكتور توفيق سلوم الذي كان اباً لابنة جميلة جداً. وكان اسد قد تراسل مع المذكور يطلب منه اغنية كانت قد أُنشدت عن ابراهيم باشا.
وكان الطبيب توفيق سلوم من اوائل خريجي كلية الطب من الجامعة الاميركية في السنة 1869، وكان قد تولى “رئيس مستشفى حماه”، وقد عينته حكومة الملك فيصل رئيساً له وهو الذي اسسه بنفسه عام 1919، ثم تولى “مدير صحة لواء حماه”.
وكان أول بروتستانتي في سورية ينتخب لعضوية مجالس إدارة الولاية عن البروتستانت، وكانت بالتناوب بين الطوائف المسيحية الاصيلة فقط، وكان يستضيف في بيته الاساتذة الاميركان عند زيارتهم المدينة لعدم وجود فنادق لائقة، وكان اسد يود التعرف على ابنته وداد ولكنه حل ضيفا في بيت صديقه وجيه البارودي، وزارا معاً توفيق سلوم في بيته في جناح السلاملك ، ثم زاره ثانية تلبية لدعوة منه (الدكتور توفيق سلوم) على العشاء وحده بسبب خصوصية المجتمع المنغلق في حماه…
وداد كانت من مواليد 11شباط 1909 والتحقت في السنة 1923 بمدرسة الاميركان للبنات في بيروت لمدة سنتين، وكانت جميلة الوجه شديدة الذكاء، فائقة المحبة والكرم، وكانت قد ارتدت النقاب كزميلاتها المسلمات في حماه ومن طبقتين…فأعجب اسد بها وهي اعجبته وباستحسان من الدكتور توفيق والدها.
و في 21 ايلول 1927 تمت خطبة اسد من وداد في بيت ابيها الدكتور توفيق بحماه، وارخ المذكور لابنته قائلاً:
“العُرف أن الأساد تصطاد الورى…………….وفي حمانا عكس هذا ارخوا
وما عهدنا الظبي يصطاد أحد……………… وداد الظبية تصطاد أسد”
وفي يوم عيد الميلاد 25 كانون الاول 1927تم الاكليل في الكنيسة الانجيلية بحماه وبحضور غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع بطريرك الروم الارثوذكس(1906-1928) ( وأكيد كان بمعية البطريرك مطران حماه اغناطيوس حريكة وفق الاصول)، وتم الاكليل حسب طقس الكنيسة الانجيلية المشيخية حيث عقد القس عبد الله مسوح عقد القران انجيلياً على علمنا أسد ووداد ابنة الدكتور توفيق سلوم.
في طريق العودة من حماه الى بيروت وصلا الى حمص حيث استقبلهما الاصدقاء والاقارب بحفاوة واستقلا القطار من هناك الى بيروت.
وفي كل مكان كان للقطار محطة توقف فيها، كان يحظيان بالاصدقاء المرحبين، وعندما وصلا الى بيروت عند منتصف الليل وجدا بانتظارهما على المحطة سلمى ولولو اختا اسد وبعض الأصحاب الذين امطروهما بالزهور. اما عند دخولهما المنزل فقد استُقبلا بالبخور والزغاريد، ووصفت وداد في رسالتها الى ابيها هذا الاستقبال العائلي البهيج وبوجود جمع غفير من الاصدقاء وكلهم كانوا مشدودين بجمالها واولهم امين ابن لولو اخت اسد الذي شده جمال عروس خاله: “وأنه لم يرَقط امرأة بهذا الجمال”.
ذهب العروسان الى القدس حيث أمضيا شهر العسل، وقد تمتعا بزيارة الأماكن المقدسة، وتأثرت وداد كثيراً، وسجدا في كنيسة القيامة وصليا امام القبر المقدس، ثم في بيت لحم بكنيسة المهد وحتى في الحرم القدسي… وعادا الى بيروت وتابعا حياتهما بسعادة ورزقهما الله بخمسة أولاد، أربع بنات وصبي. وكان اول اولادهما عفاف في 15 تشرين الثاني ستة 1929، وتم عمادها في كنيسة الشوير الانجيلية في 20 تموز 1930
وتحسنت اوضاع الدكتور اسد رستم المالية وكان بارا بوالديه وشقيقتيه والعائلة وكان اينما سكن تكون شقيقته سلمى ساكنة بجواره، و كان عادة يأخذ عائلته وابويه وعائلة اخته سلمى الى الشوير للاصطياف، حيث يستأجر بيتاً كبيراً ليستوعب هذا العدد من النزلاء، وكانت العادة أن ينزل أسد مع عائلته الى بيروت في اواخر شهر ايلول. وبقيت هذه العادة حتى السنة 1943 حين التحق الدكتور اسد بالمفوضية الأميركية، اذ لم يعد هناك من وقت لديه للذهاب الى الجبل ووداد لم ترد أن تتركه في المدينة وحده.
بنى علمنا اول فيلا في رأس بيروت وكانت تحوطها حديقة كبيرة في عام 1932 وكان هدفه من هذه الحديقة الجميلة أن يكون لأولاده متنفساً يلعبون به…
لما انتقل الى بيته الجديد وبناء على ماكتبه:”جاء الى البيت بعد القداس بموعد سابق كل من الخوري حناوالخوري ايليا عبد الكريم وابنه الارشمندريت الذي يمثل الكرسي الأنطاكي في موسكو (يقصد الكسي عبد الكريم مطران حمص السابق) والخوري ايليا الخوري والشماس نقولا ايوب لتكريس البيت الجديد. فصلوا على المياه ورشّوا جميع غرف البيت وذكروا أهل البيت فرداً فرداً: أسد ووداد وعفاف ونورا وصلاح ولميا وعصام وجورج دادو” وكان قد اعتنق الارثوذكسية وعمد اولاده ارثوذكسياً.
بواكير انتاجه العلمي
كان لبنان في حالة غليان سياسي، ولكن اسد كان يعد الاساسات لتأريخ تاريخ لبنان، فجمع في العشرينيات الأصول المتعلقة بتاريخ لبنان في عهد محمد على باشا، ثم نشرها في خمسة مجلدات في اوائل الثلاثينيات، ثم حقق ونشر مع زميله الاستاذ فؤاد إفرام البستاني أول كتاب عن تاريخ لبنان بقلم الأمير حيدر الشهابي في ثلاثة اجزاء نال على أثره وسام الارز من الدولة اللبنانية. كما نشرا مخطوطة احمد الخالدي الصفدي عن تاريخ لبنان في عصر فخر الدين المعني الثاني.
وفي السنة 1937 ظهر أول كتاب مدرسي لتاريخ لبنان مستقلاً عن تاريخ سورية بطلب من وزير التربية حبيب ابو شهلا لعلمنا وللبستاني، وهكذا ظهر بعنوان:” تاريخ لبنان الموجز”.
وفي تشرين الاول من السنة 1938 أخذ اسد عطلة دراسية من الفصل الأول للسنة الدراسية،وذهب مع عائلته الى مصر ليتمم عمله في قصر عابدين، ونشر لاحقاً “المحفوظات الملكية في عصر محمد علي باشا” في خمسة مجلدات.
في عام 1938 طلبت الدولة السورية من الدكتور اسد رستم التحقيق في قضية لواء الاسكندرون وشروع تركيا باغتصابه، فأنجز علمنا تحقيقه بكتابة تقرير جغرافي تاريخي يؤكد فيه وقوع لواء الاسكندرون داخل الأراضي السورية، فنال من الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري تقديراً للدور الذي لعبه في هذا الشأن.
في عام 1939 نشر علمنا اول كتاب من نوعه في اللغة العربية عن اصول كتابة التاريخ بعنوان:”مصطلح التاريخ”.
مستشاراً في المفوضية الاميركية
مع مجيء الحرب العالمية الثانية، أوفدت الولايات المتحدة الاميركية “المستر وادزورث” ليمثلها في بعثتها الدبلوماسية في لبنان، وكان قد علم في الجامعة الاميركية اثناء الحرب العالمية الاولى، وتصادق مع علمنا، ولما وصل الى بيروت طلب رستم وتباحث معه في امر التمثيل الدبلوماسي الاميركي الجديد في سورية ولبنان، وابان له حاجته الى خدماته كمستشار يعاونه في العمل فقبل رستم ان يكون هو المستشار الشرقي واتفقا على ذلك سراً.
ومضت الاشهر الأولى من العام 1943فقدم رستم استقالته من منصبه في الجامعة الاميركية، ووافقت وزارة الخارجية الأميركية على تعيين رستم مستشاراً شرقياً لمعتمدية الولايات المتحدة الدبلوماسية في بيروت.
ماانفك رستم يقدم الشكر للمستر وادزورث على عنايته باستقلال لبنان وسورية، وسعيه المتواصل لتحقيقه في تلك الايام العصيبة بين السنة 1943 والسنة 1945، ويشكر الله على انه تعاون مع ممثل الولايات المتحدة في هذه الفترة المعينة ليشترك في العمل المثمر لتحرير بلاده والمحافظة عليها.
مستشاراً في قيادة الجيش اللبناني
وبعد نقل المستر وادزورث الى بغداد، وقد حل محله مالم يكن بكفاءة سلفه، حيث شعر رستم ان عمله في المفوضية الاميركية في بيروت سيصبح بدون فائدة، فاستقال من مركزه في السنة 1951 ليُعّين مستشاراً في قيادة الجيش اللبناني.بناء على طلب قائد الجيش فؤاد شهاب وليؤلف “تاريخ الجيش” ويعطي اذاعة الجندي الاسس القديمة.
مدرساً في الجامعة اللبنانية
كما طلب منه صديقه الاستاذ فؤاد افرام البستاني أن يملأ كرسي التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية، واعطى دروساً في العلوم السياسية في الأكاديمية اللبنانية تلبية لطلب رئيسها الاستاذ الكسي بطرس. ورجع الى كتابة التاريخ، لكنه لم يرجع الى تاريخ العرب بل الى موضوع اختصاصه الأول اي “تاريخ الشرق القديم”، فنشر مؤلفه الضخم في:”تاريخ الروم وحضارتهم وعلاقتهم بالعرب”في جزئين في السنة 1955.
اصابته بذبحة قلبية
في كانون الاول 1956 أُصيب اسد بذبحة قلبية، لازم على اثرها الفر اش في مستشفى الجامعة الاميركية أكثر من شهرين، كان لهما أكبر الأثر في شخصيته. وما أن تعافى حتىأعلن للأهل والأصدقاء أنه سوف يُغني مكتبة كنيسته الارثوذكسية بمؤلفات عربية تكون ذات منفعة للاكليريكي والعلماني معاً. أحب الدكتور اسد كنيسة انطاكية، وقام بواجباته الكنسية على احسن وجه. وهكذا كان، ففي السنة 1958 كان قد أنجز كتابه السفر العظيم: “تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكبة العظمى” في ثلاثة اجزاء فقلده مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس الثالث بطريرك انطاكية وسائر المشرق(1931-1958) في الصرح البطريركي بدمشق، “وسام الكرسي الانطاكي المقدس/ وسام القديسين بطرس وبولس”، كما القى عليه لقب “مؤرخ الكرسي الانطاكي” للخدمات الجلى في حقل الكنيسة.
في اواخر عام 1958 اصيب بذبحة قلبية ثانية بقي بسببها لمدة شهر في مستشفى الجامعة الاميركية، ثم عاد ليزاول عمله كالمعتاد.
في صيف عام 1962 قدم استقالته من وظيفته في قيادة الجيش لبلوغه السن القانونية، وقبل عرضاً من بنك انترا للنظر في الشيكات والتحقيق في اصالتها قبل صرفهابواقع خبرته وتخصصه الذي حصله في باريس.
في 16 ايلول وقع الاتفاقية مع الجامعة اللبنانية لاجل ادارة “مركز الابحاث”.
ابلغ ابنته لميا بروايتها عنه بأن الدكتور ثيرستون استاذ الديانات في الجامعة الاميركية ببيروت، أعلمه ان المال أصبح حاضراً لبدء العمل في معجم لاهوتي، وان نيويورك جعلت اسد عضواً في اللجنة المشرفة وقد نجح على قوله في جعل عدد من الآباء الكاثوليكيين اللاتين يشتركون في اللجنة. ووافق البطريرك ثيوذوسيوس السادس(1958-1969) على ان يكون الدكتور اسد رستم ممثل الكنيسة الارثوذكسية في اللجنة، وكان غبطته قد وصل الى بيروت في زيارة رسمية، وتناول علمنا الغداء معه واشترك وزوجته وداد في سهرة الاستقبال الرسمية حيث قلد رئيس الجمهورية غبطة البطريرك ثيودوسيوس الوشاح الاكبر اللبناني.
في يوم السبت 25 تموز 1964 احتفل اسد باكليل ولده صلاح في كنيسة سيدة البشارة الارثوذكسية في الاشرفية وبارك الاكليل المطران ايليا الصليبي مطران بيروت وايليا كرم متروبوليت جبل لبنان والمطران سرجيوس سمنة ممثل البطريرك ثيوذوسيوس السادس بطريرك انطاكية وسائر المشرق.
في 20 تشرين الثاني 1964 زار الدكتور قسطنطين زريق الدكتور اسد رستم واخبره ان “جمعية أصدقاء الكتاب” قررت منحه ذاك العام جائزة رئيس الجمهورية، اي خمسة آلاف ليرة لبنانية، ومُنحت الجائزة له بحضور أعضاء “جمعية اصدقاء الكتاب” ورئيس الوزراء ووزير التربية يوم الجمعة في 25 من الشهر ذاته.
انتقاله الى الاخدار السماوية
كان علمنا مؤمناً متقبلاً الموت ودائماً متأهباً له ومستخفاً به فيقول للعائلة:” أنا حاضر! شنتتي مضبوبة وحاضرة للسفر، عندما يطلبني الله إني حاضر! فالآن أقدر ان اترككم وبالي مطمئن عليكم. حبوا بعضكم بعضاً. لاتحزنوا علي كباقي الناس الذين لارجاء لهم بالمسيح.صلوا من اجلي.”
وقد اهتم هذا العلامة الانطاكي الكبير بعائلته قبل وفاته وبعدها. فلم يفته شيء لم يأخذ له احتياطاً ليهوَّن عليهم تحمل العبء بعده، فترك بين أوراقه كتاباً قد أعده منذ زمن يبدأه:” زوجتي وابنائي الأعزاء، لاتحزنوا كما يحزن بقية الأمم التي لا ايمان لها. وأحبوا بعضكم بعضاً”…
كما ترك نص “ورقة النعوة” التي يجب ان تُكتب وذَكرَ اسماء من يريد ان يدعوهم عند رحيله:
“عند الوفاة لايصار الى الدفن الا بعد السهر على الجثة ليلة كاملة. يُعلم مطران بيروت ومطران الجبل بالوفاة ويُطلب اليهما إذا كانا يوافقان على اصدار النعوة باسم الكنيسة ثم العائلة لأني مؤرخ الكرسي الانطاكي ويُعلم مطران الروم الكاثوليك ومطران الموارنة والبطريرك في دمشق وبطريرك الروم الكاثوليك وبطريرك الموارنة وذلك ببرقية مُفصَّلة.
“يصير الدفن في الشوير ويُنقش على بلاطة تنزل هكذا… ويُعلم قائد الجيش ورئيس الجامعة اللبنانية حالاً وكذلك الحركة الأرثوذكسية.
جاءت ورقة النعوة بعنوان :”ولكنه يُعطي حبيبه نوماً”
ونعاه فعلاً البطريرك ثيودوسيوس السادس بطريرك انطاكية وسائر المشرق ومتروبوليت بيروت ايليا الصليبي ومتروبوليت جبيل والبترون ايليا كرم. والعائلة كما اراد…
وقائع الوفاة والجنازة
في صباح الاربعاء الواقع في 23 حزيران سنة 1965 واستيقظ كعادته في الرابعة فجراً لينكب على كتابة القاموس خائفاً من مغادرته هذه الدنيا قبل انتهائه منه، وكان قد بقي لإنجازه أربعة احرف وقد ظن انه سوف ينتهي من كتابتها خلال شهر ايلول. وبينما هو يكتب في القاموس، وقد قاربت الساعة السادسة، شعر بثقل في يده اليمنى، فرجع الى فراشه عارفاً بأن شيئاً خطيراً يلّم به. ونادى زوجته وداد، وكانت هذه بداية النهاية وقال لزوجته وداد بكلمات ملؤها الايمان الذي تحلى به وكانت هي تبكي:
“مافي تذمر على الله ياوداد! مافي تذمر ! نشكر الله مثل ما الله بيريد. لا اعتراض على حكمته…اقتربي مني ولاتفارقيني بعد هذه اللحظة. انها بداية النهاية…، وودع حفيده جورج ابن الست سنوات وقد ضمه الى صدره وهو يقول له: “تقبرني ياجدو” وودعه الوداع الاخير وقبله اكثر من عشرين قبلة…وكان الجميع حوله يبكون بصمت وبحرقة.
تم نقله الى مستشفى الجامعة الاميركية فوراً، وكان قد فقد الوعي كلياً ودخل في غيبوبة تاركاً وراءه غرفة فارغة وعلى مكتبه الكتاب المقدس مفتوحاً على انجيل متى الاصحاح التاسع والصفحة التي كان يخط عليها في ذلك الصباح ممتلئة من المعجم اليوناني- العربي.
قال الدكتور صبرا الذي كشف عليه في البيت ونقله الى مستشفى الجامعة الاميركية مستنفراً كل الأطباء، شارحاً الحالة:” نحن نركض جاهدين لانقاذه وهو راكض امامنا”
وشخص الحالة بقوله:” لقد مات نتيجة جلطة في الشريان السباتي الداخلي الى اليسار مما سبب فالجاً نصفياً الى اليمين ثم فقد القدرة على الكلام نتيجة لأذى أصاب الدماغ . ثم الغيبوبة.
انتقل علمنا الى الاخدار السماوية بعد الظهر بعد ان عجز الاطباء عن وقف النزف في دماغه، وكان قد عيَّد عيد ميلاده الثامن والستين في الرابع من ذلك الشهر.
أُودع الجمان في ثلاجة المستشفى حتى الثامنة من صباح يوم الجمعة 25 حزيران 1965 حيث نُقل الى منزله حتى الثالثة بعد الظهر…وصليَّ عليه في كنيسة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية في ساحة النجمة، وكان تشييعه وجنازته مأتماً وطنياً شارك به الآلاف، وقرعت اجراس الكنائس كافة تعلن خبر انتقاله من هذه الارض، فالراحل لم يكن انساناً عادياً كأي انسان يمر بهذه الحياة، بل كان الكل يمجده…(الصحف والمجلات والاذاعة اللبنانية واذاعة لندن والتلفزيون) والكل يعترف بفضله على العلم والانسانية.
اكتست كنيسة القديس جاورجيوس بالسواد حزناً عليه. وشارك في هذا الجناز المهيب اكثر من 25 اكليريكياً تقدمهم ممثل البطريرك ثيودوسيوس السادس ( كان مريضاً بالفالج في سريره بدار البطريركية بدمشق قبل ان يتم نقله الى مستشفى الروم ببيروت حيث بقي فيها الى وفاته عام 1969 وعاد الجثمان الى دمشق ليُدفن في ضريح البطاركة في حرم مريمية الشام) المطران نيفن سابا متروبوليت زحلة اضافة الى مطران بيروت ايليا الصليبي ومطران حماه اغناطيوس حريكة، باسيليوس سماحة مطران بصرى حوران وفوتيوس خوري مطران بغداد والكويت، وبحضور ممثل بطريرك الموارنة، وبطريرك الروم الكاثوليك مكسيموس صايغ، ومطران بيروت للروم الكاثوليك، وقسس طوائف البروتستانت، وممثل رئيس الجمهورية اللبنانية، ومحافظ بيروت فؤاد البستاني، وممثل رئيس الجامعة الاميركية فؤاد صروف، وقائد الجيش اللبناني وعدد كبير جداً من الشخصيات الرسمية والعلمية وطلاب الجامعات.
وقد ابنه ممثل البطريرك ثيودوسيوس مطران زحلة نيفن سابا بكلمة عزاء رائعة استهلها بالقول:” سقط عظيم من لبنان ودوى صدى سقوطه في الجبال والوديان…” وكانت ارتجالية بديعة لم يُسمع برثاء ابلغ وارق مماقاله المطران.
وبعد انتهاء الجناز في كنيسة القديس جاورجيوس ببيروت تم الانتقال الى الشويرمسقط رأسه، وهناك حمله اهل الشوير على الأكف فوق الأعناق مجتازين الشوارع والمنعطفات الى كنيسة السيدة في الشوير واجراس كل الكنائس كانت تقرع بخشوع وصلي عليه في الكنيسة واهل المنطقة بالآلاف يبكونه، وكان كل رجال الاكليروس ينتظرون جثمانه في كنيسة السيدة الارثوذكسية وهي التي كان دوما الدكتور اسد يفتخر بأن جده قام بتبليطها.
وكان البطريرك ثيودوسيوس السادس قد ارسل برقية تعزية رقيقة للعائلة قال فيها:” كان لنبأ الخطب الجلل في انقضاض المنية على مؤرخ كرسينا البطريركي الرسولي المقدس وقع اليم على قلبنا الابوي وعلى الاسرة النبيلة والملة العزيزة عامة التي فقدت فيه خادماً أميناً لها وابناً باراً للكنيسة الأرثوذكسية وعنصراً خيراً للمجتمع الانساني، رحمه الله رحمة عظمى جزاء خدماته العديدة الجُلّى، وجعل العزاء لنا ولكم في ماترك بعده من خالد الأثر وماينتظره لدى ربه من عظيم الثواب والأجر.”
الاوسمة التي حازها
حائز على عدد وافر من الأوسمة وشهادات التقدير منها: وسام الاستحقاق السوري، وسام الاستحقاق اللبناني، وسام المعارف المصري، وسام الاستقلال العربي الاردني من الأمير عبد الله. كما أن مثلث الرحمات البطريرك ألكسندروس الثالث منحه لقب “مؤرخ الكرسي الأنطاكي” وقلّده وسام القديسين بطرس وبولس. كذلك في 27 تشرين الأول من العام 1964، منحت جمعية “أصدقاء الكتاب” أسد رستم جائزة رئيس الجمهورية
كما مُنِحَ عند وفاته وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب.
اهم محطات حياته وابداعاته وشهادات به
في القرن العشرين حققت كتابة التاريخ في لبنان والعالم العربي قفزتها النوعية على يد الدكتور أسد رستم وأخذت بُعدَها العلمي، واحتلت موقعها اللائق على لائحة العلوم الدولية. هذا التحوّل الكبير ترسّخ بداية في فكر أسد رستم وهو لا يزال طالباً جامعياً، ثم أخذ بعده التطبيقي الجدّي مع احتكاك رستم بالواقع العلمي والأكاديمي الذي عايشته الأنتلجنسيا الأوروبية والأميركية في الربع الأول من القرن العشرين.
وكانت فرنسا محطّة محورية في علاقة الدكتور أسد رستم بعلم التاريخ. فيها ولد رستم في عراقة التاريخ علمياً فصار هو الباحث الأول والمجدد ومؤسس المدرسة الحديثة للتأريخ في لبنان الذي أدخل المنهجية والأسلوب العلمي إلى البحث التاريخي وفق الشروط التي يعتمدها الغرب في زمنه.
لمزيد من امتلاك المادة بدأ الدكتور أسد رستم وكان يدرس في الجامعة الاميركية ببيروت يتلقى شخصياً دروساً يومية في القرآن الكريم، يحفظ آياته، إيمانًا منه بأنّه الركن الرئيس في فهم تاريخ العرب وتفهّمه.
وقد زاد تعمقه في القرآن وتاريخ الإسلام في فهم روحية الحضارة الإسلامية والتقرب من إخوته في المواطنية المسلمين اللبنانيين. وهو القائل “لو كنت حاكماً بأمري لأوجبت درس القرآن وحفظه على كل طالب لبناني مسيحي ودرس الإنجيل وتفهم معانيه على كل طالب مسلم”.
لم تمنعه مهنة التعليم من متابعة أبحاثه العلمية والتاريخية. فاختار النهضة العربية الحديثة موضوعاً تبحّر به، منكباً على دراسة حقبة محمد علي باشا، وهي الحقبة التنويرية في مصر والشام من خلال الحملة المصرية على بلاد الشام 1831-1840. لذلك ومع حلول صيف 1926 انطلق علمنا أسد رستم ميدانياً في سلسلة زيارات شملت سورية وفلسطين إضافة إلى لبنان، باحثاً عن آثار عهد الحكومة المصرية في تلك الدول. أسفرت جولاته عن ولادة المجلد الأول من مجموعة “الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا”.
عام 1929 نشر رستم المجلّد الأول من مجموعة “الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا” ثم وفي أوقات لاحقة أبصرت المجلدات الثاني والثالث والرابع والخامس من المجوعة المذكورة النور.
كان علمنا يهدف من خلال أبحاثه للوصول إلى الحقائق التاريخية وإعلانها للجمهور بأسلوب علمي، سهل وبليغ في آن واحد.
احتل رستم مكانة مرموقة وفريدة في تطوير كتابة التاريخ العصرية في الدول العربية استنادًا إلى الأساليب العلمية الحديثة المتبعة في الغرب.
تقول ابنته الدكتورة لميا رستم شحادة: “أما النقطة الأولى التي تحدث عنها والتي تبدو لنا الآن واضحة بعد انقضاء نصف قرن، كانت في حينها نقطة افتراق بينه وبين المؤرخين المحليين السابقين، وهي أن الدراسة التاريخية يجب أن تستند على أكمل سلسلة ممكنة من المصادر الأولية، وهذه المصادر يجب أن تستعمل بمطلق الموضوعية والجدية.”
“إن عمله الفردي يضاهي عمل المؤسسات أمثال الجمعية الجغرافية الملكية في مصر، والجمعية التاريخية التركية”. (كما يلاحظ الدكتور ألبرت حوراني).
عام 1930 وصل رستم إلى القاهرة، والتقى بالخديوي فؤاد الأول الذي منحه وسام المعارف المصري في 30 حزيران 1935 ووضع في تصرّفه عددًا من المترجمين من اللغة التركية إلى العربية، إضافة إلى عدد من الكتبة. وانطلق أسد رستم بجولة جديدة من الأبحاث أسفرت عن ظهور مجموعته الثانية وهي “المحفوظات الملكية المصرية” في خمسة مجلدات.
تعلّق الدكتورة لميا رستم شحادة على هذا النشاط قائلة: “لعل الدكتور رستم في هذه المؤلفات هو أول من حاول أن يجعل من الوثائق أساساً لكتابة تاريخ لبنان وقد كاد التاريخ اللبناني قبل الدكتور رستم أن يكون سرداً تقليدياً ورواية من الخَلَف عن السَّلَف لا غير. وأتقن أسد رستم اللغة العربية فكان رائداً في الأسلوب العلمي السلس السهل القراءة والفهم”.
في لبنان، أسس أسد رستم غرفة المخطوطات في الجامعة الأميركية بعد أن أصبح خبيراً محلفاً لدى المحاكم في شؤون المخطوطات والوثائق والخطوط يعتمد عليه في كشف التزوير في الخطوط والأختام والتواقيع.
عثر أسد رستم على “مخطوطة الأمير حيدر” محفوظة في قسميها في المكتبة الشرقية لجامعة القديس يوسف ومكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. فتعاون مع الدكتور فؤاد افرام البستاني على دراستها ونشرها عام 1933 في ثلاثة مجلدات.
كانت هذه التجربة، أولى خطوات التعاون بين الجامعتين اللتين أنهتا بها سبعين سنة من المنافسة العلمية والثقافية. وفيها أيضاً باكورة دعم الحكومة اللبنانية لنشر الأصول العربية لتاريخ لبنان في العصور الحديثة.
تقديراً لهذا العمل الرائد، نال أسد رستم وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثانية في 18 حزيران 1934.
أكمل رستم تعاونه مع البستاني، فتمكنا من إخراج ونشر وثيقة ثانية من تاريخ لبنان هي “تاريخ الأمير فخر الدين الثاني” للشيخ أحمد بن محمد الخالدي الصفدي وذلك في سنة 1936.
فما كان من وزير التربية حبيب أبو شهلا إلا الطلب منهما وضع تاريخ موجز عن لبنان يمكن اعتماده في المدارس الرسمية الابتدائية. فأنجز رستم والبستاني العمل خلال سنة واحدة وصدر “تاريخ لبنان الموجز” سنة 1937 مؤلفًا من ثمانية وعشرين فصلاً.
في عام 1939 نشر رستم كتابه “مصطلح التاريخ” هو الأول من نوعه في المكتبة العربية على الإطلاق، وهو بحث في نقد الأصول وتحرّي الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفي ما يقابل ذلك في علم الحديث.
عن أهمية هذه المحطة في مسيرة التاريخ العربي يقول الدكتور الياس قطّار
“مع النهضة الأدبية في المشرق العربي، بدأ الاتصال بالغرب والتعرّف إلى إنتاجه على صعيد المؤلفات التاريخية بما تطرحه من مضمون جديد واسع وما تعتمده من منهجية. وانتقل قسم من أهل المشرق إلى الجامعات الغربية للدراسة، مقتبسين علومها ومنهجيتها. وكان من بين هؤلاء أسد رستم، الذي أثاره تخلّف الكتابات التاريخية الشرقية مضموناً ومنهجاً. فبدأ يدرّس طلابه في الجامعة الأميركية في بيروت في كتاب لانغلوا وسنيوبوس . ووجد رستم، في أثناء التدريس، أن ذلك لا يفي بالغرض. فسعى إلى ردم الهوّة عبر وضع مؤلّف في اللغة العربية يعلّم المنهجية، فكان كتابه “مصطلح التاريخ” (1939) الذي يأخذ في شكل واضح عن كتاب لانغلوا وسنيوبوس.
“ولكي تكتمل الصورة المنهجية، عمل رستم على إزواج النظرية بالتطبيق. فقدّم إلى جانب النظرية أمثلة تطبيقية من واقع تجربته التأريخية الشخصية. كما أقدم على محاولة ربط هذا العلم، الميتودولوجيا، بعلم الحديث عند المسلمين مقتبساً منه العديد من مصطلحاته وبعض وسائل نقده الرواية والراوي.
“بعد نصف قرن على صدور طلائع كتب المنهجية في الغرب، كان كتاب أسد رستم يشق طريقه إلى النور…
“جاءت كتاباته علمية منهجية رائدة سواء في كتب الوثائق الشامية أو المصرية التي نشرها أم في المخطوطات التي حقّقها أم في الكتب التي ألّفها. وهذا الربط بين النهج الذي كتب عنه في “مصطلح التاريخ”، ومؤلفاته ونشره الوثائق نشراً علمياً أثار إعجاب المؤرّخ البريطاني تمبرلي في كتابه “إنكلترا والشرق الأدنى” وألبرت حوراني الذي قال إن لأسد رستم مكانة فريدة في تطوير كتابة التاريخ العصرية في الدول العربية، وله منهجية أقرب إلى منهجية عصر حوراني منها إلى عصر رستم. لقد كان إصدار “مصطلح التاريخ” ثورة بيضاء وحدًا فاصلاً في اللغة العربية لصناعة التاريخ ولكل منهجية في العلوم الإنسانية تتمنى أن ترتقي مصاف البحث العلمي الصارم والدقيق.
“والحق أن أسباب رستم لإصدار هذا الكتاب كانت عدّة أبرزها
رغبة الكاتب في تلافي الفراغ القائم في اللغة العربية في علم الميتودولوجيا.
التخلّف الحاصل في الدراسات التاريخية.
النهضة التي تجمع التراث إلى الانفتاح على التطور في الحضارات الأخرى.
تجاوز الافتخار الباطل بأمجاد السلف والتوقف عندها.
تحرير التأريخ من الميل الأدبي القصصي الاخباري الروائي المسطّح..
ضعف المؤرخين العرب في ميادين النقد الداخلي السلبي الذي يكشف مآرب المؤلفين وأهواءهم وميولهم والتزامهم السياسي والديني والمذهبي والمناطقي والعشائري وغيره.
“في مصطلح التاريخ”، كما في مجمل كتبه، يطل أسد رستم علينا وقد امتلأ بنعمة العلم والمنطق والمنهج، ممهداً الطريق أمام الباحثين في طريقه المعالجة وفي اللغة التي اختارها لعرض معلوماته: لغة بعيدة كل البعد عن التورية والتصنّع والتقيّة، لغة دقيقة، واضحة، متسلسلة، هادفة، بليغة من دون ثرثرة وإطناب وهلوسة ورمزية. عن هذه اللغة يكتب جبرائيل جبّور: “إن أسد رستم مؤرخ قبل أن يكون أديباً. إنه في منهجه وفي بحوثه التاريخية وفي تدريسه أبعد ما يكون عن الفن والصناعة والأسلوب الأدبي الفني. كان يحول بين الطلبة وبين الجنوح إلى الفن الأدبي في الكتابة التاريخية، ويكره الصناعة الإنشائية والتزويق والاستعانة بالخيال وأساليب البيان العربي المألوفة في العشرينات من هذا القرن”.
عن كتاب”مصطلح التاريخ” وهو الأول من نوعه في آداب اللغة العربية، تقول ابنته الدكتور لميا رستم شحاده
“جاء كتابه هذا سبقاً في محاولته ربط هذا العلم الجديد بالعلوم العربية القديمة وخاصة بما كان لرجال الحديث من ابتكار في نقد الأحاديث. فما تطرق المؤلف إلى مرحلة من بحث تاريخي أو ناحية من نواحيه إلا وقارنها بما قام به علماء الأحاديث مستعيناً بمصطلحاتهم وأساليبهم في التحقيق والتعبير منوهاً دائماً بفضلهم وسبقهم وهذا أمر قلّ ما انتبه المؤرخون الأجانب أو ورثة هذا العلم. ولم يكتف رستم بكتابة المصطلح والتزامه هذا الأسلوب فيما كتب وألّف بل غرس هذا الأسلوب العلمي في نفوس تعاليمه”.
منذ الثلاثينيات وشهرة أسد رستم تتخطى الحدود اللبنانية وتفرض حضورها في مختلف أنحاء العالم العربي. وإذا به يتحول إلى محجّة يستشار بعلمه وخبرته ومعرفته لإيجاد حلول لمختلف المسائل ذات البعد التاريخي والتي كانت تطرح في تلك المرحلة الدقيقة التي بدأ يدخلها الشرق الأوسط.
في الثلاثينيات طلب منه إبداء الرأي في قضية البراق الشريف. كما اعتمدت على معرفته الحكومة السورية لتدافع عن حقوقها التاريخية في لواء الإسكندرون وقد رفعت وثيقة بتوقيعه إلى عصبة الأمم في جنيف ومنحته وسام الاستحقاق السوري في 20 حزيران 1937 كما منحه الأمير عبد الله وسام الاستحقاق العربي في تلك الفترة نفسها.
استدعته قيادة الجيش اللبناني لتعيّنه مستشاراً بعد ان ساعد منذ الأربعينيات في تجهيز المتحف العسكري.
وقد كتب تاريخاً للجيش اللبناني لا يزال مخطوطًاً ووضع معجماً للألفاظ العسكرية. هو أول المدرسين في الجامعة اللبنانية ومن رواد معلمي العلوم السياسية والتاريخ في الأكاديمية اللبنانية. له الفضل في تأسيس إذاعة الجندي كما أنه ساهم مساهمة كبيرة في تحرير “مجلة الجندي اللبناني”.
يقول منير اسماعيل
“اتسم خط أسد رستم، المؤرّخ الملتزم، بخصائص يمكن إيجازها في ما يأتي: حافظ رستم في مؤلفاته على مستوى أكاديمي يوازي في قيمته ما يصطلح المنهجيون المعاصرون على الإشارة إليه بكلمة ouvrage، نائياً بها عن مستوى الكرّاسات والأبحاث المبعثرة التي تُجمع من هنا وهناك. هكذا ظلّ رستم في المستوى اللائق، فكان المؤرّخ “المحترف”، إذا صحّ التعبير، لا عابر سبيل، وذلك بعيدًا عن التباهي والادّعاء.
كان أسد رستم غنيّ الإنتاج بالمفهوم الأكاديمي، رغم أنّه لم يكن يؤلّف في كل موضوع. ولكنّه وضع لنفسه منهجاً التزم به في جميع مؤلفاته، وذلك من دون الخروج عن قناعاته في ما يقول ويكتب وبما يُسر ويعلن.
“إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها” شعار أطلقه أسد رستم وعُرف به. فكان له السبق والريادة في إرساء منهج البحث التأريخي الذي نهل منه جيل من الباحثين في لبنان والبلاد العربية. وقد علّل رستم ذلك بقوله “هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلّفتها عقول الآخرين”. فكان أوّل من حاول الاعتماد على الأصول في كتابة أي مرحلة تاريخية”.
في أواسط الخمسينيات عاد رستم ليكرّس وقته لكتابة التاريخ باحثاً في تاريخ الشرق القديم متعمّقاً بتاريخ الروم فنشر كتاب “الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم واختلاطهم بالعرب” في جزءين في سنة 1955.
عام 1956 أصيب أسد رستم بأول ذبحة قلبية فلازم الفراش. حادثة كان لها أثر كبير في توجيه فكره. وإذا به ينطلق في وضع مجموعة مؤلفات عربية تتناول الكنيسة الشرقية للروم الأرثوذكس. فأنجز عام 1958 “تاريخ كنيسة مدينة أنطاكية العظمى” في ثلاثة أجزاء، وقلّده البطريرك ألكسندروس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق وسام القديسين بطرس وبولس في دمشق ومنحه لقب مؤرخ الكرسي الأنطاكي.
يمكن اعتبار كتاب “كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” من أكمل ما كتب عن هذا الموضوع من جهة الاتساع والترتيب والشمولية والموضوعية. إشارة إلى أنّ رستم عاش الكثير من الأحداث التي أرّخ لها مختبراً الشخصيات الكنسية التي تكلّم عليها. كما أنّه تلمّس الصراع المحموم بين المرسلين الكاثوليك والبروتستانت على أرض لبنان، والهزّات العنيفة الداخلية التي عصفت بالكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية في القرن العشرين.
كذلك كتب لمجلّة “المسرّة” و”النور” ووضع ثلاثة كتب الأول بعنوان “وبكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية” (مجموعة مقالات عن الكنيسة) والثاني “نحن ورومة والفاتيكان” والثالث “آباء الكنيسة” تعتبر كلها من أبرز الأطروحات في الحوار المسكوني والدعوة إلى الوحدة الكنسية والتلاقي بين مختلف الكنائس محلياً وعالمياً بعيدًا عن المساومة على الإيمان وأسس العقيدة.
عام 1963 كان الدكتور رستم أحد الأعضاء البارزين في لجنة كتب اللاهوت الدراسية التابعة للكنائس في الشرق الأدنى. وفي 27 تشرين الأول 1964 منحت “جمعية أصدقاء الكتاب” أسد رستم جائزة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية لعام 1964 عن مجموعة آثاره.
عندما مات علمنا ترك وراءه مخطوطة لمعجم ألفاظ العهد الجديد من اليونانية إلى العربية. اعتبره “دون ماكنيل” في “جريدة الحياة” عام 1965 “باكورة العمل المسكوني والوحدة العملية في الشرق. فهو مساهمة عظيمة من أسد رستم في سبيل وحدة الكنيسة”.
وكان في المرحلة الأخيرة من حياته قد سعى إلى وضع معجم من اليونانية إلى العربية بالتنسيق مع لجنة من المتخصصين تمثّل مختلف الكنائس المسيحية مدعومة من صندوق تعليم اللاهوت ومجلس الكنائس العالمي. لم ينه رستم مهمته هذه بسبب وفاته المبكرة، فقد تبقّى أربعة أحرف لإتمامه كما مر.
اعماله
الخاتمة
العلماءُ أنوار لاتبهت، وأعلام تظل ترفرف الى آخر الدهر يهتدي بها الضال ويسترشد التائه، فيحق لهم على الناس التقدير والاحترام في حياتهم، والذكرى الحميدة بعد رحيلهم، لاسيما من كان منهم جامعاً بين العلم والفضيلة والتقوى.
علمنا الدكتورأسد رستم جامع لهذه الخصال، لما رحل ترك وراءه إرثاً فكرياً غزيراً وعدداً كبيراً من الطلاب والطالبات والأصدقاء والزملاء، رحل تاركاً وراءه “أسس البحث العلمي” للتاريخ و”التفكير النقدي” السليم.
رحل وهو يطارد الحقيقة من كل حدب وصوب، وهو صاحب الكلمة الحرة والعقل النير.
رحل وترك كنيسة انطاكية المعذبة ابداً والباقية ابداً على الرجاء تبكيه للفراغ العظيم الذي تركه.
هو الذي نادى بأهمية “الأصول لدراسة التاريخ” وهو القائل :”اذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها”. وهو كان أول من جمعها ونشرها، لذلك قال فيه الدكتور فؤاد البستاني رئيس الجامعة اللبنانية:” لقد قام بمفرده بأعمال تنوء بها اللجان” كما قال فيه المؤرخ البرت حوراني” ان ماقام به اسد رستم بمفرده ناءت به المؤسسات”
اسد رستم كان داعياً الى وحدة الكنيسة والمجاهد في سبيلها عبر مؤلفاته الكنسية الرائدة والحوار مع جميع الكنائس، وحثهم على الاتحاد، وكانت جنازته تجسيداً لتلك الوحدة وتقديراً لانجازاته الجمة، فقد قال فيه مثلث الرحمات البطريرك ثيودوسيوس السادس:”لقد نهض بماعجز عنه اساقفة الكنيسة خلال العصور”.
اسد رستم رجل يختصر فترة من الزمن كانت حافلة بمتغيرات سياسية وولائية وانتداباتكان رجلاً اختصر عدة رجال هو الساع ابداً في تأريخه وراء الحقيقة المجردة وهي صفات المؤرخ النزيه…
رحمة الله عليك يااستاذنا واستاذ الكل…
مصادر البحث
1)الدكتورة لميا رستم شحادة، اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي مسيرة عمر/ منشورات بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس 2014.
2) ” مساهمة المؤرخين الأرثوذكس في التأريخ” جامعة البلمند، معهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى 2007
3) مسعود ضاهر وآخرون مؤرخون أعلام من لبنان – دار النضال بيروت 1997
4) يوسف اسعد داغر: مصادر الدراسة الأدبية – منشورات الجامعة اللبنانية 1972
5) اسد رستم: مصطلح التاريخ – المكتبة البولسية بيروت 1984
6) ” من ذكرى المؤرخ الى تشكيل الذاكرة” البلمند 16 ايار 2003 اعمال الحلقة الدراسية حول اسد رستم منشورات جامعة البلمند عام 2004.
7) كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى.