القانون الدولي العام
نتناول في بحثنا هنا عن القانون الدولي العام
-التعريف
-الطبيعة الحقوقية لقواعد القانون الدولي العام
-القانون الدولي العام والقانون الداخلي
-مصادره
أولاً ـ التعريف بالقانون الدولي العام
القانون الدولي العام Public International Law في مفهومه المعاصر هو «مجموعة القواعد القانونية التي تحكم الدول وغيرها من الأشخاص الدولية في علاقاتها المتبادلة». ويدين مصطلح القانون الدولي العام للفقيه جيرمي بنتام الذي عاش بين عامي 1748 و1832م الذي استخدمه لأول مرة في كتابه «مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع» الصادر عام 1789. وقبل ذلك كان الفقهاء يطلقون على هذا الفرع من فروع القانون تسميات شتى منها قانون الأمم The law of nations أو قانون الشعوب Droit des gens، وهي مشتقة من المصطلح اللاتيني Jus gentium الذي استخدمه الرومان للدلالة على القانون الناظم لعلاقتهم بالشعوب الأخرى على عكس القانون المدني Jus civil وهو ماينظم علاقات الرومان بعضهم ببعض.
يتبين من هذا التعريف ما يلي
أولاً ـ أن القانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تتميز عن القواعد الأخلاقية، وعن قواعد المجاملات الدولية.
فالقواعد القانونية ملزمة بمعنى أن الخروج عليها يرتب المسؤولية الدولية، في حين أن القواعد الأخلاقية ـ كالرأفة في الحروب ونجدة الدول التي تحل بها النكبات ـ غير ملزمة قانوناً، وكذلك فإن قواعد المجاملات الدولية كتأدية التحية البحرية تعدّ غير ملزمة، وهذه القواعد لا تهدف إلى تنظيم العلاقات الدولية وإنما تسعى إلى خلق روح المودة في العلاقات الدولية. وخروج الدولة على القواعد الأخلاقية يعدّ خروجاً عن واجب أخلاقي فحسب وبالتالي لا يرتب المسؤولية الدولية، ولكنه لا يجيز للدول الأخرى معاملة هذه الدولة بالمثل، وأما خروج الدولة على قواعد المجاملات الدولية فإنه يجيز للدول الأخرى معاملتها بالمثل. ويمكن أن تنقلب القواعد الأخلاقية إلى قواعد قانونية، كالقواعد المتعلقة بأسرى الحرب، وكذلك يمكن أن تتحوّل قواعد المجاملات الدولية إلى قواعد قانونية كالقواعد المنظمة للامتيازات الدبلوماسية.
ثانياً ـ والقانون الدولي مجموعة قواعد قانونية تحكم الدول وغيرها من الأشخاص الدولية. وكلمة «تحكم» تعني أن هذه القواعد ملزمة ويتوجب على الدول التقيد بها في علاقاتها المتبادلة.
ثالثاً ـ والقانون الدولي العام هو مجموعة قواعد قانونية تحكم الدول وغيرها من الأشخاص الدولية. ويلاحظ اقتران كلمة “الدول” بكلمة غيرها من “الأشخاص الدولية” انطلاقاً من الفقه والاجتهاد الدولي الحديث القائل إن: قواعد القانون الدولي لا ينحصر تطبيقها كالسابق في علاقات الدول فحسب؛ بل يتعداه إلى المنظمات الدولية وحركات التحرر الوطني، حتى إلى الأفراد في حالات معينة. كما يذهب بعضهم إلى تحكيمه العلاقات بين الدول والشركات متعددة الجنسيات.
رابعاًـ القانون الدولي العام هو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات المتبادلة للدول وغيرها من الأشخاص الدولية، وهذا ما يميزه من «القانون الدولي الخاص» Private international law الذي يضم القواعد القانونية الداخلية والدولية التي تحكم القضايا ذات العنصر الأجنبي. ففي الوقت الذي هناك فيه قانون دولي عام واحد لجميع الدول يُلحظ أن لكل دولة قانونها الدولي الخاص الذي ينظم علاقة الفرد بفرد أجنبي أو بدولة أجنبية أو أشخاص دولية.
ثانياً ـ الطبيعة الحقوقية لقواعد القانون الدولي العام
هل القانون الدولي قانون بالمعنى الكامل للكلمة، وإذا كان الجواب بالإيجاب ماهو أساس الإلزام لقواعد القانون الدولي.
1ـ هل القانون الدولي العام قانون؟
أثار هذا السؤال جدل الفقهاء فقد ذهب بعضهم إلى إنكار صفة القانون عن قواعد القانون الدولي، في حين ذهب آخرون إلى أن قواعد القانون الدولي ماهي إلا مجرد قواعد أخلاقية غير ملزمة. وهذا ما قرره الفقيه جيرمي بنتام.
الفقهاء الذين ينكرون على القانون الدولي صفة القانون ينطلقون من القول: إنه لكي يكون هناك قانون بالمعنى الصحيح يجب أن يكون هناك مجموعة من القواعد التي تنظم سلوك الإنسان تكون موضوعة ومنفذة بوساطة سلطة سياسية عليا، يمكنها تنفيذ هذه القواعد جبراً عند الاقتضاء. وهذا يعني ضرورة توافر ثلاثة شروط في القاعدة القانونية: أولاها ضرورة صدور القاعدة عن سلطة تشريعية، وثانيها أن يكون للقاعدة مؤيد جزائي يكفل احترامها، وثالثها أن يكون هناك محاكم تتولى الرقابة على مدى تقيد المخاطبين بالقاعدة القانونية بأحكامها. ومادام المجتمع الدولي يفتقر إلى قوة سياسية ذات إرادة مستقلة عن إرادة الدول قادرة على التنفيذ على المخاطبين جبراً عند الاقتضاء؛ فإن قواعد القانون الدولي ليست قواعد قانونية صحيحة.
غير أن هذا الاتجاه لم يسلم من نقد أنصار “قانونية” القانون الدولي الذين نهجوا نهجين مختلفين في الرد عليه.
أ ـ النهج الأول
حاول أنصاره نقض الاتجاه القائل: إن القانون الدولي العام ليس بقانون من أساسه بقولهم: إنه لا يشترط في القانون ـ أي قانون ـ توافر الشرائط الثلاث وهي التشريع والقضاء والجزاء.
ففيما يتعلق بالشرط الأول يجب التمييز بين فكرة التشريع والقاعدة القانونية، فالتشريع أحد مصادر القاعدة القانونية، فليست كل قاعدة قانونية وليدة التشريع بالضرورة فهنالك قواعد عرفية لا ينازع أحد في قوتها الملزمة.
وأما عن الشرط الثاني فالقاعدة القانونية توجد قبل وجود المحاكم، فليس من الضروري أن توجد محاكم خاصة تتولى تطبيق تلك القاعدة لأنه ثبت تاريخياً أن ظهور القواعد القانونية سبق في المجتمع ظهور المحاكم.
وفيما يتعلق بالشرط الثالث فإن عدم وجود جزاء منظم تباشره السلطة التنفيذية لا ينفي عن قاعدة ما صفتها القانونية، فهنالك حد أدنى من الحالات الواقعية التي تستطيع الافلات من الجزاء المفروض في التشريع (كحالة عدم معرفة المجرم أو هربه)، كما أن بعض قواعد القانون الداخلي يصعب حمايتها بجزاء منظم كبعض الدعاوي الإدارية ضد الدولة إذ يعتمد تطبيق الجزاء أو عدمه على (شرف الدولة) كما يقول العميد هوريو.
ب ـ النهج الثاني
أما أصحاب النهج الثاني فيقبلون الشرائط الثلاث لعدّ قاعدة ما قاعدة قانونية ويحاولون البرهان على توافر هذه الشرائط في القانون الدولي على الرغم من إقرارهم بعدم تكامل عناصرها.
ففيما يتعلق بالتشريع تقابل المعاهدات الدولية التشريع في القانون الداخلي، إضافة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة حين تصدر قراراتها تقوم بعمل مماثل للتشريع.
وفيما يتعلق بالقضاء أوجد المجتمع الدولي على مراحل عدداً من الهيئات القضائية على الصعيدين العالمي والإقليمي، فعلى الصعيد العالمي هناك محكمة التحكيم الدولي الدائمة، ومحكمة العدل الدولية التي تعدّ الساعد القضائي الرئيسي لهيئة الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت عام 1998 لتحاكم مجرمي الحرب وسواهم من مرتكبي الجرائم الدولية. وعلى الصعيد الإقليمي هناك المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الأوربية، والهيئة القضائية لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (الأوابك)…إلخ.
وأما عن الجزاء ـ الشرط الثالث ـ فإن المجتمع الدولي كان وما يزال يعبر عن نقمته على المخالف لقواعد القانون الدولي بعدد من الجزاءات، منها تلك التي تتضمن ممارسة ضغط أدبي، ومنها ما يعدّ جزاءات قانونية كعدم الاعتراف بدولة أو حكومة فعلية أو بموقف يتضمن مخالفة لأحكام القانون الدولي، كما جاءت نصوص ميثاق الأمم المتحدة حافلة بالتدابير الزجرية التي منح مجلس الأمن صلاحية تطبيقها بحق الدولة المخالفة، وهي تدابير تراوح بين المقاطعة الاقتصادية واستخدام التدابير العسكرية ضد الدول المرتكبة لجرائم العدوان أو استخدام السلاح أو التهديد باستخدامه.
كل هذا يثبت في رأي هؤلاء ـ أنصار النهج الثاني ـ أن قواعد القانون الدولي تحتوي على جميع شروط وجود القاعدة القانونية ومنها شرط الجزاء.
غير أن واقع العلاقات الدولية يثبت أن أنصار هذا النهج غالوا في تفاؤلهم مما يجعل آراءهم أقرب إلى ما يجب أن يكون مما هو كائن. فالجمعية العامة للأمم المتحدة التي يشيرون إليها بوصفها سلطة تشريعية دولية لا تملك ـ قاعدة عامة ـ أن تصدر أكثر من توصيات غير ملزمة قانوناً في رأي أغلبية الفقهاء، كما أن مجلس الأمن الذي يفترضه هؤلاء الفقهاء سلطة تنفيذية دولية مشلول الحركة؛ إلا إذا اجتمعت آراء الدول الخمس الكبرى التي لكل منها حق النقض (الڤيتو)، وهذا ليس أمراً سهلاً. والمحاكم الدولية تعتمد لفرض اختصاصها على إرادة الدول المتنازعة على عكس ما يتطلبه أي نظام قضائي سليم، أو تستخدم مكاييل مختلفة في النظر فيما يعرض عليها من دعاوى أو تكون خاضعة لسلطان مجلس الأمن (م 10 و16 من نظام روما الأساسي بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية).
ليس المقصود من كل هذا إنكار الصفة الملزمة للقانون الدولي إنكاراً تاماً، ولكن المراد إظهار مثالب أي نظرية تحاول الدفاع عن طبيعة القانون الدولي بمعايير غيره من القوانين أو التي تطبق القياس على حالات موجودة في المجتمع الوطني.
هناك قانون دولي نظرياً وهذا الوجود غير مجادل فيه إلا في المجال الجامعي وفيما بين الفقهاء، أما الدول فإنها تنطلق في تعاملها واتصالها ببعضها من نقطة الاعتراف بوجود القانون الدولي وبصفته الإلزامية نسبياً.
فالدول تبرم المعاهدات الدولية ويفترض أن تلتزم بها وتسهم في تكوين العرف الدولي ويفترض أن تحترمه، وتعترف بصفة عامة بقواعد القانون الدولي، وسلوك كهذا يعد نتيجة حتمية لرابطة التضامن الدولي ولمقتضيات الحياة في الأسرة الدولية، وإذا صدف أن خرقت دولة ما أحكام القانون الدولي فإنها إنما تفعل ذلك من دون إنكار لقواعد القانون الدولي بحد ذاتها؛ بل تحاول تكييف عملها بما تراه منطبقاً مع أحكام القانون الدولي.
من كل ما تقدم يمكن القول: إن القانون الدولي هو قانون ولكنه بلا شك قانون ذو طبيعة خاصة. سَمِّه قانوناً ضعيفاً غير متكامل التركيب من حيث عدم وجود سلطات خاصة به وظيفتها إنشاء القواعد القانونية وكفالة تنفيذها؛ فهذا ليس بغريب، فالمجتمع الدولي حديث جداً مقارناً بالمجتمع الوطني، والفارق بين المجتمعين فارق زمني، وخاصة أن الدول السائرة نحو تعاون دولي أشد قوة وأبعد مدى. فلا تستطيع أي دولة اليوم الادعاء بالاكتفاء الذاتي أو تطبيق سياسة الانطواء على نفسها في عالم بدأ فيه سلطان المعرفة ينفذ من أقطار الأرض إلى أقطار الفضاء العالمي. وسيأتي يوم تشعر فيه الدول أن عقبة «السيادة» لا يجب أن تمنع وصول التعاون الدولي إلى مرحلة يصبح معها التعاون القانوني الدولي كامل الصفات صحيح البنية، ولكن إلى أن يتم هذا ليس خطأً القول: إن القانون الدولي أحياناً يبدو أنه الصيغة التي يفرضها القوي على الضعيف، وخاصة منذ تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بمركز الدولة الأقوى في العالم
2ـ أساس الإلزام لقواعد القانون الدولي
اختلفت المدارس التي تبحث في أساس الإلزام للقانون الدولي العام، فإلى جانب مدرسة القانون الطبيعي وجدت مدارس تسند هذا الأساس إلى رضا الدول وأخرى تبحث عنه خارج إرادة الدولة.
أ ـ مدرسة القانون الطبيعي
ازدهرت مدرسة القانون الطبيعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تقول هذه المدرسة: إن الدول ذات السيادة تتبع في علاقاتها المتبادلة قواعد مصدرها طبيعة المخلوق وطبيعة الدولة؛ هي قواعد القانون الطبيعي، وهي قواعد واحدة وعادلة لأن مصدرها الطبيعة والعقل الإنساني. تعرضت هذه المدرسة لنقد شديد لأنه ليس هناك قواعد خالدة وثابتة يوحي بها العقل الإنساني. فما يوحي به العقل يختلف باختلاف الزمان والمكان.
ب ـ المدرسة الوضعية التقليدية (مدرسة الرضا)
يرى دعاة هذه المدرسة أن القواعد القانونية وليدة الإرادة الإنسانية، فالإرادة هي خالقة القانون وهي خاضعة له، فكما يقوم القانون الداخلي على رضا مواطني الدولة؛ يقوم القانون الدولي على رضا الدول بأحكامه.
وقد انقسم دعاة هذه المدرسة إلى قسمين، فمنهم من أخذ بنظرية التحديد الذاتي ومنهم من تبنى نظرية الرضا المشترك.
(1) نظرية التحديد الذاتي
ترى هذه النظرية أن القانون الدولي ينبع من إرادة الدول التي لا تعلو فوقها إرادة، فالدول لا تلتزم إلا بإرادتها، والأصل في هذه الإرادة الإطلاق، فإن وضعت الدولة حدوداً لإرادتها فإن هذا التحديد يكون أمراً ذاتياً، وينجم عنه أن الدول تتحول في ميدان القانون الدولي من قوة مادية إلى قوة قانونية، كما تتحول إرادتها من سلطة مطلقة في الأصل إلى سلطة محدودة قانوناً.
يؤخذ على هذه النظرية آثارها في مفهوم السيادة المطلقة للدولة، ومآلها جعل القانون الدولي ذا طابع كيفي، فمن يملك التقيد بالحق والواجب يملك التحرر منهما.
(2) نظرية الإرادة المشتركة
مؤدى هذه النظرية أن قواعد القانون الدولي لا تصدر عن إرادة منفردة بل عن إرادة مشتركة بين دولتين فأكثر (الرضا المشترك)؛ لأن الإرادة المشتركة وحدها هي التي تسمو على الإرادة المنفردة للدولة، ويتحقق بذلك الشرط الأساسي للقانون وهو ضرورة صدوره عن سلطة عليا تسمو على سلطة الخاضعين لأحكامه.
يؤخذ على هذه النظرية اعتمادها على الحيلة والافتراض لإيجاد سلطة أسمى من إرادة الدولة لإقامة القانون عليها وهي التقاء الإرادات.
(3) المدرسة الموضوعية
يتجه دعاة المدرسة الموضوعية إلى البحث عن أساس القانون خارج نطاق الإرادة، ولكنهم يختلفون في تعيين العوامل الخارجية هذه، ومنهم المذهب النمساوي والمذهب الفرنسي.
أ ـ المذهب النمساوي: (مذهب القانون المجرد)
مؤدى هذا المذهب أن القانون مجموعة من القواعد فحسب، وأن مصدر أحكام كل نظام قانوني هو الذي يتولى تعيين صحة هذا النظام وتحديده. وكل نظام قانوني لا يعد كذلك إلا إذا اعترف بوجود مصدر أساسي واحد له يطلق عليه اصطلاحاً اسم القاعدة الأساسية Basic norm، وهي التي تتولى تنظيم كل أحكامه وتمنحه قوته الإلزامية، أما هذه القاعدة الأساسية فمفترضة من قبل الفقه لتسهيل إقامة المبنى الفني للقانون وتعرف بقاعدة الشريعة للمتعاقدين.
يؤخذ على هذا المذهب أنه يعتمد على الافتراض، افتراض وجود قاعدة أساسية ترتكز إليها كل القواعد والأنظمة القانونية دون الإفصاح من عن مصدرها ولا عن قوتها الإلزامية.
ب ـ المذهب الفرنسي (مذهب الحدث الاجتماعي)
مؤدى هذا المذهب أن تكوين كل جماعة يحتم أن يكون لها قواعد خاصة بها تحملها على تأمين التكافل بين أفرادها والعمل على إنمائها، فأساس كل قانون هو الحدث الاجتماعي أي تلك القيود التي تفرض نفسها فحكمها على الجماعة، وهذه القيود تتحول إلى قواعد قانونية متى ذاع الشعور بها. وهي تكتسب طابع الإلزام من ضرورة خضوع أفراد الجماعة لها للمحافظة على حياة جماعتهم وبقائها.
أهم ما يؤخذ على هذه النظرية هو أنه لا يمكن أن يكمن أساس القانون في الحدث الاجتماعي وضرورة المحافظة على حياة الجماعة؛ لأن الجماعة الإنسانية سبقت القانون في الوجود، فهذه النظرية تصح لتسويغ وجود القانون لكنها لا تصح أساساً لقيامه.
ج ـ المدرسة الشيوعية السوڤييتية في القانون الدولي
تربط هذه المدرسة بين القواعد القانونية والنظام الاقتصادي والاجتماعي لمجتمع معين وتجعل من القانون تعبيراً عن إرادة الطبقة الحاكمة في الدفاع عن مصالحها. وهكذا فالقانون الدولي التقليدي إنما يعبر عن مصالح الدول الرأسمالية وغرضه حماية هذه المصالح.
وحيث إن الدول الشيوعية تؤسس نظامها القانوني على أساس اقتصادي اجتماعي مغاير للأوضاع السابقة؛ فإن العلاقات بينها وبين الدول الرأسمالية لا يمكن تنظيمها وفقاً لقواعد قانونية تعدّ وليدة أحد النظامين من دون الآخر؛ بل وفقاً لقواعد جديدة تتراضى عليها الدول المعنية وتشكل حلاً وسطاً وفق مبادئ التعايش السلمي، لذا فإن المعاهدات التي تكون الدول الاشتراكية طرفاً فيها أو تقبلها هي مثلاً مصدر للقانون الدولي بعكس العرف.
مرة أخرى يخيل للمرء أن هذا البحث عن أساس الإلزام لقواعد القانون الدولي هو بحث فقهي أكثر منه عملي، فالدول في العصر الحاضر تبتعد عن فلسفة خضوعها لأحكام القانون الدولي وإسناد هذا الخضوع إلى نظرية أو إلى أخرى، غير أن ما لا يمكن إنكاره هو أن المرحلة الحالية في العلاقات الدولية تؤدي فيها سيادة الدولة دوراً مهماً، ولعل أولى مستتبعات ذلك أن الدول إنما تلتزم برضاها.
ثالثاً ـ القانون الدولي العام والقانون الداخلي
ظهرت نظريتان في الفقه الدولي بشأن تحديد العلاقة بين القانونين الدولي والداخلي، تعرف أولاهما بنظرية ازدواج القانون وتعرف الثانية بنظرية وحدة القانون.
1ـ نظرية ازدواج القانون
وتقضي بأن كلاً من القانون الدولي والقانون الداخلي نظام مستقل عن الآخر لعدة أسباب أهمها:
أ ـ اختلاف مصادر كل منهما، فمصدر القانون الداخلي إرادة الدولة المطلقة ومصدر القانون الدولي الرضا المشترك لدولتين أو أكثر.
ب ـ اختلاف موضوع كل منهما، فموضوع القانون الداخلي هو علاقات الأفراد؛ وموضوع القانون الدولي هو علاقات الدول وغيرها من الأشخاص الدولية.
ج ـ اختلاف أشخاص كل منهما، وهو ناشئ من أن أشخاص القانون الداخلي هم أساساً الأفراد، وأشخاص القانون الدولي هم الدول وغيرها من الأشخاص الدولية.
د ـ اختلاف التركيب الفني في كل منهما، فالنظام القانوني للقانون الداخلي يحتوي على سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، أما في النظام القانوني للقانون الدولي فلا وجود للسلطة التنفيذية أو التشريعية في حين السلطة القضائية ماتزال في مرحلة التجربة.
ينجم عن ذلك أن لكل من القانونين دائرة نفاذ خاصة شكلاً وموضوعاً، وأنه إذا تعارضت قاعدة قانونية داخلية مع قاعدة قانونية دولية فعلى القاضي تفضيل قاعدة القانون الداخلي؛ لأنه منه وحده يستمد سلطته واختصاصه، وتكون الدول مسؤولة في النهاية عن نتيجة ذلك؛ لأن التزامها بقواعد القانون الدولي العام يفرض عليها أن تراعي ما تقضي به هذه القواعد عند تشريعها الداخلي وهذا مايتم بالإحالة أو الاستقبال، فقد يحيل القانون الدولي أمر الفصل في مسألة معينة إلى القانون الداخلي كما لو حددت قواعد القانون الدولي حقوق الأجانب والتزاماتهم وأحالت إلى القانون الداخلي مسألة تعيين من يعد أجنبياً، وقد يحيل القانون الداخلي إلى القانون الدولي كما لو أعفى القانون الداخلي الممثلين الدبلوماسيين من الضرائب وترك للقانون الدولي تعيين الفئات التي تستفيد من هذا الإعفاء.
ومن جهة أخرى فقد تستقبل قواعد القانون الداخلي قواعد القانون الدولي وتدمجها فيها بنص صريح، كنص المادة السادسة من الدستور الأمريكي التي تقضي بأن الدستور وجميع المعاهدات التي أبرمتها الولايات المتحدة تعد القانون الأعلى للدولة.
2 ـ نظرية وحدة القانون
وهي تقضي بأن قواعد القانون الدولي العام وقواعد القانون الداخلي كل لا يتجزأ، فالقانون الدولي العام إن هو إلا جزء من قانون الدولة يختص بتنسيق علائقها مع الدول الأخرى، فسلطانه لذلك كسلطان القانون الداخلي، أكثر من هذا يذهب بعض أنصار مذهب الوحدة إلى اعتبار القانون الدولي الجزء الأسمى من قانون الدولة، فإذا تعارضت إحدى قواعد التشريع الداخلي مع قاعدة دولية كان على القاضي أن يطبق القاعدة الأخيرة على حساب القاعدة القانونية الداخلية (الدستور الفرنسي والهولندي).
في حين يذهب فقهاء آخرون من مذهب الوحدة إلى اتجاه معاكس فيعدون أن القاعدة الأساسية العامة التي تعدّ أساساً للقانون (بشقيه الدولي والداخلي) مثبتة في القانون الداخلي؛ لأن الدولة هي السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة.
لكل من النظريتين حسنات ومساوئ بحيث تعدّ حسنات الواحدة مساوئ الأخرى والعكس صحيح.
إن ما جرى عليه التعامل في علاقات الدول لا يؤدي إلى اعتماد أي من النظريتين على نحو قاطع، إلا أن المتفق عليه فقهاً واجتهاداً أن الدولة ملزمة باحترام التزاماتها الدولية فيما تصدره من قوانين داخلية، فإذا حصل تعارض بين القانون الدولي والقانون الداخلي لدولة ما فعلى الدولة أن تلغي قانونها أو تعدله بحيث ينسجم مع حكم القانون الدولي وإلا تحملت تبعة المسؤولية الدولية.
رابعاً ـ مصادر القانون الدولي العام
للقانون الدولي نوعان من المصادر: أصلية وثانوية، فأما المصادر الأصلية فهي التي يرجع إليها لاكتشاف القواعد القانونية الدولية وتحديد مضمونها، على عكس المصادر الثانوية أو الاستدلالية التي لا تنشئ قواعد قانونية بل يستعان بها للدلالة على وجود قاعدة من قواعد القانون الدولي ولمعرفة مدى تطبيقها وطريقته.
1ـ المصادر الأصلية
وهي بحسب ما عددتها المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ثلاثة:
أ ـ المعاهدات الدولية
تعد المعاهدات المصدر المباشر الأول لإنشاء قواعد قانونية دولية. والمعاهدة بالتعريف هي كل اتفاق بين شخصين دوليين من شأنه أن ينتج أثراً حقوقياً يحكمه النظام القانوني الدولي.
والمعاهدة لكي تكون مصدراً للقواعد القانونية ينبغي أن تكون معترفاً بها صراحة من قبل الدول المعنية، لذا فإن التعامل الدولي استقر الآن على ضرورة تسجيل المعاهدات لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة شرطاً لقبولها حكماً في خلافات الدول الموقعة عليها.
وللمعاهدات حسنات القانون ومساوئه، فهي من ناحية دقيقة وصريحة ومن ناحية أخرى صلبة وجامدة ومحدودة الأثر، لذا كان لابد أن يرافقها مصادر أخرى تعدل من هذه المساوئ.
ب ـ العرف الدولي
يعد العرف المصدر الأصلي الثاني لإنشاء قواعد قانونية دولية، ويمتاز العرف بمرونته وقابليته للتطور الدائم تمشياً مع التعامل المقبول للدول.
والعرف الدولي هو مجموعة من القواعد الناشئة من تواتر الالتزام بها من قبل الدول في تصرفاتها تجاه بعضها بعضاً. فالعرف الدولي إذن هو وليد تكرار السوابق الدولية في حالات معينة شريطة أن يرافق هذا التكرار ما يشعر بثبوت الاعتقاد بين الدول بلزوم اتباع السابقة كلما تحددت الحالة التي اتبع فيها.
ويشترط لوجود العرف أن يجتمع فيه عنصران: أولهما عنصر مادي يتجلى في صدور تصرف معين في حالة معينة؛ سواء أكان هذا التصرف إيجابياً يتمثل بالإقدام على شيء أو سلبياً يتمثل بالامتناع عن شيء، وثانيهما عنصر معنوي يتمثل بأن ممارسة هذا التصرف في الحالات المماثلة يفرضها الاعتقاد بضرورته من حيث القانون؛ إذ أن هذا ما يميز العرف ـ بوصفه مصدراً من مصادر القانون الدولي ـ من الأحكام الأخرى غير الملزمة التي قد تتبعها الدول حيناً ثم تهملها فيما بعد، وهو الذي يميزه أيضاً من المجاملة الدولية. وباعتبار أن هذا العنصر معنوي فليس من السهل إثباته إلا عن طريق ذيوع الإحساس به أو الإجماع عليه.
ج ـ المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتحضرة
والمقصود بها اليوم المبادئ العامة للقانون الداخلي التي يمكن تطبيقها في النطاق الدولي عند عدم وجود مصدر قانوني دولي أصلي معترف به كالمعاهدة أو العرف. غير أن عبارة غامضة مثل «الأمم المتحضرة» تجعل من الصعب الوصول إلى اتفاق حاسم حول مدى فاعلية مثل هذا المصدر في تكوين قاعدة حقوقية مقبولة لدى جميع الأمم في عصر لم يعد القانون الدولي فيه مقصوراً على مجموعة إقليمية أو طائفية أطلقت على نفسها لقب الأمم المتحضرة.
(2) المصادر الاحتياطية أو الاستدلالية
وهي بحسب ما عددتها المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية اثنتان:
أ ـ اجتهاد المحاكم
تعد أحكام المحاكم الدولية المصدر الاستدلالي الأول للقانون الدولي. أما بالنسبة إلى أحكام المحاكم الوطنية فليس لمقررات المحاكم في دولة ما أثر خارج أراضي هذه الدولة، ولكن إزاء قاعدة قانونية واحدة لدى عدة دول وجاءت محاكم تلك الدول بتفسير واحد وتكرر هذا التفسير على نمط واحد لاشك فيه أن هذا يصبح مصدراً استدلالياً يركن إليه ويمكن الاستنارة به في تطبيق القواعد القانونية الدولية المماثلة.
ب ـ الفقه الدولي
القانون الدولي مدين منذ القديم لدراسات مجموعة كبيرة من العلماء الذين تولوا شرح قواعده المتعارف عليها وبناء نظرياته المختلفة، ومجموع ما نشر من أبحاث هؤلاء العلماء يسمى «الفقه الدولي» ويستند إليه على أنه مصدر استدلالي في استخراج القاعدة القانونية الدولية.
غير أنه في الرجوع إلى مذاهب الفقهاء ينبغي الاحتياط الشديد لأنها كثيراً ما تكون مشبعة بالروح القومية، ولا يكون الغرض منها إلا تأييد السياسة الوطنية لدولة الفقيه.
ج ـ مبادئ العدالة والإنصاف
نص القانون الأساسي لمحكمة العدل الدولية على أن لجوء المحكمة إلى العدالة والإنصاف في استصدار أحكامها يتوقف على الإرادة الصريحة للفرقاء المتنازعين، ومرد ذلك أن فكرة العدالة غير دقيقة تتغير زماناً ومكاناً، ويقصد بها عموماً مجموعة المبادئ التي يوحي بها العقل وحكمة التشريع.
لابد من الإشارة أخيراً إلى أن الفقه الغربي عدّ هيوغو غروشيوس الهولندي أبا القانون الدولي العام، وعلى هذا الأساس أسست جمعيات علمية باسم جمعيات غروشيوس للقانون الدولي، غير أنه ظهر منذ مدة أن محمد بن الحسين الشيباني العربي المسلم في كتابه «شرح السير الكبير» سبق غروشيوس بقرون عدة في الكتابة عن القانون الدولي. وهذا ما حمل الجمعيات سالفة الذكر على تغيير اسمها لتصبح جمعيات الشيباني للقانون الدولي The Shaibani Societies of International Law، وفي هذا إقرار ما بعده إقرار بسبق العربِ الغربَ في مجال تنظيم العلاقات الدولية في السلم والحرب سواء بسواء.