المكان الذي قضى السيد المسيح ليلته محبوساً قبل أن يقدم للمحاكمة امام مجمع السنهدريم ( مجمع اليهود العالمي في اورشليم وعدد أعضائه 71 عضواً كان منهم يوسف ونيقوديموس) . حيث أجلس على منضدة صخرية بها ثقبان انزلت بهما رجلاه المقدستان وريطت من اسفل في السلاسل .
ربما قد تكون هذه الصوره غير مألوفه لدى الكثير …
هي مأخوذه من دير في القدس اسمه دير (حبس المسيح) …وموجودة في مغاره في القبو.
وهذا الدير تابع للبطريركيةالارمنية الارثوذكسية في القدس…
حبس السيد المسيح
هذه العذابات والاهانات هي جزء مما عاناه السيد المسيح الفادي له المجد من أجلنا نحن الخطاة…
نتأمل فيها هذه الايام ايام درب الآلام والصلب ومن ثم جناز السيد ثم دفنه وقيامته
ونقبل قدميه بالدموع طالبين مغفره خطايانا.
ارحمنى يا رب… نشكرك لأنك اريتنا نورك المقدس… قم ياللله واحكم في الارض لأنك ترث جميع الأمم…
يا ايها الشعب المسيحي ابتهجْ ……….. بقيامة الفادي فذا العيد البهجْ
وبسيرةٍ تُرضي قداستهُ ابتهجْ ………….. فالسيرة الحسناء ذات فم لهجْ
قام المسيح من الكرى منصورا
قد قام من ذاك الرقاد مقيما …………… من ليس يرضى أن يكون أثيما
فاعكف على العمل الكريم كريما ………. فجميل ذكرك يُحسن الترنيما
نهض المسيح من الكرى منصورا
عيِّد بتقوى الله والصدقاتِ …………….. وبطهر نياتٍ وبرِّ صفاتِ
فبذاك تنشد أشرف الآياتِ …………….. قد قام فادينا من الأمواتِ
قد قام من سنةالكرى منصورا
قد قام من سنة الكرى وحبانا ………… عما اقترغنا الصفح والغفرانا
ولباس بر كالضياء كسانا ……………… فلأجل هذا ننشد الألحانا
نهض المسيح من الكرى منصورا
العيد عيد الفصح أشرف موسمِ ………. بمديحه يغدو الفصيح كأبكمِ
فيهِ محبُّ الله بين معظَّمِ …………….. سرَّ الفدى السامي وبين مرنمِ
قام المسيح من الكرى منصورا
ذاك المسيحيُّ الذي لا يحجمٌ………… عن صنعهِ الاحسان مايتنسمُ
صحب السكوت وفضله يتكلمُ …………. وبروضة المسعى الحميد يرنمُ
نهض المسيح من الكرى منصورا
كالحبر رافائيل من أفعاله ……………… قد ماثلتها جودة ً أقواله
وكذاك فاحت بالعفاف خلالهُ………….. فروت لمجد الله جل جلاله
فام المسيح من الكرى منصورا
أسعِد بهِ والطهر في ابرادهِ ………….وضمائر الأنام طوع قيادهِ
فيذيع شرع الله بين عبادهِ ………….. يتلو وخوف الله ملءُ فؤادهِ
(أمين ظاهر خير الله)
امين ظاهر خير الله ووالده ظاهر خير الله من الشوير اقام ظاهر في البطريركية/ دمشق اول عهد البطريرك ملاتيوس الدوماني الدمشقي عام 1998 كاتباً للبطريركية وكان من ادباء عصره، وتزوج بسيدة من كرام العائلات الدمشقية وبقي حتى وفاته في عهد البطريرك غريغوريوس في خدة البطريركية
خلفه ولده امين ظاهر خير الله في خدمة البطريرك غريغوريوس وبضع سنوات من الخدمة لخلفه البطريرك الكسندروس طحان وعلى مايبدو فان الاب والابن كانا يجيدان الترتيل ويرتلان في الكاتدرائية المريمية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي وقد انتقل كاتب هذه القصيدة حوالي العام 1935 بعدما ترك كابيه الذكرى العطرة وعشرات المقالات في مجلة النعمة البطريركية في دورها الأول 1909-1914 اضافة الى الكثير من الارث الروحي الموجود في الوثائق البطريركية. ومنها هذه القصيدة الرائعة.
الكلمة الأول: ” يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون( لوقا 23: 34).
الكلمة الثانية:”الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس”( لوقا 23: 43).
الكلمة الثالثة: قال لأمه: ” يا امرأة، هوذا ابنك”ثم قال للتلميذ: ” هوذا أمك”( يوحنا 19- 26و 27).
الكلمة الرابعة: ” إلهي إلهي، لماذا تركتني؟”( متى 27: 46).
الكلمة الخامسة: ” أنا عطشان”(يوحنا 19: 28).
الكلمة السادسة: ” قد أُكمِل”( يوحنا 19: 30).
الكلمة السابعة: ” يا أبتاه، في يديك أستودع روحي”( لوقا 23: 46).
الكلمة الأولى: “يا أبتاه أغفر لهم” (لوقا 23: 34)
لم يطلب الرب أثني عشر جيشاً من الملائكة لينقذوه، بل بالحري صلى لأجل صالبيه: رؤساء الكهنة والحكام والجنود الرومان والغوغاء الذين طالبوا بصلبه. كان يمكنه أن يهلك هؤلاء جميعاً، ولكنه دخل إلى أعماق كيانه، حيث شعر انه جاء خصيصاً لخلاص العالم كله، فقال: “يا أبتاه أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23). لم يستجب معظمهم لحبه هذا، ولكن الأهم هو أنه قابل شرهم بخيره العميم. جسد المسيح المكسور ودمه المسفوك أظهرا لنا ما تفعله خطايانا، إذ تدق المسامير في جسده. وهذا هو الذي يهز مشاعرنا ويجعلنا نصرخ مثل العشار: “اللهم ارحمني أنا الخاطئ”(لو13:18)، وحينئذ يحطم الله الحجاب الحاجز بيننا وبينه ويؤكد لنا أن خطايانا لا يمكنها ؟أن تمنع حبه لنا أو تحرمنا منه !
قال احدهم
مثل أشجار عطرية ينبعث منها أريج الروائح العطرية، سكب القلب العظيم من أعماقه على خشبة الحب صلاة مملوءة حلاوة ومغفرة للأعداء غير مسبوقة: ” يا أبتاه، اغفر لهم”. في تلك اللحظة، عندما تنقلب شجرة ضد خالقها وتصبح صليباً له، عندما ينقلب الحديد ضده ويصير مسامير، عندما تنقلب الزهور وتصير إكليلاً من الشوك، عندما ينقلب البشر ضده ويصيرون جلاّدين، يسمح الرب لصلاة من اجل أعدائه أن تنقطر من شفتيه لأول مرة في تاريخ العالم، ” لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
ما الذي يخرج عندما تعصر ليمونة ؟ قطعاً، ما بداخلها. ونحن عندما نعصر، عندما تضغطنا كبشر تقلبات الحياة وتصدمنا الضيقات والتجارب بشدة، فإن ما بداخلنا هو الذي يخرج، سواء كان غضباً أو حقدا! أو مرارة أو حباً أو شكراً أو رأفة أو مغفرة. فعندما عصر مسيحنا بشدة على الصليب خرج ما بداخله: حب الله الغافر حتى للأشرار في هذه الصلاة الواحدة حصلنا على إنجيل حب الله الكلي لنا، وفيها تزودنا بكل حب الله الأب والابن والروح القدس !
صلب الرب يسوع
يقول القديس أفرام السرياني
تشفع الرب لأجل صالبيه لكي نعرف أنة غضب الغيظ لم يسد عليه. عذاب صالبيه كان لابد آت، ولكنه أظهر التمييز وليس الغيظ.
أعظم من أية… معجزة
صاحت الحشود من حوله: أنقذ نفسك، أظهر لنا معجزة من السماء، أنزل من على الصليب لنؤمن بك. فأعطاهم معجزة غير متوقعة هي مغفرته لهم ولجميع أعدائه. أليس هذا الغفران عسلاً إلهياً أعظم من أية معجزة وأقوى من أية علامة من السماء ؟! لقد أظهرت طلبة المغفرة تلك أن مسيحنا يختلف عنا تماماً وعن أي إنسان عاش على الأرض. عندما فوجئ احد المحكومين عليهم بالإعدام بهذه الكلمات في الإنجيل، قال انه رأى المعنى الكلي للمسيحية في ومضة واعترف بأنه: ” قد اخترقت هذه الآية قلبي إلى الأعماق”. وهكذا تغيرت حياته إلى الأبد.
تصور احد مشاهير الوعاظ أن الرب يسوع عندما ظهر لبطرس الرسول بعد قيامته قال له: “ابحث عن الذي بصق في وجهي واخبره أنني غفرت له. وابحث عن الذي وضع إكليل الشوك البشع على رأسي واخبره انه إذا قبل خلاصي له، فله عندي إكليل في ملكوتي ليس فيه شوكة واحدة. وابحث عن الذي أخذ القصبة من يدي وضربني بها على رأسي(متى30:27)، حيث عمّق الشوك داخل جبيني، واخبره أنه إذا قبل عطية الخلاص سأعطيه قضيب الملك. وابحث عن الجندي المسكين الذي طعنني بالحربة وأخبره انه يوجد طريق أقرب من ذلك إلى قلبي”!
“يا ابناه، اغفر لهم”، فإن كان قلبه رحمة للذين سمّروه، إذن تكون عنده رحمة لنا نحن أيضا. فإذا اعترفنا أن خطايانا كانت هي المسامير التي اخترقت يديه ورجليه، حينئذ تكون طلبته للمغفرة هي لنا نحن أيضا. نعم، لقد طلب ذلك لأجلي ولأجلك. فالغفران الذي نطق به على الصليب يعني أنه يوجد رجاء حقيقي لكل منا مهما كانت خطاياه. وكون اللص اليمين المحكوم عليه بالإعدام هو أول من دخل الفردوس إنما هي حقيقة تقف كمنارة رجاء لنا جميعاً.
ولكن هل كانوا فعلاً ” لا يعلمون ماذا يفعلون ” ؟ إنهم على قدر عظم خطيتهم، إلا انه لم تكن لديهم فكرة أنهم كانوا فعلاً يصلبون أبن الله ذاته. وهذا ما ذكره الرسول بولس: “لان لو عرفوا لما صلبوا رب المجد”(1كور8:2). لقد امتدت عطية المغفرة هذه من الرب إلى جميع صالبيه، ولكنها قبلت وخصصت للذين تابوا واعترفوا بخطاياهم يوم الخمسين. وأي موسم أفضل من الصوم الكبير لكي نفحص ضمائرنا ونتوب فيه ونحصل على هذه المغفرة التي وهبها لنا فادينا في غصّة آلامه ؟!
إنني أرى الصليب حباً مصلوباً من خطيتي ولأجل خطيتي، حباً مستعداً أن يقف معي ويقودني إلى حياة جديدة، حباً نزل من السماء وفعل كل شيء بما في ذلك الموت على الصليب لكي يرفعني إلى السماء ! ولعل أصعب وصية قالها الرب هي: “أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”(مت44:5). وعلى الصليب تمم هذه الوصية ذاك الذي وضع لنا هذا المستوى العالي. ويقول القديس إيرينيوس بهذا الصدد:
{ هتف المسيح بقوة على الصليب طالباً المغفرة لصالبيه، فتجلت طول أناته وصبره ورأفته وصلاحه حيث إنه وهو يتألم صفح عن الذين أساءوا معاملته. لان ذاك الذي قال لنا: “أحبوا أعدائكم…”، تمم هو بنفسه ذلك على الصليب، إذ أحب الجنس البشري لدرجة انه صلى حتى لأجل الذين صلبوه.}
وإن كان ليس من طبيعة الإنسان أن يغفر لأعدائه ويحسن إلى مضطهديه، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا بعمل نعمة المسيح في قلبه ! فالمسيح الذي صلى لأجل أعدائه على الصليب يخلق نفس روح الحب والمغفرة في الذين يتبعونه بكل قلوبهم. وهذا ما حدث مع الشهيد اسطفانوس عندما كانوا يرجمونه حتى الموت، فقد طلب من الرب ألا يحسب لراجميه هذه الخطية ! وهكذا عندما يسكن المسيح والروح القدس بقوة في قلب الإنسان، حينئذ يصير حبه لأعدائه ومغفرته لهم خبرة حقيقية له!
ولذلك يقول الشهيد إغناطيوس الأنطاكي
“لا تطلبوا أن تنتقموا لأنفسكم من الذين يؤذونكم، بل فلنجعل منهم إخوة بلطفنا حتى يتمجد اسم الرب. ولنتشبه بالرب “الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً”. وعندما صلب لم يحتج، “وإذ تألم لم يكن يهدد”(1بط23:2)، بل صلى لأجل أعدائه”.
القديس يوحنا الذهبي الفم يقول
لا تحقد على من يخطئ إليك، هذا الذي يسبب لك الصالحات وكرامة عظيمة. لا تلعن الذي يعاملك بازدراء، لأنك بذلك تجتاز المشقة ولكنك تحرم من الثمرة، تصيبك الخسارة ولكنك تفقد المكافأة. ولكنك قد تقول: كيف يمكن ذلك ؟ لقد رأيت الله يصير إنساناً وينزل ويتألم بهذا المقدار لأجلك، ولا زلت تتساءل وتشك في كيفية غفرانك للعبيد رفقائك إهانتهم لك ؟ ألم تسمعه على الصليب وهو يطلب الصفح عن صالبيه؟ أم تسمع الرسول بولس يقول: “المسيح…الذي هو عن يمين الله يشفع فينا”(رو 8: 34)؟ ألم تر أنه حتى بعد أن صعد أرسل رسله إلى اليهود الذين قتلوه لكي يمنحهم ربوات من البركات، رغم أن الرسل كانوا سيقاسون ربوات العذابات على أيديهم ؟ ولكن ماذا تكون آلامك بالنسبة لآلام الرب ؟!…
في عام 1931م، عندما حكم الشيوعيون أسبانيا حيث حرقوا الكنائس والمستشفيات والأديرة، قبضوا على كاهن اسباني عمره 86 عاماً، واقتادوه إلى نار مشتعلة وهو مقيد اليدين. أما الكاهن فقد طلب منهم أن يمنحوه طلبه الأخير، وهو أن يفكوا رباط يديه لكي يتمكن من أن يباركهم قبل موته. فظن أحد حراسه انه مجنون، فقطع بفأس يدي ذلك الكاهن مع قيوده، فرفع الكاهن الشيخ ذراعيه المقطوعتي اليدين بآلامهما المبرحة ودمهما النازف على رؤوس جلاديه، ورسم عليهم بالبركة قائلاً: “إنني أغفر لكم. وهذه هي رغبتي الأخيرة: أن يغفر لكم الله أيضاً ويبارككم” !
الكلمة الثانية: “الحق أقول لك:اليوم ستكون معي في الفردوس” (لوقا 23: 43)
أنكر الرسول بطرس سيده علانية، واللص اليمين التائب اعترف به علانية صارخاً: “أذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك”. فكانت استجابة الرب يسوع فورية، إذ قال له: “الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس”(لو42:23 و43). هكذا خلص اللص المغفور له، وكان هو أول من يدخل الفردوس. ولكنه ظل لصاً لأنه سرق الملكوت بنعمة الله بواسطة التوبة ! ويتأمل أحد الروحانيين في ذلك بقول:”اليوم”، أية استجابة فورية هذه ! “تكون معي”. أية رفقة هذه ! “في الفردوس”. أي مكان هذا يا رب “!.
لا يستطيع الإنسان أن يتحمل إبادة ذكراه بالكلية من على وجه الأرض. فالعلامات والنصب التذكارية أو أي أساسات لا يمكنها أن تحفظ ذكرانا من النسيان، فهذه جميعها تصير تراباً. ولكن الشيء الوحيد الذي يحفظ ذكرانا هو إيماننا بأن الله عرفنا قبل أن نولد وأنه سيذكرنا في الأبدية بأكملها ! اتجه اللص المصلوب بحزن عميق في قلبه بسبب خطاياه نحو المخلص طالباً أن يذكره في ملكوته. فقد طلب في آخر لحظة من حياته أن يُذكر، فذكره الرب. لقد وجّه الرب وعده العظيم، ليس إلى ملك أو قديس عظيم، بل إلى لص عدو للناس، هذا الذي علّمنا من التقليد أن اسمه: “ديماس”.
قضت أمرآة حياتها في الخطية، وبينما كانت تُحمل إلى حجرة الطوارئ في المستشفى سألت الممرضة: ” هل تظني أن الله بإنسان مثلي” ؟ فأجابتها: بالطبع، فقد اعتنى باللص اليمين، وبالمرأة الزانية، وبالعشار غير الأمين، وهوة يعتني بالزهور والعصافير. فهو بالتأكيد يعتني بك، ” فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة (لو 12: 7)! بل إن أشعياء النبي يُخبرنا بقول الرب: “هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم أبن بطنها، حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك”(اش15:49).
وقد ذكرنا الرب يسوع، ليس أثناء صلبه فحسب، بل أيضاً في قيامته: “لأني أنا حي فأنتم ستحيون…أنا أمضي لأعد لكم مكاناً… حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً “(يو19:14 و2و3). فالقيامة تعني أنه بعد الموت لن ينسى الله أحداً: “وما لم تر عين…ما أعده الله للذين يحبونه”(1كور9:2)، فهل يوجد ذكر أو ميراث أعظم من ذلك ؟
والسبب في شعور الكثيرين أن الله قد نسيهم، هو أنهم هم قد نسوا الله. فإذا ذكرناه يذكرنا إلى الأبد ويحبنا كأولاده. وإذا اختبرنا هذا الذكر والحب الإلهيين يمكننا أن ننقل هذه الخبرة للذين يشعرون بأنهم منسيون ومحتقرون. ستظل أسماؤنا مكتوبة إلى الأبد في سفر الحياة، ليس بسبب أعمالنا على الأرض، لأنه أية أعمال قدمها اللص حتى ساعة موته على الصليب ؟ كل ما فعله اللص هو إيمانه وتوبته الأخيرين. فذكر الله الأبدي لنا إنما هو عطية نعمته، فكل نفس تائبة تقول: “أذكرني يا رب”، تنال استجابته الفورية: “اليوم تكون معي في الفردوس” !
ألسنا كلنا لصوصاً ؟ ألا نسرق سُمعة الآخرين بالقيل والقال، بل نغتالهم بسيوف ألسنتنا ؟! ألا نسرق الوقت المخصص لله ونضيعه ؟ بل ألا نسرق أنفسنا التي أشتراها المسيح بدمه ونحتفظ بها لأنفسنا ؟! فإن كنا قد تحققنا أننا لسنا أفضل من هذا اللص، فليتنا نتقدم بإتضاع معترفين للرب بالتوبة والأيمان لكي نحصل على معيته في الفردوس ! لقد كانت هذه هي آخر صلاة في حياة هذا اللص، وربما هي الأولى، فقد قرع مرة واحدة وصلى متوسلاً مرة واحدة، وبجرأته هذه ربح السماء !
وماذا لو ذكر الرب كل ما فعلته أنت في حياتك وما تستحقه ؟ حينئذ كيف يمكنك أن تواجه يوم الدينونة ؟! بل فليكن طلبنا: “أذكرني يا رب مهما كنت أنا. أذكرني برحمتك”. ولا بد أنه يستجيب ! لقد تساءل التلاميذ عمّن هو الأعظم فيهم في الملكوت، بل إن يعقوب ويوحنا طلبا مكانين رئيسيين بجوار الرب. أما هذا اللص فلم يطلب سوى مجرد أن يذكره الرب في ملكوته، فأعطاه الفردوس لأنه يعطي “أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر”(اف20:3)! هكذا تشبّهت الكنيسة لهذا اللص وجعلت طلبته هي طلبتنا يوم الجمعة العظيمة، بل كل يوم في قطع الساعة التاسعة !
لقد أعتُبر العنوان الذي وُضع على صليب المسيح: “يسوع الناصري ملك اليهود” سُخرية، لأنه كيف يكون المصلوب بهذه المذلّة والعار ملكاً ؟ ولكن اللص رآه بعين الايمان ملكاً، ولا سيما بعد أن طلب من أبيه السماوي المغفرة لصالبيه. فرغم أن عرشه كان صليب الإعدام والعار، وتاجه إكليلاً من شوك، والمسامير في جسده عوضاً عن قضيب المُلك، وأتباعه هم الغوغاء الساخرة الشامتة، ورغم عُريه، إلا أن اللص قد تعرف على ملك الكون الذي ليس لمُلكه انقضاء. ورغم أن تلاميذ المسيح شكّوا فيه بسبب هذا الموت المُخزي، ألا أن اللص عرف فيه مخلص البشرية وطلب أن يذكره في ملكوته ! لقد كان إيمانه قوياً لأنه تأكد من مجيئه في مُلكه أو ملكوته رغم أنه رأى جسده ممزقاً على الصليب !
وكان وعد الرب فورياً ومباشراً، فلم يعده بنار مطهريه ولا فترة زمنية تمهيدية، بل وعده بالفردوس: ” اليوم” و” تكون معي”. إنه أفضل وعد مُذهل سمعت بع البشرية ! وهو ما سبق أن قاله الرب: “كثيرون أوّلون يكونون آخرين، وآخرون أولين”(مت30:19). وها هو الأخير والأقل من الكل: لص يُعدم، يصير أول الداخلين إلى الفردوس، ومع الرب نفسه. وهذا هو المكان الذي يريده المسيح لنا جميعاً إلى الأبد: “أيها ألآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم”(يو24:17) ! ومن ذا الذي يمكنه أن يعد بالفردوس إلا الله ؟ هذه هي أول مرة يستعمل فيها الرب كلمة “فردوس” في الإنجيل. ولمن ؟ لإنسان خاطئ منبوذ ! والفردوس يبدأ فينا من هنا ويدوم إلى الأبد. وكما في مثال الفعلة، فالذي يعمل ساعة واحدة يحصل على نفس أجرة الذين احتملوا ثقل النهار وحره.
إذا عاش إنسان حياته بدون الله، يتقسى قلبه حتى إن آخر ما يرد على فكره عند موته لا يكون ذكر الله، بل أموره الدنيوية التي كان يهتم بها. لذلك فإن كلمة الله لنا كل حين هي: “هوذا ألان وقت مقبول. هوذا ألان يوم خلاص”(2كور2:6)، فقد طلب شخص من صديقه الشاب الذي يعيش في الخصية أن يتوب فقال له: “لا زال أمامي وقت طويل لكي أفعل ذلك. تذكر اللص على الصليب” ! فقال له صديقه: “أي لص تقصد ؟ لأنه كان هناك لص آخر، هذا الذي لم يبلغ إلى الساعة الحادية عشر فقط” !
ونلاحظ أيضاً أن الرب يسوع مات وهو بين لصيّن. ذلك لان كل حياته كانت لآجل الخطاة، هكذا أيضاً في موته لم ينفصل عنهم. لقد كانت رسالته على الأرض برمتها هي أن يطلب ويخلّص من كان هالكاً ! ” لأن أبن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك”(لو10:19).
الكلمة الثالثة: ” يا امرأة هوذا أبنك… هوذا أمك” (يوحنا 19: 26-27)
“فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً، قل لامه: يا امرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته”(يو26:19 و27).
بتلك الكلمة أظهر الرب اهتمامه الحاني بوالدته القديسة حيث إن احتياجاتها الأساسية ستظهر بعد موته، وهكذا أستودعها لعناية تلميذه المحبوب المُخلص يوحنا. وهذا دليل على اهتمامه غير المنقطع بجميع احتياجات مختاريه اليومية. فهو الراعي الصالح الذي بذل حياته لأجل غنماته، فحبه يحتضن ويشمل الجميع. وهو يريدنا أن نهتم بالاحتياجات اليومية لأولاده ابتداء-بالطبع- من أهل بيتنا.
كانت كلمة الرب الأولى على الصليب لأجل أعدائه، والثانية لأجل الخطاة الذين يمثلهم اللص اليمين، وهذه الثالثة لأجل القديسين. والمغبوط أغسطينوس يعتبر أن هذه هي “الساعة” التي نوه عنها الرب في عرس قانا الجليل، فيقول
“هذه بالطبع هي تلك الساعة التي قال عنها الرب يسوع لوالدته قبل أن يُحّول الماء إلى خمر: “ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد” (يو 2: 4). وهكذا تنبأ عن الساعة التي كان عليه -وهو على وشك الموت- أن يعترف فيها بفضل تلك التي وُلد منها جسدياً. فعندما كان على وشك أن يبدأ في انجاز أعماله الإلهية تصرف وكأنه صدّ أمه، وهو لم يفعل ذلك، أما الآن وهو يقاسي آلاماً بشرية فهو بعاطفة بشرية يستودع التي صار منها إنساناً. لأنه كان في قانا عرّف نفسه بواسطة قوته، أما الآن فإن الذي ولدته مريم كان معلقاً على الصليب. فالمعلم الصالح يلقّن تلاميذه بقدوته أن الأبناء ينبغي أن يعتنوا بوالديهم، وكأن خشبة الصليب هي منيرة. ولعل من هنا جاء تعليم الرسول بولس: ” إن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الايمان، وهو شر من غير المؤمن” (1تي 8:5).”
ويحثنا القديس كيرلس الكبير على إكرام الوالدين بقوله
تفكّر الرب في أمه غير مبال بمعاناة آلامه المرّة، وجعلها تحت عناية التلميذ المحبوب وأوصاه أن يأخذها إلى بيته ويعتبرها أمه. وأشار عليها أن تعتبره ابنها الحقيقي، هذا الذي يحبه الحاني يحل مكان ابنها الطبيعي. ولكن البعض يظن أن المسيح فعل ذلك مدفوعاً بعاطفة جسدية… ولكن ما هو غرضه الصالح من ذلك؟ أولاً: إنه أراد أن يثبت وصية الناموس: “أكرم أباك وأمك”(خر12:20)، فمن اللائق أن يتمم المخلص تلك الوصية لأن فيه يكمن كمال كل فضيلة، وهو المثل الأعلى للجميع. وثانياً: أليس من الصواب أن يفكر الرب في والدته عندما حلّت بها هذه الشدة والاضطراب؟ فهو حقاً إلهنا ويعلم خفيات القلب حيث إن صلبه قد ألقى بها تلك المحنة المؤلمة. ولذلك فقد أستودعها لهذا التلميذ الذي أمكنه (هو الوحيد) أن يوضح ذلك في إنجيله، ولكي يحقق مشيئة الله أخذها بفرح إلى بيته.
في عرس قانا الجليل قال الرب للقديسة والدته: “لم تأتِ ساعتي بعد”، أما الآن فقد حانت ساعة إتمام تدبيره الخلاصي، وهي ساعة الموت والوداع التي سيختفي فيها الابن الوحيد لتلك الأم التي نطقت بتلك النبوّة: “هوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني” (لو48:1)، لأنها عانت ليس من موت وحيدها فحسب، بل أيضاً من رؤيتها لعذاب أبنها وفاديها.
وكلمة “امرأة” هي التي ذكرها الله عندما وعد أن نسلها سيسحق رأس الحيّة أي الشيطان: “أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (تك15:3). والرب يسوع هو”نسل المرأة” التي هي القديسة العذراء، وها هو يسحق رأس الشيطان بصليبه وقيامته، مع العلم بأن رأس الحية هي أخطر أعضاء جسمها المستعد للهجوم القاتل. وأنت “تسحقين عقبه” تشير ألى آلام الرب وموته. ولان المسيح هو آدم الثاني فيمكننا اعتبار أن “العذراء” هي حواء الثانية. ولأن العذراء رمز الكنيسة، فاهتمام الرب بها يشير إلى إتحاده بالكنيسة الذي ينتج عنه ولادة شعب إسرائيل الجديد الذي كتب عنه: “أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي”، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخيروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 9:2). ومن أجل هذا الجنس المختار ها هو الرب يحقق وعده للبشرية، فبينما يسحق الشيطان عقبه على الصليب، يسحق هو رأس الشيطان لأجلنا.
وقد رافقت العذراء عند الصليب ثلاث نساء مخلصات للرب (مر 40:15، يو 25:19). أما الرسل فقد تشجع واحد منهم فقط ورافق الرب حتى الصليب، أما النساء فتشجعن منهن أربعة مما جعل القديس يوحنا ذهبي الفم ينتبه ويقول: “أثبتت النساء-الجنس الأضعف-على الجلجلة أنهن أشجع وأقوى من الرجال”. لان الذين تبعوا الرب حتى الصليب كان يمكن أن يقبض عليهم ويحاكموا باعتبارهم أتباع المحكوم عليه.
لم تعد هناك حاجة لأمومة العذراء للرب، بل تغيرت مهمتها وصارت الآن أماً لابن آخر، كما أن الرسول يوحنا أصبح عليه أن يضطلع بالمهمة التي تركها الرب يسوع أي الاعتناء بوالدته القديسة التي تقدمت في العمر، حيث كان الصدّيق يوسف النجار قد فارق الجسد. فضلاً عن أن تكليف الرب ليوحنا الحبيب بالاعتناء بوالدته يؤكد أنها لم تنجب أحد بعده إذ طلت دائمة البتولية.
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم في ذلك
أية كرامة منحها الرب للرسول يوحنا إذ استودع والدته القديسة لهذا التلميذ! كان لابد أن تحزن وتتطلب الحماية، ولذلك فقد أستأمن تلميذه المحبوب عليها إذ ربطهما معاً بالمحبة التي لما أدركها التلميذ “أخذها إلى خاصته” (يو 27:19). ولكن لماذا لم يذكر الرب أية امرأة أخرى من الواقفات؟ لكي يعلمنا أن نولي عناية أعظم بأمهاتنا. فان كنا عندما يقاومنا والدونا في الأمور الروحية لا نقر بسيطرتهم علينا، هكذا عندما لا يعوّقوننا، فعلينا أن نوليهم الاحترام اللائق ونفضلهم قبل غيرهم لأنهم أنجبونا واهتموا بتربيتنا وتحملوا ربوات من الشدائد لأجلنا.
الكلمة الرابعة: “إلهي إلهي لماذا تركتني” ؟ (متى 27: 46)
“ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة. ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي، لما شبقتني. أي الهي الهي لماذا تركتني؟” (مت 45:27 و46)
هذه الظلمة تدل على أمرين: الأول: حزن الخليقة كلها على افتراء الإنسان على خالقها ورفض حبه وتبعيته، والثاني: تخلي الأب عن الابن لانه حمل خطايا البشرية: “حمل هو بنفسه خطايانا في جسده على الخشبة”(1بط 24:2).
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الكلمة الرابعة تدل على إكرام المسيح للأب وعلى شهادته للعهد القديم فيقول
“قال الرب ذلك حتى تعلموا انه حتى آخر نسمة يُكرِم أباه وانه ليس عدوّاً لله. كما انه نطق بصرخة محددة من (أقوال) النبي (داود) (مز1:22) شاهداً بذلك للعهد القديم، بل وباللغة العبرانية أيضاً، لكي يكون واضحاً ومفهوماً لهم، وهو يُظهر بكل ذلك أن له فكراً واحداً مع إلاب الذي ولده (منذ الأزل). ولكن لاحظ هنا استهتارهم وعبثهم وحماقتهم، فقد ظنوا يُنادي إيليا كما قيل (ولعل ذلك لانهم كانوا يتكلمون الآرامية)، وللحال أعطوه خلاً ليشرب، بل إن واحداً آخر طعنه بحربة! ماذا يمكن أن يكون اكثر جموحاً ووحشية من هؤلاء الناس الذين امتدّ جنونهم إلى هذه الدرجة حتى أهانوا أخيراً جسداً يموت! ولكن لاحظ أيضاً كيف أنه استخدم آثامهم لخلاصنا، لانه بعد هذه الضربة تفجرت منه ينابيع خلاصنا.”
واضح أن الرب يسوع على الصليب كان منبوذاً من رؤساء شعب إسرائيل، ولكن كيف يمكننا أن نفهم انه صار منبوذاً من الله وأنّ الأب قد تركه؟ لقد ارتبك المسيحيون على مدى الأجيال بل فزعوا من صرخة المصلوب هذه التي قد توحي باليأس، فهل فقد المصلوب صلته بالأب ولو إلى لحظة واحدة؟! هذا التفسير يبدو متعارضاً مع كونه ابن الله الذي قال: “أنا والأب واحد”(يو10: 30)! ولكن فلنعلم أن الرب يسوع لم يكن في أي وقت أقرب إلينا مما هو في هذه الصرخة التي لإنسان مهجور منبوذ! بينما كان هو غير منفصل عن الأب: “لاهوته لم يُفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين” (القداس الإلهي-الاعتراف).
هذه الصرخة سبق أن أستهل بها داود النبي المزمور22 حيث نطق الروح القدس بها على فمه ليس كتعبير عن ضيقته هو فحسب، بل كنبوّة تحققت على الصليب. ولكن المخلّص عبّر بها عن شعور كل إنسان عندما ينفصل عن الله بسبب الخطيئة التي تجعله يتغرّب عن الله فلا يمكنه أن يشعر بحضرته، ولكنه في هذه الحالة ينبغي أن لا يفقد ثقته في الله بل يظل يدعوه” الهي”. النفس التي تيأس لا تصرخ إلى الله، ولكن الرب صرخ! وحتى عندما نزل إلى جحيم فهو لم ينفصل عن الأب، بل كان ذلك لكي يموت من اجلنا أي يحملنا نحن الخطاة حقاً في جسده! ويرى المغبوط أغسطينوس أن آية هذا المزمور هي صرخة الإنسان العتيق على الصليب، فيقول: “إن ذاك الذي صلّى هكذا وهو مُسمّر على الصليب هو في الحقيقة إنساننا العتيق الذي لا يعرف حتى لماذا تركه الله”. وهو ما ذكره الرسول بولس: “عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطيئة” (رو 6: 6). والنصرة بعد ذلك لا بد آتية، فقد أكمل داود النبي بما يوحي بالقيامة فبقول: “عليك اتكأ آباؤنا، إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يخزوا”(مزمور 4:22 و5). وبهذه الثقة صرخ مخلصنا أخيراً: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لو46:23)! وهي أيضاً آية مزمور (5:31).
والعلاّمة ترتليان يعبر أن هذه صرخة الإنسان نحو الله فيقول
“كان هذا صوت جسد ونفس، أي إنسان، وليس الكلمة والروح، أي الله. وقد نُطقت هذه الكلمة بشرياً لتثبت عدم قابلية الله للتألم، وقد تخلى عن ابنه بل بذله لاجلنا أجمعين” (رو 32:8). وقد أدرك ذلك اشعياء النبي قبله فنطق بما يوحي بذلك: “نحن حسبناه مُصاباً، مضروباً من الله ومذلولاً… والرب أسلمه لاجل خطايانا…أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم (اش 4:53-10 حسب السبعينية). فهو “تركه” بمعنى أنه لم يشفق عليه بل سلّمه (للألم). وفي جميع النواحي الأخرى، لم يتخل الأب عن الابن لانه في النهاية استودع روحه في يدي أبيه (لو 46:23)”.
معروف أن الله “جعل الذي لم يعرف خطيّة، خطيّة لاجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه” (2كو 21:5)، وان الله نور: “وأية شركة للنور مع الظلمة”(2 كو 14:6)، وأن المسيح لبس طبيعتنا البشرية، ورضي أن يحمل خطايا البشرية كلها لكي يُعاقب عليها باسمنا، إشفاقاً منه علينا من الانفصال الأبدي عن الله وعذاب الجحيم الأبدي. ولذلك كان لا بد أن يتخلى عنه الأب أثناء حمله لتلك الخطايا التي لا تحصى لانه لا يطيق الخطيّة. إذن، فقوله للأب: “لماذا تركتني” ؟ تعني أن الأب تخلى عنه باعتباره الكلمة المتجسد حتى يتحمل بالكامل عقوبتنا ونحن فيه وهو حاملنا في جسده، وهذا هو معنى الفداء.
لقد اجتاز الرب أسوأ موقف في الوجود على الإطلاق، وبقوة لاهوته المطلق حوّل الجلجثة إلى افضل موقف في الوجود وهو خلاص البشرية. كما انه علّمنا بصرخة هذه الكلمة الرابعة عما يجب أن نفعل في ابشع ضيقاتنا: أن نصرخ إلى الله من أعماق قلوبنا ونشرح له احتياجنا إليه وهو بالتأكيد لن يحجب وجهه عنا، حيث إن تخلّي الأب المؤقت عن الابن ثم إقامته له في اليوم الثالث يمنحنا يقين حضرته ومعييته غير المنقطعة لنا: “إن الله بالحقيقة فيكم”(1كو25:14).
ولكن هل انطلقت هذه الصرخة من ضعف المخلّص أو إرتعابه من الموت؟ يقول القديس أثناسيوس: [قول الرب: “لماذا تركتني”؟ ذكرها الإنجيليون رغم أن الكلمة الإلهي غير قابل للألم. فطالما أن الرب صار إنساناً، وان هذه الأمور حدثت وقيلت كما من إنسان، فان هذه الكلمة قيلت لكي يخفف هو نفسه من هذه الآلام عن الجسد ويُحرره منه…ولا يحق لأحد أن يقول إن الرب كان مرتعباً، وهو الذي يرتعب منه بوّابو الجحيم (اي 17:38 حسب السبعينية)، و”القبور تفتحت وقام كثيرٌ من أجساد القديسين الراقدين… وظهروا لكثيرين” (مت 52:27 و53)… وهو الذي يهرب منه الموت كالحية والشياطين ترتعب منه، وهو الذي انشقت من اجله السموات واهتزت جميع القوات. لانه عندما قال: “لماذا تركتني” عرفت الأرض ربها الذي تكلم، وفي الحال تزلزلت وانشق الحجاب وتوارت الشمس وتشققت الصخور. والعجيب أن الحاضرين من الذين كانوا قد أنكروه عندما رأوا هذه كلها، اعترفوا انه “حقاً كان هذا ابن الله” (مت 54:27)].
وهكذا كانت هذه الصرخة: “الهي الهي لماذا تركتني”، سبباً في هياج الطبيعة ودخول الخليقة الجديدة إلى العالم، والتي لا يمكن أن تنفصل عن الله أو يتركها الله.
الله لا يتخلى عنا قط، فهو يبدو لنا كذلك. لقد تخلى الأب عن الابن المتجسد- أو بالحري عن إنساننا العتيق المصلوب معه وفيه- مرة واحدة. ولذلك فليست لنا حاجة بعد أن نصرخ بنفس هذه الكلمات، فقد حمل المسيح عنا ذلك وصرنا نحن في يقين أننا لن نُقاسي من التخلية فيما بعد، لان الرب بعد تحملها عنا أعد لنا القيامة! “ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر. آمين” (مت 20:28).
الكلمة الخامسة: “أنا عطشان” (يوحنا 19: 28)
“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمّل، فلكي يتم الكتاب قال: “أنا عطشان”. وكان أناء موضوعاً مملوءً خلاً، فملئوا اسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه”(يو 28:19 و29).
ذاك الذي قال للسامرية: “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو14:4)، خالق الماء احتاج إلى الماء، وها هو يتوسل إلى أعدائه ليروي عطشه! في وسط الأرض كلها وفي خضم تاريخ البشرية الطويل ونّت صرخة معاناة مخلصنا على الصليب: “أنا عطشان”، وكانت هي صرخة الآمه الجسدية الوحيدة على مدى ساعات الصلب. وكان ذلك رد فعل جسدي طبيعي، فقد فَقد الرب كمية كبيرة من دمه في الجلد والصلب، وهكذا جف جسد الرب وتلوثت جروحه وتبددت قوته بحمى عنيفة وجف لسانه وحلقه، وكل ذلك بسبب مدة الصلب الطويلة كما سبق أن تنبأ المرتل: “يبست مثل شقفةٍ قوتي، ولصق لساني بحنكي”(مز15:22)
وقد عبّر القديس كيرلس الكبير عن هذه المعاني بقوله
“…الألم كفيل بأن يثير العطش، إذ انه يبدد رطوبة الجسد الطبيعية الداخلية المفرطة، ويلهب الأعضاء الداخلية بالوخزات المبّرحة. ولقد كان من السهل على كلمة الله العلي أن يُحرر جسده من هذا العذاب، ولكنه كما اخذ على عاتقه الآلام الأخرى بإرادته، هكذا تحملها أيضا بإرادته، حينئذ طلب أن يشرب، ولكنهم كانوا مجرّدين من الرحمة وابعد ما يكونون عن محبة الله، حتى انهم بدلاً من أن يعطوه ما يطفئ عطشه أعطوه ما يزيده شدة، ومقابل خدمة الحب عينها ارتكبوا عملاً اكثر نفاقاً… ولكن يستحيل أن يكذب الكتاب الملهم الذي وضع في فم المخلص كلمات داود النبي: “ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً” (مز21:69).
ينبوع الماء الحي”تركوني أنا ينبوع المياه الحية” (ار 13:2) الذي اخرج الماء من الصخرة لشعبه في القديم، خالق الماء والحياة، يصير إنسانا بهذه الدرجة من الضعف حتى يعطش مثل خليقته! ولكن-كما يقول المغبوط اغسطينوس- عطش الرب على الصليب لم يكن عطشاً جسدياً فحسب، بل كان أيضا عطشاً إلى خلاص البشرية. لقد عطش لاجل المؤمنين لكي تفيض أجسادهم اليابسة بالماء الحي: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه انهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مُزمعين أن يقبلوه”(يو37:7-39). فهو يدعونا باستمرار قائلاً: “أنا أُعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً(رؤ6:21).
” أنا عطشان”: هي صرخة إنسان يموت طالباً الماء، ولكنها أيضا كانت صرخة عطش إلى الله من وراء غيوم الجحود البشري وشر الإنسان. لقد كانت صرخة من يتوق إلى اليوم العظيم الذي يمكنه أن يقول فيه: “أنى ذاهب إلى أبي لأنني أنجزت عملي، آتياً معي بالبشر الذين فديتهم وقدّستهم ومجّدتهم”! وهذه الصرخة تعني أن جسد مخلصنا لم يكن خيالاً كما ظن البعض مثل أصحاب بدعة الدوسيتية ومن بعدهم المبتدع أوطاخي، بل إنه اخذ طبيعتنا البشرية كما هي بلا نقصان، وهذا أمر منطقي لكي يخلّص طبيعتنا البشرية كما هي.
كان في أورشليم في ذلك الوقت طائفة من النساء المُحبات للخير ممن كُنّ يقدمن للمحكوم عليهم بالصلب خمراً من النوع المخدّر قليلاً. وقد قُدّم للرب يسوع من هذا الخمر قبل الصليب، ولكنه رفضه حتى لا يعتفي من أي جزء من آلمه الخلاصية. ولكنه عندما قال إنه عطشان، قدّموا له خلاً أو خمراً رديئاً مما يستعمله الجنود، وبهذا تتم نبوّة النبي. والزوفا هو نبات”الزعتر” العطري الرائحة الذي يُبرّد الفم ويروي اكثر من الماء، ولذلك ظنوا انه يخفف من آلام المسيح على الصليب وهو يُستخدم في حزم صغيرة يمكن أن تُبلل بالسوائل. ورغم أن الرب عطش إلا أننا منه استقينا ولا زلنا نستقي “مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص” (اش 3:12)، لانه هو الصرخة التي ارتوى منها شعبه في القديم (1 كو 4:10). وعندما طُعن المخلص خرج من جنبه الخلاص الحقيقي للبشرية: ماء لتعميدنا، ودم لتطهيرنا! حقاً لقد ذاق إلهنا أبشع أنواع العطش وهو على صليب خلاصنا، وهكذا “افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2كو 9:8).”
عطش إلى العطاء
كان عطش الرب ليس إلى اخذ الماء فحسب، بل أيضا إلى أن يعطينا حبه! انه لا يزال متعطشاً أن يعطينا ملكوته: “أيها الأب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني”(يو 24:17). إنه يعطش لكي يعطينا ماء الحياة. “الله يعطش لكيما يعطش إليه شعبه”! هكذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي. فإن لم نعطش إلى الله كما عطش الرب يسوع لاجلنا فلن نجده، وما اجمل قول المرتل: “كما يشتاق الأيّل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي” (مز 1:42 و2)! والقديس مار اسحق السرياني يقول: “اعطش إلى المسيح لكيما يُسكرك حتى الثمالة بحبه”! أما الذين يحفرون لانفسهم في الدينويات آباراً مشققة لا تضبط ماءً، فان جميع أمور العالم لا تروي عطشهم، لان العطش الحقيقي هو إلى الله!
الذين يقرءون كلمة الله أو يسمعون الوعظ، إن لم يوجد ذلك العطش في نفوسهم فباطلٌ هو كل ما يقرءونه أو يسمعونه، والروح القدس هو الوحيد الذي يمكنه أن يخلق فينا هذا العطش، ومن يعوزه ذلك فليطلب من الله الذي يُعطي بسخاء. والواعظ الناجح هو الذي يُصلي لكي يعطش سامعوه إلى الله.
كما أن الرب لا يزال عطشاناً إلى خلاصنا، لانه حاضر سراً في كل محتاج إلى معونة ويصرخ فيهم دائماً: أنا عطشان!
كانت آخر كلمات سجلها الرب يسوع في رؤيا يوحنا اللاهوتي هي: “من يعطش فليأت. ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً (رؤ 17:22). ولا تزال هذه الدعوة موجّهة لجميع المسافرين في برية خطايا هذا العالم حيث الآبار المشققة التي لا تضبط ماء، لكي يُقدم لهم المسيح ماء الحياة الذي لا ينضب معينه، والذين يقبلون المسيح يقول عنهم القديس يوحنا الرائي: “لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لان الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة ويمسح الله كل دمعة من عيونهم”(رؤ16:7و17). نعم يا رب، فكما عطشت لأجلي على الصليب، هكذا أنا عطشان إليك !
الكلمة السادسة: “قد أُكمل” (يوحنا 19: 30)
“فلما اخذ يسوع الخل قال: “قد اُكمل”(يو30:19)
“قد اُكمل” هي صيحة انتصار وشكر، صيحة أعقبت آلاماً هذه مقدارها، وكان هذا هو تحقيق النبؤات (مز31:21 سبعينية). لقد تحطمت قوة الشيطان: “ألان يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً” (يو31:12).
القديس يوحنا الذهبي الفم يشرح معنى “قد اُكمل” بقوله
“[أي انه لا يوجد شيء بعد ينقص التدبير(الخلاصي). فالرب كان دائماً يريد أن يُظهر أن موته كان من نوع جديد، وان الموت لم يحل على الجسد قبلما شاء هو ذلك، وقد شاء ذلك بعد أن اكمل كل شيء].”
ولكن ما الذي أكمله الرب؟ اكمل مهمته العظمى للبشر. فقد اكتمل فداؤنا، والابن الضال يمكنه ألان أن يرجع إلى بيته إذ يسمع: تعال فان كل شيء قد اُعدّ. فقد مُحيت الخطيئة وتمت المصالحة مع الأب، وجيء بالبر الأبدي، وعبر الإنسان الموت، والنفوس المؤمنة نالت الخلاص. وهكذا تحقق الغرض من مجيء الرب إلينا، واكتملت خطة اتحاد الله بشعبه، والان يمكننا أن نقترب من الله ونؤسس معه علاقة شخصية عميقة بقدر استطاعة كل منا. ألان يمكننا أن نتمتع بالحرية والحياة التي خلقنا الله عليها. ولم يعُد يتملك علينا أي فراغ أو حياة بلا معنى أو يأس، فبهذا الحب الإلهي المصلوب مات إنساننا العتيق وصارت لنا جدّة الحياة إنسانا جديداً في كل شيء. لم نعُد عبيداً للخطيئة والموت، بل أبناء الله ووارثين مع ابنه القدوس الذي بواسطته تميزنا بان صار لنا الحق أن ندعو الله: “يا أبا الأب”!
هكذا قال الرسول بطرس: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الأباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بط18:1 و19). وهكذا أوفى الرب ديننا الذي يُثقّلنا منذ آدم، وانتهى انفصالنا عن الله وتلاشى ضمير الخطايا والأثام الذي يُثقّل كاهلنا، كما انتهى خوفنا من الموت. انتهى الحزن وصار لنا فرح بلا حدود، فرح الرب الذي هو قوتنا والذي يمكننا أن نُشرك معنا فيه العالم الخالي من الفرح والمستعبد للخطيئة والحزن والموت. وبقيامة الرب تمت جميع النبؤات عن المسيّا.
لقد ذاق الرب نوعي الموت: الروحي والجسدي. فإذا حمل خطايانا عرف حقيقة الموت الروحي أي انفصالنا عن الله بسبب الخطيئة كما رأينا في صرخته: “إلهي إلهي لماذا تركتني”. كما انه ذاق الموت الجسدي كما كُتب أن استودع الروح في يدي الأب. وكما قال الرسول يوحنا: “أحب خاصته..أحبهم إلى المنتهى” (يو1:13)، التي جاءت منه كلمة” قد اكمل”، فهي ليست صرخة هزيمة بل صيحة نصرة ملك الملوك! لقد أكتمل حب الله لنا الذي عبّر عنه بالكامل على الصليب، فقد أحبنا إلى المنتهى، أي بالتمام والكمال، وكمال المحبة هو في الموت عن الأحباء.
كلمة” قد اكمل” تُشعرنا بالفرح، فكأن مخلصنا قد قال: “كل شيء ألان قد بدأ”! وهذه مضادة! فالموت الروحي والجسدي قد تلاشيا، والحياة قد بدأت مرة أخرى لتصير حُرّة. مهمة المخلص نحونا قد أكملت وانتهت، ومن ذلك الوقت بدأت مهمتنا نحن لكي نُمارس ونتمم ونجسّد ما أوصانا وعلّمنا إياه! فخلاصنا لا يكمل إلا بعد أن تكمل مهمتنا تلك، لانه “كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟”(عب3:2).
لعلنا، يا رب، عندما نشعر باقتراب الموت يمكننا أن نردد صلاتك للأب: “أنا مجّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لاعمل قد أكملته. والان مجّدني أنت أيها الأب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”(يو4:17و5).
الكلمة السابعة: ” يا أبتاه في يديك استودع روحي” (لوقا 23: 46)
“ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه، في يديك استودع روحي. ولما قال هذا اسلم الروح” (لو46:23). وقد حقق الرب بذلك نبؤة أخرى لداود النبي في مز5:31 وكانت هذه صلاة مألوفة عند اليهود أيام المسيح ولا سيما عند النوم، وقد أضاف المسيح إليها فقط كلمة “يا أبتاه”. لقد انتهت الظلمة التي شعر فيها المخلص أن الأب قد تركه، وهو ألان يستودع روحه بين يدي ذاك القادر أن يُقيمه ويُخلصه من الموت (عب 7:5). وكأنه نطق حينئذ بقول الرسول بولس: “ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ (1كو 45:15 و55). أيها العالم، أين قوتك التي بها أردت أن تهلك أبن الله؟
قال الطبيب الجراح لشاب مسيحي مصاب بالسرطان في لسانه قبل أن يُجري له عملية جراحية: “إن أردت أن تقول شيئاً فالأفضل أن تقوله ألان، فربما تكون هذه هي أخر كلمات تنطق بها. ففكر بعمق وانهمرت دموعه ثم قال: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
يُعلّق العلاّمة أوريجانوس على هذه العبارة التي فاه بها الرب على الصليب قائلاً
[ قال الرب ذلك لانه أراد أن يُقدّس موتنا بهذه الكلمات حتى إننا نحن أيضا عندما نفارق الحياة الحاضرة نستودع أرواحنا في يدي الأب السماوي. كما أن هذه الكلمة تعلّمنا انه منذ أن حدث ذلك مع المسيح، فان نفوس القديسين لم تعُد مغلقاً عليها في العالم السفلي كما كانت سابقاً، لان الرب غيّر طريق رحلتهم ليكون إلى أعلى].
الذين يعيشون كسائحين غرباء على الأرض ويتطلعون بلهفة إلى كنزهم السماوي، هم فقط الذين يموتون بملء الرجاء المفرح في الحياة الفُضلى التي تنتظرهم. لقد وصفت أبنة ستالين (زعيم الاتحاد السوفيتي السابق أثناء الحرب العالمية الثانية) موت والدها المُرعب قائلة: “انه عندئذ نظر إلى كل من كانوا حوله نظرة مليئة بالرعب والخوف من الموت، ثم رفع يده وكأنه يشير إلى شخص فوقه، ثم صبّ اللعنة على جميع المحيطين به”! كم هو فرقٌ شاسع بين موت إنسان بلا إله مثل ستالين، وموت الشهيد اسطفانوس مثلاً الذي بينما كان يُرجم حتى الموت استودع روحه بين يدي مخلّصه!
والمسيح لم ينطق كلمته الأخيرة هذه بصوت إنسان ضعيف مُجهد يُسلم الروح، بل انه “صرخ بصوت عظيم واسلم الروح” (مت 50:27)، مما يوضّح انه لا يمكن لأي مخلوق أن ينتزع حياته منه، بل انه سلّمها بإرادته. فالموت لم يهاجمه مثل البشر، بل انه جاء ليواجه الموت ويحطمه لاجلنا مرة واحدة والى الأبد: “ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضا” (يو18:10). وكما قال القديس كيرلس الاورشليمي: “وكأنه يقول: استودعها لكي أخذها ثانية، ثم اسلم الروح، ولكن ليس لمدة طويلة لانه قام سريعاً من الموت.
هذه الكلمة تشير إلى أن الفادي عبُر من أيدي أعدائه إلى يدي الله أبيه. فلا يهم مقدار ما نعانيه من أعدائنا، بل فلنتذكر حينئذ وعد الله لنا: “الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية من تحت” (تث 27:33)! ومهما كانت طريقة موتنا فإننا سنرتمي بين يدي إلهنا، في حضن الحب الحقيقي، هذا الحب المقدس الذي يفيض بالرحمة الذي كشفه المسيح لنا عندما حوّل آلامه وموته إلى نصرة القيامة! فلنقل حينئذ باطمئنان: “يا أبتاه، في يديك أستودع روحي”! حتى وإن كنتُ لا اعلم هل سأستيقظ من نومي هنا أم هناك فلا يهم لان” الأذرع الأبدية” تحملنا! أيمكننا أن ننسى كيف أحتضن الأب ابنه التائب عندما عاد إلى بيته؟!
مبارك هو إلهنا ومخلصنا الذي علمنا ليس كيف نعيش فحسب، بل وأيضاً كيف نموت وعلى أفواهنا: “يا أبتاه، في يديك استودع روحي”!
من مصادر البحث(ارثوذكس اون لاين/ الأب أنتوني كونيارس)
جسدت إتفاقية “سيفر” الخنجر الغربي لتمزيق تركيا فوقعت أجزاء منها تحت النفوذ البريطاني وأخرى الفرنسي وثالثة الإيطالي ورابعة لليوناني، وسمحت بإقامة دولة كردية، وأُذل الجيش بتسريح أغلب قواته وقادته واعتقال آخرين. في 16/3/1921، تم توقيع اتفاقية الصداقة والإخاء بين السوفييت وتركيا، لتقدم موسكو عشرة ملايين روبل ذهبي وكميات من السلاح والذخيرة معونة لتركيا، وزارها في ذات العام أحد رفاق لينين المقربين وأشد داعميها، ميخائيل فرونزي، فزادت موسكو من دعمها السياسي والدبلوماسي والمالي والعسكري لتركيا… وخلال الفترة 1920-1922 زودتها موسكو بـ39 ألف بندقية، 327 رشاشا، 54 مدفعا، 63 مليون طلقة، و147 ألف قذيفة مدفع وسفينتين حربيتين، وساعدتها على اقامت مصنعين للبارود ومصنع للذخائر، ودعما كبيرا بالمال والذهب… والأهم، وقفت إلى جانبها في مؤتمر لوزان عام 1923 الذي الغى مفاعيل مؤتمر سيفر عام 1920 بتقاسم تركيا بين دول خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى. لذلك، وبأمر
توقيع اتفاقية سيفر
مباشر من كمال اتاتورك، تمّ بناء تمثالين لشخصيتين سوفيتيتن ضمن نصب “الجمهورية” التذكاري في ساحة تقسيم بمدينة اسطنبول، كليمنت فوروشيلوف مفوض الشعب للشؤون العسكرية، وسيميمون أرالوف أول سفراء الإتحاد السوفيتي في أنقرة. أي، قبل تدخل موسكو بجيوشها وطائراتها وأساطيلها في سورية لتساعدها على موجهة أضخم هجمة إرهابية عرفها التاريخ، تدخل السوفيتي وبأمر من لينين شخصيّاً، لتوحيد تركيا واستعادتها استقلالها… فهل يعدّ أردوغان ومن يشبهه هذا الدعم غزواً أم إنقاذاً من غزو وتفتيت؟. ولكن، ما علاقة ذلك بسورية وعدنان مندريس الذي يتباهى أردوغان بأنه معلمه الروحي، ومن هي الشخصية (X) التي تربط بينهما، وسرّ عدائهم الكبير لسورية؟. في ثلاثينيات عمره، قدّم اطروحته اللافتة لحصار موسكو في دائرتين على الأقل: أوراسيا ومنطقة “الشرق الأوسط”، وتبنتها واشنطن ولندن وحلفائهما، ورتبوا لانقلاب في تركيا ينهي حالة التفاهم السوفيتي-التركي الآنفة الذكر. وقع الإنقلاب، وسُلّم “الإسلامي” عدنان مندريس الحكم، فأنقلب على نهج اتاتورك بالكامل. كانت البداية بإعادة “الأذان” باللغة العربية، والتساهل مع لبس الحجاب وفتح المدارس الدينية… وهذا اسلوب تركي دائم في كل مرة فكرت فيها بالتدخل في محيطها العربي الإسلامي. وبدأ مندريس بعملية إلحاق تركيا ذليلة تابعة بالغرب ومشاريعه في المنطقة والعالم. بالرغم من اعتراف تركيا بالكيان الصهيوني قبل وصول عدنان مندريس للحكم بأشهر معدودة، ولكنه هو من حوّل هذه التصريحات الى وثائق وعلاقات دبلوماسية، ليتبادلا السفراء في 3/7/1950. وعندما اندلعت حرب الكوريتين في حزيران 1950، أعلن مندريس فوراً انحيازه الصريح لأمريكا، ودعم بجيشه كوريا الجنوبية. وسمح بإقامة قاعدة “أنجيرلك” الأمريكية 1951، وانضم لحلف النيتو 1952، وشارك بتأليف حلف بغداد مع ايران والعراق 1955، بدعم مباشر من واشنطن ولندن دون أن تنضما اليه صراحة بذريعة مقاومة المد الشيوعي. وفي 1957، هاجم مندريس سورية ابان رئاسة شكري القوتلي، ابن دمشق التركي الأصل، الذي لم يكن علويا ولا بعثياً ولا مجوسيا ولا براميل أو كيماوي لديه ليقصف به شعبه… ولكن فقط: بسبب رفض سورية الانضمام الى حلف بغداد. واحتل أجزاءً من محافظة ادلب، وعمل على تمزيق الجيش العربي السوري، وأسس جيشاً مولياً لتركيا تحت مسمى (الجيش الحر)… وفي العام 1958، وقع مع ديفيد بن جوريون اتفاقية تعاون، تتضمن التنسيق بين الطرفين ضمن الخطة الأمريكية-الغربية لمحاربة الاتحاد السوفيتي وتفتيت المنطقة العربية… ليستمر تحالف نسجه مندريس حتى بعد رحيله وإعدامه عام 1966. ذلك الشاب الذي نَظّر لحصار موسكو وعبر البوابة التركية، وملأ الفراغ الذي خلّفه إنهيار الإمبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية… هو برنارد لويس. وهو ذاته، يعد اليوم من اشد المنظرين والمؤيدين للحرب على سورية، وتقسيمها ومعظم المنطقة، ومحاصرة موسكو في الدائرة الأوراسيّة، أوكرانيا وجورجيا والقرم… وعبر الدائرة التركية التي نَشَطت منذ أيام عدنان مندريس، لكسر ظهرها وتعطيل انبعاثها من زلزال 1991، ومنع تجاوزها المرحلة الانتقالية الفاصلة بين السقوط والنهوض بأي شكل كان. ضمن “الصراع المستمر” بين البرّ والبحر، الاسطول والساحل، حاملة الطائرات والمقاوم على أرضه… تظهر أهمية الإنسان المقاتل والمقاتل الإنسان. الإنسان المقاتل في لحظة السلم والإستقرار النسبي، يبني وطنه ويراكم من عناصر قوته وتقدمه… وفي لحظة تهديد الإستقرار أو ضياعه يتحول إلى المقاتل الإنسان، الذي ينتمي لوطن ساهم ببنائه ومراكمة عناصر تقدمه وقوته. هذه اليد العاملة-المقاتلة دفعت هنري كيسنجر للتعبير عن
خريطة تركيا في معاهدة سيفر
أرقه يوماً للرئيس الراحل حافظ الأسد خلال مفاوضات فك الإشتباك على الجبهة السورية، عندما قال له:(أحمد الله أنك لا تحكم خمسين مليون إنسان)… إشارة منه إلى محورية العنصر البشري في بناء موازين القوة، وموقف الرئيس الأسد وطبيعة فهمه لهذه “اليد” وللصراع وموقعه فيه بعكس الخائن أنور السادات… . فمثلاً: من أهم أسباب اندثار الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والعثمانية… و”قريباً” الأمريكية، هو اعتماد جيشها على جنود مستعمراتها، وكانت تخسرهم في معادلات القوة والنفوذ لحظة انتزاع هذه المستعمرات لاستقلالها. اليوم، معظم المجتمعات الغربية تشبه حال إمبراطوريات الأمس، حيث تدنى مستوى الخصوبة، وتساوى معدل زيادة السكان مع معدل الوفيات أو كاد، وفي بعض الأحيان فاقه لسنوات… ما أدى لشيخوخة هذه المجتمعات، وتقلص يدها العاملة، وتآكل أذرع قوتها العسكرية وخصوصاً العنصر البشري، أي الجندي المقاتل… فازداد اعتمادهم على “الروبوت المقاتل” بحثاً وتطويراً واستخداماً. واستعادوا آليات تجنيد الغرباء في الجيوش الوطنية (الفيلق الأجنبي في الجيش الفرنسي)، والشركات الأمنية التي تشغل المرتزقة من كل أنحاء العالم (شركة بلاك ووتر الأمريكية)، وعقد واستغلال التحالفات المحلية والإقليمية والدولية لخوض الحروب بالوكالة ( العدوان الصهيوني في حرب تموز 2006)، وابتكار الجيل الرابع من الحروب (مثل داعش وأخواتها)، وصولاً إلى افتعال واستغلال الصراعات والحروب لتنظيم حركات هجرة منتقاة لرفد هذه المجتمعات المتآكلة تحت غطاء اللجوء الإنساني، أولاً، ولإضعاف الدول والأحلاف المنافسة بتشجيع الهجرة منها بالمغريات أو بافتعال الأزمات فيها، ثانياً. صحيح بأن الهجرة أحد تداعيات الحروب وأشكال عدم الإستقرار، لكن أن تُنصب مخيمات اللجوء في دول جارة، وقبل عام تقريباً من وقوع أي حدث في سورية، فإن هذه الهجرة تكتسب معان جديدة كليّاً، خصوصاً إذا نظرنا إليها في سياق الهجوم المستمر منذ قرون على أهم الحواضن التاريخية العربية في المشرق العربي: بغداد، دمشق، القاهرة، صنعاء…
اثنان من الموقعون العثمانيون وهما من اليسار: رضا توفيق والصدر الأعظم الداماد فريد باشا ثم مجهول ثم السفير رشيد خالص
ومع تراجع إمكانية شنّ الحروب الإستعمارية المباشرة، وتزايد حاجة الطُغمة الغربية الحاكمة وأدواتها المتربعة على سدّة الحكم في عالمنا العربي إلى المزيد من نهب وسرقة شعوب المنطقة، وتصاعد حدة الصراع مع قوى أخرى منافسة في الإقليم والعالم… ظهرت الحاجة لحرب من نوع جديد؛ حرب الجيل الرابع. يعتمد هذا النوع من الحرب على مقولة محورية: تعميم القتل والهمجية والتعصب الأعمى لإقامة ولايات الخوف وتحالفات الضرورة، التي “تبيح” كل محظور، مع هجوم مركز على النموذج الحضاري-الإنساني. من المعروف أنّ مستوى الوعي الفردي والجمعي، والعتبة الحضارية-الثقافية التي يتكئ عليها شعب أو أمة ما هي العنصر الأول والحاسم في طبيعة استجابته وتعامله مع التحديات والأزمات، وهي التي تكون لديه مسلمات الأمن القومي: من هو العدو ومن هو الصديق؟. هكذا، وعند الإستسلام لمخرجات الجيل الرابع من الحروب، يصبح تجميع الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق باستخدام آليات وتداعيات الخوف من الآخر في كانتونات متناحرة أمراً “مشروعاً” وحاجة حيوية… فتتلاشى الروابط الإنسانيّة والحضاريّة والتاريخيّة… لصالح محركات ودوافع غرائزيّة بدائيّة تُعرّفُ النفس وتفهمها بالضد من الآخر، ليكون التربص به والتأهب للوثوب والاجهاز عليه هي القواعد التي تحكم سلوكنا وثقافتنا وهويتنا مع من كان يوماً شريكاً في الوطن، ومكوناً من مكونات الهوية والفضاء الروحي والثقافي والإنساني. والآخر، سيُدفع بفعل “خوفه” وقلّة حيلته، لينزاح الى غريزة البقاء فيعبر عنها تقرباً من قوى محلية وإقليمية ودولية مهما كانت التناقضات جذرية وقاطعة معها… فالموت المؤجل أرحم من موت “قريب محتم”. حين يُخلق “العدو” خلف الأسوار ما نفع الجدران والأبواب والحراس؟!. إمّا التفاهم وتجاوز المخاوف، أو يتم تفتيت المدينة خلف الأسوار، أو أن يُهدم بعضها للتحالف مع أعداء بُنيت الأسوار أصلاً بوجههم، أو أن يتصارع من هُم خلف الأسوار حتى يستقر الأمر للأقوى… . هكذا يمكن أن نُقيّم موضوعياً وتاريخياً: حركات إسلامويّة تعادي الغرب ثقافياً ولكنها شريك كامل له في كل مشاريعه ومخططاته الخاصة بالمنطقة والعالم. والحركات الإنفصالية الكردية والعربية، التي جعلت من أحلامها الإنفصالية مطيّة يعتلي ظهرها كل عدو طامع بتفتيت سورية والعراق وإيران؛ بل وتركيا… وهكذا أيضاً يمكن الكشف عن الدور الإستعماري-التفتيتي الذي يلعبه أردوغان و”إخوانه” وربما لن يستطيعوا مغادرته أو الفكاك منه، تحت عباءة الإسلام والديموقراطية… وحتماً، أدوات وأطماع الصهيو-أمريكية والغرب الممولة بالبترو-دولار العربي في المنطقة والعالم… وخطورة مخيمات اللجوء وتفريغ سورية من أبنائها على دورها التاريخي، وغايات التدمير الممنهج للإرث الحضاري والإنساني لها ولمنطقتنا العربية… لنقف وجهاً لوجه أمام واحدة من الميزات كبرى لسورية، قدرتها على التحدث عروبياً في زمن التغريب، وبالاستناد لإرث حضاري-إنساني ثري للغاية في لحظة التيه. ومقاومتها المريرة لمقولات الإنبطاح، ومحاولات تجريد المنطقة من دورها التاريخي وعناصر مناعتها الإنسانية… وتصديها لهجمة “بترودولار” تخرب الإنسان قيماً وثقافة، وهجمة “تكنولوجية” تسلبه نفسه وهويته ومهامه، وهجمة إرهابية “تُجرفُ” الأرض وما عليها من أوابد وشواهد حضارية لتبتره عن تاريخية، فيتوه عن حاضر يجب أن يبنيه، ومستقبل عليه أن يطمح إليه ويناضل من أجله.
سؤال….يقول البعض…هل علم السيد المسيح في العقيدة عن اللاهوتيات…؟وهل يريدنا ان نبحث ونعرف في العقيدة؟ نرد عليهم لنوضح الموضوع بامثلة من الكتاب المقدس..
–“ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلآ: “من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟”..(مت 16: 13). هل هذا السؤال يهمك يا ربي يسوع…
وهل أنت تهتم بإدراك الناس للاهوتك، ومعرفة أنك ابن الله بالحقيقة… بالتأكيد كان السيد المسيح، ينتظر أن ينطق بطرس بهذا الاعتراف المقدس، الذي هو (اي الاعتراف هذا وليس بطرس) “صخرة الإيمان المسيحي…” — “أنت هو المسيح ابن الله الحي”..(مت 16: 16)
ولم يكن السيد المسيح، هو يوحنا المعمدان ولا إيليا ولا أرميا ولا واحد من الأنبياء، فلابد من التحديد الدقيق لشخص وطبيعة السيد المسيح…!
— “طوبى لك ياسمعان بن يونا إن لحمآ ودمآ لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات..(مت 16: 17)… وأيضآ طوبى لمجمع نيقيه ولمجمع أفسس..لأنهم حددوا بقوانين طبيعة الرب يسوع المسيح..وشرحوها حسب قصد الروح القدس…. لماذا إذن تغييب العقيدة عن الناس..؟ هل نجرؤ أن نرفض ما سبق أن مدحه السيد المسيح؟
وقد سأل المسيح الفريسيين..سؤاﻵ لاهوتيآ احتاروا في إجابته…! — ” ماذا تظنون في المسيح ؟ابن من هو ؟قالوا له ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربا ؟قائلآ : “قال الرب لربي اجلس عن يميني حنى اضع أعدائك موطئآ لقدميك.” فإن كان داود يدعوه ربآ فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطيع أحد أن يجيبه بكلمة ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله البتة”…(مت 22: 42 -46)
وكأن الرب يسوع بسؤاله هذا، ينبه ذهن الفريسيين أنهم لم يدركوا بعد حقائق اللاهوت، وكذلك ينبه به ذهننا أننا يجب أن نفهم أسرار لاهوته…!
وإن سؤال السيد المسيح ..”كيف يدعوه داود بالروح ربآ؟” يشير إلى أن الرب يسوع..يريدنا أن نسأل في اللاهوت ونبحث في العقيدة..ونتعمق في المعرفة..
وشرح المسيح ايضآ حقيقة وجوده اللاهوتي في كل مكان..
وكذلك حقيقة اتحاد الطبيعتين فيه بغير اختلاط ولاامتزاج ولا تغيير اذ قال:
— “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن اﻹنسان الذي هو في السماء “..(يو 3: 13)..
وهذا يظهر حقيقة اهتمام المسيح نفسه بأمور لاهوتية تخص طبيعته وشخصه المبارك، تثبيتآ لقاعدة الاهتمام بالعقيدة واللاهوت عمومآ.
ونحن نتكلم بعقائد كثيرةلأنها جميعآ مستمدة من الكتاب المقدس، ولا نستطيع أن نتجاهل ما يعلم به الكتاب المقدس، فإن السيد المسيح هو واضع الناموس الجديد والقديم، وهو مؤسس العقيدة المسيحية، ولا يستحق أن يدعى مسيحيآ من استهان بتعليم السيد المسيح، ولم يتبع منهجه في التعليم. وشرح السيد المسيح عن الثالوث…
لقد اهتم الرب يسوع بأن يشرحه، ليعلن لنا حقيقة الثالوث، والعلاقة بين الأقانيم، فتكلم عن: (1) العمل المشترك بين الآب والابن
–“فآجابهم يسوع : أبي يعمل حنى الآن وأنا أعمل”انجيل يوحنا الذي هو اي يوحنا (النسر)
(يو 5: 17)
وكان يقصد بهذا العمل أنه مساو للآب في الجوهر، الأمر الذي أثار حفيظة اليهود، وأرادوا أن يقتلوه بسببه..
— “فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، ﻷنه لم ينقض السبت فقط بل قال ايضآ: “إن الله ابوه معادﻵ نفسه بالله”..(يو 5: 18)
وكان اليهود فعلآ قد فهموا، حقيقة ما قاله السيد المسيح ولكنهم لم يؤمنوا بهذه المساواة فأرادوا قتله، ولم يتراجع السيد المسيح، ولم يبرر قوله ويفسره بأنه لا يقصد أن يكون معادلآ لله،لأنه بالحقيقة معادلآ لله الآب… (2) اتحاد إرادة الآب والابن
— “لايقدر الابن ان يعمل من نفسه شيئآ إلا ماينظر الآب يعمل لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك”..(يو 5: 19).. (3) والمحبة الكائنة في الثالوث
— “ﻷن اﻷب يحب الابن”..(يو 5: 20) (4) وقدرة الابن على الإقامة من الأموات
–“ﻷنه كما أن اﻷب يقيم الأموات كذلك الابن أيضآ يحيي من يشاء”..(يو 5: 21)… (5) سلطان الابن في دينونة العالم
— “ﻷن الآب لايدين أحدآ بل قد أعطى كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب من لايكرم الابن لايكرم الآب الذي أرسله “..(يو 5: 22، 23) (6) وأن الابن له الحياة في ذاته
–“ﻷنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك اعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته”..(يو 5: 26).. (7) وتكلم السيد المسيح عن أن الآب السماوي غير منظور
— “لم تسمعوا صوته قط ولاأبصرتم هيئته”..(مت 5: 37)
— “الله لم يره أحد قط”..(يو 1: 18).. (8) وقد كشف السيد المسيح..أنه هو وحده الذي يعرف الآب
— “أنا اعرفه ﻷني منه وهو أرسلني”..(يو 7: 29)
–“كما أن اﻵب يعرفني وأنا اعرف الآب”..(يو 10: 15)
–“كل شيء قد دفع إلي من أبي وليس أحد يعرف الابن إلا اﻵب ولاأحد يعرف الآب إلا الابن ومن اراد الابن أن يعلن له”..(مت 11: 27) (9) وكذلك عن وحدة الآب والابن
صفحة من مخطوط انجيل يوحنا
شرح السيد المسيح بقوله: –“أنا واﻵب واحد”..(يو 10: 30)
الأمر الذي فهمه اليهود حسنآ..أنه شهادة عن لاهوت الابن
–“فتناول اليهود ايضا حجارة ليرجموه”..(يو 10: 31)
— “وقالوا :لسنا نرجمك ﻵجل عمل حسن بل ﻷجل تجديف فإنك وانت إنسان تجعل نفسك إلها”..(يو 10: 33)… وقد وافق السيد المسيح على هذا الفهم اللاهوتي العالي وأكده بقوله
–“ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالاعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في َّوأنا فيه”..(يو 10: 38)..
فهل يستطيع أحد، أن يتهم السيد المسيح معلمنا الصالح بأنه كان يضيع وقت سامعيه، لأنه يشرح لهم هذه الحقائق اللاهوتية وأنه بهذه الأمور يشغلهم عن خلاصهم وأبديتهم…
وتكلم الرب يسوع عن العلاقة بين الابن والروح القدس.. (1) أن الروح القدس هو المعزي، وأنه أقنوم آخر غير الابن وغير الآب، وأنه يمكث مع الكنيسة إلى الأبد وأنه غريب عن العالم…
–“وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذي لايستطيع العالم ان يقبله لانه لايراه ولايعرفه واما انتم فتعرفونه لآنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو 14: 16، 17) (2) وأن الآب سيرسل الروح باسم الابن وأن الروح القدس سيعلمنا كل شيء
— “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم”..(يو 14: 26).. (3) وتكلم السيد المسيح عن انبثاق الروح القدس من الآب
–“ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الاب ينبثق فهو يشهد لي”..(يو 15: 26). (4) وتكلم عن دور الروح القدس..في التبكيت على الخطايا
–“ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة”..(يو 16: 8) ولقد تكلم إنجيل القديس يوحنا ايضآ عن الله الكلمة (1) وشرح أزليته وعلاقته بالآب وأنه الخالق
–“في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس”..
(يو 1: 1-4)…
–“كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم..(يو 1: 10) (2) وتكلم عن تجسده الإلهي العظيم
–“والكلمة صار جسدآ وحل بيننا ورأينا مجده مجدآ كما لوحيد من الآب مملوءآ نعمة وحقآ”..(يو 1: 14)… (3) وتكلم كذلك عن دور الابن الوحيد..في إخبارنا بمجد الآب
–“الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر”..(يو 1: 18) فهل كان القديس يوحنا الإنجيلي إذآ مخطئآ عندما كتب بالروح القدس في إنجيله المقدس في اللاهوتيات، وتعرض بالشرح والإعلان المستفيض للفكر المسيحي والعقيدة…؟
– إن جميع الأحاديث التي أوردها الوحي المقدس..في إنجيل يوحنا على لسان الرب أو في سرده للشرح..لها البعد اللاهوتي العميق، والتفسير العقيدي المستفيض…
فمعروف أن إنجيل يوحنا هو النسر الذي حلق بنا في آفاق اللاهوت،فكيف نتجاهل هذا الشرح العميق في هذا الإنجيل اللاهوتي العالي.
لم التباين في عيد القديس جاورجيوس بين 23 نيسان و6 ايار في كرسينا الانطاكي المقدس؟
تمهيد
نقع كثيرا في حيرة من الامر في تعييد عيد القديس جاورجيوس فمنا من يعيدع في 23 نيسان من كل عام ومنا يعيده في 6 ايار في كرسينا الانطاكي او بين سورية ولبنان جناحي الكرسي الانطاكي الرئيسين…! نوضح السبب في الاصل كان يتم التعييد لهذا القديس العظيم في دائرة الكرسي الانطاكي المقدس وكل العالم الارثوذكسي في 6 ايار… لتوحيد السنة الطقسية في دائرة الكرسي الانطاكي وتوحيد اعيادها وتحديداً عيد الفصح وهو عيد الاعياد وموسم المواسم وعلى قيامة السيد وانبعاث نورها من قبره المحيي يقوم كل ايماننا المسيحي، بدأ ت مساعي حقيقية عام 1924 من البطريرك العظيم غريغوريوس حداد ومتابعة حثيثة في عهد خلفهالبطريرك العلامة الكسندروس طحان وفي عام 1944 تم تتويج هذا المسعى الحثيث الذي استمر لمدة 20 سنة اي في عام 1944تم عقد اتفاق بين كرسينا الانطاكي المقدس وبطريركية الروم الكاثوليك لتوحيد الاجندة الكنسية في دائرة الكرسي الانطاكي بكنيستها الارثوذكسية الام وفرعها الشقيق الروم الكاثوليك وقضى ان تعيد كنيستنا في معظم العام بمافي ذلك المواسم الميلادية والختانة والظهور على التقويم الغريغوري اي الغربي وتعيد الكنيسة الشقيقة معنا لفترة التريودي الصوم الكبير ثم القيامة والفترة الفصحية اي البنديكستاري بما فيها الصعود الالهي والعنصرة وفق التقويم اليولياني كما في الانجيل المقدس …
القديس جاورجيوس
تم تنفيذ الاتفاق من الجانب الارثوذكسي الا ان الشقيقة الكاثوليكية رفضت تنفيذ الشق المتعلق بها وطالبت باستبدالها بالاتفاق على يوم موحد لتعييد الفصح ومن وقتها (وكما تحدثنا مرارا ومن واقع الوثائق البطريركية) بعيداً عن النتقويمين الغريغوري اي الغربي وعن التقويم اليولياني اي الشرقي المعتمد على سيرة الالام… طبعاً تم رفض هذا المطلب من قبل كنيستنا إذ لا يجوز ان نعيد فصحنا قبل فصح اليهود للترابط بينهما كما في الانجيل المقدس … وواقعة فيض النور في سبت النور اليولياني الشرقي…
ولكن الكنيسة الارثوذكسية التي تمسكت بدورها في الاتفاق وغيرت اجندتها الكنسية فريغورياً صارت تعييد كما هو ملاحظ معظم العام عدا قبل الفصح والفصح ومابعده حتى العنصرة … ووقتها دخل عيد القديس جاورجيوس في هذا التغيير فصار التعييد يتم في 23 نيسان ارثوذكسياً وفقاً للاتفاق المحكي عنه…
وبقي القسم السوري برمته وخاصة الارياف عدا دمشق وحلب وحمص وبعض المدن اللبنانية يعيد وفق التقويم الشرقي اي في 6 ايار…
وعندما يقع عيد الفصح وان ورد عيد القديس قبل تعييد الفصح يتم نقله الى اثنين او ثلاثاء الفصح وذلك لترابط خدمته الليتورجية مع خدمة الفصح ولا يجوز في هذه الحالة ان يُعيد له قبل تعييد الفصح…
وفي اول عهد مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع (1979-2012) تم اعادة تعييد عيد القديس جاورجيوس كما كان وفق التقويم اليولياني الشرقي…
وللمصادفة المحببة ان 6 ايار هو عيد الشهداء في كل من سورية ولبنان جناحي الكرسي الانطاكي المقدس ما اسعد الذاكرة الشعبية فالجانبين شهداء مكرمون …
ولا تزال بعض المناطق الارثوذكسية في لبنان تحديداً وبعض سورية تعيد لعيد القديس جاورجيوس في 23 نيسان كما ظهرت في العام المنصرم نظراً لوقوع عيد الفصح قبل 23 نيسان …
لماذا يسكب الكاهن الماء الساخن على القرابين المقدسة؟
اثناء تحضير المقدسات في كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة نلاحظ أن الكاهن يسكب بعض الماء الساخنّ في الكأس المقدسة قُبيلَ مناولة المؤمنين ؟ حيث يلاحظ المؤمنون الذين يتناولون حرارة القربان بعض الشيء…. هو سؤال وجوابه التالي
يصير هذا العمل الليتورجيّ داخل الهيكل بعدما يرفع الكاهن الحمل بيديه ويقول: “القُدُسات للقديسين”. فعندما يُتمّ الكاهن اتّحاد جسد المسيح ودمه المُقدّسين معاً في الكأس المقدسة بحلول الروح القدس ، يأخذ ماءً ساخنا في وعاءٍ صغير يُدعى باليونانية ( ζέον ) (الزيون) وهذا التقليد يعود الى النصّ الوارد في رسالة القديس يوحنا الرسول الاولى: “هذا هو الذي أتى بماءٍ ودمٍ يسوع المسيح… والروحُ هو الذي يشهد”( 1 يوحنا 5- 6) ويسكبه في الكأس المقدسة، لأنه عندما خرج الدم المقدس والماء من جنب المخلّص الالهي الحيّ كانا مملؤين حرارة، مشيراً بهذا الى أن دم المسيح هو دمٌ حيٌّ ومُحيي.. ويقول القديس نيقوديموس الآثوسي :”عجيبٌ جنبُ السيد الطاهر! فالأمر لا يتعلّق فقط بكونه أخرجَ دماً وماءً، بل وأيضاً لأن الدم والماء خرجا مملوءَين حرارةً وحياةً، لأن ذلك الجنب حياً ومُحيياً بسبب الاتّحاد الأقنوميّ بالألوهة المُحيية”.
وعندما يُتمّ الكاهن اتّحاد الجسد والدم المُقدّسين يقول: “اتّحاد الروح القدس”. ويقول القديس نيقولاوس كاباسيلاس: “فهذا الماء الحارّ كونه ماء ويحوي نار (لأنه يغلي) انما يُظهر الروح القدس، فهو يُدعى ماءً وقد ظهر كناٍر منحدرٍ على تلاميذ المسيح، والكاهن عندما يمسك بيديه الكأس المقدسة فهو يمسك “نبع الروح” ونحن نقترب بفمنا من صدر أمّنا الكنيسة لنرضع من الكأس الروحية فيمتلئ عند ذاك فمنا ناراً روحية”. كما ويرمز الماء الحارّ الى حرارة ايمان القديسين والشهداء التي يتوجّب علينا أن نمتلكها ونقتنيها في ذواتنا قبل التقدّم الى تناول القرابين الالهية المقدسة.
رد يوما احد الاصدقاء على منشور كان قد اشركني به صديق على صفحتي عن المقامات الموسيقية العربية انها سريانية رد احد الاصدقاء بقوله: “لم ننته بعد من الزامنا بالعروبة واننا جزءاً منها، الى اننا اصبحنا سرياناً وان سورية بلد السريان…” وقد نال صاحب هذا التعليق عدداً لايحصى من التأييد…
لذلك نرانا نلجأ الى الرد بدون السعي للدخول في سجال عقيم نبدأه بالقول بأن سورية بوتقة انصهرت بها كل الشعوب والاثنيات والأديان والمذاهب وان الاخوة السريان الناقمين على العروبة هم من ساهموا في كثير من المواقف حين قدوم المسلمين من الجزيرة العربية الى نصرتهم ضداً للروم وان كانوا مثلهم مسيحيون الا انهم مخالفين لهم في العقيدة، فكبيريعاقبة دمشق السنة 634م الراهب يونان هو من فتح الباب الشرقي في دمشق امام خالد بن الوليد الذي دخل حربا الى دمشق وقضى يومها حوالي 40000 الف دمشقي رومي قتلاً وتم تحويل كل كنائس هذا القسم الى مساجد عدا كنيسة اليعاقبة وفق الاتفاق، وقد طعن يونان بفعله هذا ظهر سرجون النصراني الذي كان قد اتفق مع ابا عبيدة بن الجراح المحاصر لباب الجابية وهو قائد الحملة بتسليمه دمشق صلحاً حقتاً للدماء مقابل دفع الجزية والحفاظ على بيوت الدمشقيين جميعا واملاكهم وكنائسهم بعكس ماصار في القسم الشرقي…وقد نال يونان وطائفته وعددها ذاك الزمن 70 فقط مكافأتهم بحيث ان المسلمين سلموهم كاتدرائية دمشق الرومية اي كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان بعدما انتزعوها من ايدي اصحابها الروم الارثوذكس قبل ان يحولها الوليد السنة 705 الى جامع بني امية الكبير. وقد انتبه الوليد الى حق الروم الارثوذكس بمطرانيتهم السليبة فأعاد لهم كنيسة مريم كمطرانية دمشق وكانت الكنيسة المستولى عليها كأملاك دولة لوقوعها على الخط الفاصل في دمشق بين المفتوحة صلحاً وهي الغربية بتدبير من سرجون النصراني وابي عبيدة والشرقية المفتوحة حرباً بخيانة رئيس الطائفة اليعقوبية يونان وفتح باب الشرقي ليدخل منهم خالد حربا…
ويوم اعادة الوليد لكنيسة مريم الى الروم السنة 705مسيحية قال:” اننا نعوض على النصارى بكنيسة مريم بدلاً من كنيسة يحي”.
كذلك ساند الغساسنة وهم من الاخوة السريان منقلبين على الدولة الرومية وطعنوها في الخاصرة وكانوا من قواتها اصحاب الامتيازات والمكاسب في جنوب بلاد الشام وقدساندوا العرب المسلمين في معركة اليرموك ومكنوهم من الانتصار على الروم …
وفي الحالتين كان الدافع الاساس هو كره اللاخلقيدونيين او السريان للخلقيدونيين اي اصحاب المذهب الرومي وليس الذين من الجنس الرومي…لذلك ناصروا الفتح الاسلامي على اخوتهم المسيحيين وان كانوا من مذهب آخر.!!!
من مظاهر الحضارة الهلينية في سورية
مع ازدياد ظاهرة الرد بالسرينة على اي منشور عن سورية من جهة وعن المسيحية بشكل بات يشكل استفزازاص لامبرر له بعد سار التاريخ، وصار الامر يدفع الى التساؤلات ومنها هذين السؤالين ادناه والرد بالتالي ولانقصد اثارة حساسيات لامبرر لها سيما وقد شارف الوجود المسيحي في سورية على الانتهاء كما انتهى الوجود السرياني في الجزيرتين السوريتين العليا والسفلى وانتقل هذا الوجود منذ مطلع السبعينات الى الدول الاسكندنافية ومع ذلك استمر الاخوة بالتأكيد على ان سورية ارض السريان…والجزيرة وماردين ارض السريان!!! فأين اصبح السريان ولمن آلت ارض الجزيرة السريانية، وهل اوربة الشمالية ارض السريان؟
السؤال
– كيف نشأت الحضارة الهلينية ( اليونانية ) الرومية في بعد ؟؟ – ولماذا يشعر المشرقيون ( الــروم ) أنها لم تكن “ثقافة احتلال للمشرق”؟
– وهل الروم كانوا سرياناً ولكنهم انحازوا للروم الفاتحين؟ كما يشيع الاخوة السريان من اكبر مثقفيهم الى اصغرهم؟
نقول بالتالي
كثيراً ما يشيع أشقاؤنا من الكنائس السريانية أو بعض الروم المتأثرين بهم، أن طائفتي الروم (الأرثوذكسية والكاثوليكية) هي سريانية أصلاً في لغتها، وقد أخذت اللغة اليونانية في طقوسها بتأثير ما يسمونه “الاحتلال الرومي”،(في محاولة لسرينة الجميع والمنطقة كما فعل العرب بالتعريب ) في الحقيقة هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، ذلك أن تعبير “الاحتلال الرومي” لا يرد إلا عند السريان، والمتأثرين بهم ، أما الروم فيعتبرون “الحضارة الرومية حضارتهم الخاصة”، ويرتاحون إلى “نظرية الامتزاج العرقي بين المكونات العرقية المختلفة لشرق المتوسط، والذي نتج عنه حضارة واحدة هي حضارة الروم”:
1- يجب علينا البحث أولا في كيفية نشوء الحضارة الهلينية (اليونانية) والتي اصبحت لاحقاً الحضارة الهلنستية مع السلوقيين في انطاكية وسورية وسائر المشرق. ومع البطالمة في الاسكندرية ومصر والشمال الافريقي اي الرومية الشرقية، قبل المسيحية بثلاثة قرون ونصف وانتهت بالفتح الروماني. ومظاهر الحضارة ، أو الخصوصية الحضارية عادةً ما تتبدى ب : “المدى الجغرافي الذي نشأت فيه وانتشرت ، “اللغة والحرف، الفنون، الرقص، الطبخ، البناء، الفلسفة والنتاج الفكري، أسلوب الحياة الاقتصادية ، أسلوب الحياة الاجتماعية ، المقدسات والطقوس …
2- فلندرس هذه الحضارة الهلينية (اليونانية) والهلنستية، ونرى كيف حصل التمازج “الشرقي الفينيقي – الهليني اليوناني” لتنشأ منه حضارة مميزة اسمها “الحضارة الهلينية” ، انتشرت في الساحل المشرقي وقبرص واليونان ، وتطورت بشكل طبيعي جداً.
3- لا بد أن نعرف أولاً أن البحر المتوسط كان هو المحور الذي تمحورت حوله حياة الفينيقيين والإغريق، فتفاعلوا وتزاوجوا، وخلقوا معاً ابنتهما المسماة : ” الحضارة الهلينية بلغتها اليونانية”، والتي أخذت الطابع المسيحي فيما بعد، وهي التي ينتسب إليها يونانيو اليوم في القسطنطينية وما بقي من اقلية رومية مرتاعة في آسيا الصغرى بعد ابادة الاتراك لهم من اتباع الكرسيين الانطاكي السوريين واليونان والقسطنطيني اليونان والقبارصة اليونان والروم المشرقيون في كراسي انطاكية والاسكندرية واورشليم بليتورجيتهم العربية واليونانية وفي الانتشار الرومي الارثوذكسي في العالم.
اللغة اليونانية
4- الدلائل على ذلك “التزاوج نراه واضجاً في التاريخ: – امتزاج الكنعانيين وشعوب البحر الكريتيين، نتج عنه ما عرف بالحضارة الفينيقية. – الحرف اليوناني: هو الحرف الفينيقي الذي نقله قدموس من صيدا إلى طيبة قرب أثينا ، وكانت اللغة اليونانية تكتب بالحرف الفينيقي نفسه، ومن اليمين إلى اليسار، وهذا ما يؤكده هيرودوت المؤرخ اليهودي الشهير. – الاله قدموس، عاش في طيبة قرب أثينا وليس في صيدا حيث ولد، أما أبناؤه واحفاده فقد أصبحوا “الآلهة الأسطوريين” للشعب اليوناني ( هرقل وأوديب وغيره ) . – المفكرون والفلاسفة الذين لا يمكننا أن نتخيل الحضارة اليونانية بدونهم، ولد الكثيرون منهم من آباء فينيقيين ، لكنهم تحدثوا باليونانية، وكانوا يتنقلون بين المدن الفينيقية والجزر اليونانية كانهم يتنقلون في بيتهم الخاص و”مداهم الطبيعي الحيوي”. فمثلاً “طاليس” العالم االيوناني الكبير ولد في “ميليتيس” من أبوين فينيقيين. ومثله “اناكسيمينيس”. ومثله “فيثاغوراس” الشهير المولود في جزيرة ساموس ، لأب فينيقي أتى من صور وتزوج بساموسية . أيضاً زينون الرواقي وغيره الكثير الكثير . وهؤلاء جميعاً تصاهروا وتمازجوا قبل فتح الاسكندر بقرون.
الحضارة الهلنستية
– امتزاج اللغتين الفينيقية والإغريقية القديمة، نتج عنه “اللغة اليونانية المعروفة اليوم “، ليتيح فيما بعد “امتزاج الآلهة والطقوس تماماً”. فصارت معبودات المدن الفينيقية، نفس معبودات الجزر اليونانية. والطقوس اليونانية نفس الطقوس الفينيقية . وأنظمة الحكم في المدن الفينيقية نفس أنظمة الحكم في المدن اليونانية. والفنون والنقوش والهندسة والألبسة والاعتماد على التجارة في الحياة الاقتصادية وغير ذلك. وبناء عليه نرى “أشخاصاً من المدن الفينيقية” يشاركون في الالعاب الوطنية الأولمبية التي كانت تقام في أثينا، وكان يأتي إليها متسابقون من “كل المدن الهلينية” ( وقد عدّت المدن الفينيقية من ضمن المدن الهلينية، حتى قبل مجيء الاسكندر) . فمن فينيقيا مثلاً أتى “ايفيبوس” ليشارك في الألعاب الأولمبية في أثينا وأصبح “معبود اليونان”. – في الصراع الفارسي – اليوناني القديم ، كانت المدن الفينيقية على الدوام تميل إلى شقيقاتها من المدن الهلينية الطابع. وقد احتل الفرس المدن الفينيقية ، وعندما اتى الاسكندر، رحبت به كل المدن الفينيقية وتعاونت معه، وعلى رأسها صيدا مثلها مثل أكثرية المدن الهلينية الطابع (ما عدا صور التي قاومته على الأرجح بسبب تمكن الفرس فيها، كما قاومته مدن يونانية في داخل اليونان الحالية، لأن تلك المدن كانت تحاول الحفاظ على استقلالها السياسي ، وليس لأنها اعتبرته من “حضارة عدوة”).
بصرى
– وجدت مسكوكات وعملات عليها كتابات يونانية في المدن الفينيقية قبل مجيء الاسكندر. – كل ذلك سهل فتح الاسكندر للمشرق، وأصبحت اللغة اليونانية بعده، وبعد مئات السنين من التزاوج ، لغة رسمية، وأصبحت “الحضارة الهلينية القائمة على هذا المزيج” هي الحضارة الحاكمة ، وأتت جاليات هلينية من الجزر اليونانية لتمتزج مع الفينيقيين ، وذهب فينيقيون ليمتزجوا مع يونانيين، في إطار “الدولة الواحدة والحضارة الواحدة التي جمعتهم لألف عام في حوض البحر الابيض المتوسط” . ومن “الهلينيين المشرقيين”، اي الذين دعوا “للامتزاج”، خرج أباطرة وحكام فيما بعد (وهذا ما ينفي نظرية الاحتلال الغريب ويؤكد نظرية “الامتزاج والتطور الحضاري الطبيعي”)، إلى أن احتل العرب المشرق عام 634 م ، وهم عندما احتلوه قالوا إنهم “يحتلون بلاد الروم” بكاملها ، ولم يكن في ذهنهم، ولا في ذهن الروم من أهل البلاد، أن المشرق حالة قومية أو حضارية مختلفة عن سائر المدى، فهم غزوا قبرص أيضا وكريت، وكانوا متوجهين إلى القسطنيطينية. وتشهد الوثائق أنهم تكلموا مع روم المشرق وقبرص وكريت عبر تراجمة يجيدون اللغة اليونانية، التي أطلقوا عليها في مراجعهم اسم اللغة “الرومية”. وهي اللغة التي كتب فيها أباء كنيسة الروم المشرقية الكبار ( يوحنا الذهبي الفم ابن انطاكية ، ويوحنا الدمشقي ابن دمشق ، وأندراوس الكريتي ابن دمشق ، ورومانوس المرنم ابن حمص ) وبقيت اللغة الرسمية في البلاط الاموي حتى التعريب بيد الخليفة عبد الملك وليست اللغة السريانية كما روج بعض كتاب التاريخ من السريان او المتسرينين مخالفين الواقع.
– هؤلاء “الهلينيون” السوريون أو المشرقيون عموماً، عندما أصبحوا مسيحيين، صقلوا كل ثقافتهم ونتاجهم باللغة اليونانية، لغة الثقافة العالمية التي كتب بها الإنجيل، وخرج منهم “مئات” المفكرين والأدباء والخطباء والمهندسين والأباطرة والقادة السياسيين الذين كانوا يتنقلون بين روما والاسكندرية وانطاكية ودمشق واللاذقية وطرطوس والقسطنطينية وأثينا وجرش وعمان والمدن المنسية في سهول ادلب وسهول حلب ومناطق قورش وعفرين وجبل سمعان بسهولة تامة. هؤلاء هم الذين تمتعوا بمعظمهم بالمواطنية الرومانية فيما بعد. وهم الذين أسموا أنفسهم بالروم .
– أما السريان حضارياً، فهم آراميو الداخل والشمال الشرقي، الذين كانوا منذ البداية مختلفين عن الفينيقيين (الكنعانيين) واليونانيين. أما الآراميون الذين ارتاحوا وناضلوا في سبيل نظرية “المزيج العرقي والوحدة الحضارية والسياسية” ، أي الذين لم تكن لهم أية ميول “استقلالية ” أو عدائية لسائر الرومان من الهلينيين،(ومنهم آراميو معلولا ومحيطها في القلمون مثلاً وكانوا مسيحيون روم العقيدة قبل ان يسلموا طواعية)، فقد اختلفوا عن غيرهم من الآراميين في الشمال (المعروفين اليوم بالسريان اليعاقبة). هؤلاء، رفضوا الانصهار والمدى الرومي، وأصروا على رفض اللغة اليونانية، واعتبارها لغة احتلال وأرادوا الاستقلال بسورية
المدن المنسية في سورية الوسطى
ليحكموها، وهؤلاء هم أجداد السريان المونوفيزيت فقط، الذين اتخذ انشقاق كنيستهم أيضاً منحى قومياً وسياسيا فيما بعد واقاموا رئاسة كنيسة مستقلة عن انطاكية اواخر القرن السادس. وتغنوا في هذا اليوم باللغة الآرامية التي هي لغة الرب يسوع بينما لغة الرب يسوع هي الارامية الفلسطينية والتي من بقاياها لغة اهل معلولا التي بالأمس القريب وضع ابجديتها المرحوم الاستاذ جوج رزق الله وهي تتشابه مع العبرانية…
“الروم” يصرون على الاستمرار في “نظرية الامتزاج والحضارة الرومية الهلينية” وعلى اللغة اليونانية المشتركة بينهم، و”السريان” يرفضون نظرية الامتزاج ويعتبرونها احتلالاً رومياً وسيطرة للثقافة اليونانية .
– الروم (الهلينيو الحضارة في الشرق)، منهم من كان “يوناني القومية كأهل مدن أنطاكية واللاذقية ونابلس وقيصرية فلسطين وحتى المدن العشرة في الجولان وبصرى وبادية الاردن مثلاً ، ومنهم من كانت أصوله آرامية (وقد تحدث الارامية في البيت واليونانية في الشارع ومعاملات الدولة والكنيسة)، ومنهم من كانت أصوله أرمنية (كأرمن شمال سورية وكيليكية) … لكنهم جميعا ، اتفقوا فيما بينهم على أن يتواصلوا مع بعضهم البعض بلغة مشتركة هي “الرومية – اليونانية” ، وأن تكون هذه اللغة لغة كنيستهم الرسمية. وبذلك حافظوا على تميزهم القومي دون تعصب، وعلى “مداهم الحضاري والسياسي الواسع”، واختلفوا بذلك عن الفئة السريانية التي رفضت دولة الروم (وأولئك هم الذين سموا فيما بعد بالسريان اليعاقبة أو السريان الأرثوذكس، وأطلق عليهم العرب اسم “رافضة الروم”.) .
الاسكندر المقدوني
وأخيراً نقول: هل فتح الفينيقيون وسائر المشرقيين اليونان؟ أو فتح اليونان فينيقيا وسائر المشرق؟ الجواب: أن الشعبين تزاوجا، وانصهرا، وأنتجا معاً الحضارة الهلينية.
فلولا الفينيقيين لما وجدت حضارة هلينية (يونانية). والأكيد أن ظروفا سياسية كانتصار الاسكندر على الفرس ساهم في “انتشار هذه الحضارة الهجينة وتمددها. والأكيد أن الدولة الرومانية لم تستطع التغلب على تلك الحضارة العظيمة في الشرق بل سادت الثقافة الهلينية على الثقافة واللغة اللاتينية الرومانية. والأكيد أن “المسيح” كان الفاتح الأكبر، الذي جمع هؤلاء جميعاً ليعبدوه، جمعهم ب “بمزيجهم العرقي” … هم أولئك الذين بحثوا عن مشروع حضاري وسياسي “يجمع كل القوميات”، ورأوا في يسوع الناصري إلهاً “يجمع ولا يفرق” بين الأمم ، وهو ما كانوا يحلمون به لقرون…فكان “دينه الجامع للأمم في وحدة وتناغم” أفضل ما ينسجم مع “مشروعهم الحضاري والسياسي القائم أيضاً على التناغم والوحدة بين الأمم”. إنهم هم من أطلقوا على أنفسهم اسم “الروم”… ولا يزالون إلى اليوم … يحيون ويتفاعلون ويتناسلون ويملأون الأرض “عدلا .. ونورا .. وحبا .. وحياة”
عبارة ولا اروع عبق بها جو المشرق لنيف والفين من السنين ابهجت وتبهج وستبهج كل نفوس المؤمنين بالقيامة…
كانت هذه العبارة وحدها في الكنيسة الأولى مجمل الايمان المسيحي موجزاً، لأنها تؤكد حقيقة المسيح يسوع وحقيقة قيامته من بين الموات، وبالتالي تؤكد حقيقة قيامة كل منا نحن البشر.
فكما ان نور الصباح، من المشرق ينتشر على البسيطة بكامل أرجائها، كذلك نور القيامة، من المشرق، ومن القدس ذاتها ينتشر على البسيطة بكامل أرجائها إيذاناً بأن الانسان، أنت وأنا، لم يخلق للموت بل للحياة، وبأنه ليس من انسان لاتشمله الحياة بعد الموت، وبأنه أخيراً: ” الله اله أحياء لا إله أموات.”
فقيامة الرب صرخة مدوية في مشرقنا، بل في شرق الدنيا بأسرها تبشر بفجر جديد تتلوه حياة جديدة، وزمن غابر يولَد مكانه زمن جديد وتاريخ جديد. العتيق قد مضى، وها أن كل شيء قد أصبح جديداً في المسيح أولاً ثم في سائر المؤمنين: لأننا لم نخلق للماضي بل خلقنا للحاضر والمستقبل. والاله ليس فقط الإله الذي كان بل الإله الكائن والذي سيكون، والذي ليس لملكه انقضاء.
القياميون يرتضون العيش ليس لمجرد متعة او لهو بل لغد آت مطل بوجه لا تغطيه ظلمة القبر، وجه كل مافيه ينطق ويقول:
” لسنا للموت بل للحياة، لسنا للحفرة، بل لآفاق الله الواسعة، لسنا لضيق أو ضائقة بل لفضاء وفرج عظيم.
عيد القيامة في الشرق عيد الحياة التي تَحيا. سوانا يحتفل بالميلاد وحده أما نحن فلا نرى لميلاد بهجة أو مغزى إذا لم يكن مقدمة لقيامة وخلود. ومن هنا صليّنا في الشرق ونصلي لا لكي نُعطي قدوماً الى الدنيا فقط بل أن تكون لنا آخرة حياة سلامية، وجواباً حسناً لدى منبر المسيح القائم من الأموات.
وقد حقَّ لنا في مشرقنا المجاهد أن نرى في القيامة عيد الأعياد وموسم المواسم لأن أحداثها ا لخلاصية كسائر الأحداث الخلاصية، اختارت أن تتم بيننا وفي هذا مافيه من الشرف لنا والخير علينا.
وها الملاك، من السماء، يحمل بشرى قيامة الرب يسوع بالقرب من القدس، كما حمل جبرائيل الملاك بشرى ولادة المسيح في الناصرة، ناصرة الجليل. ولنسمع الانجيل الطاهر يتكلم:
” لما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة طيباً ليأتين ويطيبن يسوع. وعند الفجر جئن الى القبر…وكُّنَ يقلن بعضهن لبعض: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. فنظرن فرأين أن الحجر قد ذُحرج، وكان كبيراً جداً. فدخلن القبر فرأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فارتعبن. فقال لهن الشاب: لا ترتعبن. أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. إنه قام / لننتبه الى فعل قام/ ليس هو ههنا وهذا هو المكان الذي كان قد وُضع فيه” (مر16).
وان هذه الصورة: حضور سماوي أمام حضور أنثوي ليست الوحيدة التي حصلت في هذا المشرق المسيحي المبارك.
في البشارة في الانجيل الطاهر أتى الملاك جبرائيل الى العذراء الطاهرة وقال لها:” لقد نلت حظوة عند الله فستحملين وتلدين ابنا تسمينه يسوع وسيكون عظيما وابن العلي يُدعى…والروح القدس يحل عليك، وقدة العليّ تظللك، لذلك فالمولود منك يدعى قدوساً، وابن الله يُدعى.
بعد ستمائة سنة على الأقل وفي هذا المشرق أيضاً، تتجدد الصورة ذاتها في القرآن اذ يقول:”اذ قالت الملائكة يامريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.”
” وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.” ويزيد البيان في النص القرآني ترسيخاً للايمان بالقيامة القول السامي:
” والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً ذلك عيسى بن مريم.”
وأيضاً يقول النص القرآني: “إذ قال الله ياعيسى اني متوفيك ورافعك اليَّ.”
هذا في القرآن الشرقي والانجيل الشرقي، فكيف لايحتفل الشرق، ويحتفل الى الأبد بذكرى القيامة المجيدة.
على طريق دمشق صدح صوت آمن صاحبه بالرب يسوع هو شاول المضطهد اهتدى الى الايمان في دمشقن دمشقنا المقدسة بالذات، إنه بولس الرسول وهو يقول:
” ان المسيح مات من أجل خطايانا وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وتراءى لبطرس وسائر التلاميذ ولآكثر من خمسمائة أخ من الإخوة. وأخيراً تراءى لي انا بولس.”
” فإن كان المسيح لم يقم فبشارتنا باطلة وكذلك ايمانكم. وان كان المسيح لم يقم فليس من قيامة لأحد من الناس. وهذا يعني بالتالي أن المسيح لهذه الحياة فقط، وانه ليس لنا أي رجاء في الآخرة، وهذا غاية الشقاء.”
ويستطرد بولس فيقول:” انه يا اخوتي، كما اتى الموت في واحد هو آدم كذلك تأتي القيامة في واحد هو المسيح. وهذ ايمان راسخ أذوق الموت من أجله في كل يوم. ولو لم يكن الأمر كذلك لاكتفيت في بشارتي بأن أقول لكم: هيا الى الطعام والشراب لأننا غداً نموت”.
فإذا تساءل أحدكم يا إخوتي كيف نقوم من الموت؟ أبهذا الجسد نقوم؟.
إذا تساءل أحدكم هذا التساؤل أُجيبه بكل وضوح:” إننا لانقوم بجسدنا هذا كما هو بل نلبس جسداً آخر روحياً به نقف يوم الدين أمام الديان العادل.”
لننتقل الى شرقي آخر من أنطاكية السورية الذي رأى في ذكرى القيامة المجيدة دعوةالى مائدة الهية شأنه شأن أي شرقي أصيل. إنه يوحنا الذهبي الفم القائل:
“من كان حسن العبادة ومحباً لله فليتمتع بحسن هذا الموسم البهج.
من كان عبداً شكوراً فليدخل الى فرح ربه مسروراً.
من تعب صائماً فليأخذ الآن أجرته ديناراً…”
“ادخلوا كلكم الى فرح ربكم. أيها الأغنياء والفقراء اطربوا معاً فرحين. أمسكتم أو توانيتم أكرموا هذا النهار. صمتمام لم تصوموا. افرحوا اليوم. المائدة مليئة فتمتعوا كلكم، تمتعوا كلكم بوليمة الايمان. تمتعوا كلكم بوليمة الصلاح. لايندبن أحد على إثم، فإن الفصح قد بزغ من القبر. لايخافن أحدٌ الموت. فإن موت المخلص قد اعتقنا . ان المخلص أخمد الموت حين ذاق الموت وسبى الجحيم بنزوله اليه، تمرمر الجحيم لأنه أُبطل، تمرمر لأنه أُميت. تناول إنساناً فصادف الهاً. تناول أرضاً فألفاها سماءً.
اين شوكتك ياموت؟ ثام المسيح زانت صُرعت. قام المسيح من الأموات وفرحت الملائكة. قام المسيح والحياة بُعثت. قام المسيح من الأموات فصار باكورة القائمين من الأموات. فله المجد والعزة الى الدهر. آمين.”
فالقيامة عند هذا السوري الأنطاكي ليست محاكمة ولا دينونة انها حب شديد ومنعة لاتخرقها الشرور ورحابة لاحدود لها.
وهيا بنا أخيراً الى عودة الى دمشق، دمشقنا فإنها كلها في القيامة تعني القيامة وتشدو لها وتشدو. والكنيسة الشرقية في كل العالم تغرف لغنائها وشدوها من معين ابن الشام أعني به الدمشقي يوحنا، فقد تغنى الدمشقي ليقول:
القيامة عبور من الموت الى الحياة. وهذا العبور نصر للحياة على الموت. الحياة أقوى من الموت. القيامة نقلةٌ من الارض الى السماء، ومن الأدنى الى الأسمى.
المسيح الناهض من القبر هو باعث بهجتنا وسرورنا، والى الأبد هو هكذا.
قيامة المسيح محوّلة للخليقة الى وجود جديد. وليس في الكون ما ليس مدعواً الى الحداثة الدائمة والطلاوة واليناع.
المسيح قام بذات سلطانه لأنه الاله. ولو كان مضافاً الى الله اضافة لبقي قي قبره تتآكله الديدان، ولكان شأنه شأن أكثر الأنبياء والمرسلين.
ويلتقي ابن الشام. يوحنا بمن اهتدى الى الايمان بنور الهي في دمشق الشام . فيقول:
لقد قام يسوع من القبر كما سبق فقال، ومنحنا الحياة الأبدية والرحمة العظمى.
ويوالي الدمشقي نداءه الى المؤمنين فيقول:
“ايها الأحبة، اليوم يوم القيامة، يوم الفرح لكل شعوب الأرض . والقيامة هي قيامة الرب ذاته. لذلك هي قيامة الأمم كافة كائنة من كانت، لافرق بين انسان وانسان فالخلق كلهم عيال الله. وعلينا بمناسبة القيامة أن نخاطب البشرب “يا اخوة” لأن أسلوب القيامة اسلوب الأخوة. ولنكن صفوحين رحيمين كما ان ربنا صفوح ورحيم. ورحمة الرب تفوق كل زلةٍ وكل خطيئة.
انتهى قول الدمشقي.
هكذا بمناسبة عيد القيامة، العيد الشرقي سمعنا الملائكة تنزل وتبشر في مشرقنا العزيزن وسمعنا بولس المهتدي الى الايمان في دمشقن دمشقنا، يُدلي بشهادته في القيامة المجيدة وحقيقتها واستمعنا ليوحنا الذهبي الفم السوري الأنطاكي يقول فرح القيامة في شرقنا ذاته، واخيراً رددنا اناشيد ابن دمشق، دمشقنا، يوحنا الدمشقي.
بعد هذا كله، حريٌّ بنا اليوم أن نرفع قلوبنا الى الله العلي القدير ونسأله أن يكلأنا بعين رحمته ورضوانه وان يكلأ انطاكيتنا وسوريتنا ويوقف نزفها ويمنح حماتها القوة والحماية وقامات ياسمينها الجرحى الشفاء ومخطوفيها الاطلاق بالسلامة ووالشهداء الابرار الاقامة مع القديسين ويهدىء سائر المشرق…
ولنهتف ختاماً “المسيح قام من بين الأموات ووطىء الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور…”
كلّنا درسنا نظريّة فيثاغورث في المرحلة الاعدادية.. كلنا نعرف أنّه صاحب نظرية حساب أضلاع المثلّث القائم الزاوية في الهندسة.. و لكنّ أكثركم لا يعرف أنّ فيثاغورث ليس عالم رياضيات فحسب.. فهو فيلسوف أكثر منه عالم رياضيات.. فيثاغورث فيلسوف سوري المولد و الثقافة.. و قد أغفلت مناهج التاريخ المدرسية و الجامعية السورية هذه المعلومة لأسباب لا يعرفها سوى الراسخون في العلم !! من هو فيثاغورث Pythagoras ؟؟ فيلسوف وعالم رياضيات وصاحب مذهب فلسفي و أخلاقي هو (بالمذهب الفيثاغوري).
جنسية فيثاغورث ولدَ في صيدا من أعمال سورية مابين (580 – 570) قبل ميلاد المسيح. والده فينيقي من مدينة صور على الشاطئ الشرقي للبحر السوري المتوسط واسمه “آمني سركو” أو “سارخوس” ويعني “خائف الله” وكان يعمل في تصدير الحبوب إلى جزيرة ساموس، وبسبب نشاطه التجاري إعطي جنسية الجزيرة. والدته فينيقية أيضا واسمها “بارتيني” ويعني “الابنة الحنون”. أما اسم “فيثاغورث” فيعني “بيت الحكمة”. بعد عام من ولادته أخذته أمه إلى “هيكل أفقا” المقدس المخصص “لأدونيس وعشتار” والواقع فوق مدينة (بيبلوس – جبيل), وهناك قصّت شعره وعمّدته وفاء لنذرها وهذا نمط من العبادة مازال قائماً حتى الأن. بقي (فيثاغورث) مقيما في صور حتى سن الثامنة عشر، ليتعلم من مثقفي سورية وكان من أساتذته “الفيلسوف أنكسمندر”، إنتقل بعدها مع والدته إلى جزيرة سوموس وكان لهم فيها أقرباء، وفيها درس مع الفيلسوفيين “هيرمودامو” و “فيرسيد دي سيراس”، ثم انتقل ألى “مالطية” والتقى هناك بالفيلسوف والرياضي “طاليس” وتلميذه البابلي”أنكلسيمندر” ونصحه “طاليس” بزيارة “فينيقية ومصر وبابل” للاطلاع على علومها المخبأة في هياكلهم، فعاد إلى صور حيث درس أسرار الدين الفينيقي، واتصل بتلاميذ العالم “موخوس” الملقب “أبو الذرة” ودرس نظريته، ودخل في تنظيمات “صور وجبيل” المسماة “جماعات الأسرار” ثم زار “الكرمل – سورية الجنوبية” واعتزل لفترة في هياكلها الكنعانية. لم يستقر”فيثاغورث” في مكان إذ قام بزيارة “فارس وغاليا وكريت ومصر”. في مصر أقام عشرين عاما أمضاها في البحث والدراسة. وفي بابل أقام حوالي إثنتي عشر سنة تابع خلالها دروسه وعمق معارفه في علم الرياضيات المقدس، وعلم الأرقام، والمبادئ الكونية، ومبادئ الهندسة، وعلم الفلك، والديانات المنتشرة أنذاك ومنها (البابيلية، الفينيقية، المجوسية..)، إضافة إلى تاريخ الأمم والشعوب والأجناس. قرر بعدها العودة إلى جزيرة سوموس بهدف نشر رسالته وعلمه وبعد وصوله إلى الجزيرة وجدها في حالة سيئة إذ كانت ترزح تحت حكم “بوليقراطس” الظالم. فتركها مع والدته وانتقل إلى “دلقوس” وبعد سنة توجه إلى مدينة “كرتونا” المدينة الفينيقية الواقعة جنوب إيطاليا، وهناك سمح له بتأسيس مدرسة أثرت فيما بعد بشكل واضح على المذاهب الفلسفسة اللاحقة “الأفلاطونية” و”الأفلاطونية المحدثة”، وكانت بذلك أم المدارس الأفلاطونية، ونالت شهرة كبيرة إجتذبت التلاميذ من الجنسين، وأخضعها لنظام صارم وأكد على احترام وطاعة المعلم. بعد مدة غادر إلى بلاد اليونان، وهناك أسس مدرسة تطورت تطوراً مرموقا فتدفق إليها التلاميذ من مناطق وشعوب عديدة، منهم “اللوقائيين”، و”المسابيين”، و”الرومان”، وكانت المدرسة في البداية عبارة عن جمعية تدعو إلى الإصلاح الديني وإلى مكارم الأخلاق، وإلى طهارة النفس، وآثر أتبعاها خشونة العيش والتقشف، واتصلوا بمذهب الشاعر القديم “أورفيوس” واستمدوا منه كثيرا من علم الموسيفى وأصولها. ورأوا أن تطهير النفس لا يكون إلا بالتفكير في الفلسفة والعلوم لأنهما مظهران للنشاط الروحي والعقلي. لذلك تطورت المدرسة لتصطبغ بالصبغبة العلمية الفلسفية. وشكلت نمطا من أخوية ذات أهداف صوفية أكثر منها فلسفية. وكانت كما سابقتها تقبل النساء في عضويتها، وأشهر النساء التي التحقن بالمدرسة كانت فتاة تدعى “تيانو” وقعت تحت تأثير “فيثاغورث” وأحبته وصارحته بذلك فتزوجها وكان في الستين من عمره ورزق منها صبيين أعطاهما اسمين فينيقيين هما “أريمنت” و”فلوجي”، وإبنة اسماها “دامو”. كان نظام المدرسة يلزم أعضاءها بالتأهل لمدة خمس سنوات يمارسون خلالها السرية المطلقة حول المذهب، وكان “لفيثاغورث” سلطة مطلقة على الأعضاء، ويعتبرونه المؤتمن الوحيد على الحقيقة. ولما زاد عدد تلاميذ المدرسة أراد “فيثاغورث” أن يكون لها تأثيرا سياسيا، فتحولت إلى جمعية سياسية وأسست لها العديد من الفروع في مناطق عدة منها (سيباريس، وريجيون، وصقلية). ثم خاض انتخابات مجلس المدينة، وتشكلت فيها حكومة برئاسته، وحدث هذا في مدن أخرى وتشكلت فيها حكومات فيثاغورثية.
بذلك فإن المدرسة الفيثاغورثية أثارت ردود أفعال من جانب الديمقراطيين، إضافة إلى إنشقاق أحد التلاميذ ويدعى “سيلون” الذي بدأ يبث دعايات ضد “فيثاغورث” ولقى تأييداً، فشكل حزبا وتابع إثارته للشغب ضد النظام الفيثاغورثي، وهذا ما شجع الديمقراطيين على الثورة ضده وعندما عقد “فيثاغورث” اجتماعا ضم أربعين من تلاميذه حاصرهم الثائرون وأشعلوا النار في المبنى وهلك المجتمعون عدا اثنان منهم سجلوا تلك الحادثة. كان “فيثاغورث” قد سمى مدرسته، “مدرسة نصف الدائرة”، إذ كان فيها حلقة حول “فيثاغورث” سماهم “الحسابيون” ليس لهم أية أملاك، ومفروض عليهم قيود أخلاقية وغذائية صارمة، ويلبسون اللباس الابيض رمز الطهارة. وحلقة خارجية سماهم “المستمعون” لهم أملاكهم الخاصة وبعض الحرية في حياتهم. وبذلك كانت المدرسة أقرب إلى دير للرهبان، ويتوجب على من يدخلونها أن يقسموا يمين الولاء للأستاذ. ورغم كل ما تعلمه فإنه كان يقول عن نفسه “ما أنا إلا فيلسوف” مع أنه كان رياضياً بارعاً ولقد جعل من الموسيقى علم بإدخال الحساب عليها. لذلك كانت مدرسته إضافة إلى أنها نحلة ومذهب فلسفي، مدرسة علمية اعتنت بالرياضيات والموسيقى والفلك والطب، وعرفت قضايا رياضية وحسابية وهندسية عديدة، ووضعت في الهندسة ألفاظاً اصطلاحية جديدة. وإضافة لكل ذلك كانت هيئة سياسية ترمي إلى إقرار النظام في الحياة. أما كتابات “فيثاغورث” فقد ضاع أكثرها، ولم يبقى منها إلا ما يسمى “الأشعار الذهبية” وهي نصائح وتعاليم حفظها “ليسياس” أحد أتباعه، ونشرها “هيروكليس” أوائل عهد المسيحية. من كتاباته التي بقيت فيثاغورث مؤمن بالخلود وبالتناسخ وبتأثير المناخ على الوجود. يقال إنه أول من ابتكر كلمة “فيلوسوفيا” التي تعني “محبة الحكمة”، وأنه أول من وضع رسماً للمثلث في الهندسة، وإنه أيضا اول من اكتشف كوكب الزهرة. وجاء عنه إنه قالا: “إن الموسيقى هي التعبير عن الإنسجام الكوني وهذا الإنسجام نجده في الرياضيات والفلك”. وقال “بتكافؤ الفرص بين الرجال والنساء على السواء” وإنه كان يعلم تلميذه الكثير من الأدب والفلسفة إضافة إلى فن الأمومة والتدبير المنزلي. وقيل إنه لهذا السبب اشتهرت النساء الفيثاغوريات في الزمن القديم (و النساء السوريات في كلّ الأزمان) أنهن أعلى نموذج للأنوثة في جميع العصور..
مقدمة يتزايد عدد البلدان التي تسمح بحرق الأجساد أو تشجّع عليه، وهذا يطرح تحدياً لفكر المؤمن الأرثوذكسي. الواقع أنه من الصعب إيجاد آية إنجيلية محددة أو قول آبائي محدد يتناول عملية حرق أجساد الموتى بشكل تخصيصي، إنما موقف الكنيسة في رفضها لهذا الحرق ينبع بشكل اساس من احترامها للجسد البشري، كما سوف يتبيّن من ما يلي عرضه.
موقف المسيحيين الأوائل رفض المسيحيون الأوائل حرق أجساد الموتى الذي كان عادة معروفة في بعض العالم الروماني واستمرّت في أوربة العليا حتى وقت متقدّم. رفضُ المسيحيين الأوائل جاء من أن كل الذين يأتي الكتاب المقدس على ذكرهم قد دُفِنوا ولم يحرَقوا، حتّى حنانيا وسفيرة (أعمال 5).
مدفن لعازر
أول إشارة إلى الدفن في العهد القديم جاءت على لسان ابراهيم عند موت سارة، حيث توجّه إلى الحثيين قائلاً: “أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيْتِي” (تكوين 4:23). إذاً كان مستعداً لأن يشحذ مكان القبر ليدفن ميته وهذا يدل على أهمية أن يُدفَن الميت، حتى قبل أن يتعرّف البشر إلى القيامة.
وفي العهد الجديد، مرتا ومريم دفنتا أخاهم الذي مات (يوحنا 11). يوحنا المعمدان أخذه تلاميذه ودفنوه. وأهم الذين دُفِنوا هو السيد نفسه الذي وضعه يوسف الرامي في القبر. إلى هذا، في العهد الجديد أكثر من قول للسيد .يؤكّد على اعتماد الدفن للموتى كما في قول السيد: “دع الموتى يدفنون موتاهم”… من المعروف لدى مؤرخي الكنيسة أن المسيحيين الأوائل كانوا يعارضون بقوةٍ قتل الأطفال أو التخلي عنهم أو الإجهاض أو الانتحار لأنهم يؤمنون بقدسية الإنسان. وفي فكرهم، لا تنتهي قدسية جسد الإنسان عند موته. لقد نظروا إلى الإنسان كتاج خليقة الله، استناداً إلى تعليم كتاب التكوين عن أن الإنسان مخلوق على صورة الله (27:1)، وأنه ينقص قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ ويتكلل بمَجْدٍ وَبَهَاءٍ (مزمور 5:8)، وكما توجّه الرسول بولس إلى الكورنثيين بأنهم هياكل الله وأن روحه تعيش فيهم (1كورنثوس 16:3). فبالاستناد إلى هذه النظرة الكتابية لجسد الإنسان، بالإضافة إلى الإيمان بقيامة الجسد، لم يكن المسيحيون الأوائل يرتضون تسليم الجسد، حتّى الميت، إلى أكثر الوسائل المعروفة دمارًا أي النار. لقد رأوا أن حرق الجثث ليس كتابياً، ولا يمكن تصوره إلا كعمل تدنيسي. وقد استمرت هذه العقلية لقرون حيث حفظ المؤمنون المسيحيون حرمة جسد الإنسان، حياًً أو ميتاًً، وفوق هذا هم لم يروا أن جسدهم يخّصهم، وأنّ لهم الحربة في التصرف به.
جمجمة القديس توما الرسول
أول كاتب كنسي عارض حرق الأجساد عن طريق الدفاع عن دفن الموتى هو فاليكس (Minucius Felix) الذي كتب حوالي عام 190 م: “نحن نلتزم العادة القديمة والفضلى أي الدفن في الأرض. انظروا إذأً كيف نتعزّى بأن كل الطبيعة تشير إلى القيامة في المستقبل” (الحوار 34). ترتليان هاجم حرق الأجساد معتبراً إياه عملاً قاسياً وعنيفاً (حول قيامة الجسد، 1). القديس إيرينايوس شدّد على الممارسة المسيحية للدفن في الأرض: “ولكن على الرغم من أن الجسد الميت يذوب في وقت محدد، بسبب معصيتنا في أول الزمان، فإنه يتم وضعه، كما كان في جوف الأرض…” (مقتطفات من كتابات إيرينيوس المفقودة، XII). من الناحية القانونية لا يوجد قوانين تحدد موقفاً من حرق الأجساد ولم يتطرّق إلى هذا الموضوع أي من المجامع المسكونية. إنّما يوجد عدد من القرارات التي اتّخذتها مجامع لكنائس محلية في القرن العشرين في مواجهة مسألة حرق الأجساد التي تطرحها الدول عادة، منها كنيسة اليونان والروس خارج روسيا، إلى جانب عدد من الدراسات للاهوتيين معروفين. يرد في أكثر من واحد من هذه النصوص إشارة إلى القانون 87 للقديس باسيليوس الكبير حيث يحكي عن احترام الأشياء غير المكتوبة والتي لديها “قوة التقوى”، كمثل رسم إشارة الصليب أو اتجاه الكنيسة نحو الشرق أو التعميد بالتغطيس ثلاثاً، وعليه فإن دفن الموتى وإن لم يكن مكتوباً في نص صريح، إنما هو عادة لها قوة التقوى. من هنا أن بالاستناد إلى القيمة التي تعطيها الكنيسة للدفن، بدءاً من خدمة الجناز، وصولاً إلى تبخير المدافن والاهتمام بها وبنائها بقرب الكنيسة، يُفهَم موقف الكنيسة الرافض للحرق.
أمر آخر أيضاً تستند الكنيسة إليه في رفضها الحرق هو خبراتها مع الرفات أي أجساد القديسين، أمثال القديسين اسبيريدونوس العجائبي، جراسيموس كيفالونيا، باتابيوس المصري، أفرام الجديد، ديونيسيوس زاكنثوس، وعدد كبير من القديسين في دير الكهوف في كييف، وغيرهم. حيث أن هذه الأجساد ما زالت كاملة وما زالت تفيض بالعجائب. يعلّم الرسول بولس بأن الأجساد هي هياكل الروح القدس، ما يعني أن الإنسان لا يملك جسده. ويقول القديس كيرللس الأورشليمي عن القيامة بالجسد: “تذكروا أن بهذه الهيئة سوف تُقامون من الموت للمحاكمة”. من هنا أن المسيحي ليس له أن يتصرّف بجسده بعد الموت، لا وهباً لأعضاء ولا حرقاً.
الخاتمة…
ختاماً، إن قيامة الأجساد هي حقيقة ثابتة في الإيمان الأرثوذكسي، ويعبّر عنها في دستور الإيمان: “تألّم وقًبِر وقام”. واضح من هذه العبارة أن القيامة تتبع القبر، لهذا لا مكان لحرق الأجساد في الكنيسة الأرثوذكسية، كما أن تجنيز الرماد غير ممكن. (الاب انطوان ملكي ALETEIA ORTHODOX)
نلاحظ انه قد تحلق أهل الشام ، كما تخيلها الرسام، حول الساحة وحول البحرات البديعة، وكانت متنفساً جميلا يقضون بجانبها أوقات سعيدة ( سيران )، وقد تعمد الرسام رسم جميع أطياف اللباس المتعارف عليه بتلك الحقبة . فنرى في جهة اليمين أنواع اللباس والزي النسائي ( الملاية ) ذات اللونين الأبيض والأسود، حين كان يغطي المرأة من الرأس إلى القدمين ، وهذا الزي كان يطلق عليه اسم : الملاءة ، بنوعيها العادية والزم كما هو ظاهر بالرسم .(الصورة الرئيسية)
و كذلك نرى في أقصى اليسار أحدى النساء ، وقد وضعت على رأسها الإيشارب الدمشقي الذي يكشف نوعاً ما مقدمة الشعر، كما ارتدت ملابس عادية و المسمى بالفستان أو الطقم الرسمي ( الجاكيت و التنورة).
ومن المعروف أن الأنظمة العثمانية قضت بتمييز المسلمين عن اهل الذمة في الالبسة والالوان، وبعض السلوكيات كركوب الخيل مثلا والتجول بالأسواقحيث حظر على المسيحيين واليهود ذلك الى حين صدور خط كلخانة عام 1856. واختص (اللون الابيض) في الملاءات على اليهود والنصارى ، واعتمدت نساء دمشق ( اللون الاسود) أما في الارياف المحيطة بدمشق فلها ازياؤها الخاصة بها .
أما الرجال: فكانوا يرتدون الملابس العربية التقليدية لدى أهل الشام والمؤلفة من: الشروال والقنباز والطربوش الذي كان اعتماره من آداب الخروج بما في ذلك الأطفال، و تطورت الأحوال، فحلت البدلة الرسمية والمؤلفة من ( الجاكيت و البنطال و الكارافيت ) محل الملابس العربية التقليدية مع الإحتفاظ باعتمار الطربوش أو أي غطاء للرأس في تلك الحقبة كما هو ظاهر بالرسمة في جهة اليمين و اليسار . كما نلاحظ الزي العسكري للرجال ، كما هو الزي المتعارف عليه لدى الجيش الفرنسي بتلك الحقبة .
دمشق ـ نافورة المياه و النصب التذكاري للكابتن ديكاربانتيري في ساحة السبع بحرات
Damas – Fontaine commemorative de Capitaine Descarpentries
النصب التذكاري للكابتن ديكاربانتيري في منتصف ساحة السبع بحرات حين حملت الساحة اسمه،
و مكوناً من قبة كبيرة محمولة على أربعة أعمدة قوسيه الشكل على شكل محراب من الحجارة الأبلقية ، و قد تم تزيينها بنقوش كتابية باللغتين العربية والإفرنسية بالأفريز الحجري البازلتي تحت القبة مباشرة ( ذكرى للكابتن ديكاربانتيري رئيس الهجانه) .
يتخللها في أسفل القبة خمس بحرات مائية متضائلة وصولاً إلى البحرة الرئيسية ضمن الساحة وقد صُممت جميع البحرات على الطراز الإسلامي لفن العمارة ،
وأطلقت عليها سلطة الإحتلال الفرنسي اسم ساحة الكابتن ديكاربانتيري.
صورة قريبة ملتقطة من الغرب من طريق بندق ( أي من الباكستان حالياً ) ، الى الشرق ( أي باتجاه شارع بغداد ) للنقوش الكتابية بعد ازالة الإفريز الحجري البازلتي الجميل ؛
النصب التذكاري للكابتن غاستون
وتركيب بدلاُ عنه نقوش باللغة العربية ما نصها: 11 نيسان سنة 1894 ( وهي تاريخ ميلاد الكابتن غاستون ديكاربانتيري ) و 11 أيلول سنة 1925 ( وهي تاريخ مصرعه في سورية ) .
النصب التذكاري للكابتن الفرنسي ” ديكار بانتيري ” ساحة السبع بحرات حالياً بدمشق .
شارع باكستان و شارع العابد بعد جلاء قوات الاحتلال الفرنسي عن سورية في 17 نيسان (أبريل) 1946، أقدمت حكومة فخامة الرئيس شكري القوتلي ، على إزالة هذه القبة …. للتخلص من آثار حقبة الاحتلال الفرنسي على سورية، وأبقي على البحرات الخمس وعلى الساحة التي أخذت اسم ( ساحة 17 نيسان ) تخليداً لذكرى عيد جلاء القوات الأجنبية عن سورية قاطبة .
ساحة السبع بحرات نهايات أربعينات القرن العشرين
و يبدو في هذه الصورة الجميلة ساحة السبع بحرات في نهاية أربعينات القرن العشرين الملتقطة من مبنى عمارة ( آل الشبؤون ) من الشرق إلى الغرب ، ويبدو في يمين الصورة شارع بعيرة وذلك نسبة إلى جامع بعيرة الظاهر في أقصى يمين الصورة والذي أنشأه الحاج أبو راشد بعيرة في زاوية أول الشارع في عام 1938 .
وكانت تسميته القديمة ( طريق بستان بندق / الشارع المصدراني أي قبل عام 1922 ) والذي يصل بين ساحة السبع بحرات ، وبين محلة الشهداء ( أرزة ) وساحة عرنوس بطريق الصالحية . وقد تغير اسم هذا الشارع إلى اسم شارع الباكستان على أثر استقلال دولة الباكستان عن الاحتلال الإنكليزي .
كذلك يبدو شارع العابد و الواصل بين ساحة السبع بحرات و شارع المجلس النيابي بطريق الصالحية ، وقد أنشئ هذا الشارع في عام 1937 وينسب لأول رئيس في عهد الانتداب الفرنسي للجمهورية السورية / السيد الرئيس محمد علي بن أحمد عزت باشا العابد ( صاحب بناء العابد ) بساحة المرجة .
علاوة على ذلك يبدو في أقصى يسار الصورة بداية شارع ( 29 أيار ) و الواصل بين ساحة السبع بحرات و بين بوابة الصالحية ، وكان هذا الشارع يدعى باسم شارع الكابتن ديكاربانتيري و قد تغير اسمه بعد الجلاء إلى شارع 29 أيار ، وهي الذكرى الأليمة للعدوان الفرنسي الغادر على دمشق وكافة المدن السورية في 1945 للميلاد
في الخمسينات والستينات والسبعينات
حينما هاجمت قوات السنغال و المرتزقة حامية البرلمان من الدرك القلة ، فكانت المجزرة الهمجية الوحشية ، والتي ذُبح فيها أبطال هذه الحامية ، ثم مُثل بالجثث وأحرقت ، كانت تلك الأيام تُمثل مأساة التاريخ الهمجي البربري المروع على البرلمان السوري ,ويمتد هذا الشارع حتى ساحة الشهيد وزير الحربية يوسف العظمة من بوابة الصالحية .
مطلع السبعينات
صورة لساحة السبع بحرات في خمسينات القرن العشرين بعد إزالة نصب الكابتن ديكاربانتيري من وسط الساحة ملتقطة من الجنوب إلى الشمال و تبدو مئذنة جامع بعيرة شامخة مهيمنة على الساحة بعد شق شارع القائد الأموي البارع في الأندلس عبد الرحمن الغافقي والواصل حالياً بين ساحة السبع بحرات و بين ساحة المناضل السياسي ضد الاستعمار الفرنسي الشهيد عبد الرحمن صالح الشهبندر ( ساحة الشهبندر )
وتم فتح هذا الشارع إبان الحرب العالمية الثانية 1941 للميلاد . وما تزال ساحة السبع بحرات الى اليوم لحظة تدوين هذا البحث 2007 من أهم ساحات مدينة دمشق لكونها تحتضن المصرف السوري المركزي ومؤسسات المال السورية الخاصة والعامة ، و تكمن أهميتها في التقاء شوارع العاصمة بها أهمها شارع بغداد ، و شارع مرشد خاطر ، و شارع عبد الرحمن الغافقي و شارع الباكستان ، و شارع العابد و شارع 29 أيار , وبها أهم أسواق دمشق الاقتصادية والتجارية .
تبيان المسائل وحل المشاكل في سرد الحوادث الخلاصية…
هل أمضى يسوع المدفون في القبر ثلاثة ايام في القبر؟
توطئة
لما كان موت المخلص على الصليب ودفنه بالجسد وقيامته في اليوم الثالث من الاموات من اهم قواعد الايمان المسيحي رأينا مفيداً أن نثبت حل أهم مايتولد في ذهن القارىء البسيط من المشاكل والمسائل التي توهم وجود اختلاف، وعدم اتفاق بين البشيرين الالهيين في سردهم تلك الحوادث الخلاصية.
ولكي يسهل علينا حل هذه المشاكل والمسائل يجب علينا أن ننتبه للأمور الآتية، وهي
– اولاً: ان البشيريين الأربعة لم يكتبوا بشاراتهم الانجيلية في وقت واحد بل كتب اولاً متى ثم مرقس ثم لوقا ثم يوحنا.
– ثانياً: ان مايذكره الواحد منهم من أقوال المسيح وأعماله بتطويل وتصريح قد يذكره الآخرون باقتصار وتلميح لا بل كثيراً مايغفل الواحد منهم تمام الاغفال ذكر ما أورده الآخر أو يذكر ما أضرب عنه الآخر.
– ثالثاً: ان البشائر الأربع والحالة هذه تكمل احداها الأخرى ويفسر بعضها بعضاً.
ولهذا من مقابلتها بعضها مع بعض يمكننا أن ندرك تقريباً كل قول أو عمل أو حادث جرى في حياة المخلص على الأرض ماعدا تلك الأقوال والأعمال والحوادث الكثيرة التي لم يرَ البشيرون حاجة الى تدوينها فحفظ النقليد أهمها الى أن دونها آباء الكنيسة ومعلموها الأعلام. وهذه هي التي أشار اليها البشير يوحنا في آخر انجيله اذ قال” وأشياء أُخر صنعها يسوع لو انها كتبت واحدة فواحدة لما ظننت ان العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة.” (يو25:21)
واذ عَلِمنا هذا فنقول
اولاً
من جهة الساعة التي عُلق فيها المخلص على الصليب فلا يذكرها الا البشيران مرقس ويوحنا. ولكن على صورتين، أما الأول فيقول” وكانت الساعة الثالثة فصلبوه” (مر25:15)، وأما الآخر فيقول” وكان استعداد الفصح وكان نحو الساعة السادسة… حينئذ أسلمه بيلاطس اليهم ليصلبوه” (يو 18: 16و14). فكيف يمكننا التوفيق بين ساعة مرقس الثالثة وساعة يوحنا السادسة؟
يمكننا التوفيق بينهما على ثلاثة أنواع وهي
اولاً لما كان النهار منذ شروق الشمس حتى غروبها يؤَلف من اثنتي عشرة ساعة، وكان اليهود يقسمونه الى اربعة أقسام كل منها يسمى باسم الساعة التي يبتدىء منها، فكانوا يقولون للقسم الأول الساعة الأولى، وللقسم الثاني الساعة الثالثة، وللقسم الثالث الساعة السادسة، وللقسم الرابع الساعة التاسعة. كذلك أيضاً الرومانيون كانوا يقسمون بياض النهار أربعة أقسام ولكنهم يسمون كل قسم منها باسم الساعة التي ينتهي فيها. فكان القسم الأول يسمى عندهم الساعة الثالثة، والقسم الثاني الساعة السادسة، والقسم الثالث الساعة التاسعة، والقسم الرابع الغروب.
صلب الرب يسوع
وبناء على هذا تكون ساعة مرقس الثالثة على حسب اصطلاح اليهود هي ساعة يوحنا السادسة على حسب اصطلاح الرومانيين أي هما كلتاهما القسم الثاني من النهار وبالتالي تكون روايتا البشيرين على اتفاق تام.
ثانياً ولو اعتبرنا كون البشيرين مرقس ويوحنا يسردان رواية صليب المخلص على اصطلاح حسابي واحد هو الاصطلاح اليهودي الثابت تاريخياً أكثر من الاصطلاح الروماني لأمكننا التوفيق بينهما من نص الكلام نفسه. لأن البشير مرقس بقوله ان المخلص صُلب في الساعة الثالثة يعني ان ذلك كان في القسم الثاني من النهار وهو يجري حسب اصطلاح اليهود كما قلنا آنفاً من الساعة الثالثة الى الساعة السادسة. واما البشير يوحنا فبقول أن بيلاطس أسلم يسوع الى اليهود ليصلبوه نحو الساعة السادسة يعني ان ذلك كان قُبيل الساعة السادسة أي قبل دخول القسم الثالث من النهار فيكون داخلاً في القسم الثاني أي في الساعة الثالثة وفقاً لما رواه البشير مرقس بالتمام.
ثالثاً واخيراً يمكننا التوفيق بينهما اذا قلنا أن البشير مرقس قد دوَّن الساعة التي فيها اصدر بيلاطس حكمه بصلب المسيح، وأما البشير يوحنا فقد دوَّن الساعة التي فيها صلب الرب يسوع، ويؤيد هذا القول القديس أغناطيوس المتوشح بالله أسقف أنطاكية، وأحد تلامذة القديس يوحنا الرسول اذ يقول:” ففي الجمعة الساعة الثالثة اقتبل يسوع الحكم من بيلاطس بسماح من الآب.” وفي الساعة السادسة صُلب، وفي الساعة التاسعة أسلم الروح.”
ونرد نحن بخلاصة مفيدة على من يقول ان يسوع لم يقضِ ثلاثة ايام في القبر، أو يسأل أين الايام الثلاثة وهي في مصطلحنا 72 ساعة، بمعنى اوضح هناك مشكلة حول الأيام الثلاثة وكيفية عدها وقياسها، لأننا نعرف ان المسيح دفن عند الساعة الثالثة من بعد ظهر الجمعة العظيم، وقام صباح الأحد يقول القديس يوحنا الدمشقي تفسيراً بأن هناك فعلياً ثلاث ليال وثلاث نهارات كان فيها المسيح في القبر.
في تفسير ظروف الصلب، نقول أنه بحسب العهد القديم، سمى الله العتمة ليلاً والنور نهاراً، فالظلام الذي ساد عند الصلب من الثانية عشر الى الثالثة من بعد الظهر هو ليل، لأن الشمس لم تظلم من أي سحابة أخفت اشعتها، وهكذا يكون الظلام قد وقع على كل العالم لأن قوة النور التي تأتي من جسم الشمس اختفت من الساعة الثالثة حتى مغيب الشمس يكون نهاراً، هذا يكمل أو ليل ونهار. ومن ثم هناك ليل الجمعة وصباح السبت اللذين يُحسبان ثابتين. اما نهاية ليلة السبت وبداية فجر الأحد حين قام المسيح فيشكلان الليل والنهار الأخيرين…وهو تفسير منطقي…
ان اليوم الليتورجي او الطقسي المبني على مايقوله الكتاب المقدس في العهد القديم يبدأ من المساء، “وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً”. وبالتالي فإن اليوم الليتورجي يبدأ من المساء…
عندما القي القبض على يسوع وحوكم، وكان يوم الخميس مساء اي مانسميه ليتورجياً “الخميس العظيم المقدس” وفيه تناول الرب يسوع العشاء الأخير مع تلاميذه، وفيه ناول اول لقمة ليهوذا الاسخريوطي فخرج لتسليمه، وبعد العشاء انتقل يسوع وتلاميذه الى بستان الزيتون حيث جاء الجنود مع يهوذا، وسلم الرب بقبلة اليهم، وتم سوق الرب الى مجمع اليهود حيث حاكموه، ثم انتقلوا به الى دار الولاية في ليلة طويلة متعبة للجميع وبالذات لبيلاطس، حيث حكم عليه بالصلب بعدها بناء على طلب اليهود باصرار واطلاق باراباس.
نسمع في الكتاب المقدس التوقيتات: الساعة الاولى والثالثة والسادسة والتاسعة والثانية عشرة وهي توافق في مفهومنا الحالي: الأولى يعني الساعة الساعة السادسة صباحاً، والساعة التاسعة توافق في وقتنا الحالي الساعة التاسعة في الضحى، اما الساعة السادسة وفق مصطلح اليهود فتوافق الساعة الثانية عشرة ظهراً عندنا، اما الساعة التاسعة فتوافق الساعة الثالثة بعد الظهر عندنا، والساعة الثانية عشرة توافق الساعة السادسة مساء عندها يدخل اليوم كما اسلفنا…
يوم الجمعة صلب يسوع في الساعة السادسة اي في الساعة ال12ظهراً في توقيتنا الحالي، واسلم الروح على الصليب، ودفن في يوم الجمعة، لأنه في التقليد الليتورجي اليهودي حيث يعيدون حادثة الخروج من ارض مصر وهو عيد الفصح الناموسي لديهم (وعند الاستعداد للخروج من ارض مصر كان يتم ذبح الخروف المعد للعشاء بين العشائين) اي بين العصر اي الساعة التاسعة وفق نهار اليهود والساعة الثالثة بعد الظهر وفق نهارنا الحالي، والمغيب اي الساعة الثانية عشرة في اصطلاح اليهود، وهو عندنا اليوم الساعة السادسة مساء عند المغيب.
هم دفنوه بين الثالثة والسادسة سريعاً قبل دخول يوم السبت لانهم لايعملون يوم السبت عموماً، وخصوصاً انه كان هذا السبت عظيما اي يوم عيد الفصح الناموسي عندهم، ولايجوز عندها “ان تبقى الاجساد معلقة على الصليب يوم السبت…”
المسيح قام…حقا قام
اذن في يوم الجمعة تم الصلب والدفن، وهذا هو اليوم الاول للدفن، اما اليوم الثاني فكان يوم السبت الذي بدأ في الساعة السادسة عند الغروب اما اليوم الثالث فهو من مساء السبت اي غروب الاحد الى ان اعلنت القيامة فجراً…
فبهذا تكون الايام الثلاثة (ووفق معتقد حساب اليهود ومصطلحهم الذي حكينا به، ومابشر به اشعياء النبي ورواية يونان وبقائه ثلاثة ايام في بطن الحوت) بلياليها لأن يوم اليهود يبدأ من الليل.
ثانيا
ان البشيريين الأربعة يقولون باتفاق أنه قد صُلب لصان مع يسوع الواحد عن اليمين والآخر عن اليسار، ويسوع في الوسط، غير ان متى ومرقس يقولان ان اللصين كانا يعيران يسوع (مت 44:27 ومر32:15) في حين ان لوقا يؤكد ان أحد اللصين فقط كان يجدِّف على يسوع(لو39:23). فكيف يمكن التوفيق بين رواية متى ومرقس ولوقا؟
فنجيب أنه في بادىء الأمر كان اللصان كلاهما يعيران يسوع كما يذكر البشيران متى ومرقس، ومن ثم تاب احدهما أي لص اليمبن وأما الآخر أي لص اليسار فلم يتب بل صار أيضاً يجدف على يسوع وهذا مايذكره لوقا.
ثالثاً
ان المخلص كثيراً ماسبق فقال لتلاميذه عن أنه مزمع أن يُسلم الى أيدي الناس فيقتلوه ولكنه في “اليوم الثالث يقوم”(مت 31:16 و23:17 و19:20 ومر31:9 و34:10 ولو22:9 و33:18).
لا بل سبق أيضاً فقال لهم أنه بدفنه وقيامته ستتم آية يونان النبي، اذ قال ” أنه مثلماً كان يونان في بطن الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليال، كذلك يكون ابن البشر في قلب الأرض ثلاثة ايام وثلاث ليال” (مت40:12).غير ان البشيرين متى ومرقس ولوقا (مت 46:27 و50 ومر 34:15 و47 ولو 44:23 و46) يقولون باتفاق أن موت المخلص على الصليب كان نحو الساعة التاسعة من يوم الجمعة اي قبل غروب الشمس بثلاث ساعات فيكون دفن جسده في القبر قد تم قبل انتهاء نهار الجمعة أي قبل غروب الشمس بنحو ساعة أو أقل. واما قيامته من القبر فكانت عند بزوغ فجر نهار الأحد بحسب شهادة البشيرين الاربعة (مت 1:28 ومر 2:16 ولو 1:24 ويو 1:20). فأين الأيام الثلاثة والليالي الثلاث التي اقامها المخلص في القبر وفقاً لآية يونان النبي؟
فالجواب هو انه لما كانت كل آية أو نبوة من آيات العهد القديم ونبواته الرمزية ترمي الى غرض جوهري وهو اظهار حقيقة او أكثرمن حقائق عمل الفداء العظيم بربنا والهنا يسوع المسيح كان الغرض الجوهري من آية يونان النبي هو الاشارة الى دفن المخلص في قلب الأرض أي في القبر ومن ثم قيامته من القبر في اليوم الثالث من يوم دفنه كما برز يونان من بطن الحوت في اليوم الثالث من يوم دخوله اياه:
ثم من المعلوم أن اليوم الكامل يتألف من 24 ساعة، فقول الكتاب” ثلاثة ايام وثلاث ليال، يعني ثلاثة نهارات وثلاث ليال اي ثلاثة ايام كاملة كل منها يؤلف من 24 ساعة تبتدىء عند اليهود وتنتهي بغروب الشمس دائماً . وكل مايحدث في مدة هذه الاربع وعشرين ساعة سواء كان في أولها أو في منتصفها أو في آخرها يعتبر ويقال انه حدث في يوم واحد. فلما كان دفن جسد المخلص في القبر قد تم في يوم الجمعة (وان يكن في الساعة الأخيرة منه) وقيامته من القبر قد تمت في يوم الأحد (وان يكن في منتصف ليله) عرفنا أن المخلص حقاً قام من القبر في اليوم الثالث من بعد دفنه في قلب الأرض كما سبق له المجد فقال هذا لتلاميذه مراراً عديدة قبل آلامه وموته، على ما أوردنا آنفاً، ومن ثم حقق أيضاً بعد قيامته لرسله الأحد عشر الذين ظهر لهم وهم مجتمعون في اورشليم وقال لهم:”هكذا كُتب وهكذا كان ينبغي للمسيح أن يتألم وان يقوم في اليوم الثالث من بين الأموات”(لو46:24).
رابعاً
ان البشيرين مرقس ولوقا يذكران أمراً لايذكره البشيران الآخران متى ويو، وهو ان النساء اللواتي أتين مع يسوع من الجليل بعدما تبعن يوسف ونيقوديموس، وأبصرن القبر، وكيف وُضع فيه جسد يسوع رجعن الى المدينة، واشترين حنوطاً واطياباً. لكن في ذلك اختلافاً اما مرقس فيقول” ولما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم ام يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويحنطن يسوع”(مر1:16). وأما لوقا فيقول” وكان يوم الجمعة وقد أخذ السبت يلوح وكانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل… فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده. ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً وفي السبت استرحن على حسب الوصية” (لو 54:23 -56). فيظهر من كلام لوقا أن النسوة اشتنرين الحنوط والأطياب يوم الجمعة وليس بعدما انقضى السبت كما يقول مرقس فكيف يمكن التوفيق بينهما؟
ان هذا الاختلاف الظاهر بين روايتي البشيرين يزول اذا انتبهنا الى قول لوقا “أعددن” والى قول مرقس”اشترين”. ثم أن قول لوقا “وكان يوم الجمعة وقد أخذ السبت يلوح” يعني وقت الشفق وهو الحمرة في الأفق من غروب الشمس الى حلول الظلام الحالك. واذا علمنا هذا فيكون المعنى أن النسوة عندما تبعن يوسف ونيقوديموس ونظرن القبر الذي فيه دُفن جسد يسوع، قفلن راجعات الى المدينة ولكنهن لم يصلن الى محلات بائعي الحنوط والأطياب حتى كان وقت الشفق أي قبل غروب شمس نهار الجمعة وقرب حلول بدء يوم السبت فاضطررن ان يتفقن فقط مع بائعي الحنوط والأطياب على ثمنها ويعددنها بدون ان يدفعن ثمنها او يأخذنها وذلك لدخول يوم السبت الذي يأمر الناموس بالاستراحة فيه من كل عمل. (هذا مارواه لوقا).
ولما انقضى السبت ذهبت النسوة الى بائعي الحنوط والأطياب واشترينها اي دفعن ثمنها وأخذنها ( وهذا مارواه مرقس) فتأمل.
خامساً
ان البشيرين الأربعة يقولون باتفاق أن ذهاب النسوة حاملات الطيب الى قبر يسوع كان في اليوم الأول من الأسبوع أي يوم الأحد باكراً جداً، أي في بدء ظهور نور فجر نهار الأحد. لأن البشير متى يقول” وفي غلس السبت المسفر عن أول الأسبوع” (مت1:28) والبشير مرقس يقول” وباكراً جداً في أول الأسبوع” (مر2:16) والبشير لوقا يقول” وفي اول الأسبوع باكراً جداً” (لو1:24) والبشير يوحنا يقول ” وفي اول الأسبوع… وفي الغداة والظلام باقٍ” (يو1:20).
غير أن مرقس حالاً بعد قوله ” وباكراً جداً في اول الأسبوع” يقول ” وقد طلعت الشمس” (مر2:16) فيظهر مخالفاً لنفسه ولسائر البشيرين. فكيف يمكننا إزالة هذا الاختلاف؟.
ان هذا الاختلاف يزول اذا عرفنا أن البشيرين الثلاثة متى ولوقا ويوحنا انما يذكرون الوقت الذي فيه خرجت النسوة من بيوتهن في المدينة وشرعن في المسير بدون أن يذكروا لنا الوقت الذي فيه وصلن الى القبر. وأما البشير مرقس فيذكر لنا الوقتين لأنه بقوله ” وباكراً جداً في أول الأسبوع” يشير الى وقت شروع النسوة في المسير كما يرويه البشيرون الآخرون. وبقوله ” وأتين القبر وقد طلعت الشمس” يشير الى أن وصولهن الى القبر كان بعد طلوع الشمس وذلك لبعد المسافة بين بيوتهن في المدينة وبين القبر في البستان خارج المدينة.
سادساً
يظهر اختلاف في رواية البشيرين الأربعة عن رؤية النسوة حاملات الطيب ملاكاً أو ملاكين وخارج القبر أو داخله. لأنه أولاً: أما متى ومرقس فيذكران ملاكاً واحداً وأما لوقا ويوحنا فيذكران ملاكين. وثانيا: أما متى فيقول أن “الملاك كان جالساً فوق الحجر خارج القبر”( مت 28 :2-7) ويوافقه لوقا بقوله “ان الملاكين ظهرا للنسوة خارج القبر”( لو 24 :4-7)، وأما مرقس فيقول ان الملاك كان جالساً في الجهة اليمنى من القبر أي داخل القبر (مر 16 :5-7) ويوافقه يوحنا بقوله “ان الملاكين كانا جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً أي داخل القبر”(يو 20: 11-13). فكيف يمكننا إزالة هذا الاختلاف؟.
ان هذا الاختلاف أيضاً انما هو بحسب الظاهر فقط، والحقيقة هي أنه ظهر للنسوة ملاكان كما يقول لوقا ويوحنا. لكن متى ومرقس لم يذكرا الا الواحد منهما الذي تكلم مع النسوة. ثم أن النسوة لما وصلن الى القبر كان أحد الملاكين جالساً على الحجر المدحرج عن باب القبر، والثاني واقفاً بالقرب منه ثم دخلا كلاهما القبر كدليلين للنسوة. فلما دخلت النسوة أيضاً الى القبر رأين أحدهما جالساً في الجهة اليمنى من القبر أي عند الرأس والآخر عند الرجلين.
سابعاً
ان البشير مرقس يقول: ان النسوة بعدما خرجن من القبر هربن”ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات”(مر8:16). واما البشيرون الآخرون فيقولون أنهن رجعن الى القبر وأخبرن الرسل بكل مانظرن وسمعن (مت8:28 ولو 9:24 ويو 2:20). فكيف يمكننا التوفيق بين رواية مرقس ورواية بقية البشيرين الثلاثة؟.
فنقول أن الروايتين كلتيهما صادقتان والمعنى هو أن النسوة حينما خرجن من القبر كنَّ بهذا المقدار مضطربات من الخوف والحيرة حتى انهن أخذن يركضن سريعاً بدون أن يقلن لأحد شيئاً وهن ماشيات في الطريق كما يذكر مرقس البشير. ولكن حين وصولهن الى حيث كان التلاميذ مجتمعين أخبرن الأحد عشر رسولاً وسائر تلاميذ الرب بكل مانظرن وسمعن كما يروي بقية البشيرين.
يدور موضوع هذا الأحد حول الماء المتحرّك في بركة الضأن ومعجزة شفاء المخلّع.
لقد صعد يسوع إلى أورشليم، كما ذهب إلى السامرة ليقابل السامريّة. لقد صعد إلى أورشليم. وفي أورشليم عند باب الضأن بركة يقال لها بالعبرانية «بيت حسدا» أي الرحمة الإلهيّة ولها خمسة أروقة.
باب الضأن هو باب في سور أورشليم بجانبه الحظيرة التي كانوا يأتون منها بالخراف لتقديمها ذبائح في الهيكل تكفيرًا عن الخطايا وعلى الأرجح أن الكهنة كانوا يغسلون هذه الخراف هناك. وحينما بقيت ذبائح الناموس ناقصة في شفائنا أتى الرّب يسوع المسيح ليشفينا. أتى ليشفي المريض المقعد، فهو الذي يأخذ المبادرة ليشفي أمراضنا ويلاقينا.
الرب يسوع الضابط الكل بقدرته
يقول القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم إنّ النصّ الإنجيليّ هذا تصوير مسبق للمعمودية. وتحريك الماء إشارة إلى ما سيعمله الروح القدس في كلّ من يقبله.
هنا نرى تدخّلاً سماويًّا عجائبيًّا في العهد القديم لشفاء أمراض ميؤوس من شفائها. وفكرة الماء الذي فيه قوّة الشفاء والحياة موجودة في العهد القديم ما هي إلّا استباق لمجيء الطبيب الشافي نفسًا وجسدًا. المسيح في العهد الجديد شفى الأعمى بأن صنع له مقلتين من طين ثم أمره أن يغتسل في بركة سلوام إشارة لما يعمله الروح القدس عندما يغتسل الإنسان تائبًا وطالبًا رحمة الله.
مياه بركة الضأن
مياه المعموديّة
مياه بيت حسدا كانت تتحرّك أحيانًا.
أمّا مياه المعموديّة فيمكنها أن تتحرّك دومًا.
كانت تلك المياه تتحرّك في مكان واحد فقط.
أمّا مياه المعموديّة فتتحرّك في كلّ مكان من العالم.
هناك كان ملاك ينزل.
وهنا ينزل الروح القدس.
هناك كانت نعمة الملاك،
والآن يتجلّى سرّ الثالوث القدّوس.
تلك المياه كانت تشفي الجسد،
أمّا هذه فتشفي الجسد والنفس معًا.
تلك المياه كانت تعيد الصحة.
أمّا هذه فتشفي من الخطيئة.
يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو(+٣٩٧):
كانت للناس علامةٌ، أمّا أنتم فلكم الإيمان. عليهم كان ينزل ملاكٌ، وعليكم ينزل الروح القدس. لأجلهم كانت الخليقة تتحرّك، ولأجلكم يعمل المسيح نفسه، ربّ الخليقة. آنذاك واحدٌ فقط كان ينال الشفاء، والآن يصبح الجميع أصحّاء. تلك البركة كانت رمزًا لتؤمنوا بأنّ قوّة الله تنزل على هذا الجرن(جرن المعموديّة). ويرى القدّيس امبروسيوس أيضًا “أنّ نزول الملاك يرمز إلى نزول الروح القدس الذي ينزل في أيّامنا ويقدّس المياه التي تحرّكها صلاة الكاهن. في ذلك الوقت كان الملاك خادمًا للروح القدس، والآن نعمة الروح أمست دواءً لأمراض نفوسنا وأذهاننا”.
نزول الملاك وتحريكه للماء يرمزان إذًا إلى نزول الروح القدس على مياه جرن المعموديّة. وتحريك الماء والشفاء كانا تحريكًا لأذهان اليهود ونبوءة لهم أنّ شيئًا ما سيحدث قريبًا.
المرأة السامرية وماء الحياة
كانا إشارة للماء الحيّ الذي يعطيه المسيح كما قال للسامريّة، وللماء الذي يَلِدْ من فوق كما قال لنيقوديموس، وإشارة للروح القدس الذي يرسله المسيح
لذلك نصلّي “روحك القدّوس جدّده في أحشائنا” مع النبيّ داود الذي قال “قلبًا نقيًا أُخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي”. ومن له القلب النقي فهو الخليقة الجديدة (٢كو١٧:٥). هكذا إذًا، الماء الحيّ المتحرّك هو إشارة إلى الروح القدس الذي سيحلّ على كنيسة المسيح ليشفي طبيعتنا (واليهود يسمّون الماء المتحرك ماءً حيًّا).
بيت حسدا
اسم بركة بيت حسدا أي بركة بيت الرحمة يعود للأشفية التي كانت تجري فيها. ولطالما هاجم نقّاد الكتاب المقدّس هذا النص إذ لم يستدلوا على بركة بهذا الإسم، إلى أن تم اكتشاف البركة فعلًا ووجدوا لها ٥ أروقة ووجدوا أنّها إنطمست أثناء غزو الرومان. والأروقة هي دهاليز مسقوفة تستعمل كأماكن انتظار للمرضى. والبركة طولها ١٠٠متر. وعرضها يتراوح بين ٥٠ و٧٠مترًا. وحولها أعمدة قسمت المساحة لخمس صالات للانتظار. وكان اليهود يستخدمون هذه البركة للتطهير الناموسي ويتركون ملابسهم في الأروقة، إلى أن حدثت ظاهرة تحريك الماء فتحوّلت البركة إلى مكان إستشفاء. وكان المرضى يضّطجعون في هذه الأروقة. وكانت هذه الظاهرة علامة على قرب مجيء المسيح الشافي الذي كان اليهود ينتظرونه.
مريض منذ ثمان وثلاثين سنة
مريض بركة بيت حسدا يشير إلى من ليس له أحد وهو في حالة ضعف. والفترة التي قضاها في المرض هي فترة ثمان وثلاثين سنة، الزمان الذي قضاه بنو إسرائيل في برّيّة سيناء قبل أن يستطيعوا الوصول إلى أرض الميعاد. أي أنّ هذا الإنسان كان يشبه الشعب التائه في البرّيّة قبل أن يدخل إلى أرض الميعاد.
وكأنّ الإنجيلي أراد أن يقول لنا بذلك إنّ الرّب يسوع المسيح هو أرض الميعاد، وأنّ الإنسان يتيه ويبقى في الحيرة وفي طلبات كثيرة إلى أن يأتيه السيّد. فالمسيح قد أتى إلى البشر المتروكين التائهين ليشفيهم كما أتى إلى هذا المريض. هذه المعجزة إذًا إشارة إلى أنّ هناك تدخّلاً سماويًّا سيحدث ليشفي أمراض الطبيعة البشريّة.
أتريد أن تبرأ؟
نعم، هناك من لا يريد أن يبرأ، فمرضه صار مصدر رزق يكتسب منه. والمسيح يحترم الإرادة الإنسانية، وهو لا يقتحم الإنسان، فنحن مخلوقين على صورته في حريّة الإرادة.
قال المسيح لليهود: “كم مرّة أردت أن أجمع أبناءك… ولم تريدوا” (مت٣٧:٢٣). فالمسيح يريد أن يظهر أن خلاص الإنسان هو بيد الإنسان، والأهمّ هو شفاء الإنسان من الخطيئة.
ويكون سؤال المسيح معناه هل عندك إرادة أن تترك خطيتك، لذا قال له المسيح لا تعود تخطئ أيضًا(آية ١٤) الخطيئة لها نتائج وخيمة على الإنسان. المسيح أتى ليقدّم للمخلّع وللعالم كلّه الشفاء المجّاني، الخليقة كلّها مريضة، فاقدة لبهائها والربّ أتى ليشفيها، ولكن عليها أوّلاً أن تريد أن تشفى.
ليس لي إنسان
المسيح يسأل المخلّع عمّا إذا كان يريد أن يشفى،، فيجيبه بأن ليس له إنسان. هو أسقط الموضوع على الآخرين، كأنّه يقول إنّ المشكلة ليست فيَّ بل في الآخرين. الخاطئ دائمًا يبرّر نفسه.
كم مرة ألقينا همّنا على الناس وفشلنا؟، لكن إذا ألقينا همّنا على الله فلن نفشل (١بط٧:٥)
قم احمل سريرك وامش
قم احمل سريرك وامش
هذا حال كلّ من يصدّق المسيح، فكلمة منه تحيّي العاجز وتنتهر الخطيئة فتلاشيها (يو٢٥:٥ ٦٣:٦- ). الله يعطي القوّة والحياة لأن يسوع هو الحياة، وله سلطان عجيب: قم/ إحمل/ إمش. عجيب أن يقوم المخلّع دون أن يسنده أحد، وبدون علاجٍ طبيعي بعد كلّ هذه المدة من الشلل. المسيح أعطاه حياةً جديدة: قم من القيامة، واحمل من قوّة الحياة، وامش ترمز إلى السلوك في هذه الحياة الجديدة.
فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش
آه، كم غلظت قلوب الكتبة والفرّيسيين. ينظرون ولا يرون، يسمعون ولا يصغون. أليست هذه صورة لحالتنا؟ كم من مرّةٍ ومرّة ننال لبركات والعطايا ونتنكّر؟ من هو؟ ويحمل هذا السؤال السخرية؟ فليس أعظم من ناموسنا الحجري الذي نحن خلقناه لنعبد أنفسنا من خلاله!!!
لماذا صنع المسيح المعجزة في يوم السبت؟
ليس هذه المعجزة فقط، بل المسيح غالبًا ما كان يشفي يوم السبت. والله منع شعبه من العمل يوم السبت حتى يتفرّغوا للعبادة ويذكروا إنتماءهم إليه، فهو نفسه قد ارتاح يوم السبت.
فما معنى راحة الله؟ وهل الله يتعب؟! الله لا يتعب حتّى يستريح. ولكن راحة الله هي في خلاص الإنسان. فحين يقول إستراح الله في اليوم السابع فهذا معناه أن الله إستراح حينما تمّم خلاص البشر. فراحة الله في كمال عمله، والراحة هي راحة الله في الإنسان، وراحة الإنسان في الله. ” الله يستريح في قدّيسيه والقدّيسون يستريحون في الله”، من هنا الإنسان المخلوق على صورة الله أهمّ من حرفيّة السبت وجموده. فكيف إذاً يكون الشفاء في السبت ممنوعًا؟ أليست الشريعة وُضعت من أجل الإنسان؟ فالله في (خر٢٠) نجده يقول إنّه أعطى شعبه الشريعة والسبت ليدل على محبّته له. أعطاهم الشريعة ليحيوا سعداء على الأرض، كما أعطاهم السبت ليذكروا انتمائهم إلى لسماء فيكون لهم نصيب في ملكوت الله.
ونصّ وصيّة السبت كان “أذكر يوم السبت لتقدّسه” (خر٨:٢٠) أي لتخصّصه، لتفرزه للرّب، فيكون للصلاة والتسبيح.
فهل شفاء مريض وخدمته يتعارضان مع هذا المفهوم؟
يسوع هو رب السبت
اليهود خرجوا عن المعنى الروحي، وفهموا الوصيّة وطبّقوها بمعنى حرفيٍّ فقط، فمنعوا أن يحمل إنسان حتى إبرة خياطة يومالسبت. والمسيح أتى ليصحّح هذه المفاهيم، ليعيد للسبت المعنى الروحيّ الحقيقيّ والخلاصيّ. وهو حينما يشفي إنّما يشفي الإنسان كلّه، روحًا وجسدًا (يو٢٣:٧). وطالما أنّه شفى روحه بأن غفر خطاياه، استراح هذا الإنسان في الله، والله استراح فيه، فتحقّق مفهوم السبت. فالمسيح هو رّب السبت (مر٢٨:٢+ لو٥:٦) وهو جاء ليعطي سبتًا أيّ راحةً من نوع جديد عوض الراحة الجسديّة القديمة (عب١٠:٤).
كما وأنّه إذا تصادف، عند اليهود، اليوم الثامن لطفلٍ أن كان يوم سبت، كان يختنون الطفل، إذ الختان في نظرهم عمل مقدّس (يو٢٢:٧-٢٣)، وهذا الختان يجعل الطفل من شعب الله أي ابنًا لله. والختان هو قطع كلّ رباط للشر، ومريض بيت حسدا هذا كان مختونًا ولكنه أخطأ، والمسيح شفاه وغفر خطاياه، فأعاده إلى العهد مع الله، أعاده كابن لله.
بهذا يتحقّق فرح الرّب كما أشار إليه أشعياء النبي(١٣:٥٨-١٤): “هو لذّة الرّب”.
كيف يشفي المسيح موتى الخطيئة؟
الابن له حياة في ذاته، وهو يحيي من يشاء(يو٢١:٥+٢٦)، ومن يسمع له يقوم من موت الخطيئة الآن (آية ٢٥) ويقوم إلى قيامة الحياة في الأبدية (آية ٢٩).
المسيح الذي ظهر أمامنا كإنسان له قوّة الحياة، فيه حياة في ذاته وقد تجسّد ليعطيها لكلّ واحدٍ فيحيا. ولكن الذي يحصل على هذه الحياة هو من يسمع للمسيح، ويؤمن به ويعتمد فيتّحد به ويطيع وصاياه ويتناول من جسده ودمه، وإن أخطأ يتوب، فيظل عضوًا حيًا في جسده. وفي مجيئه الثاني المجيد يكون إتّحاده بالمسيح بلا إنفصال فلا خطيئة في السماء. وفي السماء سيكون لنا أجساد ممجّدة. هذا هو الشفاء الكامل والحقيقي.
يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع
الرّب لا يطلب المجد من أحد، ولم يكن من المسيح أن يلفت الأنظار إليه كملوك وعظماء هذه الأرض. نحن اذا أحببناه نبحث عنه.
بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل
هل أتى ليشكر الله على هذه العطيّة؟ هلى أتى ليمجّد الخالق على شفائه؟ هل أخبر اليهود أن يسوع شفاه ليبشّر به أم ليرفع المسؤولية عنه؟
لنمجّد الله ونشكره ونعترف به مخلّصًا وشافيًا، له المجد إلى الأبد. آمين.
اعتاد اليهود أن يتركوا بيوتهم في عيد المظال ويقيموا في مظال مؤقّتة لمدة أسبوع ليتذكّروا أنّهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.
خلال الأيام السبعة الأولى للعيد، كانوا يحضُرون ماء من بركة سلوام، في إناء ذهبي، ويسكبه رئيس الكهنة أمام الشعب ليُعلِنَ أنّ من كان عطشانًا فليقترب ويشرب. كان ذلك إشارة إلى الصخرة التي كانت تفيض ماء على الشعب في البريّة. وفي اليوم الثامن لا يحضر ماء من البركة إشارة إلى أن الشعب يشرب من ينابيع كنعان وليس من مياه البرّية.
في هذا اليوم وقف السيّدُ المسيح، رئيسُ الكهنة الأعظم، وأسقف نفوسنا، ليقرّب نفسه ينبوع مياه يفيض بالمياه الحيّة في أعماق نفوس المؤمنين، سائلًا ايّاهم أن يشربوا بفرحٍ من آبار الخلاص (إش ٣:١٢؛ زك ٨:١٤؛ يوئيل ٢٨:٢-٣٢).
الرب يسوع الضابط الكل بقدرته
أثار شفاء المفلوج في يوم السبت هياج القيادات الدينيّة (يو١٦:٥) فأرادوا قتله، إما بإثارة الشعب ضده، أو بإصدار حكم قضائي بِحَقِّه، لكنّه في المقابل لم يتخلَ عن رسالته وعمله الخلاصي، فهو أتى ليفدي البشريّة.
يومًا عد يومٍ كانت تزدادُ العداوة والحقد والضغينة في قلوب القيادات اليهوديّة الدينية ضد شخص يسوع المسيح، ففي نظرهم أنّهُ شوّه صورة المسيّا المنتظر. أرادوا المسيّا الذي حسب هواهم البشري، وليس حسب خطة الله الفائقة.
طروبارية نصف الخمسين، باللحن الثامن
في انتصافِ العيدِ اسِقِ نفسي العَطشى، من مياهِ العِبادَةِ الحسَنةِ أيُّها المُخلّص. لأنَّكَ هَتَفتَ نحو الكلِّ قائلاً: منْ كان عطشانًّا فليأِت إلَّيَّ ويَشرَب. فيا يَنْبوعَ الحياةِ أيُّها المسيحُ الإلهُ المجدُ لك.
طروبارية نصف الخمسين، بين الفصح والعنصرة، مستوحاة من إنجيل يوحنا:
1- وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلًا:« إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي». قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد. (يوحنا ٣٧:٧-٣٩).
2- ومن حديثه للمرأة السّامريّة عند بئر يعقوب (يوحنا ٤)
عيد المظال
يُحتفل بِهذا العيد في ١٥تشري Tisri، أو تشرين الأول أو ليثام، ما بين النصف الأخير من ايلول والأوّل من تشرين الاول، وهو الشهر السابع من السنة المدنية والثاني من الدينية، إذ كانت السنة الليتورجيا تبدأ في شهر أيلول.
أخذ العيد اسمه من المظال التي كانت تُقام بجوار الهيكل، وفي الأماكن العامة، والميادين، وأسطح البيوت، والحدائق، حيث يَسكن اليهود لمدّة ثَمانيةِ أيام تذكارًا للأربعين عامًا التي عاشها آباؤهم في البرية. وهو أحد الأعياد الثلاثة الكبار التي كان يلتزم كلّ الرجال خلالها أن يصعدوا إلى أورشليم حسب الشريعة.
عيد المظال عند اليهود
أهم سمات هذا العيد هو الفرح الغامر، والسكنى في المظال، وطقسه الفريد، الذي تميّز بظاهرتين متكاملتين هما: سكب الماء والإنارة. إعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيومٍ، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر، ليشترك في عيد الكفّارة، ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال فيها.
من جِهةِ سكب الماء، يذكر التلمود أنّه ابتداءً من اليوم الأول، ولمدّة سبعة أيام مُتتالية، يخرج في الفجر موكبان عظيمان: الموكب الأوّل يتوجّه لجمع أغصان الزيتون، وسعف النخيل، وأغصان الأشجار الأخرى كالصفصاف والآس، فيربطونها معًا بخيوطٍ ذهبية أو فضيّة أو أشرطة. كانوا يحملونها طول النهار ويأخذونها في المجامع، ويمسكون بها أثناء الصلوات. وفي الأيام التالية، يحملونها معهم إلى الهيكل، ويسيرون بها حول المذبح، وهم يسبّحون: “أوصنا، نطلب إليك خلصنا!”.
تُضرب الأبواق من كلّ جانب. ولعل القدّيس يوحنا الإنجيلي كان يشير إلى هذا العيد وهو يتحدّث عن نفوس الشهداء في الفردوس التي تحت المذبح (رؤ٩:٦) وقد أُعطيت سعف النخيل وهي تسبّح: الخلاص لإلهنا…
أمّا ما يحسبه اليهود أكثر طقوس هذا العيد فرحًا، فهو أن يتوجه الموكب الثاني إلى بركة سلوام، يترأسُه رئيس الكهنة يحمل إبريقًا ذهبيًا ليغرف به الماء من البركة، ويملأ الإبريق ثُمَّ يأتي به إلى الهيكل.
وكانت جماعات المرتّلين ترافق الموكبَين، ليعود الموكبان بين الهتافات والتسابيح المـُقتَبَسِ بعضُها من إشعياء ١٢ “هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (إش ١٢: ٢ – ٣).
يصل الموكبان إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلّةً جميلةً على المذبح بينما يستقبل الكهنةُ رئيسَ الكهنة الذي يحمل الإبريق الذهبي بالنفخ ثلاثًا في الأبواق.
يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل إبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسَين من الذهب مثقوبَين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح. وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام، في أيام العيد، تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي، وشُربِ آبائهم منها، متذكّرين كلمات إشعياء النبي: “أيها الجياع جميعًا هلمّوا إلى المياه، والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلُوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا”، “فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (إش ١:٥٥؛ ٣:١٢).
كان الصدّوقيون يرون ضرورةَ الاقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام ٩٥ ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدّوقيين، قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح، فثار ضدّه الفرّيسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدّوقيين والفرّيسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قُتل أكثر من ستة آلاف شخص.
على أيّ حال، إذ عندما كان الماء والخمر يُسكبان على المذبح، كانت تعزف موسيقى الهيكل وترنَّم مزامير التهليل (١١٣-١١٨). وكانوا عندما يَصِلُون في التّرنيم إلى المقاطع التالية: “إحمدوا الرّب لأنّه صالح”، “يا رّب أنقذ”، “إحمدوا الرّب” (مز ١:١١٨، ٢٥، ٢٩)، يلوح المتعبّدون بالأغصان حول المذبح.
هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء، أن اليوم الثاني من العيد كان يُسمّى “الاحتفال الأصغر” تبتدئ معه احتفالاتٌ مسائيّة مبهجة تَستَمِرُّ طول أيّام العيد وتُسمّى “فرح مجاري المياه”.
وقد جاء في التَّلمود بكلّ وضوح: “لماذا دُعي اسمه “مجاري المياه”؟ الجواب: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص.
في اليوم السابع يطوفون حول المذبح سبعة سبع مرات، ويسمى هذا الموكب “أوصنا العظيمة Hosanna rabba “.
في هذا العيد كانت تُقدّم ذبائح كثيرة. ففي اليوم الأول يقدّمون إلى جانب الذبائح العادية ذبيحة محرقة، ١٣ ثورًا وكبشَين و١٤ حملًا مع تقديمات من دقيق وسكب الخمر. كما كانوا يقدّمون ماعزًا ذبيحة خطية. وفي الأيام التالية يقدّمون الذّبائحَ نفسَها مع إلغاء ثورٍ واحدٍ كلّ يوم حتى متى جاء اليوم السابع تُقدَّمُ فقط سبعة ثيران. وفي اليوم الثامن، الذي يُحسب قمّة الفرح في هذا العيد، يقدّمون ثورًا واحدًا وكبشًا واحدًا وسبعة حملان ذبيحة محرقة، وماعزًا واحدًا ذبيحة خطيئة مع التقديمات المعتادة وسكب الخمر. وفي هذا اليوم أيضًا يقدّمون في الهيكلّ بكور محاصيلهم الأخيرة أو تلك التي نضجت مؤخرًا.
أوصى موسى بالاحتفال بالعيد لمدة ٨ أيام، لكن اليهود أضافوا يومًا تاسعًا، دعوه “فرح الشريعة” حيث يتمّمون قراءة أسفار موسى الخمسة.
ورد تأسيس هذا العيد في لاويين ٣٤:٢٣، وحدث تجديد له بعد انقطاع ممارسته مدّة طويلة (نحميا ١٤:٨).
يسوع يعلّم في الهيكل
ذهب يسوع في اليوم الرابع أو الخامس من العيد، حتى يترك الشعب في الأيام الأولى منشغلين بالمظال التي صنعوها والأغصان التي يمسكونها طول النهار، والتي لم يدركوا مفاهيمها الروحيّة كما ينبغي، لذا لم تكن أذهانهم مستعدّة، وربما لم يكن لديهم الوقت للانشغال بكلمات السيّد وأعماله.
يسوع يعلم في الهيكل
نُورُ الرّبِّ يسوعَ كشف ظلمة الفرّيسيين، وكأنّه في هذا تتحقّق نبؤات العهد القديم فيه: “هكذا قال السيد الرّب هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها… أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرّب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين والقوي، وأرعاها بعدلٍ” (حز ٣٤: ١١، ١٥-١٦). “وأُقيم عليها راعيًا واحدًا فيرعاها عبدي داود هو يرعاها، وهو يكون لها راعيًا” (حز ٣٤: ٢٣).
ولعلّ ما جاء في إنجيل مرقس يُشكّل خير تعبير لما كان يعمله يسوع بالمجمل: “وللوقت دخل المجمع في السبت وصار يعلّم. فبهتوا من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة، (مر٢١:١-٢٢)، فإنه لم يلتحق بإحدى مدارس الأغنياء، ولا تعلّم عند قدمي الرّبانيّين، ولا سافر ليتعلم في بلدٍ ما كما كان يفعل الفلاسفة، ولا التحق بأية مدرسة عامة في بلده.
تعلّم موسى حكمة المصريين، أما يسوع فلم يتعلم حتى حكمة اليهود. لم يدركوا أنه ليس بمحتاج إلى تسلم المعرفة من يد إنسان، لأنه هو نفسه الحق الإلهي، وأن إرادته واحدة مع الآب.
يشرح القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن تعجّب اليهود منه كان مملوءًا شرًا وذلك حسدًا وغيرةً، فيقول:
“ليس داء أشر من الحسد والحقد، فعلى أساسه دخل الموت إلى العالم، “بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْمَوْتُ إِلَى الْعَالَمِ، فَيَذُوقُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ حِزْبِهِ” (حك ٢٤:٢-٢٥)، لأن إبليس لما أبصر الإنسان مكرّمًا لم يحتمل حُسن حاله، فعمل كل ما أمكنه حتى قتله. وبالحسد ذُبح هابيل، وقارب داود أن يُقتل، وقُتل آخرون كثيرون من ذوي البر، وصار اليهود قتلة المسيح.
أعلن يسوع لهم أن تعليمه ليس مصدره مدرسة أرضية، ولا أحد الرّبيين أو الناموسيين، إنما مصدره الآب السماوي ويؤكّد بأنّه المسيا: “تعليمي ليس لي، بل للّذي أرسلني” (١٦)، وهذا كشف لطبيعته الإلهيّة، ولكن غلاظة قلوب المعلّمين اليهود وكبرياءهم حالتا دون إدراكهم الحقيقة.
وأيضًا يؤكّد القدّيس كيرلس الكبير، أن يسوع بقوله هذا يظهر نفسه معادلًا لله الآب الذي لم يتعلّم قط بل له معرفة كلّ الأشياء بالطبيعة دون تعلّم، لأنه يفوق كلّ فهم، ويعلو فوق كلّ حكمة موجودة في الكائنات. لهذا كان ممكنًا له من خلال أمورٍ أخرى أيضًا أن يُظهر لسامعيه ويؤكد لهم أن كلّ ما في الآب فيه هو أيضًا، بسبب وحدة الطبيعة.
كذلك نقرأ عند القدّيس أمبروسيوس التالي: “أليس تعليمه بدون بلاغة الحروف؟ يبدو أنّه يعلّم ليس كإنسانٍ بل بالأحرى بكونه اللَّه. إنّه لم يتعلّم إنما يدبّر تعاليمه”.
لم يكن يسوع يطلب مجدًا لذاته، إذ إنّ سمة المخادع أو المضل أن يطلب مجد نفسه ويتكلّم عن على نفسه، وهي سمة أضداد المسيح وسِمَةُ الأنبياء الكذبة، الّذين يطلبون تحقيق إرادتهم الذاتية لا مشيئة الله، لذا قال:” تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي (١٦)”.
إن كان الابن قد صار جسدًا، فمع كونه ابنَ الإنسان، إلا أنّ تعليمه ليس محصلة خبرة بشرية، ولا دراسة زمنية، ولا ثمرة فكر خاص، إنما هو تعليم إلهي حق.
إنّه يُعطي لنا مثلًا عظيمًا في التواضع، فإنّه دون شك مُساوٍ للآب في الجوهر.
قول يسوع لهم بأنّه:” ليس واحدٌ منكم يعمل الناموس” (١٩) هو كلام كبير ولا يجرؤ أحد على التلفّظ به، لأن كلّ واحد منّا يعرف ضعفه وخطاياه، فقط هو وحده يستطيع أن يقول: “من منكم يبكّتني على خطيئة؟” (يو٤٦:٨).
واجه السيّد اتّهام الرؤساء له أنّه مضل بفضحهم وجهًا لوجه، ولم يجروء يجرؤ أحدٌ على إجابته بشيء، واتّهامهم لهم بالإعداد لقتله هو مخالفة منهم لناموس موسى بمجمله. وبانكارهم كذبوا أيضًا مع أن هذا صار شبه مكشوف.
وكان من المستحيل بالنّسبة لهم أيضًا أن يفهموا بالعمق أن السبت هو للإنسان وليس العكس، لأن عبادتهم لِذاتهم أفقدتهم حس الإنسانيّة، وباتوا يتستّرون بالسبت لإخفاء عجرفتهم.
الختان فيه جرح ودم وألم، ومع هذا يُمارَس يوم السبت الذي هو يوم الراحة، فما بالُكَ إذًا بالشِّفاء الذي يَهَبُهُ السيِّدُ المسيح للجَسَدِ بكامِلِه؟
إن كان عمل الناموس المؤلم يُسمح به في السبت، أليس بالأَولى عملُ الإنجيل المفرح، واهبُ السلام أن يُمارَس في السبت؟
لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا (٢٤)
الرّب يسوع المسيح يطلب منهم أن يحكموا بالبرّ لا بالمظهر، فإن الانشغال بالحَرف لا بالروح يفسد حكمنا بالنسبة لأمور الناموس
الشفاء تم يوم السبت
إنّ السَّبتَ لِكَونِهِ يوم “الراحة”، هو يوم الرحمة والحب لحساب مجد الله، وبنيان شعبه، وخلاص كلّ أحدٍ ما أمكن. ليكن حكمهم في شفاء المفلوج يوم السبت من خلال هذا المفهوم الروحي لا الحَرفي.
يشرح القدّيس أغسطينس في عمل الروح الذي تمّمه المسيح هذا فيقول: “الآن نتجدد، وصار لنا الإنسان الجديد، لأنه قد جاء ذاك الذي هو الإنسان الجديد. إذ مَن هو جديد هكذا مثل ذاك الذي وُلد من العذراء…؟ فيه ميلاد جديد وفينا نحن الإنسان الجديد. وما هو الإنسان الجديد؟ إنسان يتجدد من العتق.
إلى أي شيء يتجدد؟ لطلب الأمور السماوية والاشتياق إلى الأبديات، والغيرة لطلب الوطن العلوي، وعدم الخوف من عدو، حيث لا نخسر صديقًا ولا نخشى عدوًا، حيث نعيش بعاطفة صالحة بلا عوزٍ.
فيما يخصّ الموقف من الرّب يسوع يبدو من هذا الحدث الإنجيلي أنّه هناك ثلاث فئات من اليهود
1- الرؤساء والكهنة والفريسيون: يحملون عداوة واضحة ضد السيّد المسيح.
2- أهل أورشليم، يعرفون ما تحمله مشاعر الفئة الأولى، وقد وقفوا في ارتباك بين خضوعهم للقيادات وبين تقديرهم لأعمال الرّب يسوع لذا يقتصر موقفهم على التساؤل.
3- الغرباء الصاعدون إلى أورشليم للعيد، والذين أُعجبوا بالسيّد وهم يجهلون موقف الفئة الأولى ضده وقد دهشوا عندما سمعوه يقول إنّهم يطلبون أن يقتلوه (٢٠).
ويُطرح السؤال الكبير: إن لم يكن الرؤساء قد عرفوا يقينًا أن هذا هو المسيح (حقًا)، فما الذي يغريهم على تحمّل توبيخه العلني لهم، وتجديده للأمور التي كانت فريضة منذ القديم، إذ وُجد يشفي حتى في يوم السبت، ويحزنهم أشد الحزن بقوله بصراحة: “أليس موسى قد أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟” وهم يتحملون كلّ هذا؟ (القدّيس كيرلس الكبير)
فأمام ما كان معروفًا، بأن يسوع ولد في بيت لحم من بيت داود، وأمام ما أعلنه إشعياء النبي: “جيله من يقدر أن يعلنه؟” (إش ٥٣: ٨)، مَن نصدّق؟
وكان هناك مثل ربّاني يهودي مفاده: “ثلاثة أمور تحدث فجائيًا: شيء نجده بالمصادفة، لدغة العقرب، ظهور المسيا”. لهذا تساءل أهل أورشليم إن كان يسوع هو المسيح أم لا؟.
ويستغرب القدّيس يوحنا الذهبي الفم إذ أنّهم قالوا عن المسيح الذي سيولد: ” لا يعرف أحد من أين هو”، مع أن جوابهم لهيرودس عندما سألهم أين يولد المسيح كان في غاية الوضوح والتأكيد: في بيت لحم اليهوديّة!!! إذًا يعرفون ويعرفون جيّدًا، لكن الكبرياء أعمى بصيرتهم.
كانت مناداة يسوع دعوة للجميع، فإنّه لا يُعلِّم خفيةً بل علانية: “من له أذنان للسمع فليسمع”.
فما يعرفونه يتعلّق بناسوته فقط وليس بلاهوته. إنّه المسيا مخلّص العالم، وهذا هو الوعد الإلهي يتحقّق لكنّهم يرفضونه ويرفضون إنجيله.
لم يكن من السهل أن يقبل الرؤساء هذا الحديث، إذ فيه اتهام لهم بالجهل؛ إنهم لا يعرفون الله، بينما هو وحده يعرفه، ليس لأنّه أرسله كما يرسل الأنبياء وإنما هو “منه”، مولود منه أزليًّا.
فمن جهة ينسب إليهم الجهل، ومن جهة أخرى يجعل من نفسه ابنًا مولودًا من الآب، وفي نظرهم هذا تجديف يستّحق عليه الموت. لكن قوة خفية منعتهم من إلقاء أيديهم عليه حتى تحين الساعة.
“أنا من البدء ما أكلّمكم أيضًا به” (يو٢٥:٨). الكلّمات التي أكلّمكم بها ليست بشرية بل إلهية، كما يؤكّد القدّيس أمبروسيوس.
وهذا يذكّرنا بما قاله بولس الرسول: ” يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرون” (تي١٦:١).
خطأهم هذا إنّما يصدر عن شرٍ وليس عن جهل. شرّهم هذا لم يأت لهم بأي ثمار بل آمن به كثيرون وأعلنوا:” ألعلّه المسيح”.
“شفى الرّب المتواضعين والفقراء في الروح. كان القادة في جنونٍ، لهذا ليس فقط لم يعرفوا الطبيب، وإنّما أيضًا يطلبون قتله”. (المغبوط أغسطينس).
الكتاب المقدس هو اعلان الله للبشر، يزداد تألقاً ولمعاناً كلما تعرّض للبحث والدرس. ولقد تعرض الكتاب المقدس منذ فجر المسيحية الى موجات متتالية من النقد، بلغت ذروتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في ما عرف بالنقد الكتابي. ووقف الكتاب شامخاً أمام كافة درجات النقد. ومازالت الاكتشافات الحديثة تقدم مزيداً من الأدلة على صحته ومصداقيته.
ولا غرو فهو كتاب الكتب، الذي يضم بين دفتيه أدلة صدقه وبراهين صحته ومصداقيته، وهو صادق ولسنا بمعرض الدفاع عن صحته…
ان الهنا الذي نؤمن به، هو الإله الذي أعلن نفسه للانسان، فكلم الآباء بالأنبياء قديماً بطرق وأنواع كثيرة، ثم كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في المسيح يسوع” الكلمة المتجسد” (عب2:1،1). والكتاب المقدس هو سجل هذا الاعلان وموضوعه الأساس هو الخلاص الذي يقدمه الله في محبته ونعمته للإنسان.
الكتاب المقدس لم يقصد به أن يكون مرجعاً علمياً، مع غزارة المادة العلمية فيه. كما انه لم يقصد به أن يكون أحد كتب الأدب، رغم الروائع الشعرية والنثرية التي يتضمنها. وهو ليس كتاباً فلسفياً يناقش قضايا العقل من هذه الزاوية أو تلك، رغم مافيه من عمق الفكر، وسائر الموضوعات التي يتناولها. لكن الكتاب المقدس من أوله الى آخره يقدم قصة الخلاص، فيوضح كيف يتنازل الله في نعمته للانسان ليسلك سبيل التوبة أي الرجوع الى الله، وكيف يقدم له الله صفحة جديدة، بل حياة جديدة، يعيشها في علاقة مباركة معه، بل ويتطلع أيضاً الى مستقبل مجيد كامتداد طبيعي لمثل هذه الحياة.
الكتاب المقدس مكتبة لا كتاب
انه مكتبة تشمل كتباً كثيرة كتبت بأقلام كتَّاب كثيرين على مر عصور طويلة، ولكن هذه الكتب يكمل بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً، في وحدة عجيبة متميزة وجميلة، وذلك لأن هذه الكتب كتبها أناس الله مسوقين من الروح القدس الواحد، من أجل ذلك هي كتاب واحد هو الكتاب المقدس.
العهد القديم والعهد الجديد
يتكون الكتاب المقدس من جزئين هما العهد القديم والعهد الجديد. وكلمة عهد تعني اتفاقاً أو ارتباطاً. والكتاب المقدس يروي لنا قصة العهد بين الله وشعبه. وهذا العهد ليس عهداً بين شخصين متساويين، لكنه عهد يأخذ الله فيه زمام المبادرة. فالأساس هو محبة الله ونعمته، وقد يختلف الاطار في العهد الجديد لكن الأساس واحد والجوهر واحد. ففي العهد القديم تنازل الرب بأن يرتبط بإبراهيم وبنسله، بل ان الله وعد بأن يبارك العالم كله من خلال نسل ابراهيم. وكان على ابراهيم ونسله واجب الطاعة والايمان. ورتب الله للإانسان الشرائع والذبائح المختلفة لتجبر نقص طاعته وضعف ايمانه. وتتجلى النعمة في أكمل صورها في العهد الجديد إذ دبر الله بنفسه الذبيحة الكاملة التي يحتاجها الانسان سواء كان من نسل ابراهيم او من غيره لينجو من العقاب ويحيا في علاقة معه، فقدم المسيح نفسه مرة واحدة والى الابد فأبطل ذبائح العهد القديم وطقوسه، وفي نفس الوقت وبنفس الوسيلة تحقق عهد الله مع ابراهيم بأن يصبح نسل ابراهيم اي المسيح بركة للعالم بأسره. فاذا كان العهد القديم يقدم لنا وعد الله، فالعهد الجديد يقدم لنا تحقيق هذا الوعد.
محتويات الكتاب المقدس
اولاً: قصة الخليقة، التاريخ القديم والشريعة: ونجد هذه في اسفار التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية.
ثانياً: تاريخ العهد القديم: ويشمل سفر يشوع ومابعده الى نهاية سفر استير.
ثالثاً: كتب الحكمة: وهذه نجدها في سفر ايوب ومايليه من الكتابات حتى سفرنشيد الأنشاد، وكلها أسفار شعرية.
رابعاً: أنبياء العهد القديم: ويشمل سفر أشعياء الى نهاية نبوات ملاخي.
خامساً: تاريخ العهد الجديد: ويشمل البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل.
سادساً: الرسائل: وتشمل من الرسالة الى كنيسة رومة حتى رسالة يهوذا.
سابعاً: سفر الرؤيا.
الأول العهد القديم
العهد القديم
1- الاسفار الخمسة الأولى
التكوين: كتاب البداءات: خلق الكون، خطيئة الانسان، بداية الاعداد للخلاص، تاريخ الآباء الأولين: ابراهيم واسحق ويعقوب ويوسف.
الخروج: قصة خروج بني اسرائيل من أرض مصر، عهد الله معهم في سيناء. إقامة خيمة الاجتماع.
اللاويين: تنظيم العبادة وطقوسها المختلفة كالذبائح والكهنة وشرائع التطهير والتقديس والأعياد والنذور.
العدد: إحصاء الشعب وقوانين عقيدية واجتماعية ورحلات بني اسرائيل من سيناء الى قادش ثم موآب وتشمل أربعين عاماً من التجوال.
التثنية: إعادة ثانية للحديث عن شرائع الرب واختبارات الآباء.
2- الأسفار التاريخية
يشوع: الدخول الى كنعان بقيادة يشوع، تقسيم الأرض. تحذير من كسر عهد الرب.
القضاة: قصة تهاون الشعب بوعود الله وابتعادهم عنه مما جعل الرب يؤدبهمن وإذ يصرخون اليه يقيم لهم قائداً (قاضياً) يخلصهم.
راعوث: قصة فتاة مآبية، غير يهودية، تزوجت من واحد من شعب الرب ثم ترملت. لكنها أحبت حماتها جداً وذهبت معها لتعيش وسط شعب الله القديم، وجاء من نسلها داود الملك وكذلك يسوع المسيح.
صموئيل الأول: سيرة صموئيل النبي الذي لم يكف عن الصلاة لأجل الشعب، والانتقال من حكم القضاة الى تاسيس المملكة وسيرة الملك شاول وجانباص من سيرة الملك داود.
صموئيل الثاني: بقية سيرة داود، وسقوطه، ثم ثباته على العرش بعد توبته.
الملوك الأول: سيرة الملك سليمان وحكمته وبناء الهيكل في اورشليم (القدس) ثن تاريخ انقسام مملكة سليمان الى مملكتين: الشمالية ( اسرائيل) وعاصمتها السامرة، والجنوبية (يهوذا) وعاصمتها أورشليم. ويشمل هذا السفر سيرة ايليا النبي وشجاعته وعمله على ردّ الشعب الى عبادة الرب.
الملوك الثاني: قصة الأمة المنقسمة على ذاتها بممكتليها والكوارث التي اصابتها كسقوط السامرة ومملكة اسرائيل(9:18 -12) وسقوط اورشليم ومملكة يهوذا والسبي الى بابل(25: 1-21). ويقدم السفر سيرة أليشع النبي وهو يوضح للشعب مقاصد الله من نحوهم.
أخبار الأيام الأول: إعادة سرد الأحداث التي عنيت أسفار صموئيل والملوك بالحديث عنها، وذلك من وجهة نظر مختلفة وفيه سرد مفصل للأنساي. ويُعنى هذا السفر بالحديث عن العبادة في زمن صموئيل وداود.
أخبار الأيام الثاني: إعادة لسيرة سليمان الملك وبناء الهيكل في اورشليم ثم انقسام المملكة وتأديب الرب لشعبه وسقوط أورشليم والسبي الى بابل.
عزرا: العودة من بابل وإعادة بناء الهيكل.
نحميا: سيرة نحميا وقيادته للشعب وإعادة بناء سور أورشليم واكتشاف سفر الشريعة من جديد وعودة الشعب الى الرب.
أستير: قصة فتاة من شعب الرب تتزوج من ملك الفرس وتدبر عناية الله أن تنقذ هذه الفتاة بشجاعتها شعبها من الموت.
3- الأسفار الشعرية
أيوب: قصة رجل صالح تحل به المصائب الكثيرة ويحاول أصدقاؤه من خلال أحاديث متوالية معه أن يجدوا إجابة للسؤال الذي طالما حيَّر البشر: لماذا يتألم الأبرار؟
المزامير: قصائد دينية منها الأناشيد والتسابيح والصلوات والنصائح والنبوات.
الأمثال: مجموعة من التعاليم الدينية والأخلاقية في قالب من الأمثال والحكم.
الجامعة: بعض الأفكار الفلسفية التي يقف أمامها الانسان حائراً وهو يتأمل متناقضات الحياة، وينتهي بالحث على التقوى ومخافة الله.
نشيد الانشاد: قصائد متبادلة بين حبيب ومحبوبته ويرى المفسرون أنها قصائد رمزية عن الرب وشعبه أو المسيح والكنيسة.
4- الأسفار النبوية
إشعياء: نبير يرسله الله لشعبه ليدعوهم لحياة الاستقامة والعدل. ويقدم نبوات كثيرة عن ميلاد المسيح ولاهوته وخدمته وآلامه وقيامته وملكوته.
إرميا: نبي يرسله الله ليدعو شعبه للرجوع اليه وعبادته وحده وينذر بدمار أورشليم، الكارثة التي وقعت فعلاً سنة 586 ق.م. بسبب خطية الشعب وعبادة الأوثان. لكنه يتضمن أيضاً نبوّات مشجعة ويتحدث عن عهد جديد ويرتبط فيه الله بشعبه.
مراثي إرميا: قصائد رثاء ينوح فيها الكاتب على ماحلّ بأورشليم من خراب بعد تدميرها سنة 586ق.م.
حزقيال: رسائل تحذير بتدمير وخراب شاملين لأورشليم وزوال مجد الرب منها، ونبوّات تتعلق بشعوب مختلفة مجاورة لفلسطين، ثم نبوّات مشجعة ويتحدث عن عهد جديد يرتبط فيه الله بشعبه.
مراثي ارميا: قصائد رثاء ينوح فيها الكاتب على ماحل بأورشليم من خراب بعد تدميرها سنة 586 ق.م
حزقيال: رسائل تحذير بتدمير وخراب شاملين لأورشليم وزوال مجد الرب منها، ونبوات تتعلق بشعوب مختلفة مجاورة لفلسطين، ثم نبوات مشجعة عن عهد جديد وقلب جديد وروح جديدة يمنحها الله لشعبه.
دانيال: يقدم صورة لشعب الرب زمن الاضطهاد وثبات الأمناء وحفظ الرب لهم وعنايته بهم. أما تفسير الأحلام والرؤى فيرى بعض المفسرين أنها توضح سقوط الوثنية وسيادة المسيح كما يرى آخرون أنها نبوّات تتعلق بالمستقبل البعيد لشعب الرب القديم.
هوشع: اختبارات من الحياة الشخصية لأحد لانبياء يقّدم من خلالها مثلاً لمحبة الله ونعمته. فيرى ان خيانة الشعب لعهدهم مع الرب مثل خيانة الزوجة لعهودها مع زوجها. فيؤدب الرب شعبه ثم يفتح لهم طريق التوبة وثمارها وباب الرجاء والخلاص.
يوئيل: يوضح أن الكوارث مثل الجراد وجفاف الأرض هي علامة دينونة الله لشعبه، فيدعوهم للتوبة ويقدم لهم وعوداً مشجعة ومعزية ويتنبأ عن انسكاب الروح القدس.
عاموس: يقدم صرخة مدوية ضد المظالم في المجتمع، ودفاعاً عن الفقير والمظلوم ودعوة للتوبة.
عوبديا: تحذير لمملكة أأدوم المناوئة لشعب الرب، يوضح نهاية كل متكبر وكل شامت بسقوط الآخرين، مع كلمة تشجيع للأتقياء.
يونان: قصة نبي عصى الله لأنه لم يدرك أن محبة الله تشمل كل البشر فأدبه الله ووبّخه مظهراً، محبته للجميع.
ميخاً: نبوّات عن خراب السامرة وخراب أورشليم بسبب الخطيئة. ويتحدث أيضاً عن مجيء المسيح وعن وعود مشجعة.
ناحوم: قصيدة عن سقوط نينوى توضح نهاية الشر وتقدم الرجاء للمؤمنين.
حبقوق: حوار بين النبي والرب، يبدأ بحيرة النبي إزاء تسلط الظالمين والطغاة، ولكنه ينتهي بنغمة الثقة في الرب وحده، والفرح فيه رغم كل الظروف.
صفنيا: نبؤات عن دمار أورشليم ودعوة للتوبة، ثم وعود مشجعة عن الخلاص ومجيء السيد المسيح.
حجّاي: رسائل قصيرة فيها حثّْ على استكمال بناء الهيكل ووعد الرب بالبركة على أساس الحياة النقية.
زكريا: مجموعة من الرؤى عن إعادة بناء أورشليم ونبوّات متنوعة عن مجيء الرب يسوع المسيح وعمل الفداء وحلول الروح القدس على المؤمنين.
ملاخي: دعوة للكهنة وللشعب للتوبة والرجوع الى الرب ونبوّة عن مجيء الرب يسوع المسيح، شمس البر.
ثانيا العهد الجديد
العهد الجديد
1- البشائر الأربع
بشارة متى: نسب وحياة يسوع وكيف تحققت فيه نبوّات العهد القديم باعتباره المسيح، الملك، الذي ينتظره اليهود.
بشارة مرقس: حياة يسوع المسيح في صياغة مختصرة مع التنبير على اهتمام يسوع بسدّْ حاجات البشرية.
بشارة لوقا: حياة يسوع المسيح، في دراسة تاريخية مدققة، تقدم يسوع المخلص الذي جاء ليفتدي البشرية.
بشارة يوحنا: تقدم السيد المسيح في جلال لاهوته وعمق محبته.
2- أعمال الرسل
سجل لنمو الكنيسة الأولى من أورشليم الى اليهودية فالسامرة ثم الى أقصى بلاد العالم.
3- الرسائل الجامعة
رسائل بولس الرسول
– الرسالة الى كنيسة رومية: تقدم العقائد المسيحية الأساسية والتطبيق العملي في حياة المؤمنين.
-الرسالة الأولى الى كنيسة كورنثوس: يعالج فيها بولس الرسول بعض القضايا والمشاكل في كنيسة كورنثوس، كما يجيب على بعض تساؤلاتهم.
-الرسالة الثانية الى كنيسة كورنثوس: يتحدث فيها بولس الرسول عن سلطانه كرسول للمسيح ويحث على العطاء المسيحي.
-الرسالة الى كنائس غلاطية: ايضاح للايمان القويم ودحض التعاليم المضلة التي تدعو الى العودة الى الشرائع اليهودية.
-الرسالة الى كنيسة افسس: حديث عن سر الخلاص العظيم الذي اعلن في المسيح يسوع، ونيجة اختبار هذا السر في حياة المؤمنين العملية.
-الرسالة الى كنيسة فيليبي: رسالة كُتبت في السجن لكنها تفيض بالفرح والمحبة والسلام.
-الرسالة الى كنيسة كولوسي: تقدم الرب سوع المسيح باعتباره صورة الله، الابن الأزلي، ورأس الكنيسة الذي انتصر على الخطيئة، مع دعوة للسلوك المسيحي.
-الرسالة الأولى الى كنيسة تسالونيكي: رسالة تشجيع للمؤمنين المضطهدين، مع ايضاح بعض الحقائق المتعلقة بمجيء المسيح ثانية.
-الرسالة الثانية الى كنيسة تسالونيكي: رسالة تشجيع في مواجهة الضيقات، وحديث عن مجيء المسيح ثانية.
-الرسالة الأولى الى تيموثاوس: رسالة تشجيع لخادم شاب.
-الرسالة الثانية الى تيموثاوس: رسالة تشجيع وحث على المثابرة وحفظ الأمانة، كتبها بولس الرسول وهو يشعر باقتراب انطلاقه للمجد.
-الرسالة الى تيطس: رسالة لتشجيع تيطس وهو يعمل على تنظيم الكنائس في جزيرة كريت.
-الرسالة الى فيليمون: رسالة من بولس الرسول الى “السيد” فيليمون ليعفو عن “عبده” انسيموس الذي هرب من خدمته. ويرجوه أن يقبلهكأخ بعد أن آمن بالمسيح.
-الرسالة الى العبرانيين: دفاع عن المسيحية وشرح لرموز العهد القديم موضحاً ان كهنوت العهد القديم وذبائحه ترمز الى المسيح.
رسالة يعقوب
– رسالة يعقوب: تتناول النواحي العملية في الحياة المسيحية وكيف يجب ان تكون حياة المؤمنين كأفراد، وكذلك في المجتمع.
– رسالتا بطرس الرسول
رسالة بطرس الرسول الأولى: رسالة تشجيع للمسيحيين المتالمين.
رسالة بطرس الرسول الثانية: رسائل تحذير من المعلمين الكذبة وحث على الثبات في الايمان والسهر في انتظار مجيء المسيح ثانية.
– رسائل يوحنا الرسول
رسالة يوحنا الرسول الأولى: حديث عن ثبات المؤمنين وتحذير من المعلمين الكذبة.
رسالة يوحنا الرسول الثانية: رسالة ثناء لسيدة لأمانتها ووفائها للحق.
رسالة يوحنا الرسول الثالثة: ثناء لغايس لأمانته وحسن ضيافته للمبشرين المتجولين.
– رسالة يهوذا: دعوة للثبات في الايمان وتحذير من المعلمين الكذبة.
4- سفر الرؤيا
مجموعة من الرؤى فيها رموز كثيرة يرى بعض المفسّرين أنها تعبر عن نصرة المسيح وشعبه على جميع المقاومين وتحقيق السماء الجديدة والأرض الجديدة، كما يرى مفسرون آخرون أنها نبوّات عن أحداث المستقبل الى أن تتحقق السماء الجديدة والأرض الجديدة.
تدوين الكتاب المقدس
الكتاب المقدس
شارك أكثر من اربعين شخصاً في تدوين الكتاب المقدس. وقد جاء هؤلاء من خلفيات مختلفة، كما كانوا على درجات ثقافية متفاوتة جداً. فمنهم الملك ومنهم الطبيب ومنهم رجل السياسة، كما كان منهم راعي الغنم وصياد السمك! ومنهم من كان على درجة عالية من الثقافة في عصره، كما كان منهم من لم ينل قسطاً وافراً من التعليم.
والذي يتقن اللغات الأصلية التي كُتب بها الكتاب المقدس يُدرك الفارق الشاسع في اسلوب التعبير بين كل من هؤلاء الذين كتبوا الأسفار المختلفة.
وواضح ان بعض كتب العهد القديم لم يكتبها شخص واحد. فسفر المزامير مثلاً، هو مجموعة كبيرة من الأشعار التي تتضمن الكثير من التسابيح والصلوات والتعبير عن الخلجات الروحية للمؤمنين، شارك كثيرون في تدوينها ثم جمعت لتستخدم في العبادة في خيمة الاجتماع ثم في الهيكل. كما أن الكثير من الحكم والأمثال التي نجدها في سفر الأمثال تنسب للملك سليمان وان كان غيره قد شارك في الكتابة(مثلاً ام1:3 ومايليه1:31 ومايليه)
وقد استغرقت مراحل تدوين الكتاب المقدس مايزيد على الف عام.
الوحي
روح الله وكلمات البشر
الا اننا عندما نتحدث عن تدوين أسفار الكتاب المقدس نخطىء كثيراً اذا تناولنا الموضوع للحديث عن الاشخاص الذين دوّنوا الأسفار المختلفة دون التركيز على عمل روح الله القدوس الذي أوحى لأولئك بأن يدوّنوا لنا تلك الأسفار المقدسة. ويحدثنا الكتاب المقدس عن كونه” موحى به من الله” (2تي 16:3) كما يذكّرنا بأنه ” تأت نبوّة قط بمشيئة انسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2ب21:1). فالمسيحيون لايؤمنون بأن الكتاب المقدس كتاب نزل من السماء بكل كلماته وحروفه، لكنهم يؤمنون بالوحي: فقد دوَّن “أناس الله القديسون” كلمات الكتاب المقدس، كل بأسلوبه المتميز ومفرداته الخاصة. الا انهم جميعاً كانوا “مسوقين من الروح القدس” أي محمولين أو مدفوعين بعمل الروح القدس فيهم تماماً كما تدفع الرياح السفن. وهذه هي الصورة التي يقدمها لنا بطرس الرسول في هذه الآية المباركة فالروح القدس هو الذي حمل هؤلاء، على أن يتكلموا بكلام الله.
كما أن بولس الرسول عندما يقول أن كل الكتاب،”موحى” به من الله، يستخدم تعبيراً مفاده أن كلمات الكتب المقدسة هي عينها” أنفاسالله” أو “نسمات الله”.
انها لمعجزة كبيرة أن يجتمع في الكتاب المقدس عمل روح الله مع تعبيرات البشر. ولهذا نجد تلك” المكتبة” الكبيرة تقدم لنا فكراً واحداً منسجماً، ومضموناً واحداً في توافق مبارك، رغم العدد الكبير من الذين شاركوا في تدوين الأسفار، وفارق مئات السنين بين كاتب وكاتب.
لغات الكتاب المقدس الأصلية
عندما دونت أسفار الكتاب المقدس المختلفة، استخدم روح الله اللغات السائدة بين الشعوب الذين وجه الرب رسالته اليهم. ان اللغات الأصلية التي كتب الكتاب المقدس بها هي:
اللغة العبرية
كانت هي اللغة السائدة بين العبرانيين، وكانوا يسمونها أحياناً ” لغة كنعان” ( أش18:19) وأحياناً ” اللسان اليهودي” (2مل28،26:18/نح24:13)ولذلك نجد أن الوحي دوّن لنا العهد القديم كله تقريباً باللغة العبرية.
اللغة الآرامية
كانت اللغة الآرامية هي اللغة السائدة في مناطق كثيرة فكانت اللغة الرسمية في المملكة الآرامية في سورية وبلاد النهرين (راجع 2مل 18: 17-37) كما انها كانت اللغة الرسمية للأمبراطورية الفارسية، وبعد سبي بابل حزن نحميا لأن الشعب نسي اللغة العبرية وأصبح اليهود يتكلمون بالآرامية الفلسطينية (راجع نح 24:13). وعندما قرأ للشعب من سفر الشريعة، بالعبرية، وكانت هناك حاجة لمن “يفسر المعنى” أي ان يوضحه أو يترجمه بالآرامية (نح 8:8-2)، وقد دونت بعض أجزاء العهد القديم باللغة الآرامية وجدير بالملاحظة أن الأجزاء الآرامية في سفر عزرا تشمل المراسلات الرسمية مع ملوك الفرس.
اللغة اليونانية
الترجمة لليونانية للكتاب المقدس المسماة السبعينية
ظلت الآرامية اللغة الرسمية الى أن انتصر الاسكندر الأكبر على مملكة الفرس سنة 331ق.م. فأصبحت اللغة الرسمية وان كانت عامة الشعب قد استمروا في استخدام اللغة الآرامية. ويبدو أنه كانت هنالك لهجتان من اللغة الآرامية، إحداهما مستخدمة في الجليل والأخرى في اليهودية ويظهر هذا واضحاً في قصة انكار بطرس للمسيح (مت 73:26). أما اللغة اليونانية فأصبحت اللغة السائدة التي يستخدمها رجل الشارع في روما والاسكندرية وأورشليم وأنطاكية وأفسس: بينما كانت اللاتينية لغة الحكام الرومان وجيوشهم.
الا ان اليونانية التي كتب بها العهد الجديد كله لم تكن اليونانية الكلاسيكية التي كتب بها هوميروس أشعاره، بل كانت اليونانية الشعبية التي يستخدمها رجل الشارع وان كانت قد امتزجت ببعض المفردات اللاتينية السائدة، وبعض قواعد النحو الخاصة باللغة العبرية، كما اتسعت لبعض مفاهيم المفردات التي انتقلت من العبرية لليونانية من خلال الترجمة السبعينية للعهد القديم كما سنرى.
واذ رأينا كيف استخدم الله اللغات العبرية والآرامية واليونانية لتصل رسالته للبشر، يمكننا أن ندرك أن الكتاب المقدس تخطى كل حواجز اللغة، فالمفردات في حد ذاتها لاتحتل المكان المركزي، إن مايهم هو ان تصل رسالة محبته للبشر بلغة يفهمونها بسهولة ويسر. لذلك لم يكن غريباً أن يهتم المسيحيون على مر العصور والأجيال بترجمة الكتاب المقدس الى لغات البشر المختلفة.
مخطوط انجيلي تاريخي
المواد المستخدمة في تدوين أسفار الكتاب المقدس
صنع أقدم أنواع الورق من البردي، وهو نبات كان منتشراً في مصر. وكانوا يستخدمون الجزء الداخلي من سيقانه فيشققونه ويضعون الشرائح متجاورة أفقياً ومن فوقها طبقة من الشرائح متجاورة أفقيا ومن فوقها طبقة من الشرائح المتّراصة رأسياً رأسياً ثم يضغطونها، وعندما نجف تصبح صالحة للكتابة عليها.
وبمرور الزمن اكتشف قدماء المصريين أنه يمكن ضغط أوراق البردي متجاورة لتصبح شريطاً طويلاً اطلق عليه اسم ” الدرج” وكانوا يثبتون الناحية منه أو كلا من الناحيتين في قطعة خشبية يمكن ان يطوى الدرج عليها بينما يبرز جزء من هذه القطعة على جانبي الدرج من أعلى ومن أسفل. وكانوا يكتبون على الدرج من الداخل ولايكتبون شيئاً من الخارج في اغلب الأحيان. وكان طول الدرج حوالي تسعة امتار والكتابة على اعمدة متجاورة مثل صحف يتراوح عرضها بين خمسة وسبعة سنتيمترات تقريباً. ويمكن للقارىء أن يسحب من ناحية ليطوي الناحية الخرى. كما استخدم الأقدمون جلود الأغنام بعد تنظيفها جيداً ومعالجتها وتقطيعها لتصلح للكتابة عليها. وكذلك كانوا يلصقون القطع الجلدية جنباً ليصنعوا منها”درجاً”، تماماً كما فعلوا بورق البردي. الا أنه من الواضح طبعاً أن ورق البردي كان ارخص كثيراً من الجلود، ولكنه كان سريع التلف والاندثار وبصفة خاصة بعيداً عن جو مصر الجاف ولاسيما جو الصعيد.
وقد سجلت أسفار العهد القديم على مثل هذا الدرج في المجامع ، سواء من ورق البردي أو الجلود، وكانوا يحتفظون بها ليقرأوا منها بصفة خاصة أيام السبت. ونجد اشارة الى ذلك في لو4:20،17.
الا انه ما أن جاء القرن الثاني المسيحي حتى وجدوا أن الدرج يمَُّثل صعوبة في الاستخدام سيما عندما يحاول القارىء أن يبحث عن كلمة أو عبارة معينة. ولذلك فسرعان ما فكّروا في وضع ثلاث أو اربع أوراق فوق بعضها، ثم ثنيها من الوسط لتصبح على شكل كراسات التلاميذ اليوم. أما في حالة الحاجة لتدوين نص طويل فكانوا يضعون مثل هذه المجموعات بعضها فوق بعض على شكل “الملازم” وعرفت باسم ” المجلدات” ( المفرد codex). وكانت هذه اقتصادية جداً إذا ما قورنت بالدرج، إذ امكنهم الكتابة على جانبي الأوراق بدلاً من الكتابة على جانب واحد فقط، كما أن تقليب الصفحات أيسر كثيراً من استخدام الدرج. ولعل المسيحيين فضلوا استخدام ” المجلدات” لتكون متميزة عن الدرج الذي ارتبط استخدامه بالديانة اليهودية. وبذلك بدأ دور الدرج في الانحسار وان كان استخدامه قد استمر بعد ذلك عدة قرون.
الا ان البعض كانوا يستخدمون ايضاً الفخار المكسور، وكذلك اللوحات المصنوعة من الطين للكتابة عليها. وقد اكتشفت على صعيد مصر بعض القطع الفخارية التي حفرت عليها بعض آيات الكتاب المقدس. ولربما كانت هذه تستخدم بمثابة تميمة أو تعويذة (حجاب). الا انها كانت ولاشك بالنسبة لبعض الناس هي كل مايمكن أن يمتلكوه من الكتاب المقدس.
وكانوا يستخدمون في الكتابة أقلاماً مصنوعة من نوع من نبات القصب (الغاب) وقد اخترع المصريون في القرن الثالث قبل الميلاد أسلوباً لبري هذا القلم وشق الجزء المدبب منه وكانوا يسمونه باليونانية ” قلموس” التي اشتقت منها كلمة “قلم” بالعربية. وقد استخدم اليونانيون ريش الطيور كأقلام للكتابة.
أما الحبر فكانوا ينتجونه من السناج (المادة الدقيقة السوداء التي تترسب من الدخان) بعد خلطه بشيء من المواد اللزجة. وكان الورق المصنوع من خرق القماش معروفاً في الصين وأواسط آسيا لقرون طويلة، وتقل تكلفة انتاجه كثيراً عن الجلود. وأصبح هذا الورق معروفاً في مصر وسورية في القرن الثامن المسيحي، وسرعان ما استخدمه المسيحيون في الشرق في تدوين الترجمات العربية للكتاب المقدس، ومنها المخطوطات الموجودة في دير القديسة كاترينا في سيناء حتى اليوم.
أما الغرب فلم يستخدم الورق في تدوين نصوص الكتاب المقدس سوى في القرن الثالث عشر، بعد أن تردد المسيحيون في استخدامه لأنه جاءهم عن طريق غير المسيحيين!!! وتعود آخر المخطوطات التي تم نسخها على جلود الحيوانات الى القرن 15م، وانحسر تماماً دور ورق البردي وكذلك دور الجلود بعد ذلك.
الا أن أول كتاب طبع بأسلوب الطباعة ” الحديثة” بالحروف المتحركة كان هو الكتاب المقدس بترجمة الفولغاتا اللاتينية وقد قام الطباع الالماني يوحنا غوتنبرج بطباعة 120 نسخة منه على الورق، وحوالي 30 نسخة على الجلود، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس عشر.
هنالك اشارات في العهد القديم توضح أن الكتابات المقدسة كانت تحفظ في الأماكن التي كان شعب الله القديم يتعبد فيها فقد احتفظوا بكتابات الشريعة جنباً الى جنب مع تابوت العهد (تث24:31 – 26)، كما نقرأ عن الكلمات التي دونها يشوع بن نون وكيف وُضعت أيضاً في المكان المقدس (يش26:24) وحدَّث صوئيل النبي شعب الرب عن حقوق وواجبات المملكةودون ذلك في سفر “ووضعه أمام الرب” (1صم 10: 25). لذلك لم يكن غريباً أن يكتشفوا سفر الشريعة “في بيت الرب” (2مل 8:22) وعندما قام الملك يوشيا باصلاحاته الدينية وترميم الهيكل.
وتوجد إشارات كثيرة في العهد القديم لشريعة موسى أو “التوراة” بدءاً من يشوع9:1 تدلنا عن المكانة الكبيرة التي كانت للأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم بصورة أو بأخرى.
ولعل أول إشارة نجدها في العهد القديم لحقيقة جمع كتاباته معاً هي العبارة التي نقرأها في سفر دانيال عن ” الكتب” (دا2:9).
الا اننا نلاحظ أن هناك إشارات في العهد القديم لكتابات لم تقبل ضمن الأسفار القانونية، أي التي يستندون اليها في التعليم وفي ممارسات الحياة الدينية. فهنالك إشارة لكتاب اسمه “سفر ياشر” (يش 13:10) وآخر اسمه “سفر حروب الرب” (عد 14:21) وآخر اسمه ” أخبار أيام ملوك اسرائيل” (2 اي19،18:33). وهذه لم تعتبر ضمن الكتب المقدسة مما يدلنا على أنه كان هنالك اختيار بين كتاب وكتاب.والأسفار التي اعتبرت ضمن الكتب المقدسة إنما كان لها طابع القدسية من داخلها ولذلك تم قبولها كتباً مقدسة.
مخطوط التوراة
وان كنا نلمس التأثير الكبير والنهضة المباركة التي حدثت أيام يوشيا الملك عند اكتشاف سفر الشريعة، فلا شك ان سبي اليهود الى بابل دفعهم لجمع الكتب المقدسة ودراستها دراسة جيدة. لقد هدم الهيكل، مركز العبادة، وحل الخراب بأورشليم وكل البلاد، فلم يبق لهم سوى الكتب المقدسة، فانصرفوا لجمعها معاً ودراستها.
عند عودتهم من بابل كان لقراءة سفر الشريعة أعظم الأثر على حياتهم (نح8). لم يحدثنا العهد القديم عن الكيفية التي تم بها جمع أسفاره معاً. إلا أننا نجد الإشارات الكثيرة التي تحدثنا عن وجود هذه الأسفار والدور الكبير الذي قامت به في حياة شعب الرب القديم.
أسفار العهد القديم ومجمع “جمنيا”
ودون دخول في تفصيلات كثيرة نجد أنه بعد خراب أورشليم سنة 70م. استأذن اليهود السلطات الرومانية ليعقدوا مجمعاً يجددون فيه بصفة نهائية قاطعة الأسفار القانونية التي يلتزمون بها. وانعقد هذا المجمع سنة 90م. في بلدة صغيرة اسمها “جمنيا” بالقرب من يافا. وأقروا في هذا المجمع التسعة والثلاثين سفراً التي تتفق جميع الكنائس المسيحية بشأنها فيما يتعلق بالعهد القديم. واضح أن هذا المجمع لم يعط هذه الأسفار صفة القانونية أو الشرعية التي لم تكن لها من قبل. فالأسفار المقدسة تحمل بين طياتها وفي نفسها ومن نفسها، طابع القانونية والقدسية، فلم يستطع المجمع الا ان يقر بقانونيتها. أما الأسفار التي تطلق عليها بعض الكنائس اسم الأسفار القانونية الثانية” ويسميها آخرون “الأبوكريفا”.
ترتيب اسفار العهد القديم في اللغة العبرية
هذا الترتيب الذي اعتمده هذا المجمع يختلف عن الترتيب في وقتنا الذي نعهده باللغة العربية، فقد وضعوا أسفار العهد القديم في ثلاث مجموعات كما يلي:
1- التوراة: ( أي كتب الشريعة) ويتضمن التكوين، والخروج واللاويين، والعدد والتثنية، واعتبروا الكلمة الأ ولى التي ترد في كل سفر من هذه الاسفار الخمسة اسماً لذلك السفر.
2- الأنبياء: وهذا يتكون من جزئين: الأنبياء” المبكرون” هي اسفار يشوع، والقضاة وصموئيل ( ويشمل مانسميه الأول والثاني معاً)، والملوك ( ويشمل مانسميه الأول والثاني معاً). والأنبياء “المتأخرون” وهي اسفار أشعياء، ارميا، وحزقيال، والأنبياء” الصغار” الاثني عشر معاً (هوشع الى ملاخي) وكأنها سفر واحد.
3- الكتابات: ( و الكتب) وهي اسفار المزامير وايوب والأمثال، وراعوث، ونشيد الاناشيد، والجامعة، والمراثي، وأستير، ودانيال، وعزرا، ونحميا، وأخبار الأيام ( الأول والثاني معاً).
وجدير بالملاحظة أن هذا الترتيب وهذه الأسفار، هي التي تحدث عنها الرب يسوع في لو44:24 “موسى، والأنبياء، والمزامير”. كما أنه قال مرة:”من دم هابيل الى دم زكريا بن برخيا” (لو51:11) وحيث أن الاشارة الى دم هابيل موجودة في سفر التكوين والاشارة الى زكريا بن برخيا وردت في 2 اي 21:24 اي في اسفار أخبار الأيام الثاني الذي هو آخر أسفار العهد القديم بحسب الترتيب السالف الذكر فيكون تعبير الرب يسوع بالنسبة لنا بمثابة القول ” من التكوين الى ملاخي”.
مخطوط تاريخي للتوراة
تداول مخطوطات العهد القديم
اهتم النساخ الذين قاموا بنسخ نسخٍ جديدة من اسفار العهد القديم بأن ينجزوا عملهم بعناية فائقة لتصل النصوص الكتابية كما هي تماماً من جيل الى جيل، ونتعلم من التلمود بعض القواعد التي كانت متبعة في هذا الشأن وهي:
1- لاتستخدم سوى جلود الحيوانات ” الطاهرة” ( من وجهة نظر الشريعة اليهودية راجع لا 11: 1-8)للكتابة عليها.
2- يشمل كل عمود في الدرج ما لايقل عن 48 سطراً وما لايزيد عن 60 سطراً.
3- يجب تسطير الصفحة اولاً وأحرف الكتابة “تتدلى” من السطور.
4- يجب ان يكون الحبر أسود ومعداً بطريقة خاصة.
5- لا تدون كلمة ولا حرف من الذاكرة، وكان على الكاتب ان ينطق الكلمات قبل كتابتها.
6- كان على الكاتب أن يغسل قلم الكتابة قبل ان يكتب اسم الجلالة “يهوه”.
7- يجب مراجعة المخطوطة الجديدة في ظرف 30 يوماً من الانتهاء من كتابتها وان وجد أكثر من ثلاثة أخطاء مصححة في أي عمود واحد من أعمدة هذه المخطوطةن كانوا يعدمون الدرج كله.
8- كانت كلمات وحروف كل سفر في الدرج الجديد تحصى للتأكد من مطابفتها للاحصاءات المعروفة عن جميع الأسفار.
الا أنه لم تكن هنالك قواعد محددة بشأن حجم الحروف ولا المسافات التي ينبغي أن تكون بينها، أو بين كلمة وكلمة. وكانت كل الكتابة بحروف منغصلة. مماتسبب في صعوبة التأكد من القراءة الصحيحة لبعض هذه المخطوطات بعد مرور قرون طويلة على تدوينها حيث تصعب القراءة دون مسافات واضحة…
جماعة “الماسوريين” والنص الماسوري للعهد القديم
انتقلت مهمة عمل نسخ جديدة من أسفار العهد القديم في القرن 6م من جماعة النساخ ( الكتبة وعلماء الشريعة) الى جماعة عرفت باسم جماعة ” الماسوريين” الذين اهتموا كثيراً بالحفاظ على النص بدقة بالغة من مخطوطة الى مخطوطة لمدة حوالي 500 سنة.
ويرى البعض ان تسميتهم مشتقة من فعل عبري يعني “يسلم الى” فهم الذين سلموا النص من جيل الى جيل. وتركز نشاط جماعة الماسوريين في بابل وفلسطين وطبرية. الا ان جماعة طبرية بقيادة ابن أشير” أصبح لها الدور القيادي بدءاً من القرن العاشر الميلادي حتى اصبح النص الذي قامت تلك الجماعة بعمل نسخ منه، هو النص العبري الوحيد المعترف به في القرن الثاني عشر ومابعده، وهو النص الذي يعرفه علماء الكتاب المقدس باسم النص الماسوري.
الترجمة السبعينية اليونانية
وطبعت أول نسخة من العهد القديم العبري سنة 1516-1517م ثم تلتها طبعة ثانية سنة 1524-1525م أعدها يعقوب بن خييم واستمر هذا النص كما هو في مختلف طبعات العهد القديم العبرية، وعلى أساسه تمت كافة ترجمات الكتاب المقدس ومنها للغة العربية. واستمر ذلك حتى عام 1937 تقريباً عندما صدرت طبعة ثالثة للعهد القديم العبري تم تحقيقها على أقدم مخطوطة بين أيدينا من مخطوطات ابن أشير يعود تاريخ نسخها الى عام 1008 مسيحية وتعرف باسم مخطوطة سان بطرسبرج. وتستخدم هذه الطبعة الثالثة التي صدرت عام 1937 استخداماً واسعاً في ترجمات الكتاب المقدس باللغات المختلفة مع الاستعانة بالترجمة السبعينية للعهد القديم وكذلك النص العبري للكتب الخمسة الأولى التي حافظ عليها ولازال يحتفظ بها “جماعة السامريين” وتعود اقدم مخطوطاتها الى القرن 13م.
وقد صدرت آخر طبعة موثقة في عام 1987 “لمخطوطة سان بطرسبرج” مع حواشٍ مستفيضة تشير الى المخطوطات الهامة والترجمات القديمة وهي التي تستخدم اليوم أساساً لترجمات العهد القديم.
نصوص العهد القديم والاكتشافات الحديثة
كانت اقدم مخطوطة على ورق البردي، لجزء من العهد القديم العبري معروفة لنا، قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت عام 1947 وهي بردية “ناش” التي تعود بنا الى القرن الأول المسيحي أو ربما القرن الثاني. واكتشفت أجزاء كثيرة من العهد القديم العبري يعود بعضها الى القرن 5م في مجمع اليهود بحي مصر القديمة بالقاهرة، وذلك في اواخر القرن 19م.
اما أعظم الاكتشافات التي القت الضوء الكبير على نصوص العهد القديم فهي (مخطوطات البحر الميت). فبعد اكتشاف مخطوطات الكهف الأول عام 1947 قام علماء الحفريات بعمليات بحث واسعة، اكتشفوا على أثرها مزيداً من المخطوطات في عشرة كهوف أخرى.
الأسفار القانونية الثانية (الأبوكريفا)
هناك مجموعة من الأسفار الخاصة الكاملة، وكذلك بعض الاضافات للنص العبري لبعض اسفار العهد القديم، لم ترد ضمن العهد القديم بنصه العبري الذي اشرنا اليه: ولكننا نجدها في الترجمة السبعينية (اليونانية) التي استخدمت استخداما في عصور المسيحية الاولى.
وهنالك كنائس تقبل هذه الكتابات وتعرف عندها باسم الأسفار القانونية الثانية. الا ان هنالك كنائس أخرى لاتقبلها ضمن الكتاب المقدس وتقدم لذلك عدة اسباب، وتعرف عندها باسم ” الأبو كريفا”. وكلمة ابو كريفا كلمة يونانية تعني اساساً الشيء السري أو الخفي. ولكنها بمرور الزمن أصبحت تدل على ماتحوم الشكوك حول صحته او المنحولة.
الترجمة لليونانية للكتاب المقدس المسماة السبعينية
وهذه الاسفار أو الاضافات هي مايلي:
1-طوبيت وهو سفر يحث على الصدقة، ويقدس الزواج الذي يقوم على حياة التقوى.
2- يهوديت: وهو قصة فتاة أنقذت شعبها، مثل أستير، بشجاعتها وتقواها.
3- اضافات لسفر أستير: وهي عبارة عن مجموعة من الصلوات والرسائل والأحلام جمعت كملحق لسفر أستير.
4- اضافات لسفر دانيال وهي تشمل تسبيحة الفتية الثلاثة في أتون النار، وقصة سوسنة الشابة العفيفة، وحكمة دانيال.
5- المكابيين الأول وهو يقدم سجلً تاريخيا لنضال اليهود بقيادة المكابيين ضد السلوقيين وانتصار يهوذا المكابين وبدء الاحتفال بعيد التجديد، وتطهير اورشليم وبناء المذبح.
6- المكابيين الثاني وهو يقدم نظرة روحية لأحداث التاريخ ويبين رعاية الله وقدسية الهيكل.
7- سفر الحكمة يتحدث في صياغة شعرية عن بناء النفس بالحكمة الالهية.
8- يشوع بن سيراخ يقدم في صياغة شعرية مجموعة كبيرة من الحكم وحديث عن الفضائل ثم يتحدث عن مجد الله في الطبيعة وفي التاريخ.
9- باروخ هو سفر نبوي يحوي رسالة للمسبيين للتمسك بالشريعة ورفض الأوثان.
جمع العهدين القديم والجديد واصبح الكتاب المقدس الواحد.
نشأت الكنيسة المسيحية في وقت كانت اليهودية منتشرة في انحاء كثيرة في العالم، وكان لهيكل اورشليم المكان المركزي في العبادة اليهودية، كان يتوجب على كل يهودي ان يحج الى اورشليم من مختلف أنحاء العالم للعبادة وتقديم الذبائح في الهيكل وبصفة خاصة في المواسم والأعياد الرئيسة مثل الاحتفال بالفصح وعيد الفطير، عيد الباكورات. وعيد الخمسين…( راجع لا23) ولعلنا نلاحظ شيئاً من ذلك في لو27:2 ، أع. 16:2 وبصورة اوضح في اع5:2-11.
الا ان المجامع اليهودية كانت منتشرة في كثير من البلاد كالناصرة (لو16:4)وأنطاكية بيسيدية (اع14:13) وأفسس(اع8:19) والاسكندرية ومصر القديمة (القاهرة اليوم) وأسوان…بل أن بعض المدن كدمشق كان بها عدة مجامع وقد أّخذَ شاول اليها رسائل من رئيس الكهنة ليضطهد الكنيسة الاولى من اليهود المتنصرين بدمشق بعدما تكاثر عددهم بشكل اقلق مجمع السنهدريم في اورشليم (اع2:9) وكذلك سلاميس في قبرض( اع5:13)…وغيرها.
1- المجامع اليهودية والكنائس المسيحية
كانت المجامع اليهودية نقطة الانطلاق التي عن طريقها قدم من حملوا بشارة الانجيل رسالتهم لمختلف بلاد العالم. ففي تلك المجامع كانوا يقرأون من اسفار العهد القديم الاسفار الخمسة الاولى مع قراءات تشمل بعض التسابيح والصلوات المأخوذة من الاسفار الشعرية وبخاصة سفر المزامير، وكذلك قراءات من الانبياء وكانت تقدم بعد ذلك كلمة شرح أو ايضاح للقراءات (راجع لو 4: 21-28)، اع31:15-42) واهتم من حملوا بشارة الانجيل بالقراءات من الانبياء بصفة خاصة وشرحها لتقديم رسالة محبة الله في المسيح يسوع باعتبارها تحقيقاً لتلك النبوَّات.
ولما لم يستطع من حملوا البشارة أن يستمروا في عمل الكرازة من خلال المجامع اليهودية حيث كانوا يُطردون منها ( راجع مثلاًاع4:18 مع 7:18 وكذلك اع 8:19 مع 9:19) اصبح للمسيحيين الاوائل أماكنهم الخاصة، التي لاشك أنها كانت على نمط تلك المجامع. وكانوا يقرأون فيها كتابات العهد القديم ويشرحونها.
2- حقبة الكرازة الشفهية
العهد الجديد
واضح أنه عندما بدأ تلاميذ المسيح وأتباعه الأوائل العمل على نشر بشارة الانجيل في مختلف بلاد العالم، قاموا بذلك بالكرازة الشفهية. لقد عاشوا مع المسيح، واستمعوا بانفسهم لتعاليمه، ورأوا اعماله ومعجزاته بعيونهم. ولاشك أنهم لم يقدموا الحقائق المجردة فقط ولكنهم قدموا شرحهم وما امكنهم أن يدركوهمن وراء هذه الحقائق ومن خلالها.
ولعلهم لم يهتموا بالتعجيل بتدوين أقوال الرب يسوع وسيرة حياته منذ البداية لأنهم كانوا يستخدمون العهد القديم، الذي وجدوا فيه نبوّات كثيرة تتحدث عن المسيح. مثال ذلك: عظة بطرس في يوم الخمسين (اع16:2) ودفاع استفانوس (اع7: 2-50) وعظة بولس في بافوس (أع 13: 15-41).
ولربما تأخر تدوين أقزوال المسيح وسيرة حياته لأن ” الشرق” طالما اعتمد على الرواية الشفهية. لقد تناقل اليهود تقاليدهم وتعاليمهم اليهودية شفاهاً لقرون طويلة قبل تدوينها. كيف أن اوراق البردي والرقوق المستخدمة في الكتابةكانت باهظة التكاليف فكان عامة الشعب في ايام الرب يسوع “يسمعون” كتابات العهد القديم مقروءة. ولذلك كان الرب يسوع يكرر لهم القول”سمعتم”…(مت5: 27،21، 43،38). أما جماعة الفريسيين وجماعة الكتبة، وهم علماء الشريعة ومعلميها، فكان يقول لهم: ” أما قرأتم…؟!” (مت 3:12، 4:19،مر25:2، لو3:6 وغيرها). الا ان هذا الوضع لم يدم طويلاً.
3- بداية كتابات العهد الجديد
بمرور الزمن ظهرت الحاجة لقراءات أخرى بالاضافة الى قراءات العهد القديم. فكان بعض المؤمنين يرسلون الى الرسل الذين بشّروهم يطلبون النصيحة أو الرأي بشأن بعض الموضوعات التي كانت تشغل فكرهم. ونلاحظ هذا مثلاً في كلمات الرسول بولس:” أما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها…(1كو1:12) وغيرها. وكل تلك الرسائل كانت موجهة الى جماعات المؤمنين في البلدان المختلفة لتقرأ على الجميع…
كما احس الرسل الاوائل من جانبهم لمتابعة التعليم والارشاد الذي بدأوا به. ولعل اول رسالة كتبت لهذا الغرض هي رسالة بولس الرسول الأولى لكنيسة تسالونيكي حيث يقول ” أناشدكم بالرب ، أن تقرأ هذه الرسالة على جميع الاخوة القديسين” 1تس27:5 كما يرد في الرسالة الى كولوسي.” ومتى قرئت عندكم هذه الرسالةتقرأ أيضاً في كنيسة اللاودكيين، والتي من لاودكية تقرأونها أنتم ايضاً” كو16:4 وهنالك بركة خاصة لمن يقرأ ومن يسمع كلمة الله في وسط جماعة المؤمنين”طوبى لمن يقرأ، وللذين يسمعون أقوال النبوّة…” (رؤ3:1).
كما ظهرت حاجة من آمنوا بالمسيح حديثاً، لاسيما من الأمم (غير اليهود)، لأن تكون تعاليم المسيح وسيرة حياته مكتوبة وموجودة بين أيديهم. ولذلك دونت البشائر الاربع، كل منها في ظروف خاصة لجماعة خاصة، وبهدف خاص.
فكان متى البشير مشغولاً بتقديم رسالة الانجيل لليهود بصفة خاصة، ولذا نراه ينير كثيراً على نبوّات العهد القديم ويبرز انها تحققت بمجيء المسيح.
مخطوط انجيلي تاريخي
يقدم مرقس الرسول شخص الرب يسوع في معجزاته وقوته ولعله قصد أن يخاطب تلك العقلية الرومانية، لترى جانباً آخر من شخصية المسيح.
لوقا البشير يوضح لنا في بداية الانجيل كما دوّنه، أنه يوجّه كتابه الى شخص يشغل مركزاً مرموقاً في المجتمع هو ” العزيز(أي المكرم) ثاوفيلوس” (لو 3:1)
ويوضح لنا يوحنا البشير أنه دون إنجيله لدائرة واسعة ممتدة فيقول:”وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح هو ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه”(يو20:13)
لذا نرى أن البشائر الأربع ليست في الواقع اربعة أناجيل مختلفة ولكنها انجيل واحد ، انها بشارة واحدة، وخبر سار واحد، وان كان تدوينه قد تم بيد أربعة أشخاص مختلفين، قدموا نفس القصة كل من زاوية خاصة، لهدف خاص، ولجماعة تختلف الواحدة منها عن الاخرى. كما ان تلك الحياة العريضة المليئة بالتعاليم والاحداث لم يستطع كل واحد من هؤلاء أن يدون كل مايختص بها. ولذلك يقول يوحنا البشير في ختام بشارته” وأِشيار أخر كثيرة صنعها يسوع، ان كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 25:21) إن حياة المسيح على الارض، بحر واسع لايسبر له غور مهما دوَّن البشيرون…
ولعل كل هذا يبرز مرة وأخرى العلاقة الوثيقة بين كتابات العهد القديم وكتابات العهد الجديد، والضوء المبارك الذي يلقيه العهد الجديد على العهد القديم ليتفهمه المرء فهماً جيداً صحيحاً، ويرى الوحدة التي تربط كل هذه الاسفار معاً في كتاب واحد هو الكتاب المقدس.
الا اننا نلاحظ أنه منذ وقت مبكر في تاريخ المسيحية، أخذ بعض الأشخاص، غير رسل المسيح ورفقتهم على عاتقهم كتابة سيرة المسيح أو بعض تعاليمه وأمثاله. ونجد إشارة لذلك في لو1:1 ” إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا” وبمرور الوقت تزايد عدد مثل هذه الكتابات.
الا انه بظهور بعض الهرطقات والتعاليم الغريبة عن المسيحية، كتب كثيرون مؤلفات أخرى نسبوا فيها بعض الأقوال وبعض الأفعال للسيد المسيح. وكان من بين هؤلاء جماعة الغنوصيين الذين انتشروا في بلاد كثيرة ونادوا بهرطقة أكدت على التعارض بين الروح والمادة وقد اكتشفت سنة 1947 مجموعة كبيرة من مؤلفاتهم باللغة الديموطيقية المصرية تعود للقرن الرابع المسيحي بالقرب من نجع حمادي بصعيد مصر.
5- الحاجة الى جمع كتابات العهد الجديد
إزاء تلك الكتابات الكثيرة التي انتشرت، وجدت الكنيسة نفسها مضطرة لأن تجمع كتابات العهد الجديد معاً حتى لا تختلط الكتابات الأصيلة بالكتابات الزائفة والمنحولة. ويرى بعض علماء العهد الجديد أن هذا العمل مر في عدة مراحل
أ- رسائل بولس الرسول
يلاحظ الدارسون المدققون أن رسائل بولس الرسول جمعت معا قبل نهاية القرن الأول المسيحي، ويشير بطرس الرسول الى هذه الرسائل باعتبارها معروفة لدائرة واسعة من المؤمنين (2 بط 3:15 و،16) ويقول انها تتضمن بعض الحقائق التي يصعب فهمها، والتي يقوم البعض بتحريفها، أي بشرحها قصدا ًشرحاً خاطئاً.
ب- البشائر الأربع
أما الأناجيل الأربعة فقد وجدت إشارات لجمعها تعود الى منتصف القرن الثاني المسيحي. بل أن هنالك شخص اسمه تاتيان السوري أو بالأحرى الأشوري، وهو تلميذ جوستنيان الشهيد، أعد في عام 16-م. كتاباً يعرف باسم “الدياطسرون” ( اي الرباعي بمعنى التوافق “هارموني” بين أربعة أجزاء) وفيه محاولة لدمج البشائر الاربع معاً في انجيل واحد.
ج- بقية كتابات العهد الجديد
نساخ من اليهود المعاصرين وهم ما زالوا ينسخون التوراة على الورق –
عندما جمعت البشائر الأربع معاً أصبح من الضروري ان يفصلوا بين الكتابين اللذين دونهما لوقا البشير فوضعوا الكتاب الأول مع الاناجيل، أما الكتاب الثاني الذي نطلق عليه اسم أعمال الرسل فوضعوه بعد انجيل يوحنا ليكون بمثابة استكمال لقصة المسيحية وانتشارها بعد سيرة حياة المسيح وموته وقيامته كما دونتها الاناجيل، وليصبح في نفس الوقت همزة الوصل بين قصة نشأة الكنائس المسيحية في مختلف بلاد العالم وبين الرسائل التي كتبت لتلك الكنائس.
والذي يقرأ سفر أعمال الرسل يلاحظ أن بولس الرسول لم ينفرد وحده بالعمل على نشر رسالة الانجيل وانشاء الكنائس في مختلف البلاد. فنقرأ في الفصول الأولى من هذا السفر عن بطرس ويوحنا اللذين كتبا أيضاً بعض الرسائل، كما فعل ذلك ايضاً يعقوب ويهوذا ” اخو الرب”. لذلك كان طبيعياً أن تجمع الرسائل التي كتبها كل هؤلاء معاً ضمن كتاب “العهد الجديد” وأن تجد مكانها بعد سفر أعمال الرسل مباشرة، بحكم علاقتها وارتباطها بنشأة هذه الكنائس وأسماء من سهروا على الخدمة فيها. ولاحظنا من قبل أن رسائل بولس الرسول كانت قد جمعت معاً قبل نهاية القرن الأول الميلادي. وكان طبيعياً أن توضع هذه الرسائل بعد سفر أعمال الرسل مباشرة. وجاءت من بعدها الرسالة الى العبرانيين التي يرى كثيرون أنها ضمن رسائل بولس الرسول، ثم رسالة يعقوب، فرسالتي بطرس الرسول ثم رسائل يوحنا الثلاث. ومن بعدها رسالة يهوذا. ثم بعد كل هذه الرسائل وضعوا سفر الرؤيا الذي تختلف طبيعته عنها.
6- كتابات العهد الجديد ومجامع الكنيسة
لم يكن جمع اسفار العهد الجديد معاً امراً سهلاً، فقد مر في مراحل كثيرة. كان الدافع الأول لجمعها ، كما رأينا خطورة الكتابات المزيفة وانتشار بعض الهرطقات التي نلمس بدايتها في عصور الكنيسة الاولى بل اننا نلاحظ ذلك في كتابات العهد الجديد: فهناك اشارات لموقف المسيحية من الغنوصية في رسالة كولوسي 15:1-20، 8:2-10…كما نجد ذلك ايضاً في رسالة يوحنا الأولى 2: 18 -23، 4: 1 -3 ويشير بولس الرسول الى هرطقة أخرى في رسالته الثانية الى تيموثاوس 16:2-18. ومن منطلق تعرض الكنائس في البلاد المختلفة لهذه التيارات، تبلور فكر كل مجموعة من الكنائس مثل الكنيسة الغربية، والكنيسة اليونانية والكنيسة السريانية…، بشأن أسفار العهد الجديد، الى أن جاء عصر المجامع الكنسية.
مخطوط انجيلي من مكتبة الاسكندرية
وينبغي أن نقول مكرراً ان المجامع لم تمنح صفة الشرعية لأي سفر من أسفار العهد الجديد أو تسبغها عليه، فكل ماقامت به هذه المجامع هو أن أقرت ببساطة بأن هذه هي الكتابات التي استخدمتها الكنيسة على مر السنين واستمعت من خلالها لصوت الإله الحي.
فعندما انعقد مجمع لادوكية عام 363م أصدر قراراً بمنع قراءة الكتب غير القانونية. ويمكننا أن نستنبط من هذا القرار أن الكتب القانونية كانت معروفة للجميع.
اما مجمع هيبو في شمال افريقيا أي تونس اليوم والذي انعقد عام 393م فوضع قائمة بأسفار العهد الجديد هي نفسها الأسفار المعروفة عندنا اليوم. وقرر مجمع قرطاجة عام 397م أن تقتصر قراءة الكتب المقدسة في الكنائس على الاسفار القانونية. ويلاحظ المرء ان قائمة أسفار العهد الجديد التي وضعها هذا السينودس هي نفسها كتابات العهد الجديد التي بين ايدينا اليوم.
العهد الجديد
7- كتابات العهدين القديم والجديد تصبح كتاباً واحداً
وجد المسيحيون الأوائل أن العهد القديم برموزه وطقوسه، وبأحداثه ونبؤاته، يوجه الانظار الى المسيح المنتظر، كما ان كتاباته تقود فكر البشر الى المسيح ليقبلوا اليه فيجدوا فيها ماتصبو اليه نفوسهم. فالعهد القديم يتطلع الى الخلاص الذي يتحقق بيسوع، والعهد الجديد يقدم الخلاص الذي تحقق فعلاً في يسوع…
واذ استخدم المسيحيون من البداية العهد القديم في الكرازة بالانجيل، ثم جمعوا كتابات العهد الجديد معاً باعتبارها الكتابات المسيحية، لم يكن غريباً أن يجمعوا كتب العهد القديم والعهد الجديد معاً لتصبح كتاباً مقدساً واحداً، ويتحدث في وحدة وانسجام عن عمل الاله الحقيقي الواحد الذي يقدم الخلاص للبشرية، وعن استجابة الانسان لعمل الخلاص، الذي انجزه الله للبشر في المسيح. فالكتاب المقدس يتكون من قصة واحدة هي قصة الخلاص ويقدم تاريخ هذا الخلاص على مر العصور والأجيال.
الترجمة لليونانية للكتاب المقدس المسماة السبعينية
8- تقسيم الكتاب المقدس لفصول وآيات
لم تكن أسفار الكتاب المقدس مقسمة الى فصول وآيات عند كتابتها. الا أن تزايد الدراسة وتزايد اقتباس عبارات كثيرة من الكتاب المقدس، أبرز الحاجة الى تحديد الأماكن التي يتم الاقتباس منها.
وكانت البداية بالبشائر الأربع، فقد كتب أمونيوس الاسكندري حوالي سنة 220م على هوامش الانجيل بحسب متى البشير، ازاء كل فقرة منه، الفقرة المشابهة في الأناجيل الأخرى، واذا بهذه الفكرة توحي ليوسبيوس القيصري أن يقسم الأناجيل الأخرى، واذ بهذه الفكرة توحي ليزسبيوس القيصري أن يقسم الأناجيل الى فقرات أو أجزاء لكل منها رقم خاص. فجعل من متى 355 فقرة، ومرقس 233فقرة، ولوقا342 فقرة، ويوحنا 232 فقرة. ثم وزع هذه على عشرة قوائم يمثل كل منها الفقرات التي ترد في الأناجيل الأربعة أو في ثلاثة أو في اثنين (وايهما) أو في انجيل واحد. ثم دون رقم كل قائمة باللون الأحمر الى جوار رقم الفقرة المكتوبة باللون الأسود مع النص، وبذلك يستطيع القارىء ان يدرك بجهد متواضع ان كانت هذه الفقرة او تلك ترد في انجيل آخر وماهو رقمها. وساعدت هذه الوسيلة كل من رغبوا في مقارنة الفقرات المختلفة في الاناجيل.
الا انه بالاضافة الى ذلك، نلاحظ أن المخطوطات الهامة كالفاتيكانية والاسكندرانية والسينائية (دير سانت كاترين)… تحوي تقسيماً آخر يهدف الى معاونة القارىء على فهم الجزء الذي يقرأه. وتضيف بعض المخطوطات كالاسكندرانية عنواناً لكل جزء يوضح مضمونه وبموجب هذا التقسيم نجد متى في 68 جزءاً، ومرقس في 48 جزءاً، ولوقا في 83 جزءاً، ويوحنا في 18 جزءاً.
مخطوط انجيلي تاريخي
وبمرور الزمن قام ستيفن لانجنون (عندما كان في باريس قبل ان يصبح رئيساً لأساقفة كنتربري حيث توفي عام 1228) بتقسيم الكتاب المقدس في ترجمته اللاتينية الى الفصول المعروفة لدينا اليوم ثم تم تعميم هذا التقسيم في سائر اللغات.
وبعد ذلك قام أحد اصحاب المطابع في باريس واسمه روبرت ايتين اي استفانوس بتقسيم النص الى آيات، وهو نفس التقسيم الذي لانزال نستخدمه اليوم. وكانت المطابع في ذلك العصر نقوم بدور دور النشر اليوم وظهر ذلك التقسيم للآيات لأول مرة في الطبعة الرابعة للعهد الجديد باللغتين اليونانية واللاتينية التي اصدرها في جنيف بسويسرا عام 1551 م. عندما اصدرت المطبعة، أي دار النشر، المشار اليها أعلاه أول كتاب مقدس كامل فيه تقسيمات الفصول والآيات كما نستخدمها اليوم وذلك في الترجمة اللاتينية ( الفولجاتا).
ويستخدم البعض كلمة اصحاح تعبيراً عن الفصول الكتابية، وكلمة اصحاح مشتقة من كلمة صحيح ويقصد بها تقديم جزء متكامل سواء اطلقنا عليه كلمة اصحاح أو كلمة فصل.
الا انه ينبغي أن لانعتبر تقسيم الكتاب المقدس الى فصول وآيات أساساً للدراسة الجادة لكلمة الله فكثيراً مايأتي تقسيم الفصول الكتابية والآيات حيث لايجب أن يكون. ولذلك فكثيراً ماييضطر من يسهرون على نشر الكتاب المقدس باللغات المختلفة لأن يضموا بعض الآيات من هذا الفصل أو ذاك الى فصل آخر ليتكامل المعنى ولكي لاتظهر بعض الآيات مبتورة عن مضمونها. والأمثلة كثيرة منها أش 52: 13-15 وهي الآيات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفصل 53 لا الفصل 52 من نبؤات أشعياء. وكذلك 2 كو1:7 وهي الآية التي ترتبط بالفصل السادس لا الفصل السابع من رسالة بولس الرسول الثانية الى كنيسة كورنثوس. ولذلك يجدر بكل من يدرس الكتاب أن لايتقيد في دراسته بالفصول الكتابية كوحدات متكاملة للدراسة.
صحة الكتاب المقدس
لم يتعرض كتاب على مر العصور والأجيال لمثل ماتعرض له الكتاب المقدس من هجوم . الا انه من الجانب الآخر لم يضحِّ البشر لأجل كتاب بمثل ماضحوا في سبيل الكتاب المقدس، حتى قدم البعض حياتهم نفسها لأجله.
اولاً شهادة المخطوطات
مخطوط تاريخي للتوراة
يعلم كل من درس شيئاً عن المخطوطات القديمة سواء للعهد القديم أو للعهد الجديد او الكتاب المقدس بكامله. وهذه المخطوطات موجودة في مختلف متاحف العالم الشهيرة. والاكتشافات الحديثة لبعض المخطوطات تعطينا مزيداً من اليقين بشأن صحة الكتاب المقدس كما هو بين ايدينا اليوم. والذي يقارن بين مخطوطات الكتاب المقدس القديمة، ومخطوطات بعض الكتابات الكلاسيكية القديمة أيضاً، مثل كتابات هو ميروس وما الى ذلك، يدهشه حقاً ان يرى توافقاً كبيراً من مخطوطات الكتاب المقدس بينما تظهر اختلافات كبيرة بين مخطوطات سائر تلك الكتابات الأخرى رغم ماتحظى به من شهرة عالمية كبيرة.
ويستطيع العلماء ان يحددوا تاريخ المخطوطات المختلفة بدقة عن طريق استخدام جهاز خاص لذلك يقوم بتحليل الحبر أو المادة المكتوب عليها وفحص مايسمى ب”الكربون المشع” او “الكربون رقم 13 ” كما يمكن التعرف على تاريخ كتابة المخطوطات من نوع الخط المكتوب به كالكوفي والكوفي المعدل والنسخ في اللغة العربية، وفي الكتابة بحروف منفصلة أو حروف متصلة في المخطوطات اليونانية، وما الى ذلك.
ومخطوطات الكتاب المقدس الموجودة بين ايدينا اليوم تعود في تاريخ نقلها عن مخطوطة سابقة الى سنوات قريبة جداً من تاريخ كتابة نسخها الأصلية، بينما نجد أن أقدم مخطوطات كتابات أفلاطون مثلاً تعود الى 1300 سنة بعد افلاطون. ولاتوجد مخطوطة لكتابات ديموشين أقدم من 1200 سنة بعد وفاته. وبينما دوّن تاسيتوس أربعة عشر كتاباً في التاريخ عام 100 مسيحية تقريباً، لايوجد لدينا اليوم منها سوى مخطوطات اربعة كتب ونصف، يعود أقدمها للقرن 9م
ويوجد لدينا اليوم أكثر من 10000مخطوطة للكتاب المقدس أو أحد أجزائه ويمكننا أن نشير الى أهم المخطوطات في مايلي:
1- مخطوطة العهد القديم وحده
مخطوط التوراة
ان اقدم مخطوطة للعهد القديم بين ايدينا قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت عام 1947 تعود الى القرن الأول المسيحي أو ربما القرن الثاني وهي جزء من مخطوطة مكتوبة على ورق البردي تعرف باسم بردية ناش وتشمل الوصايا العشر كما نجدها في الفصل الخامس من سفر التثنية وكذلك: ” اسمع يا سرائيل…” تث4:6-9 التي هي بمثابة اقرار ايمان شعب الله القديم.
وسبق ان اشرنا الى الأجزاء الكثيرة من العهد القديم التي يعود بعضها الى القرن الخامس المسيحي التي اكتشفت في مجمع اليهود في مصر القديمة بالقاهرة. على أن اهم المخطوطات ذات الشأن التي كانت بين ايدينا قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت عام 1947 وهي مايلي:
أ) مجلد القاهرة الذي اكتشف في مجمع اليهود بمصر القديمة بالقاهرة ويشمل كتابات الأنبياء وتاريخ كتابته سنة 895م.
ب) مجلد سان بطرسبرغ الخاص بالأنبياء ويشمل نبوّات أشعياء وارمياء وحزقيال والأنبياء الصغار الاثني عشر وتم نسخه عام 916 مسيحية.
ج) مجلد حلب الذي يشمل العهد القديم بكامله وتاريخ كتابته 925 مسيحية
د) مجلد المتحف البريطاني وهو يشمل الكتب الخمسة الأولى وتاريخه 950 مسيحية
ه) مجلد روشلين الذي يشمل الأنبياء، وقد تم نسخ هذا المجلد عام 1105 مسيحية
و) مجلد سان بطرسبرغ
الذي تم نسخه عام 1108 مسيحية ويشمل العهد القديم بكامله.
وهناك ايضاً بردية تشمل ترجمة يونانية لحوالي 15 آية من سفر التثنية تعود بنا الى القرن 2 مسيحي وهي موجودة في مكتبة جون رايلاندز في مانشستر بانكلترة.!!!
الا ان مخطوطات قمران ( البحر الميت) التي اكتشفت في منطقة خرائب قمران في الشمال الشرقي لمدينة القدس وضعت بين ايدينا درجين لسفر أشعياء أحدهما يشمل النص كاملاً ويعود للقرن الثاني قبل الميلاد، والدرج الآخر ضاعت بعض أجزائه، ومعه نص سفر حبقوق وتفسير له.
وقد اكتشفت كل هذه في الكهف الأول ( انظر تدوينتنا عن مخطوطات قمران في موقعنا هنا). ودأب علماء الحفريات والبدو على البحث والتنقيب في هذه المنطقة مابين سنة 1952 وسنة 1956 واكتشفوا مزيداً من النصوص في عشرة كهوف أخرى فوجدوا في الكهف الحادي عشر 41 مزموراً من المزامير التي بين ايدينا اليوم، كما اكتشفوا أجزاء من أكثر من مائة درج أخرى تشمل بعض الآيات من كل اسفار العهد القديم ماعدا سفر استير.
وتعود هذه المخطوطات الى القرنين الأول والثاني قبل المسيح.
ويلاحظ كل من يدرس هذه النصوص تطابقاً كاملاً بينها وبين النص الموجود بين ايدينا اليوم في ماعدا بعض الاختلافات الطفيفة التي يتوقع المرء ان يجدها نتيجة نقل مخطوطة عن مخطوطة أخرى على مدى قرون طويلة.
2- مخطوطات العهد الجديد وحده
الترجمة السبعينية اليونانية
مخطوطات العهد الجديد بمفرده كثيرة جداً أهمها مايلي
أ) مخطوطة بيزا ويطلق عليها هذا الاسم نسبة الى ثيودور بيزا الذي جاء خلفاً لكالفن في حركة الاصلاح في جنيف/ سويسرا وهو الذي قدم هذه المخطوطة هدية لجامعة كمبردج بانكلترا.
وهي أقدم مخطوطة معروفة لدينا تشمل نصوصاً من الكتاب المقدس بأكثر من لغة. فهي تشمل الأناجيل الأربعة وجزءاً من رسالة يوحنا الرسول الثالثة وجزءاً من سفر الأعمال. والنص مكتوب باللغة اليونانية في الصفحات اليمنى. وتعود هذه المخطوطة الى أواخر القرن الخامس المسيحي أو أوائل القرن السادس المسيحي.
ب) مجموعة برديات شستر بيتي وهذه مخطوطات اكتشفت داخل جرار في إحدى المقابر المسيحية بمصر واشتراها رجل اميركي كان مقيماً في دبلن بايرلندا من بعض تجار العاديات بمصر وتشمل نصوصاً من الأناجيل الاربعة. وسفر أعمال الرسل (30 ورقة من اوراق البردي) ورسائل بولس الرسول(86 ورقة من 104) وسفر الرؤيا(10 ورقات من 32 ) وتعود كل هذه المخطوطات الى مابين عام 200 و250 م.
ج) مجموعة برديات دشنا وقد اكتشفت بالقرب من مدينة دشنا بصعيد مصر قبل عام 1956 بقليل وعرفت باسم مجموعة بودمار وهي موجودة حالياً بمتحف بودمار بالقرب من جنيف بسويسرا. وتقدم لنا هذه المخطوطات النص الكامل لبشارتي لوقا ويوحنا ورسالتي بطرس الرسول وكذلك رسالة يهوذا. وكل هذه المخطوطات تعود الى أوائل القرن3م وهي تطابق النصوص التي بين ايدينا فيما عدا بعض الاختلافات الطفيفة جداً.
د) بردية جون رايلاندز ورغم أن هذه ليست سوى جزء صغير من ورقة من البردي مكتوب عليها من الجانبين، ولاتشمل سوى كلمات قليلة من انجيل يوحنا الا أنها تعود الى حوالي عام 125م مما يؤكد لنا ايضاً أن تدوين المخطوطات في شكل صفحات مكتوب على جانبيها ووضعها داخل غلاف كمجلدات كان قد بدىء به في هذا التاريخ المبكر. وقد اكتشفت هذه الجزازة من البردي عام 1934 بصعيد مصر وهي موجودة اليوم في مكتبة جون رايلاندز بمانشستر بانكلترا.
3- مخطوطات الكتاب المقدس الكاملة
مخطوط من بشارة القديس مرقس
اما مخطوطات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فكثيرة ايضا واهمها مايلي وكلها ابنة المشرق ولكنها صارت في متاحف الغرب بكل اسف كما يحصل لكل الآثار والمخطوطات تحديدا في المناطق المحتلة:
أ) المخطوطة السينائية وتعود الى منتصف القرن4 م وقد اكتشفها العلامة فون تيشيندورف بدير القديسة كاترينا بسيناء عام 1844 ثم عام 1859 وهي تشمل العهد الجديد كاملاً وغالبية العهد القديم باللغة اليونانية. وهي الآن بالمتحف البريطاني بعدما استلبها الاحتلال البريطاني لمصر من مخطوطات الدير!!!
ب) المخطوطة الاسكندرانية وهذه تعود الى القرن 5م وتشمل غالبية العهد القديم وكل العهد الجديد وهي باللغة اليونانية وحالياً هي موجودة الآن بالمتحف البريطاني بعدما استلبها الاحتلال البريطاني لمصر!!!
ج) المخطوطة الفاتيكانية وهذه تعود الى القرن 4م وقد نسخت بمصر حوالي عام 350 م باللغة اليونانية وتشمل كل العهد القديم تقريباً وكل العهد الجديد فيما عدا بعض الأجزاء الأخيرة منه. ويطلق عليها اسم الفاتيكانية لأنها صارت موجودة بمكتبة الفاتيكان منذ ماقبل عام 1475م بعدما استلبها الفرنج بحملاتهم على المشرق.
د) المخطوطة الأفرامية وهي تعود للقرن 5م وتشتمل على 64 صفحة من العهد القديم وكذلك 145 صفحة من العهد الجديد وكانت أصلاً نسخة كاملة للكتاب المقدس بكامله كتبت غالباً بمصر في القرن 5 باللغة اليونانية، الا ان أحد الرهبان !!! حاول ان يمحوها ليدون على رفوفها بعض عظات القديس افرام السوري في القرن 12م. واستطاع العلماء عن طريق استخدام بعض المواد الكيمائية وطرق التصوير الحديثة، قراءة النص الأصلي برغم محوه، وبرغم الكتابة فوقه، والمخطوطة الأفرامية موجودة اليوم بمتحف باريس…!
ان كل هذه المخطوطات تدلنا دلالة قاطعة على صحة الكتاب المقدس كما هو بايدينا اليوم مما لايدع مجالا للشك لدى كل دارس منصف غير منحاز.
ثانياً الدقة المتناهية في نقل المخطوطات
لاحظنا كيف اهتم النساخ في نقل اسفار العهد القديم بإعداد الدرج الذي يستخدمونه والدقة في الكتابة واحصاء الكلمات والحروف لكل سفر.
الا اننا نلاحظ أن هناك عاملاً اضافياً زاد من اهتمام النساخ بالدقة في النقل من مخطوطة الى مخطوطة. وكان ذلك مما املته الظروف على النساخ وعلى الراغبين في اقتناء المخطوطات المختلفة فكلنا يعلم أن بعض الناس يميلون للكتابة بخط صغير بينما البعض الآخر يكتبون بخط كبير فتشغل نفس الكلمات على يد الكاتب الاول أسطراً اقل مماتشغله على يد الكاتب الثاني. فكان من الضروري ان يتم الاتفاق بين من يقوم بكتابة المخطوطة وبين من يرغب فيها على اساس “حجم” المخطوطة نفسها أي على أساس عدد كلماتها، او بالحري عدد حروفها: حتى لايتقاضى من يكتب بخط كبير أجراً اكثر من اللازم، وحتى لايجحف حق من يكتب بخط صغير.
بل إن هنالك جانباً آخر أثّر تأثيراً كبيرا على الدقة في النقل واحصاء الكلمات والحروف، فكان على من يرغب في أن يقتني نسخة من مجموعة رسائل بولس الرسول مثلاً أن يتعرف على تكلفة نسخ كل من هذه الرسائل. وهذا يرتبط طبعا بطول الرسالة أو قصرها. ولكي تتحدد معالم هذا الأمر وضعت رسائل بولس الرسول في ترتيبها الحالي بحسب عدد اسطرها، وبالتالي بحسب عدد حروفها في مجموعتين أولاهما الرسائل الموجهة الى كنائس والأخرى الموجهة الى أفراد. فتبدأ المجموعة الأولى بالرسالة الى كنيسة روما باعتبارها اطول الرسائل وتنتهي بالرسالة الثانية الى تسالونيكي وهي اقصر الرسائل الموجهة الى كنائس. أما المجموعة الثانية فتبدأ بالرسالة الأولى الى تيموثاوس وتنتهي بالرسالة الى فيليمون وهي أقصر الرسائل.
وعرف كل هذا باسم “علم عدد الأسطر” والذي بمقتضاه حددوا عدد اسطر كل سفر باعتبار أن كل سطر يتكون في المتوسط من عدد معين من الحروف. ورغم أن الهدف الأساس من كل هذا كان ضبط التعامل بين النسَّاخ والراغبين في الحصول على نسخ من هذا السفر أوذاك، الا أن ذلك أدى الى الدقة المتناهية في احصاء عدد أسطر، بل عدد حروف الكتابات المختلفة. وهانحن اليوم نشكر الله كثيراً لأجل كل ذلك لأنه يؤكد لنا سلامة الكتاب المقدس على مر العصور والاجيال.
كانت اللغة اليونانية هي السائدة في حوض المتوسط وآسيا الصغرى وبلاد اليونان وايطاليا ومصر وليبيا والقيروان فهي اساساً لغة الغلم والثقافة والادب، والكتاب المقدس بعهديه انتشر باليونانية في هذه المنطقة الجغرافية المسماة مسيحيا “المسكونة” وكان السكان فيها يتعلمون اللغة اليونانية اضافة الى لغاتهم الاصل منذ قيام الاسكندر بفتحها وتأسيس امبراطوريته الهلنستية (وقد تواءمت مع حضارة الفينيقيين كنعانيي الساحل وكنعانيي الداخل وتداخلت اللغتان بفعل العلاقات التجارية البحرية المشتركة… )ومن بعدها دولة البطالسة في مصر والشمال الافريقي والدولة السلوقية في بلاد سورية واسيا الصغرى واجزاء من بلاد الرافدين واصطبغت الاسكندرية وانطاكية واللاذقية وبيروت وبقية مدن الداخل السوري كدمشق وافامية وعمان وجرش الساحل السوري وحوض المتوسط اضافة الى قبرص بالصبغة الهلينية مع الاسكندر والصبفة الهلنستية لاحقاً اي اليونانية الشرقية مع السلوقيين والبطالسة ولم تستطع لغة روما اللاتينية التي فتحت هذه ال ومدنمطقة في سنة 64 ق.م من الصمود امام اللغة اليونانية وعلىذلك تمت الترجمة السبعينية الى اللغة اليونانية وكانت الاساس…
1- الترجمة السبعينية
بُدىء العمل في هذه الترجمة بمدينة الاسكندرية عام 280 ق.م ، واهتم بها بطليموس فيلادلفوس مؤسس دولة البطالسة في مصر، وقيل انه استحضر للعمل بها 70 او 72 شيخاً من اورشليم ليترجموا له كل العهد القديم من العبرية الى اليونانية ليتمكن يهود الاسكندرية من قراءة كتبهم المقدسة باللعة التي يستخدمونها ويفهمونها. وقد هيأت هذه الترجمة الاساس لانتشار رسالة الانجيل المقدس بين غير اليهود، وساعدت الرسل في كرازتهم بالمسيح الرب في نقل الاقتباسات الكثيرة التي أخذوها من الغهد القديم.
2- الترجمة الديموطيقية وهي اللغة الطقسية التي يستخدمها اقباط مصر
وتعود هذه الترجمة لمنفعة سكان مصر القديمة اللذين بالرغم من سيادة اللغة اليونانية بينهم الا ان لغتهم وهي وريثة الهيروغليفية بالهجة الصعيدية الى القرن 3م وباللهجات الأخرى البحيرية والفيومية والاخميمية الى القرن 4م.
3- الترجمة الآرامية
تعود الى القرن 4م وتعرف ب”البشيطا” اي البسيطة وماتلاها مابين القرنين الخامس والسادس لمنفعة سكان الجزيرتين السوريتين والعليا في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين في العراق حيث كانت حضور اللغة اليونانية هناك اقل من سورية الداخل والساحل.
4- الترجمات اللاتينية
بعد أن ترجم الكتاب المقدس بكامله الى اللاتينية قام القديس ايرونيموس( جيروم) بترجمته الى اللغة اللاتينية الشعبية ولذلك أطلق عليها اسم الفولجاتا أي الدارجة وكان ذلك في القرن 5م.
ملاحظة هامة جداً
الترجمة السبعينية اليونانية
ان الذي يتأمل هذه الترجمات الكثيرة وغيرها ويلاحظ توافقها، يمكنه أن يدرك تماماً ويقتنع بأنه لم يكن من الممكن أن يعبث أحد بالنص الأصلي سواء بالنسبة للعهد القديم أو العهد الجديد. فالترجمات المختلفة تمت في بلاد مختلفة في هذه المسكونة الواسعة التي تشكل العالم القديم وليس في مكان واحد كمدين مثلاً او مجمع واحد…وفي ظروف مختلفة وبيد اشخاص مختلفين، وماكان يمكن أبداً أن يتفق كل هؤلاء في انتشارهم الواسع جداً وبلغاتهم الاصل واساساً اللغة اليونانية على أي تعديل في النص، فنجد النصوص المنتشرة في كل انحاء العالم في توافق تام مع كافة الترجمات بمختلف اللغات في كل مكان.
اقتباسات آباء الكنيسة من الكتاب المقدس
ان من يقرأ شيئاً من كتابات آباء الكنيسة في القرون الأولى للمسيحية، لابد وأن يلاحظ كيف انهم اقتبسوا على نطاق واسع من الكتاب المقدس. فقد كتب البعض منهم شرحا للمسيحية وتعاليمها مستشهدا بما جاء في الكتاب المقدس، وكتب آخرون مدافعين عن الايمان المسيحي فاقتبسوا الكثير من الآيات . بل أن بعض من نادوا ببدع تتعارض مع المسيحية اقتبسوا أيضاً بعض الآيات وحاولوا اضفاء تفسيراتهم الخاصة عليها.
واذ يقرأ المرء كتابات القديس اغناطيوس الانطاكي يطريرك انطاكية الثالث ويوستنيانوس الشهيد الذي عاش في روما وايريناوس الذي عاش قي يلاد الغال (فرنسا حاليا) وكلهم عاشوا في النصف الأول من القرن 2م وكذلك كتابات اكليمندس الاسكندري ، واريجانوس وأثناسيوس وكيرلس الكبير، وكلهم عاشوا في الاسكندرية في قرون المسيحية الاولى، وكتابات ترتليانةس وكبريانوس واغسطينوس الذين عاشوا في قرطاج (تونس اليوم) في الفترة من القرن 3م الى القرن5م وغيرهم كثيرون، يلمس في وضوح مدى معرفتهم العميقة للكتاب المقدس واقتباساتهم الكثيرة منه، لدرجة أن استطاع احد العلماء حصر هذه الاقتباسات بدقة فاكتشف ان كل ايات العهد الجديد جاءت في كتابات آباء الكنيسة في ماعدا إحدى عشرة آية فقط.
ولذلك يرى كثير من العلماء أنه حتى لو أن كل مخطوطات العهد الجديد كانت قد فقدت لسبب او لآخر لاستطعنا أن نقوم بتجميعه ثانية من اقتباسات الآباء…كا انه من اللافت للنظر ذلك التوافق بل التطابق الكبير بين اقتباسات الآباء وبعضها البعض مما يؤكد دقة النص الواحد الذ اقتبس منه هذا وذاك، فيما عدا بعض الاختلافات الطفيفة جداً.
كل هذا ولا شك يبعث الطمأنينة في النفوس عند التحدث عن سلامة الكتاب المقدس.
اقتباسات الكتّاب العرب من الكتاب المقدس في عصور مبكرة
ان اقدم المخطوطات التي بين ايدينا لأجزاء من الكتاب المقدس باللغة العربية تعود الى القرن 8 او 9م، ونلاحظ ايضا اقتباسات مطولة من الكتاب المقدس في كثير من الكتابات العربية في القرن 9م. فابن قتيبة مثلاً الذي عاش في القرن9 م (828-889م) يقتبس الكثير من الكتاب المقدس واقتباساته تطابق النصوص الموجودة بين ايدينا اليوم كما ان كتابات اليعقوبي الذي عاش في نفس القرن تتضمن ايضا اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس كما هو بين ايدينا اليوم. كل هذا يزيل كل شك قد يعلق بالأذهان ولاسيما في محيطنا العربي، فيما يتعلق بسلامة الكتاب المقدس كما يحلو لبعض المتعصبين بكل اسف اتهامنا بتحريف الكتاب المقدس بزعم لايقوم على اي مستند…كما طلع علينا احد الائمة وهو يقدم المعايدة بالفصح على محطة فضائية ليقول ان المسيح تعرض لحالة من السبات لكنه لم يمت ولم يقم وكأن الله اعطاه سر الفداء او انه عاد الى زمن الخلاص عندما صُلب ربنا يسوع المسيح على الصليب ومات ودفن وقام من بين الاموات واعطى لنفسه الحق بالتشكيك في ايمان ثلاثة مليارات مسيحي في العالم وهو لايفقه ان خلاص البشرية تم بقيامة المسيح وهو اساس ايماننا وان يسوعنا له المجد جعل من الصليب اداة خلاص ونصر بعد ان كان اداة تعذيب للمجرمين… ما اضطرني للرد عليه بالقول له: “كنا في غنى عنك و عن معايدتك…” وبصفة خاصة بعد الموجات المتلاحقة من الدراسات النقدية للكتاب المقدس التي ظهرت في اوربة في اواخر القرن 19 والتي تراجع العلماء اليوم عن الكثير من افكارها المتطرفة، وان كان قوم من الذين لم يتعمقوا في الدراسة في الشرق لازالوا يتشبثون بها.
شهادة الاكتشافات الأثرية لصحة الكتاب المقدس
مخطوط انجيلي تاريخي
اثبتت اكتشافات اثرية كثيرة صحة ودقة الكتاب المقدس. ولايتسع المجال لسرد الكثير منها الا اننا نكتفي بمجرد الاشارة الى بعض عينات على سبيل المثال لا الحصر.
1- حجر موآب ودقة سجلات العهد القديم
عثر في عام 1868 على قطعة من حجر البازلت الأسود في مدينة ذبيان التي تقع خرائبها على بعد خمسة كم شمالي ارنون على الجانب الشرقي من الاردن اي داخل أرض موآب القديم، واكتشف العلماء 34 سطراً من الكتابة الموآبية القديمة محفورة على هذا الحجر وهو المحفوظ اليوم بمتحف اللوفر بباريس!!!
مايهمنا هنا هو ان نشير الى ان هذا الحجر بأسطره القليلة جاء ليتبت صحة ودقة مايسجله الكتاب المقدس عن الحوادث المختلفة، كما نقرأ عنها في سفر الملوك الثاني والفصل الثالث بشأن الملك ميشع ملك موآب على هذا الحجر ومن وجهة نظره هو فجاءت مطابقة لما رواه الكتاب المقدس.
2- اسوار اريحا
زعمت بعض الدراسات النقدية التي ازدهرت في القرن 19 أن اسوار اريحا لايمكن ان تسقط في مكانها كما يسجل سفر يشوع(20:6) فأسوار المدن تسقط عادة داخلها تحت ضغط آلات دك الأسوار . الا ان الحفريات التي أُجريت في خرائب اريحا القديمة، أثبتت صحة ، بل دقة القصة الكتابية التي يقمها سفر يشوع.
3- سفر أعمال الرسل والسير وليم رمزي
تأثر العلامة الانكليزي السير وليم رمزي بفكر المدرسة الألمانية النقدية في القرن 19 فرفض حوادث أعمال الرسل وبصفة خاصة رحلات بولس الرسول باعتبارها تفتقر الى الدقة التاريخية. واذ به بعد دراسة طويلة وأسفار مضنية يشهد بدقة سفر أعمال الرسل ووصفه للمجتمع في آسيا الصغرى وأحوال السفر والملاحة في البحر المتوسط وبذلك قدم شهادة هامة عن دقة الكتاب المقدس.
شهادة المؤرخين القدماء لصحة الكتاب المقدس
ان من يدرس الكتابات التاريخية القديمة يلمس التوافق بين سرد الأحداث كما نجدها في الكتاب المقدس وبين كتابات المؤرخين المختلفين. ويمكننا ان نكتفي بمثال واحد لذلك فقد كتب المؤرخ اليهودي المشهور فلافيوس يوسيفوس الذي عاش في القرن الاول المسيحي عن حروب اليهود بعد خراب اورشليم السنة 70م كما كتب في عام 93م كتابا آخر عن تاريخ اليهود القديم. ومن يقارن بين مادونه لوقا البشير عن الولاة المختلفين في مختلف البلاد (لو1:3). وماسجله يوسيفوس في كتاباته ( التاريخ القديم ك17 ف8/1) يلمس ولاشكم الدقة المتناهية في سرد الوقائع التاريخية. بل أن قصة موت هيرودس وما سبقها من مظاهر العظمة والكبرياء، كما سجلها لوقا الطبيب البشير ( اع19:12-25) نجدها مطابقة لما سرده يوسيفوس ( التاريخ القديم 19ف 2/8) وهنالك الكثير جداً من مثل هذا التطابق.
بالاضافة الى كل ماتقدم، فإن من يقول بتحريف الكتاب المقدس، لابد وأن يلتزم بتقديم الدليل على ذلك موضحاً من الذي قام بالتحريف، ومتى وكيف تم ذلك.
الكتاب المقدس في اللغة العربية
ان قصة وضع الكتاب المقدس ولنفهمها جيدا علينا ان نعود للحديث عن ترجمات الكتاب المقدس سبقت التعريب واثرت على هذا التعريب تأثيراً كبيراً.
فلقد تُرجم العهد القديم من العبرية الى اليونانية بالترجمة السبعينية كما سبق القول في عام 280 ق.م بجزيرة فاروس بالقرب من الاسكندرية، بطلب ودعم من بطليموس ، خدمة لليهود الاسكندرانيين، والقول بأنها الترجمة السبعينية لأن 70 او 72 شيخاً من اورشليم قاموا بترجمتها أو على الأقل أسفار الشريعة الخمسة الاولى من العهد القديم.
اما في العصر المسيحي فكثرت ترجمات الكتاب المقدس الى مختلف اللغات، فالمسيحية تؤمن بأن مايهم في الكتب المقدسة ليس هو المفردات التي كتبت بها أسفار الكتاب المقدس في لغاته الأصلية بل المضمون او الرسالة التي يحملها الكتاب المقدس، كلمة الله المكتوبة، للبشر جميعاً. كما ان المسيحية تهتم بأن تقدم الكتاب المقدس للناس باللغة التي يفهمونها في سهولة ويسر. فان كانت النصوص الاصلية قد كتبت بالغات الشعبية آنذاك، فليس أقل من أن تترجم للبشر في لغة سهلة، واسلوب واضح، يتفهم الجميع من خلاله رسالة محبة الله لكل انسان. ومن هذا المنطلق فقد ترجم الكتاب المقدس حتى اليوم الى اكثر من الفي لغة ولهجة، تمثل اكثر من 97% من سكان العالم اليوم.
سبق لنا ان تحدثنا عن الترجمة اليونانية التي تُعرف بالسبعينية وماتلاها من ترجمات عنها كالترجمة الآرامية التي قام بها تاتيانوس الآشوري في رومة وقد دمج الاناجيل الاربعة في انجيل واحد عرف باسم ” الدياطسرون”مقسما الى 55 مقسماً لغاية ليتورجية طقسية
وتلتها ترجمة اسهل للآرامية اسميت “البشيطا” اي البسيطة السهلة والواضحة لفهم شعب بين النهرين وهذه الترجمة تمت في اوائل القرن 5م وقد مرت بتنقيحات كثيرةوتوجد اليوم في الغرب 350 مخطوطة من هذه الترجمة.
مخطوط انجيلي من مكتبة الاسكندرية
كما تحدثنا عن الترجمة الى الديموطيقية المصرية هذه اللغة التي نمت بتلاقح اللغة اليونانية في مصر بعد فتوحات الاسكندر الاكبر، وقد تفاعلت مع مرور الوقت مع آخر صور اللغة الهيروغايفية، وعرفت بالخط الديموطيقي وصارت هي لغة العبادة المسيحية لدى المسيحيين المصريين القدماء( ومن خلال حجر رشيد الذي نقشت عليه في ثلاثة حقول الهيروغايفية والديموطيقية واليونانية بحيث تقابلت الحروف وكأن هذا الحجر المنقوش هو معجم يجمع اللغات الثلاثة بتقابل حروفها وبواسطتها وبمعرفة الديموطيقية التي كانت لغة عبادة استطاع شامبليون فط اللغة الهيرو غليفية اثناء الحملة البريطانية على مصر في الثلث الأخير من القرن 19.
ومع اطلالة القرن الثالث المسيحي ظهرت الديموطيقية وتكلم بها العامة في مصر وعرفت با سم “المصرية او القبطية” (“ايجيبت” او “قبطية”) وتفرعت الى لهجات اهمها البحيرية والصعيدية والفيومية والاخميمية، وكان سكان الاسكندرية يتكلمون اليونانية…
لقد تمت ترجمة العهد القديم من اليونانية السبعينية، كذلك تمت ترجمة العهد الجديدالى القبطية الصعيدية في القرن3م والى اللهجة البحيرية والفيومية والأخميمية في القرن 4م ولدينا اليوم آلاف المخطوطات بهذه اللهجات.
الترجمات اللاتينية
ظلت اللغة اليونانية لغة الفكر اللاهوتي في الكنيسة الغربية حتى منتصف القرن الثالث المسيحي . وما ان جاء عام 250 م حتى اصبح استخدام اللاتينية كنسياً امراً سائدا. ويبدو أن الحاجة الى الكتاب المقدس باللاتينية ظهرت أولاً في مقاطعة افريقيا الرومانية (تونس الجزائر والمغرب اليوم) حيث ازدهرت المسيحية وحيث ظهر أعلام الفكر المسيحي ترتليانوس وكبريانوس واغسطينوس. وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية المستخدمة في المدن أما عامة الشعب فكان لهم لغاتهم ولهجاتهم الخاصة. ويرى كثيرون من العلماء أن من اهم اسباب انحسار المسيحية في شمال افريقيا هو ان الكتاب المقدس لم يترجم الى لغة الشعب. بينما بقيت المسيحية حيث كانت كلمة الله المكتوبة في يد الشعب وبلغاتهم كما في سورية ومصر…
لدينا معطيات ان الكتاب المقدس او على الأقل بعض اجزائه كان مترجما للاتينية القديمة منذ بداية القرن 3م ولدينا مخطوطات كثيرة بعضها في بلاد أخرى من ترجمات مختلفة في اللاتينية القديمة.
الا انه في القرن4 قام القديس ايرونيموس او جيروم بتنقيح الترجمات اللاتينية القديمة واعداد ترجمة جديدة للكتاب المقدس على اساس لغات الكتاب المقدس وعرفت باسم الفولجاتا اي الشعبية، وقد قوبلت بالرفض بداية ثم اصبحت الترجمة الرسمية التي ظلت اوربة الغربية تستخدمها اكثر من الف سنة الى الاصلاح البروتستانتي ، ولمس المصلحون الحاجة الى ترجمة كلمة الله الى كل اللغات بعد ان صارت اللاتينية لغة الطبقة المثقفة لا لغة عامة الشعب…
الترجمات العربية المبكرة
قامت الكنيسة الأولى بترجمة الكتاب المقدس أو على الأقل بعض اجزائه إلى لغات ذاك الزمن ومنها أكيد الى العربية حيث يؤكد سفر أعمال الرسل أن اللغة العربية كانت في العنصرة في علية صهيون.
المؤرخون الكنسيون والواقع التاريخي في بلادنا يؤكد وجود اسقفيات وأساقفة للعرب في العربية ينتقلون معهم في حياة الرعي (والعربية منطقة واسعة تشمل جنوبي سورية مع شمال الجزيرة العربية وصولاً إلى غزة) وكانوا قد ترجموا للعربية الكتاب المقدس بعهديه للاستخدامات الليتورجية وبلغة الشعب، إن أخذنا بعين الاعتبار انتشار المسيحية بشعبها في الجزيرة العربية بما في ذلك مكة والمدينة ونجران وحميَّر والبحرين وعمان وقطر… وسواحل الجزيرة العربية المطلة على الخليج العربي.
الترجمة لليونانية للكتاب المقدس المسماة السبعينية
لا يعرف العلماء بعد على وجه التحديد متى وأين تمت أول ترجمة عربية وفق الأصول للكتاب المقدس أو أحد أجزائه، فيما ينسبه البعض إلى البطريرك اليعقوبي الأنطاكي يوحنا عام 631-648م بتكليف من الأمير عمر بن سعد بن أبي وقاص.
في “الفهرست” أول ترجمة عربية قام بها أحمد بن عبد الله بن سلام في القرن العاشر المسيحي زمن الخليفة المأمون سنة 813-833م.
عام 870م قام حنين بن اسحق بنقل الكتاب المقدس إلى العربية من الترجمة السبعينية اليونانية (مفقودة).
السنة 930 م قام المعلم اليهودي سعيد الفيومي المصري ومولده في الفيوم بترجمة أسفار التوراة الخمسة واشعياء…،وقد نُشرت 1983م كان المذكور مديراً لمدرسة يهودية ومات في العراق.
في القرن العاشر مسيحي اندلسي اسباني هو اسحق بن فلاسكيز عرب الاناجيل العربية …
ووقتها أي في نفس القرن عُرب سفر المزامير في حلب.
القرن 11 الشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي المطران وهو رائد التعريب في الكرسي الانطاكي وفي الكنيسة الارثوذكسية في انطاكية واورشليم ا ترجم الانجيل الطقسي والرسائل وأعمال الرسل وكتب الليتورجيا للعربية محافظا في تعريبه على لاهوت انطاكية القويم وقد أشاد به البطريرك الانطاكي مكاريوس بن الزعيم وولده الارشيدياكون بولس في الثلث الأول من القرن السابع عشر وكان ابن الزعيم الاب وابنه يمتهنان بحرفية عالية تفوق واقعذاك الزمان المتردي كتابة اللاهوت وتعريبه وتعريب التاريخ الانطاكي وبطاركته وقد سار على نهجهم خليفة البطريرك مكاريوس البطريرك افتيموس كرمة منذ ان كان مطرانا لحلب وان كان عهد بطريركيته قصير لم يصل الى السنة 1635
الشماس ابن الفضل اوجد ثورة شاملة في الكرسي الانطاكي بإدخاله للتعريب المضبوط الذي اعتمدته فيما بعد مطبعة القبر المقدس الاورشليمية منتصف القرن 19 زمن الخوري اسبيريدون صروف وابنه وهبة الله صروف مدير المطبعة ولازلنا نستخدم كتبه المعربة ومنذ القرن 11 والمنقحة من صروف.
العالم القبطي وهبة الله بن العسال في الإسكندرية عام 1252 قام بمراجعة الترجمات وتنقيحها
عام 1264 تُرجم العهد الجديد في رومة وطبعه وليم واطس عام 1866 في لندن
1516 ترجمت المزامير في جنوى بإيطاليا
1526 ترجم العهد القديم في رومه وطبعه وليم واطس عام 1866
اول طبعة للاناجيل العربية كانت في رومة السنة 1591 لمنفعة الكنيسة الكاثوليك والطوائف التي بدأت باللحاق بها في المشرق او دائرة الكرسي الانطاكي…
1625 ترجم العهد الجديد في ليدن هولندا
1671 في رومة صدر الكتاب المقدس و”الترجمة الإعلامية” للكتاب المقدس بالكامل كذلك خدمة لهذه الطوائف.
العهد الجديد
مطبعة ابن الدباس البطريرك الانطاكي في حلب 1700 المهداة من أمير رومانيا قسطنطين اليه وطبع فيها الكتاب المقدس وكتب الصلوات في كرسينا الأنطاكي ثم لما انتقل بطريركاً إلى دمشق 1720 م نقلها إلى البلمند فسرقها الشماس الحلبي عبد الله زاخر ورفقته من الرهبنة البلمندية الحلبية وكان شماس ابن الدباس يعمل عليها في مطرانية حلب عندما انتقلوا للدراسة في البلمند مع انتقال البطريرك الدباس الى الشام والمطبعة الى البلمند وهناك اشهروا الكثلكة التي كانوا قد ابطنوها في حلب عاصمة الكثلكة في الكرسي الانطاكي، ذلك الاشهارتم بسعي وتشويق من راهب لاتيني الذي كان يتردد على البلمند ويرعاهم بالتعليم الكاثوليكي المبطن والمسكوني الظاهر،وانتقل زاخر ورفقته ومعهم المطبعة إلى دير المخلص ( وفقاً للتقليد البلمندي) وادعوا أنها لهم وادعوا اكثر انها اول مطبعة للكتب العربية الليتورجية والانجيل الطقسي الذي كان معمولا به في الكنيسة الارثوذكسية وابنتها الكاثوليكية المنشقة عن امهاوصاروا يطبعون فيها الكتب الطقسية وان الرهبنة المخلصية هي رائدة التعريب والطباعة في الكرسي الانطاكي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي. ولاتزال المطبعة محفوظة في دير الشيرمع جمجمة عبد الله زاخر.
البروتستانت وارساليتهم في مالطة أولاً ثم في بيروت بتدبير فان دايك كان المعلم بطرس البستاني و(أحمد) فارس الشدياق (اسلم وسمى نفسه أحمد لزواجه في تونس من تونسية) وكان القائمون على المطبعة يرسلون تعريب البستاني والشدياق الى دمشق إلى الخوري يوسف مهنا الحداد 1857 (القديس يوسف الدمشقي) لتنقيحها وضبطها مقابل أجر (سيرة القديس…في الوثائق البطريركية لدينا لكن ادبيات البروتستانت المحكي عنها سكتت عن اتيانها)
الترجمة الدومنيكانية في الموصل للآباء الدومنيكان بين 1875 – 1878. طغت عليها بسب صعوبتها وركاكتها الترجمة اليسوعية 1880 ببيروت على الفور.
في القرن 20 الترجمة البولسية للأب جورج فاخوري.
أقدم المخطوطات العربية
المخطوطة السينائية العربية وهي بإجماع العلماء أقدم ترجمة كتبت في 867م وبالخط الكوفي.
المخطوطة الفاتيكانية العربية رقم 13 كانت في دير مار سابا بفلسطين قبل أن يسلبها الفرنج ويأخذونها إلى الفاتيكان مكتوبة بالخط الكوفي المعدل (أما في القرن 8 أو 9).
مخطوطة دير مار سابا العربية…
المخطوطة الفاتيكانية العربية رقم 71 نفس المخطوطة رقم 13 واصلها أيضاً من دير مار سابا
عدد من مخطوطات دير سان كاترين بالخط الكوفي ومقسمة وفق الليتورجيا الرومية.
ملاحظة
الكتاب المقدس
من نافلة القول ان الكاثوليك والبروتستانت كان لهم قصب السبق في تعريب الكتاب المقدس ومنذ منتصف القرن السادس عشر وفق الأصول الا ان كنيستنا الارثوذكسية الانطاكية اساساً والكنيسة الاورشليمية وبوجود عبد الله بن الفضل الانطاكي المطران في القرن 11 وهو رائد التعريب، والبطريرك الانطاكي العظيم مكاريوس ابن الزعيم وابنه بولس، وسابقه البطريرك الانطاكي افتيموس كرمة وكلاهما في النصف الأول من القرن 17 ثم الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي رائد النهضة في كرسينا الانطاكي المقدس ماقبل استشهاده بأكثر من عقد سيما وانه فتح مايقارب كلية لاهوتية جامعية في مدرسة الآسية عام 1851 مع كلية عليا للموسيقى الرومية في العام ذاته، وكان يسعى لتأمين مطبعة حجرية (ليثوغرافية) لطباعة المناهج العربية وسواها بتمويل تلميذه القديس المنسي ديمتري شحادة الصباغ الدمشقي المقيم في إسطنبول ودرس في كليتي الآسية اللاهوتية والموسيقية ماكان قد عربه من الكتاب المقدس والليتورجيا وتخرج عليه اعلام عصر النهضة والتعريب لكرسينا الانطاكي كالبطريرك ملاتيوس الدوماني ومطران بيروت غفرئيل شاتيلا الدمشقي وعشرات غيرهما، ولولا استشهاده عام 1860 ودمار هذا الصرح التعليمي الأسبق بعقدين من الجامعة اليسوعية والأميركية في بيروت لكانت الآسية الدمشقية اول جامعة في المشرق … وتلميذه ورفيق دربه وبديله الى كرسي اورشليم الخوري اسبريدون صروف الدمشقي “واعظ الكرسي الاورشليمي” وابنه بعده وقد انتقل من الشام وكان رفيق القديس يوسف في التدريس ومن كهنة المريمية وتولى كلية المصلبة اللاهوتية في القدس التابعة لبطريركية اورشليم (بعهد البطريرك الاورشليمي كيرلس الذي كان محبا للعرب ولذلك عزلوه بتهمة الجنون بمؤامرة رهبنة القبر المقدس والبطاركة اليونان في القسطنطينية وانطاكية ومجمع اورشليم) وصار واعظ الكرسي الاورشليمي ومديرا للمطبعة وفيها تم طباعة الاناجيل الطقسية والكتب الليتورجية والموجودة والمستعملة منذ ستينيات القرن 19 وحتى الآن في انطاكية واورشليم والسوريين الأرثوذكس في كرسي الإسكندرية…
يجب علينا ان لاننسى مطران بيروت جراسيموس مسرة 1902-1935 منذ كان طالبا في كلية خالكي اللاهوتية موفدا من معلمه ملاتيوس الدوماني مطران اللاذقية وكان اول خريج انطاكي من خالكي وحمل مايقارب الدكتوراة في وقتنا وكان يمارس التعريب ويعظ بمعرباته في خالكي وكنائس القسطنطينية بالإضافة الى عظاته فيها باليونانية، وكان يرسلها الى معلمه مطران اللاذقية ملاتيوس الدوماني ( البطريرك1898 -1906) في اللاذقية ( الوثائق البطريركية)
العهد القديم
اما كتبنا الطقسية فترتيبها موحد في الكنيسة الارثوذكسية المعتمدة في كنيستنا العربية واليونانية الارثوذكسية…
تطور اللغة العربية
ان اللغة العربية في تقدم وتطور مستمرين وتظهر مفردات جديدة تواكب العصر بصفة دائمة كلما دعت الحاجة ويقوم مجمع اللغة العربية باعتماد مئات الكلمات العربية الجديدة والتي يغبر بعضها بصورة حديثة عن بعض المفاهيم التي يمكن تسخيرها لتصل الكلمة الالهية بصورة أوضح. كما ان المفردات القديمة يتغير معناها ومضمونها بمرور الزمن. فكلمة فسد وفاسد التي كانت تعبر عن التحلل والفناء ( مثلا في 1كو53:15) اصبحت اليوم ذات مضمون اخلاقي كما ان كلمة “بطال” (مثلا في مت6:20) التي تعبر عن التعطل عن العمل. أصبح لها ايضا مضمون اخلاقي بالدرجة الأولى.
اما كلمة “بُطل”(مثلاً في رو20:8) فهي كلمة لاتكاد تستخدم اليوم. ونجد عوضاً عنها كلمة ” ضياع” أو “فراغ” اللتين تعبران اليوم بصورة أدق عن مضمون الكلمة اليونانية المستخدمة في هذا المقام.
ومن الطريف أن نلاحظ أن الكلمة اليونانية “عربون” ( مثلاً اف14:1) التي نقلناها عن اليونانية الى العربية بنفس لفظها ومضمونها. قد تغير معناها في اللغة اليونانية الحديثة لتعبّر عن خاتم الخطبة والزواج. بينما لازلنا نستخدمها في لغتنا العربية بنفس معناها اليوناني القديم.
واللغة العربية لغة غنية بالمفردات منها السها ومنها الصعب، ومنها المألوف ومنها غير المألوف. ولذلك يلجأ كثيرون ممن يرغبون في فهم بعض الكلمات العربية في الكتاب المقدس فهما صحيحا الى استخدام المعاجم أو الترجمات المختلفة سواء كانت عربية أم اجنبية واليكم عينة محدودة من بعض الكلمات الصعبة التي نجدها في بعض الترجمات العربية للكتاب المقدس.
على سبيل المثال…
الكلمة في بعض الترجمة العربية مكانها معناه
ارتاج مز 9،7:24 مفردها رتاج أي الباب العظيم أو الكبير
اقيان 2مل14:24 مفردها قين أي حداد
انبلج اي 9:27،20:10 ابدو باسما منتعشا
سجس عد36:14، اع 5:17 هيج أو أحدث شغباً
وغيرذلك الكثير جدا، وكلها كلمات عربية صحيحة، ربما كانت مألوفة ومعروفة منذ مائة عام ولكنها غريبة على مسامع قارىء اليوم.
الا أن المشكلة الأهم هي ان هنالك بعض الكلمات العربية التي قد يُسيء القارىء فهمها لأن لفظها يشبه بعض الألفاظ المستخدمة اليوم ولكن معناها الحقيقي غير مألوف أو معروف مثال ذلك مايلي
سرب اي10:28 قناة أو ممر
عريس اي 40:38 عرين (مأوى) الأسد
علائف لو14:3 الاشارة الى المرتبات او الأجور
لهذه الاسباب وكل مايتعلق بها، كان لزاما أن تكون هنالكترجمات كثيرة للكتاب المقدس بمختلف لغات العالم. كما انه من الضروري التحديث والتطوير باستمرار لتواكب العصر وفهم الأجيال…
دراسة الكتاب المقدس
قلنا ان الكتاب المقدس هو مكتبة وليس مجرد كتاب،وليس بالتالي مجرد كتاب عادي بل هو الجدير بالقراءة والدراسة على الدوام فنحن نحتاج الى النور الذي يضيء لنا الطريق كل الوقت ومدى الحياة وفيه غذاءنا الروحي المغذي لحياتنا الروحية…
اهمية دراسة الكتاب المقدس
قال ارمياء النبي:”وجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي”. (ار16:15) ويتحدث حزقيال النبي عن اختبار مماثل فيقول:” وقال لي الرب ياابن آدم: أطعم بطنك واملأ جوفك من هذا الدرج الذي انا معطيك اياه. فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة!” (حز3:3) اما يشوع فأوصاه الرب وقال:”لايبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ماهو مكتوب فيه، لأنك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تفلح”. يش 8:1.
الاستخدام الخاطيء للكتاب المقدس
البعض لايقرأه بشكل منتظم، فيفتحونه كيفما اتفق، ويقرأونه حيثما يقع نظرهم، بل إن هنالك من يستخدمون هذه الوسيلة كلما وجدوا أنفسهم في مفترق الطرق متوقعين أن يرشدهم الرب ويوجههم او يجيب على تساؤلاتهم عن طرق هذه الوسيلة الساذجة.
كما ان هناك من يحتفظون بالكتاب المقدس في بيوتهم او العهد الجديد في جيوبهم أو حقائبهم وكأنه تعويذه تبعد عنهم المخاطر والشرور.
وهنالك ايضا من يقرأ او يردد آية واحدة دون غيرها ودون التفات للقرينة او للاطار العام الذي يقدمه الكتاب المقدس بصفة اجمالية.
والبعض يبدأون بقراءة الكتاب المقدس، واذا بهم يتوقفون عن ذلك لسبب او للآخر.
اساسيات دراسة الكتاب المقدس
مخطوط التوراة
الله يتكلم في الكتاب المقدس لذا يجب قراءته ودرسهوفق الاعتبارات التالية
1- الكتاب المقدس يحدثنا عن الله وبصفة خاصة عن الله معلنا نفسه في شخص يسوع المسيح. انه الاله الحيالذي يعمل. وهو الذي دخل في عهد مع شعبه وكل من يؤمن به، ويظهر نعمته ومحبته دائما للجميع
2- من منطلق ايماننا بان الكتاب المقدس هو كلمة الله لنا نحن ولحياتنا، لذلك فحوادث العهد القديم لاتعتبر انها حدثت وانقضت فالحديث عن رعاية الله لنا مستمرة فهو الذي تكلم قديما لايزال يتحدث الينا اليوم في الكتاب المقدس ذاته.
3- يُقرأ الكتاب المقدس بروح الصلاة وباعتبار كلمة الله المكتوبة بروح الاتضاع وبروح الصلاة.
قال اوغسطينوس قديما:”لما كنت شابا سعيت الى فهم معاني الاسفار المقدسة بقوة الادراك العقلي وليس بالتوسل الخاشع لله…فأغلقت امام نفسي بتشامخي وكبريائي الباب الموصل الى الله، وبذلك بدلاً من أن أقرع فيفتح لي. صار سعي هذا سببا في ان يغلق الباب امامي…
اننا نصلي لأننا نحتاج لأن يعمل روح الله في قلوبنا ونحن نقرأ الكتاب المقدس فالروح القدس هو الذي أوحى بكلمات الكتاب، هو الذي يمنحنا ان ندرك معاني تلك الكلمات، ومايريد أن يقوله لنا من خلالها اليوم.
4- لابد من ان تقترن الدراسة الشخصية للكتاب المقدس بدراسته في الكنيسة بين جمهرة المؤمنين كسماع النص الانجيلي سواء كان الطقسي او العام مع شرح له وكذلك في الاخويات وحلقات دراسة الكتاب المقدس في حركة الشبيبة الارثوذكسية مثلا وسواها…
5- يجب ان تكون دراسة كلمة الله بكتابه بروح الطاعة والخضوع بروح الاصغاء
قال يسوع:” ان شاء احد ان يعمل مشيئة الله يعرف التعليم”(يو17:7) قال داود في مزموره”سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي” مز105:119 والروح القدس هو المعلم والمعزي وهو روح الحق الذي ظلل التلاميذ في تبشيرهم المسكونة” روح الحق فهو يرشدكم الى جميع الحق”(يو13:16)
ان الالتجاء الى الكتاب المقدس في الازمات لاكتشاف ارادة الله بينما نهمله في حالات الرخاء قد يدفعنا لفهم خاطىء لتعليم الكتاب، نحن في حاجة الى سكنى كلمة الله في حياتنا بوفرة عندها يرشدنا الله بروحه القدوس في عنصرة مستمرة كلما ضاع علينا الطريق ونحن امام مفارقه المتشابكة…
خطوات دراسة الكتاب المقدس
1– الفهم والتطبيق
لتوضيح الاجزاء الصعبة، نلجأ لفهمها من طرحنا الاسئلة العامة المرتبطة بكتابة النص وزمن كتابته والسبب في كتابته والصياغة التي كتب بها هل هي تاريخية او شعرية او نبوية ام رؤوية، وهل هو من كتب الشريعة
الموضوع والمفردات ومعناها
ويتأتى لنا من الاسئلة الخاصة من الكتب التاريخية او السير وفي كتب الشريعة وتعلق النص بشرائع اخلاقية او اجتماعية او منزلية …او دينية تتعلق بالعبادة …
خاتمة
حقا ان الكتاب المقدس كتاب فريد…وقد غير العالم بأسره
هو اكثر الكتب مبيعا في العالم…هو الكتاب الذي تتم ترجمته شيئا فشيئا الى لغات الارض كلها
وبالنتيجة الوافية هو مكتبة قائمة بذاتها.
من مصادر البحث
المطران جورج خضر حلقات من دراسات الكتاب المقدس
تقديم الكتاب المقدس للقارىء العربي/القس د. عبد المسيح اسطفانوس
تاريخ كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى/ الدكتور اسد رستم
كيف وصل الينا الكتاب المقدس
مختصر تاريخ كنيسة انطاكية/ د.جوزيف زيتون
تاريخ سورية وانطاكية الهلينية والهلنستية د.جوزيف زيتون