في 17 تموز 1998 وافقت 120 دولة في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا على ما يعرف بميثاق روما، واعتبرته قاعدة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وعارضت هذه الفكرة سبع دول، وامتنعت 21 عن التصويت.
واعتبر الميثاق أن ملايين الأطفال والنساء والرجال في القرن العشرين -الذي شهد حربين عالميتين- قد وقعوا “ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة” وأنه شهد “جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن العالمي” وأن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب.
وقبل ذلك كانت لجنة خاصة قد قدمت -بطلب من الجمعية نفسها- مسودتين لنظام المحكمة الجنائية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لكن المشروع لم ير النور، وبقي معلقا بسبب الإشكالات السياسية التي خيمت على العلاقات الدولية خلال ما عرف بفترة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق.
اعتُمد نظام روما الأساسي عام 1998 ودخل حيّز التنفيذ عام 2002، وتأسست بذلك أول محكمة جنائية دولية دائمة، وذلك بعد جهود استمرت عقودا طويلة.
مخاض عسير
اعتُمد “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” يوم 17تموز 1998 بالعاصمة الإيطالية روما، ليتوج جهودا استمرت طويلا بهدف إقامة كيان دولي مستمر يتولى مهمة المحاسبة على ما تشهده الحروب والنزاعات المختلفة من انتهاكات واضحة للحقوق الأساسية التي كفلها القانون الدولي للإنسان.
بدأت الجهود في ظل عصبة الأمم عام 1920 عبر تشكيل لجنة قانونية لإعداد مشروع لإقامة محكمة دائمة للعدل الدولية، ثم تواصلت مع عقد مؤتمر دولي في جنيف عام 1937 شهد إبرام اتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية، لكن معارضة بريطانيا وروسيا أدت إلى إفشال المشروع.
استؤنفت الجهود في ظل الأمم المتحدة ابتداء من عام 1946 وعلى فترات متفاوتة، حتى شهد عام 1989 قيام لجنة القانون الدولي بمناقشة طبيعة المحكمة الجنائية الدولية المقترحة والأحكام ذات الصلة باختصاصها وقواعد الإجراءات التي يتعين اتباعها أمامها.
ثم قامت اللجنة عام 1996 بتحديد الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي العدوان، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والجرائم ضد موظفي الأمم المتحدة، وأخيرا جرائم حرب.
في الأثناء، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995 إنشاء اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة، في حين شهد عام 1998 التطور الأبرز عندما تم عقد مؤتمر روما الذي شهد الاتفاق على بنود الاتفاقية المنشئة للمحكمة فيما عرف بنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك يوم 17 تموز من ذلك العام.
رفض أميركي
وشارك بأعمال المؤتمر وفود تمثل 160 دولة فضلا عن منظمات دولية وأخرى غير حكومية، وحظي نظام روما بموافقة 120 دولة مع امتناع 21 دولة عن التصويت، ومعارضة سبع بينها الولايات المتحدة التي أصرت على أن يكون لمجلس الأمن هيمنة على الادعاء بالمحكمة، كما رفضته اسرائيل لاعتباره الاستيطان جريمة حرب، ورفضته كذلك الصين والهند.
خلال صياغة نظام روما الأساسي طالبت الولايات المتحدة أن يكون عمل المحكمة خاضعا لسلطة لمجلس الأمن الدولي الذي تحظى فيه بحق النقض (الفيتو) غير أن مؤتمر روما رفض ذلك.
بادر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون إلى التوقيع على نظام روما يوم 31 كانون الأول عام 2000، غير أن خلفه جورج بوش الابن ألغى ذلك التوقيع في أيار من عام 2001، ودشن حملة عالمية ضد المحكمة، انتهت بالفشل.
سلم عالمي
يتكون نظام روما من 128 مادة تتصدرها ديباجة تشير إلى ما شهده القرن العشرين من سقوط الملايين من الأطفال والنساء والرجال ضحايا لفظائع هزت ضمير الإنسانية بقوة، وهددت السلم والأمن في العالم، وتؤكد أن هذه الجرائم يجب ألا تمر دون عقاب وأنه تجب مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي.
وأكدت الدول الأطراف في نظام روما عزمها -من أجل بلوغ هذه الغايات ولصالح الأجيال الحالية والمقبلة- على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة ذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره.
وفي الأول من تموز 2002 دخل نظام روما الأساسي حيّز التنفيذ، وتأسست بذلك أول محكمة جنائية دولية دائمة.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من تموز 2002 بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 نيسان من السنة نفسها، بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه ستين دولة.
صادقت لحد الآن على قانون المحكمة 108 دول، وتلتقي في جمعية للدول الأعضاء، وهي هيئة تراقب عمل المحكمة، كما وقعت 41 دولة أخرى على ميثاق روما لكنها لم تصادق عليه بعد.
اختصاصات المحكمة
تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بـ:
-
جرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا.
-
الجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق.
-
جرائم الحرب، وتعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي.
ويمكن للمحكمة أن تنظر بقضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها.
تعاون دولي
والمحكمة –التي يقع مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكنها يمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان آخر- هي محكمة مكملة للقضاء الوطني للدول الأعضاء فيها، وتمثل المآل الأخير عندما تكون هذه المحاكم غير قادرة على التحقيق مع المتهمين بالجرائم المذكورة، أو لا تريد ذلك.
يمكن للدول المصادقة على المحكمة أو مجلس الأمن الدولي أن تحيل على المدعي العام قضايا تتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها، كما يمكن له أن يبادر بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك.
ويفرض قانون المحكمة على هذه الدول أن تتعاون معها في التحقيقات والمتابعات التي تباشرها، بأن تسلم المتهمين إن كانوا من مواطنيها، أو تعتقلهم وتسلمهم إن دخلوا أراضيها، وبأن توفر كل الوثائق المتوفرة لديها في أي قضية تفتح المحكمة التحقيق فيها.
ويمكن للمحكمة أن تتعاون مع الدول غير المصادقة على ميثاقها، وذلك عبر تفاهمات أو اتفاقات منفصلة، كما يربط المحكمة بالأمم المتحدة اتفاق ينظم العلاقات وسبل التعاون بينهما، وبذلك تختلف المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية التي تعتبر ذراعا تابعة للأمم المتحدة تهدف من خلالها لحل النزاعات بين الدول.
هيكلة المحكمة
تتكون المحكمة من:
-
رئاسة تتكلف بالتدبير العام للمحكمة، وتضم ثلاثة قضاة ينتخبون من هيئتها القضائية لولاية من ثلاث سنوات.
-
شعبة قضائية، وتتكون من 18 قاضيا متخصصا في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية والقانون الدولي.
-
مكتب للمدعي العام، ويختص بالتحقيق في الاتهامات بالجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، ويبحث عن الدلائل والوثائق ويفحصها ثم يعرضها على المحكمة، والمدعي العام الحالي هو الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو.
-
قسم السجل، ويتابع كل الأمور الإدارية غير القضائية، وينتخب المسؤول عنه من قبل قضاة المحكمة لولاية تمتد خمس سنوات.
قضايا أمام المحكمة
وتنظر المحكمة الآن في أربع قضايا، ثلاث منها أحالتها عليها دول صادقت على المحكمة، وتتهم أشخاصا بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على أراضيها، وهي الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وأوغندا، والقضية الرابعة أحالها على المحكمة مجلس الأمن متهما فيها الرئيس السوداني ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم مماثلة في إقليم دارفور غرب السودان.
أول شخص تم تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية هو توماس لوبانغا، زعيم إحدى المليشيات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حيث قيل إنه جند أطفالا قاصرين واستخدمهم في الحرب.
وتسعى المحكمة أيضا إلى متابعة قادة مليشيا جيش الرب الأوغندي، المتهمين بدورهم بتجنيد أطفال واستغلالهم في الحروب.