الوجه المسيحي للحضارة العربية
مقدمة
الحضارة اساساً مواد بناء، هي اولاً معطيات حضارية ترثها الشعوب عما سلفها، فتبني بها صروحها الحضارية، فتاريخ الحضارة وكل حضارة يشمل إجمالاً نشأتها ثم اكتمالها…فانحطاطها…
هذا الشعب الناهض يأخذ في المرحلة الأولى، التركة الحضارية لشعب، ثم يطبعها بطابعه الخاص، وينميها بما يضيف وفقاً لنفسيته الخاصة، وبعد أن يكملها يعيش فيها ويحييها، وكما الناس هكذا الحضارة…
نقول عن الحضارة العربية أن للشعب في هذا المشرق، ولم ميزة استيعاب نادرة ومحبة استطلاع فريدة فهو لم يترك فناً الا زاوله، ولم يلتق بأدب الا وتطرق اليه، فقد أخذ عن اجداه من الشعوب السالفة أرفع ما أبدعت وماكان يتلاءم مع روحه المشرقية، وحاجياته الاجتماعية، وبعد أن صهرها في بوتقتهأخرجها الى العالم حضارة اصيلة تعبر بأجلى تعبير عما يخالج روحه.
حكى لنا المؤلفون العرب كإبن أبي اصيبعة(1) والقفطي(2) وابن النديم(3) والبيهقي (4) وغيرهم (5) قصة غزو العرب للادب الهندي والفارسي وشيئاً من اقتباساتهم للأدب اليوناني والأدب السرياني، كما أن ابن جلجل يذكرؤ بعض المؤلفات التي ترجمت عن اللاتينية الى العربية في الأندلس في القرن الرابع الهجري الذي عاش فيه المؤلف.
دور المسيحيين المشرقيين
كان قد انصب اهتمام المسيحيين في بلاد الشام والرافدين على تعريب الفكر اللاهوتي الآبائي وسواه عن التراث اليوناني سيما والثقافة اليونانية منتشرة بقوة في بلاد الشام الى مابعد حملة تعريب الدواوين مع عبد الملك في الدولة الأموية، والفكر اللاهوتي الرومي هو المسيطر في كل المشرق ومصر وهو تراث كنيسة انطاكية الارثوذكسية الخلقيدونية كما تراث القسطنطينية واورشليم والاسكندرية وقبرص واليونان… بعيداً عن الجنسية الرومية التي تعني هنا اليونانية فالتماثل هو في العقيدة ولغة العبادة…لذا كان الاتجاه حول التعريب ليفهم الشعب في هذه المنطقة ايمانهم بلغتهم السائدة اي العربية.
كما انشغلوا بتعريب الكتب الفلسفية والمنطق والطب وسائر العلوم والمعارف…
كان أقدم كاتب تعرض له المعربون هو اكليمنضوس تلميذ اول بطاركة انطاكية (45-53) اي بطرس الرسول وصار اول اسقف لرومة(64-66)، كان لاكليمنضوس رسالتين نُقلتا للعربية(6).
وينسب اليه كتاب ” الاسرار” وهو مخطوط في ديرالقديسة كاترينا في سيناء(7)ويرتق الى القرن التاسع أو العاشر المسيحي، أما أغناطيوس الأنطاكي(117م) فله عدة رسائل (8) شاعت بنصها العربي قبل القرن العاشر، وقد ذكرها المطران ساويروس بن المقفع القبطي في مصر واستشهد بها.(9)
عرف العرب ايضاً بوليكربوس اسقف ازمير(155م) من خلال رسالته عن المسيح، اما ايريناوس اسقف ليون وهو من النصف الثاني من القرن الثاني فقد تُجمت مؤلفاته للسريانية ومنها عُربت والجزء الأكبر منها في اربع مخطوطات فاتيكانية تعود الى القرن 13م(10)، مع تفسير للأناجيل عُرِّب ايضاً، ومازالت بعض آثاره محفوظة في مخطوطات الفاتيكان(11)، كما نُقل للعربية شرح التوراة وهي من مؤلفات هيبوليط الروماني حوالي 236م وتفسير انجيل متى وتفسير سفر الرؤيا.
أما غريغوريوس العجائبي 270 فلنا منه معرباً “كتاب الايمان ودحض الهرطقات”، وبعض الخطب والرسائل العقائدية، للاسكندرانيين: ديونيسيوس 264م، والشهيد بطرس 311من واسكندر خليفته على كرسي الاسكندرية 328م…
مؤلفات عدة معربة، منها ماهو منشور، والجزء الأكبر مخطوطاً.
أما أثناسيوس الاسكندري 373م وهو من كبار اللاهوتيين فقد راجت مؤلفاته المعربة منذ القرن التاسع المسيحي لدى المسيحيين، خصوصاً رسالته ضد الآريوسيين وتفسيره لكتاب الزبور ورسائله، والقسم الأكبر من عظاته التي زادت عن 60 عظة.
تلميذه ثيوفيلوس الاسكندري 412م عُرِبَ له “الاقوال الروحية” والقسم الاول من عظاته.
ثمة بعض تفاسير للأناجيل منها قسم لأوسابيوس القيصري(240م) وديديموس الأعمى (398م) وتيطس أسقف البصرة (ت378م)، معربو هذه مجهولون ولا يستبعد أن يكون هؤلاء ممن تصدوا لكتب فلاسفة اليونان الوثنيين كما يثبت لنا ذلك تعريب اسحق بن حنين 873م لكتاب طبيعة الانسان وقد نسبه لغريغوريوس النيصصي وورد ذكره في ” فهرست ابن النديم” وهو في الحقيقة لنماسيوس الحمصي.
ظهرت مؤلفات أحد الأقمار الثلاثة باسيليوس الكبير 379م اللاهوتية والنسكية باللغة العربية منذ القرن التاسع المسيحي وقام بتعريب الجزء الأكبر من عظاته الشماس عبد الله بن الفضل الأنطاكي المطران في القرن الحادي عشر. كما عرب لغريغوريوس النيصصي 394م شرحه لستة ايام الخليقة، كما نقل الى العربية مواعظ كيرلس الأورشليمي 386م (12).
كان ابراهيم بن يوحنا الأنطاكي قد عرب أواخر القرن 10م مجموعة من ثلاثين عظة لغريغوريوس اللاهوتي أو النزينزي 390م اي القمر الثاني.
اما القمر الثالث يوحنا الذهبي وهو من انطاكية عاش فيها ردحاً كبيراً قبل أن يرتقي السدة القسطنطينية، فإنه نال قسماً وافراً من عناية المعربين الذين نقلوا آثاره، وانك لاتجد مجموعة مخطوطات عربية في دير او مكتبة مسيحية خالية من مؤلفاته(13) ولكيرلس الاسكندري(444م) كتاب:”الكنوزن ومجادلة مع نسطوريوس والحرومات، ومقتطفات عدة من كتب لاهوتية وكتابية، جميعها عربت ونالت اوسع انتشار بين المسيحيين(14)
ولقد اورد غراف في كتابه المشهور( تاريخ الأدب المسيحي العربي لائحة كبيرة من المؤلفين واللاهوتيين اليونانيين الذين عُربت مؤلفاتهم منهم:
– بروكلس بطريرك القسطنطينية 446م، ثيودوتوس اسقف أنقرة قبل 446م، ثيوذوريطوس القورشي458م، انسطاسيوس الأنطاكي 569مواوستراسيوس الكاهن القسطنطيني اواخر القرن 6م، ديونيسيوس الأريوباغي، صفرونيوس الدمشقي بطريرك اورشليم وقد طلب حضور عمر بن الخطاب وسلمه مفاتيح اورشليم(ايليا) حقناً للدماء (توفي س(15) وقد عاش في دمشق وحصل ثقافة يونانية رفيعة وترهب في دير ماسابا بفلسطين 638م)، ماكسيموس المعترف662م، اندراوس الدمشقي اسقف كريت740م، جرمانوس بطريرك القسطنطينية 733م ويوحنا الدمشقي 749م نديم الخلفاء الامويين قبل اعتزاله العمل الوظيفي في البلاط الأموي وتنسكه في دير مار سابا بفلسطين وقد نُقلت مؤلفاته الى العربية في القرنين 10 و11م ومن مؤلفاته:” المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي” وكتاب في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام(16).
زد على هذا التراث العلمي الضخم كانت قد تركت مجموعات مهمة من المؤلفات الصوفية والنسكية المغفلة الاسم والكاتب:”بستان الرهبان”،” البستان في أخبار الرهبان”،…وغيرها كثير…ويمتد من القرن 3المسيحي وصولاً الى القديس يوحنا السلمي صاحب كتاب “سلم الفضائل” في القرن السابع المسيحي، ومعاصره انطيوخوس الراهب الذي من دير مار سابا مؤلف كتاب” الحاوي”.
كما ظهرت عدة مقاطع من مؤلفات ابوليناريوس اللاذقي قبل 392مسيحية وتلميذيه فيتاليوس وتيموثاوس اسقف بيروت في مجموعة لاهوتية تعرف بكتاب “اعتراف الآباء”.
اما يحي النحوي وهو من النصف الأول من القرن 6 فقد عني المسيحيون بتعريب الكثير من مؤلفاته الفلسفية والروحية حتى ارتفعت منزلته كثيراً عند العرب المسلمين وحيكت حوله عدة روايات حكى لنا البعض منها القفطي(17) وسرد شيئاً من مؤلفاته كرد على نسطوريوس. ومن هذه الحقبة كان البطريرك اللاخلقيدوني اليعقوبي 528مسيحية الذي اهتم اليعاقبة السريان والاقباط بتعريب مؤلفاته العقائدية وعظاته ورسائله وكتبه الطقسية…
هذه المعَرَبات ذات الصفة المسيحية لاتقل شأناً عن المؤلفات اليونانية المعربة في الطب والفلسفة والعلوم الأخرى…
مؤلفات الخلقيدونيين الارثوذكس
ومن الجدير التأكيد عليه ان هذا التعريب كان تياراً حمل الى الحضارة العربية المكناة بالاسلامية (وهو مانرفضه بالمطلق) سيلاً من الكتب اليونانية المسيحية وغير المسيحية.
والملكيون الخلقيدونيون (الروم الارثوذكس في انطاكية واورشليم والاسكندرية) هم الذين اشتغلوا في هذا المضمار بكل حيوية ونهم، وكانت لهم اليد الطولى بالتعريب عن اليونانية، فكنيستهم الارثوذكسية الخلقيدونية هي امتداد للبطريركيات الرسولية الثلاث الاسكندرية، أنطاكية، واورشليم من العالم الرومي الى الدولة العربية، وكان للنساطرة واليعاقبة فضلٌ ثانٍ بنقل الكثير من الكتب عن السريانية والآشورية بأصلها اليوناني الى العربية.
مؤلفات النساطرة والسريان
عربت مؤلفات القديس افرام السوري 373مسيحية ونجدها في مخطوطات تعود الى القرن التاسع المسيحي الى جانب مؤلفات يوحنا سابا المعروف عند العرب بالشيخ الروحاني، والقديس اسحق السوري، ويعقوب السروجي، ويوحنا الرهاوي، وبولس متروبوليت نصيبين وبولس البصيري مطران نصيبين( طبيب الفرس الساسانيين)، وماروتا التكريتي649مسيحية ويعقوب الرهاوي 708مسيحية وداود بن فولس من القرن8م.
مؤلفات الأقباط
ونال الأدب القبطي نصيبه من التعريب اذ انتشرت عربياً في مصر مؤلفات القديس البار انطونيوس أبي الرهبان356مسيحية، وشريكه في تأسيس الرهبنة القديس البار باخوميوس 346مسيحية، وشنودا 451 مسيحية والبطريرك بنيامين الذي استقبل عمرو بن العاص في الاسكندرية وحظي منه باكرام بالغ… وغيرهم كثيرون…(18)
– تدلنا هذه اللمحة التي اوردنا على أهم اسماء الاعلام المسيحيين الذين ساعدوا على خلق ذهنية مسيحية عربية لها أبعادها الثقافية وأصولها الحضارية كل ها التراث القديم انتقل الى أيدي العرب فأعملوا فيه الفكر واستلهموه وراحوا يكتبون بهديه صفحات رائعة خلدت ذكرهم. وهكذا نشأت الى جانب المكتبة المعربة مكتبة ثانية خلقها الكتبة المسيحيون العرب، وهي تمثل أبهى تمثيل الأدب المسيحي العربي الأصيل.
المسيحيين المشرقيون مكون أول ورئيس من مكوني الحضارة الموصوفة بالعربية، فقبل ظهور الاسلام كان المسيحيون (خلقيدونيون ولاخلقيدونيون ونساطرة ) منتشرون في كل مكان من المشرق وسورية الطبيعية والعراق وآسيا الصغرى وحتى في الجزيرة العربية فكان لهم كل الوجود في مكة والمدينة ونجران واليمن وقطر وساحل الخليج العربي وتشهد الكنيسة لأساقفة المضارب في كل هذه الرقعة المسماة “العربية” الذي اشتركوا في المجامع المسكونية والمكانية التي نظمت أمور الكنيسة وليس صحيحاً على الاطلاق حصر وجود مايسمى المشركين اي عرب الجاهلية (كيف يمكن تسميتهم هكذا وعندهم كل الشعر الملحمي والمعلقات والفراسة في الفلك والمهارة في التجارة) وبعض التجمعات اليهودية في شبه الجزيرة العربية وبالأخص في التجمعات السكانية الكبيرة كمكة ويثرب…إذ قد دانت قبائل عربية كثيرة العدد ورفيعة المكانة عالية الكعب بين القبائل الأخرى، دانت بالمسيحية كبني كلب وتنوخ وسليح من قضاعة وجذام وتغلب وبكر وتميم والحارث بن كعب وكنده (19) وغيرها، وقام منهم شعراء فحول وفطاحل ندرس شعرهم ماضياً وحاضراً(20) وان كانوا قد تعمد كبار تاريخنا السكوت عن مسيحيته، ولم تقتصر الحياةم، لقد برز فيهم أساقفة كبار وحضروا المجامع المسكونية منذ القرن الرابع المسيحي.
كانت المسيحية زاخرة بالتقوى والصلاة بدليل قيام جماعات رهبانية كان لها أطيب الأثر عند العرب ماقبل ظهور الاسلام وصدره، وانتشر الرهبان النساطرة كالراهب بحيرا وامثاله والرهبان اليعاقبة على طول طريق التجارة بين الشام ومكة بعيداً عن سيطرة الدولة الرومية خصومها في العقيدة، وانتشرالايبونيون ايضاً اي شيعة المسيحيين الفقراء (والذين كانت شيعتهم كالنساطرة واللا خلقيدونية مرفوضة من الكنيسة الرومية الرسمية والعقيدة الخلقيدونية) في مكة والمدينة وكان اسقف مكة ورقة بن نوفل من شيعة الايبونيين وهو ابن عم محمد وخديجة ومعلم محمد وهو من ازوجهما زيجة نصرانية.(21) الأمر الدال على الازدهار المسيحي في الجزيرة العربية.
لم تقتصر الحياة الرهبانية على الرجال فحسب(22)بل قامت أيضاً اديرة للرهبنة النسائية اشهرها دير هند الصغرى(23) أي هند بنت النعمان الأصغر، ودير هند الكبرى(24) أي هند بنت الحارث بن عمر بن حجر، وقد بُني هذا الدير في زمان كسرى أنو شروان، وأفريم الاسقف.
اختلط المسلمون الوافدون من الجزيرة العربية بالمسيحيين سكان بلاد الشام وخاصة المدن الكبرى كدمشق…عندما دخلوها وحكموها، وحتى في الارياف والعشائر الرحل، لم تكن بلاد الشام والرافدين ومصر ارضاً قاحلة العلم يعيش اهلها بتخلف بل كانت تنعم بحضارة عظيمة وفكر متطور شجعت عليه المسيحية والكنيسة اجمالاً وهي من قاد العلم والمعرفة والمدارس كان الواقع الاجتماعي والديني المسيحي مشبعاً بالآداب والعلوم والفنون اليونانية والآرامية والسريانية والقبطية، وكانت اللغة السائدة في بلاد الشام ومصر هي اليونانية وهي لغة الادارة والعلم والثقافة والكنيسة الارثوذكسية وخاصة في المدن، وفي بلاد الشام كانت تنتشر الآرامية في الارياف وهي ايضاً لغة كنسية (كما انها لغة اجتماعية) في الكنيسة الارثوذكسية…
عند دخول المسلمين بدأت اللغة العربية تدخل تدريجيا الى الحياة العامة والمجتمع، لكن اللغة الرسمية في الادارة العامة وحتى عهد عبد الملك بن مروان كانت اليونانية في بلاد الشام عندها امر بتعريب الدواوين في القرن السابع المسيحي، وبرز اعلام شوام مسيحيون كثيرون ضليعون بالعربية وآدابها كتابة وخطابة وتأليفاً نذكر منهم.
1- الملكيون أي الخلقيدونيون الارثوذكس
ثيوذوروس ابو قره اسقف حران 825مسيحية، ومعلمه القديس يوحنا الدمشقي، تبعه في أوائل القرن العاشر قسطا بن لوقا الذي ناظر مع حنين بن اسحق أبا الحسن علي ابن يحي المنجم، وفي مصر عاش سعيد بن البطريق وهو افتيخيوس الاسكندري بطريرك الاسكندرية الملكي 940 مسيحية له كتاب نظم الجوهر(25)، وعاصره محبوب بن قسطنطين صاحب كتاب “العنوان” وهو كتاب تاريخ تقف حوادثه عند سنة 941م(26). اما انطونيوس(27) رئيس دير مار سمعان العمودي في النصف الثاني من القرن العاشر فقد اشتهر إذ عرب عن اليونانية ميامر القديس غريغوريوس اللاهوتي وعظا القديس يوحنا الذهبي الفمو” الفصول الفلسفية” و” الأمانة المستقيمة” للقديس يوحنا الدمشقي، وكتباً أخرى له مع بعض تعاليم روحانية للآباء نعرف من معاصريه ابراهيم بن يوحنا الأنطاكي(28) وقد عرب عن اليونانية 52 كتاباً للقديس أفرام السوري، وعني بتعريب 30 ميمراً للقديس غريغوريوس النزينزي والقس نظيف بن عين الكاهن والفيلسوف والطبيب البغدادي، وقد اشتهر بتعريب كتب فلسفية يونانية، وله مقالة في “ماهية اعتقاد النصارى”(29)،
من أنطاكية خرج يحي بن سعيد بن يحي صاحب كتاب الذيل لتاريخ سعيد بن البطريق الذي كانت تربطه به قرابة(30)
وتمتد حوادث الذيل من سنة 928 الى سنة 1028 وليَحيَّ أيضاً ثلاثة كتب لاهوتية. وثيوفيلوس بن ثيوفيل الدمشقي أسقف الملكيين الخلقيدونيين في القاهرة، أعاد تعريب الأناجيل عن الأصل اليوناني كما حكى أبو الفرج ابن العسال في مقدمة كتابه عن الأناجيل.
أما الشيخ أبو الفتح إبن الفضل الأنطاكي المتوفي بعد سنة 1052 مسيحية(31)فكانت له اليد الطولى في إعلاء شأن الأدب العربي بما عَّرَّبْ والقى على السواء، ومن معرباته: “سفر الزبور”، و”عظات يوحنا الذهبي الفم”، وبعض مؤلفات باسيليوس القيصري وغريغوريوس انيصصي ومكسيموس المهترف واندراوس الدمشقي( اسقف كريت) ويوحنا الدمشقي واسحق السوري.
أما نتاجه فنذكر منه “كتاب المنفعة” وهو كتاب ضخم يجمع بين دفتيه زبدة العلوم الكلامية والفلسفية للمعتقدات المسيحية، وكتاب الروضة وهو يضم أقوالاً اقتطفها من الكتب المقدسة ومن لاهوتيين يونانيين…الخ.
2- الموارنة
في هذه الحقبة لم يكن سوى المؤرخ قيس الماروني، وكتابه “تاريخ العالم”وتنتهي حوادثه في خلافة المقتفي (904-908)مسيحية(32)
3- النساطرة
برزت أسرة بختيشوع الشهيرة في الطب والفلسفة، وهي من جنديسابور، وقد تناقلت العلم على مدى ثلاثة قرون في العهد العباسي. كبيرها هو جورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع، هذه العائلة خدمت المسيحية والطب والفلسفة والمنطق بما عربت والفَّت وتحدث عن افرادها الكثيرون كإبن ابي اصيبعة وابن العبري… ودائرة المعارف الاسلامية.
والمعرب ابو الحسن عيسى بن حكم المسيحي الدمشقي، وابن البطريق المترجم ويوسف ابن داية، وقد بزهم جميعاً في الطب يوحنا ابن ماسويه(33) طبيب المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وجاثليق النساطرة تيموثاوس الكبير 823م (34) الذي بالاضاف الى ترجمته كتاب أرسطو في الشعر له مجادلة دينية مع الخليفة المهدي حول المسيحية والاسلام(35). وحبيب ابن بهريز الذي كان أةلاً أسقفاً على حران ثم على الموسل وعاش زمن المأمون وقد عرَّب كتباً في المنطق والفلسفة كما أن له عدة نظريات قريبة من الاسلام(36)، وحنين بن اسحق الذي قدم للحضارة العربية خدمات جلى بماعرب مع ابنه اسحق وتلميذه حبيش بن الحسن الأعسم الدمشقي(37)
وكان من كبار شراح الفلسفة الارسطية ابي بشر متى بن يونس وقد حكى عنه القفطي فقالعنه:” عالم بالمنطق… وعلى كتبه وشروحه اعتمد أهل هذا الشأن في عصره.”
وكان ايضاً ايليا مطران نصيبين(38) مجالس دينية ومجادلات مشهورة مع صديقه ابا القاسم الحسين ابن علي المغربي كما أن له مؤلفات كثيرة في العقائد الدينية والتاريخ والأخلاقيات والفقه والسريانية والعربية.
وهنالك أيضاً الشيخ عبد الله ابن الطيب وقد كتب عنه القفطي:
“فيلسوف فاضل مطَّلع على كتب الأوائل وأقاويلهم، مجتهد في البحث والتفتيش… وقد أحيا من هذه العلوم (اي فلسفة ارسطوطاليس وطب جالينوس) مادثر وأبان منها ماخفي… وشيخنا ابو الفرج بقي عشرين سنة في تفسير مابعد الطبيعة، ومرض من الفكر فيه مرضة كاد يلفظ نفسه فيها…”(39)
4- اليعاقبة
برز مفكرون كبار يتقدمهم ابو رابطة حبيب ابن خدمة التكريتي المعاصر لأبي قرة أسقف حران والجاثليق تيموثاوس له عدة رسائل دينية نشرها غراف مع ترجمة ألمانية.
كان أشهر منه عبد المسيح بن ناعمة الحمصي معرب المغالطات السقسطائية والسماع الطبيعي لأرسطو والكتاب المتحول” ايثولوجيا” (40)
ويحي بن عدي التكريتي نزيل بغداد 974م وهو قمة في الفكر المسيحي، وقد شهد به القفطي(41) بقوله عنه:”اليه انتهت رئاسة أهل المنطق في زمانه.” ومن تلاميذه الفلاسفة ابن افريم اليعقوبي والحسن بن سوار وأشهرهم ابو علي عيسى بن اسحق بن زرعة1008م وقد كتب عنه معاصره ابو حيان التوحيدي مايلي:” أنه كان حسن الترجمة صحيح النقل، كثير الرجوع الى الكتب، محمود النقل الى العربية، جيد الوفاء بكل ماجَّلَّ من الفلسفة”
5- الأقباط
كان ابو البشر ساويروس ابن المقفع اسقف الأشمونيين بعد سنة 987م وهو اول كاتب قبطي الف باللغة العربية، ناشراً عقائد الايمان ومدافعاً عن انتقادات الغرباء”، وقد ذكر له ابن كبر 26 مؤلفاً(42).
الخاتمة
أخيراً وليس آخراً نقول بتأكيد يخطىء من يزعم ويقول ان الحضارة العربية هي اسلامية فقط، المسلمون عندما خرجوا من الجزيرة العربية لم يكونوا علماء بل مقاتلين ابناء بداوة، بينما كان سكان بلاد الشام وسائر المشرق يحفلون في معارج الحضارة المتوارثة من السلف الى الخلف بكافة تلاوين من حكم هذه المنطقة وبحكم الفسيفساء السكانية فيها… وبوجود مدارسها العلمية والفلسفية والقانونية فيها والتي قاربت في عصرنا الدراسة الجامعية…
ونعم كان للحكام المسلمين في بعض ادوار الخلافتين الاموية والعباسيين الفضل في تشجيع العلم والانفتاح على الشعوب الأخرى (ومن خلال ما قدمناه وهو غيض من فيض) فقد شجعوا النقل والتعريب والتأليف وقام بذلك سكان هذه الارض المشرقية التي كانت تدين كلياً بالمسيحية واستمرت هكذا الى مابعد طرد الفرنج منها ليمثل مسيحيوها نسبة 60% من السكان، هؤلاء هم من أثرى الحضارة التي نؤكد اليوم على عروبتها، لذا ومن باب الانصاف كانت حضارة مسيحية- اسلامية بامتياز… وقد جاهد ائمة عصر التنوير الشوام وكانوا في معظمهم من المسيحيين الذين وقفوا في وجه الغاصب المحتل العثماني الذي كان يقود العامة باسم الدين قرابة اربعة قرون من التخلف والتعصب والاستبداد، لقد جاهدوا ولوحقوا لأنهم طالبوا بالاستقلال عن الدولة التركية واقلها باللامركزية، والكثيرون منهم ومن تلاميذهم كانوا ضيوفاً على مشانق السفاح في 6 ايار 1916 هؤلاء عكسوا جهادهم العروبي على المشرق وسكانه ليؤكدوا القومية العربية وحضارتها هي الحضارة العربية منذ دخول جيوش المسلمين اليها، وقد غلبوا في ذلك النظرة القومية العربية على الانتماء الدينيمسيحيا كان ام اسلامياً، وواكبهم في ذلك نظرائهم من المسلمين في الشام ومصروالجميع بتوافق أضفى صفة العروبة على اطوار الخلافة الاسلامية منذ الراشدين وخاصة في الخلافتين الاموية والعباسية قبل استيلاء الشعوبيين والقوميات والمرتزقة والمماليك على الامارات واخيراً باستيلاء الاتراك على الخلافة الاسلامية.
المسيحيون هم من كان عالماً باللغات اليونانية واللاتينية والفارسية… وساهموا اساساً بنقل تراث حضاراتها ومن سبقها واثروا بها نتاجهم الذي نؤكد اليه انها نتاج تلحضارة العربية وليست الاسلامية…
لذا نتج عنا مانسميه وبضمير مرتاح الحضارة العربية بمكونيها الرئيسين المسيحية والاسلام.
لقد كان المسيحيون في بلاد الشام والعراق ومصر وبتشجيع من الحكام والخلفاء ومنهم من حول بلاطه الى منتديات ثقافية وحتى حوارية في الاديان بكل انفتاح، كان هؤلاء رواد جركة التعريب والترجمة والتأليف، ولم يكونوا مجرد
لاهوتيين او كتاب كنسيين فتلك علوم بقيت في اطار الكنائس التي ينتمون اليها لكنهم بفعل تطورهم الموروث كانوا رواداً في كل العلوم والمعارف التي تشكلت منها الحضارة.
لقد كان المظهر الخارجي للحضارة المشرقية اسلامي بحكم الواقع والحاكم ولكنها كانت في ديناميتها ودمائها مسيحية، وحتى عكس اربابها المسيحيون مسيحيتهم عليها ليس فقط علماً ونبوغاً بل وسلوكاً رفيعاً اعطى مزيداً من احترام الخلفاء لهم .
الحضارة العربية هي مسيحية- اسلامية، وهكذا لعب المسيحيون العرب الدور الرئيسفي بناء الفكر العربي وبالتالي بناء الحضارة العربية…
الحواشي
(1) “عيون الأبناء في طبقات الأطباء” (طبعة مولر الألماني تحت لقب امرؤ القيس بن طحان) القاهرة 1882
(2) “أخبار العلماء بأخبار الحكماء”( القاهرة 1226 ه)
(3) “كتاب الفهرست”( القاهرة 1348 ه)
(4)”تاريخ حكماء الاسلام” (دمشق 1946)
(5) عبد الرحمن بدوي” التراث اليوناني في الحضارة العربية” ( القاهرة 1946)
(6) “مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة” لابن كبر القبطي (نشره الاب سمير خليل اليسوعي- القاهرة 1971)
(7) “الدراسات السينائية” ( نشرته السيدة جيسون ) ج5 لندن 1896ص14
(8) مجلة “كلمة الشرق”- مقال باسيل باسيل (1968-1969)
(9) “تاريخ المجامع” نشره مع ترجمة افرنسية بطرس شبلي في سلسلة الآباء الشرقيين.
(10) المخطوط الفاتيكاني العربي رقم 187، ص65 ومايتبع ورقم 77 ص 194
(11) المخطوط رقم 410
(12) غراف تاريخ الأدب المسيحي العربي بالألمانية.
(13) قسطنطين باشا:” القديس يوحنا فم الذهب في الأدب العربي بالفرنسية
(14) غراف
(15)الأصفهاني: “كتاب الأغاني”.
(16) غراف
(17) القفطي: أخبار العلماء بأخبار الحكماء
(18) غراف
(19)” الرد على النصارى”، طبعة فنكل القاهرة1925 ص15
20 الأب لويس شيخو اليسوعي” النصرانية وآدابها قبل الاسلام” بيروت 1919-1923
(21)سيرة ابن هشام
(22) هنري لامنس” الديارات القديمة في حوران
(23) الأصفهاني” الأغاني ج2″+ ابن فضل الله العمري
(24) البكري :” معجم ما استعجم”+ياقوت الحموي”معجم البلدان”
(25) نشره لويس شيخو بجزئيه في بيروت(1906و 1909)
(26) نشره الاب لويس شيخو في بيروت 1902 واسكندر فاسيليف في باريس
(27) غراف” تاريخ الأدب المسيحي”ج2
(28) ابو البركات ابن كبر، كتاب”مصباح الظلمة”
(29)المخطوط 173 من المخطوطا العربية المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس
(30)ابن ابي اصيبعة:”عيون الأبناء في طبقات الأطباء” ج2، ص87
(31) غراف
(32) المسعودي: كتاب “التنبيه والاشراف”
(33)بركلمان:”تاريخ الأدب العربي”
(34) رافائيل بيداويد:” رسائل البطريرك النسطوري تيموثاوس الأول”
(35) المخطوطات البطريركية الانطاكية الارثوذكسية 165+181+200
(36)ابن ابي اصيبعة:”عيون الأبناء”
(37) القفطي:” أخبار العلماء بأخبار الحكماء”
(38) غراف:”تاريخ الأدب المسيحي العربي”
(39) ” أخبار العلماء بأخبار الحكماء.”
(40) بركلمان:” تاريخ الأدب العربي”
(41) “أخبار العلماء بأخبار الحكماء.”
(42) ” مصباح الظلمة”
(ملاحظة هامة يرجى ممن يود الاقتباس او النقل من هذا المقال ذكر المصدر)