عبق الياسمين الدمشقي المعتق
حكايات التاريخ القديم والحديث، قصص ونوادر لا يعرفها إلا رواتها. طرائف في السياسة وشخصياتها، طرائف في الفن وأبطاله، طرائف اجتماعية وأدبية.. سرد لقصص دمشقية حُفرت في ذاكرة جيل لم يبقَ منه إلا القليل ليحكوه لأبنائهم وأحفادهم. قليلون يعلمون أن فرشاة الأسنان دخلت إلى مدينة دمشق بدلاً عن نبتة المسواك عام 1914، قبل الحرب العالمية الأولى بأشهر قليلة، “وأن 60% من الدمشقيين باتوا يمتلكون فراشاتهم الخاصة عام 1930. قليلون أيضاً يعلمون أن النساء الدمشقيات ارتدوا الحذاء ب “الكعب العالي” مع صيف عام 1924، حيث أدخل تجار المدينة هذا المنتج إلى أسواق الحميدية وغيرها، نقلاً عن باريس. وهم آل أجمان من عائلات القصاع الشهيرة وتوارثوا المهنة من ذاك الزمن حتى وقتنا عبر ابنهم الصديق الاستاذ نبيل اجمان.
هناك مَن لا يعلم أيضاً أن جامع بني أمية الكبير هو أول بناء تدخله الكهرباء في مدينة دمشق في شباط من العام 1907، ودخلت في نفس الفترة الى الكاتدرائية المريمية ودار بطريركية الروم الارثوذكس في منطقة الخراب بدمشق القديمة، وأن الكهرباء دخلت إلى دمشق قبل أن تدخل إلى ولاية لوس أنجلوس الأمريكية بواسطة شركة بلجيكية اتخذت لها مقراً وسط دمشق وأصبح هذا المقر نفسه مقراً لشركة كهرباء دمشق حتى هذه اللحظة.
كثيرون أيضاً لا يعلمون أن السيدة اللبنانية فيروز لم تبدأ مشوارها الفني في مهرجانات بعلبك عام 1957، كما يعتقد كثيرون، بل كانت البداية على مسرح سينما دمشق في فبراير1952. كانت فيروز “نهاد حداد” لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها عند قدومها الى سورية بعد اكتشافها من قبل مدير إذاعة دمشق أحمد عسة ومدير البرامج الأمير يحيى الشهابي. بحضور العقيد أديب الشيشكلي رئيس سورية آنذاك.
قليلون أيضاً يعلمون أن قماش ثوب زفاف الملكة البريطانية إليزابيت الثانية، يوم كانت ولية العهد في العام 1947، جاء من أسواق دمشق.
وأن أول مدرسة باليه في العالم العربي تأسست في دمشق في العام 1951 في منزل الوجيه مظفر البكري، كان البكري متزوّجاً من الفنانة اليونانيّة آنا فرانكولي، وكانت مأخوذة برقص الباليه، فقررت إدخال ذلك الفنّ إلى دمشق.
وأنّ الممثل والمخرج الكوميدي الشهير تشارلي شابلن زار دمشق لحضور افتتاح فيلمه «السيرك» في سينما «فلور دو داماس» في ساحة المرجة في خريف العام 1929 وكان في استقباله السياسي السوري فخري البارودي.
يكشف المؤرخ د. سامي مبيض عن أخطاء تاريخية وفنية وتراثية وقع فيها منتجو مسلسل “باب الحارة” الدمشقي الشهير الذي أُنتج منه تسعة أجزاء ولاقى متابعة جماهيرية عربية كبيرة ومن بين تلك الأخطاء مثلاً يقول د. سامي مبيض أن دمشق لم تكن تغلق أبوابها يوماُ، فكانت دوماً مدينة النور والعلم والتجارة. لا يوجد باب يغلق في حارات دمشق، مثل العصور الوسطى في أوروبا. وأن العلم الفرنسي الموجود في مخفر باب الحارة معلق بالاتجاه الخطأ، فألوانه عمودية وليست أفقية. وأنه لا يوجد في دمشق شخص اسمه “العقيد”، هناك زعيم يمثل الأهالي ويحمي مصالحهم، وهناك “ازعر” يسطو على أرزاقهم.
دمشق لم تكن مثل مدينة شيكاغو في أفلام المافيا أو ما شابهها في أفلام الكاوبوي. لا أحد يخرج خنجره للقتال في أي وقت أو أي ظرفٍ كان، الخنجر كان سلاحاً أبيض ولم تكن فرنسا التي كانت تحتل سورية آنذاك تسمح باستخدامه بهذا الشكل الكوميدي الذي ظهر في المسلسل.
أسماء العائلات وعن أسماء الكثير من العائلات الدمشقية فيروي “الشامي العتيق” أن بعضها منسوب لمذهب أو طريقة: مثل بيت الشافعي، والمالكي، والحنبلي، والجعفري والرفاعي، والنقشبندي. والبعض الأخر حسب وصفه: بيت الطويل، والقصير، والرفيع، والدعبول والبيضاوي، والفقير، والحافي، والبردان، والسواح، والرحال، والمهاجر، والفقيه، والحباب، والحبوب، والنفاخ، والنعسان والنعوس. والآخر نسبة للورود والأشجار: بيت ياسمينة، وقرنفل، والجوري، والوردي، وفلة، وريحان، وبيت نخلة وبعضها منسوب للحيوانات مثل بيت الجمل، والعصفور، والنمر، والفهد، والسنجاب، والأرنب، وزرافة، وغزال، وسمكة، والجاجة، والديك، وجرادة، ودبانة. كما أن الكثير من أسماء العائلات منسوب للطعام مثل بيت المالح، والحلو، والحامض، والمر، والفتوش، والملوخية، وسليق، وهليون، والعجة، وبقدونس، وبصلة، وسكر، والبزرة، والدبس، ودبس وزيت، ودبس ولبن، والرز، وزعتر، وعدس، وحلاوة، وقبوات، وكبة، وسمسمية، وعرنوس، وكوسا، وتفاحة، وبقلة، وبيتنجانة، وخيارة، وجزرة.
وبعض اسماء العائلات مشتقة عن اعضاء الجسم: بيت أبو دان، أبو شعر، وابو الشامات، وعيون السود، وابو شنب، وأبو لسان، وابو ظهر، وابو شوشة، وبيت الباهم وبيت سنان… والبعض الأخر لعاهات جسدية: بيت الأخرس، والاطرش، والأبرص، والبرصا، والأبرش، والاكتع، والأعوز والأعرج. والبعض الأخر للألوان: بيت الأسمر، والأسود، والأبيض، والأخضر، والأزرق، والذهبي، والأشقر، والأصفر، والأحمر والبني، والحديدي، والبحري، والسماوي.
يروي سامي مبيض أيضاً أن سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم جاءت إلى دمشق في صيف العام 1931 لإحياء ثلاث حفلات في إحدى الحدائق بالهواء الطلق. كانت قيمة البطاقة لحضور الحفل “ليرة ذهبية” مما أجبر بعض المعجبين أن يبيعوا سجاد منازلهم، أو يرهنوا مصاغ زوجاتهم، من أجل حضور الحفل ومشاهدتها شخصياً، وبمجرد وصولها إلى مشارف العاصمة عن طريق بيروت القديم، كان في استقبالها الألوف يتقدمهم السياسي الشهير فخري البارودي، وأمين العاصمة، ومدير الشرطة والأمن العام، ونخبة من رجالات الصناعة والتجارة والاقتصاد، وأصحاب الصحف الخاصة وسيدات يمثلن الجمعيات النسائية بدمشق وطلبة المدارس. انتقلت أم كلثوم وسط هذا الزحام البشري غير المألوف في الحياة اليومية الدمشقية إلى فندق أمية وهناك كان في انتظارها مجموعة شباب قابلوها بالقدح والذم في المساء قبل بدء الحفل ورشقوها “بنترات الفضة” محاولين إحراق وجهها ومطالبين أم كلثوم بإلغاء الحفل و”بالاحتشام.” وطالبوا أيضاً أن تضع حجاباً على رأسها بالرغم من أن أم كلثوم كانت ملتزمة دينياً، حافظة للقرآن، ومحتشمة للغاية.
وحسب ما يروي سامي مبيض فإن أم كلثوم غضبت من هذا التصرف وقاطعت دمشق لسنوات طويلة. وأنها روت هذه القصة للرئيس السوري آنذاك ناظم القدسي عند استقباله لها في مطار دمشق في سبتمبر 1955، مبررة الغياب الطويل عن الشام. فعوضتها دمشق بوسام الاستحقاق من الدرجة الأولى واستقبال باهر في المرة الثانية وإحياء في حفلات لا تنسى على مسرح سينما دمشق.
قبل 80 عام يوغل سامي مبيض في البحث والتنقيب عن خفايا دمشق وما قيل عن أهلها فيُزيح الستار عن وثيقة فرنسية صادرة عن دبلوماسي فرنسي في العام 1940 تتحدث تلك الوثيقة عن السلوك الشرائي للدمشقيين قبل ثمانية عقود، ومما ورد في تلك الوثيقة: “تغير الدمشقيون كثيراً في السنوات الأخيرة. باتوا أكثر تواصلاً مع العالم الخارجي. نجد مستلزمات حديثة في بيوتهم لم يعرفوها من قبل، مثل جرس الباب، والمراوح الكهربائية، والبرادات الأميركية، وكل هذا بسبب توفر الكهرباء للعموم بشكل تدريجي وكبير منذ عام 1907.”وجاء أيضاً في ذات الوثيقة: “بالنسبة للكهرباء، بلغ عدد المشتركين بدمشق 80 ألف مشترك عام 1920، يوم كان عدد سكان المدينة آنذاك 950 ألف نسمة فقط. أما المذياع، فقد بلغ عدد مبيعاته بدمشق وحدها 11 ألف جهاز ما بين 1933 1938، معظمهم في المنازل والمقاهي وفي محلات الحلاقين”.