* …وتبقى الطفلة التي نسيها الزمان ع سطح الجيران
* اللغة التي يتكلم بها القمر : فيروز !!
* صوت الحقول أم صوت عاشقة تملأ دقات قلبها العالم …؟
* الأغنية التي تتراقص بين ليل القبائل وليل الخزامى…
* …وأنت البدوي الذي يحمل الجمر على باب خيمة !
نبيه البرجي
في أثناء انعقاد مؤتمر مدريد في خريف العام 1991، رحتُ أبحث في إحدى الأمسيات، أنا الآتي من ذلك البكاء العتيق (لكأنّه بكاء أمرئ القيس على الأطلال) عن مقهىً يشبه المقهى الذي كان يرتاده شاعر إسبانيا العظيم فريدريكو غارسيا لوركا. بالمصادفة الفذّة عثرتُ على المقهى الذي كان مكتظّاً بالسيّاح من كلّ الأجناس والألوان. كلٌّ مع امرأته، إلّا أنا وذاك الكهل الإسباني الأنيق بملامحه العربيّة. جلسنا معاً إلى طاولة واحدة ورحنا نتحادث.
فوجئت بقوله إنّه من أصل عربي. أطلعني على بطاقة هويّته واسم عائلته: MEDINE أي محي الدّين.. وقال لي إنّه كان كولونيلاً في جيش الجنرال فرنشيسكو فرانكو إبّان الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وكيف كان هذا الأخير يجثو باكياً في كلّ ليلة أمام صورة للسيّدة العذراء..
المُثير إنّه من عشّاق فيروز. ثمّة صديق عربي لابنه الطبيب أهداه شريطاً مسجّلاً لها وهي تؤدّي الموشّحات الأندلسيّة. قال “صوتها الذي يصل إلى أقاصي القلب، يجعلني أشعر كما لو أنّ مناديل المرمر في غرناطة، والتي تتلألأ بين يديها، إنّما تتلألأ أيضاً بين يديّ”. وكانت ليالي الوصل في الأندلس..
لم أكُن أعلم، وأنا القرويّ الآتي من تغريبة بني هلال، كيف تأثّرتُ إلى ذلك الحدّ بالثقافة الفرنسيّة. هزّتني إديث بياف، وهي تغنّي بقلبها المحطَّم لعاشقٍ ترك في صدرها جرحاً قالت إنّه يشبه زهرة الأقحوان، وارتحل. وأيضاً بشارل أزنافور وهو يضرم الحرائق في عيون الباحثين عن امرأة مستحيلة، إذا كنتم قد تعرّفتم على شاعر قال لها “أنت امرأة كثيرة، وطوال هذا العمر، طوال هذا الانتظار، لم أكتشف منك سوى القليل”.
الذي جعلني أفتن بفيروز أستاذي في مدينة زحلة سعيد عقل. كان حديثه عنها صلاة. قصيدة تتراقص بين ليل العتابا والميجانا وليل الخزامى. وجهه المهيب الذي كأنّه وجه جبل صنين كان يتحوّل إلى وجه طفل (وينسانا الزمان عَ سطح الجيران).
يداه وهُما تُراقصان حيناً الهواء، وحيناً اللّغة، كانتا تغرورقان في فرحٍ إغريقي. حاوِلوا أن تبحثوا عن الوجه الآخر للتراجيديا الإغريقيّة.
اللّعبة الفلسفيّة
حدثّنا مَن كَتَبَ عن يارا “الجدايلها شقر اللّي فيهن بيتمرجح عمر” عن اللّعبة الفلسفيّة في أغنيات فيروز، سواء كان هو أم الأخوَيْن رحباني أم جوزف حرب، أم أيّ آخر، صاحب الكلمات. هنا “يا زماناً ضاع في الزمن”. أليست اللّعبة الفلسفيّة، اللّعبة الوجوديّة في أقصى تجلّياتها؟ “تعا تا نتخبّى من درب الأعمار/ إذا هنّي كبروا/ ونحنا بقينا صغار/ وسألونا وين كنتو/ ليش ما كبرتو إنتو/ منقلُّن نسينا/ واللّي نادى الناس/ تا يكبروا الناس/ راح ونسي ينادينا”.
أكثر بكثير من أن تكون اللّعبة الكلاسيكيّة. لنتذكّر الفيلسوف الفرنسي جان جينيه، وهو يتحدّث عن تلك “الآلة المجنونة” التي تُدعى الزمن، وقد دقّ على بابه حاملاً إليه “حقيبة النسيان”، ولكن “أيّ مقايضة عدميّة تلك بين الموت والنسيان؟!
مع فيروز، كناطقة أبديّة باسم البحيرات، لا مجال البتّة لأيّ كلامٍ عن الهزيع الأخير من العمر، أو عن الهزيع الأخير من الحياة. أخذنا علماً بأنّها تمكّنت من الاختباء، وبقيَت هكذا في ريعان الصبا. حتّى ولو كَتَبَ شارل بودلير عن “أحزان السنونو حين تشيخ” على أشجار الأكاسيا كعاشقة للضفاف. هل هذه حال فيروز حقّاً؟ حين أتماهى مع “السيّدة” وأصرخ في هذا العراء “يا إلهي”!!. المشهد هكذا في طفولتي التي هي قريتي. وكنّا الضفاف البشريّة المُبعثَرة بين ثقافة السنونو وثقافة الأكاسيا!!.
يا سيّدتي، حين أصغي إليك أعود بدويّاً قديماً يحمل الجمر على باب خيمة. لا أدري لماذا أقفلتْ ليلى باب الخيمة بالشموع؟..
حين زارت داليدا لبنان، وكان لبنان لا يزال لبنان، التقيتها لأرسمَ لها بكلماتي لوحةً حول ما في داخلها؛ إذ قالت إنّها تتمنّى لو تُغنّي حافية القدمَيْن على أرصفة شارع الحمراء. أَدهشتني بقولها إنّها خجولة لأنّها تغنّي في بلد فيروز. وحين سألتها: لماذا؟.. أجابت “لأنّ هذه الديفا تملأ المكان، عبقريّة المكان. لا مكان لأيّ صوت آخر، ولو من كوكب آخر”.
وقالت إنّها ترى، أجل ترى، صوتها في الشوارع، وفي أوراق اللّيلك، كما في وجوه الناس، سواء المُتعبين منهم أم الذين يتسلّقون بخفّة جدران الحياة. “في هذه الحال عليّ أن أبحث برؤوس أصابعي عن مكان لي”. أخبرتها أنّ عاصي الرحباني قال لي إنّ فيروز تحبّ صوتها.. “ظهرت البهجة في عينَيْها، وعلّقت “اذاً لن أتسلّل إلى قلوبكم مثل لحظات الغسق، بل سأدخل مثلما يدخل الهواء العليل الآن إلى حيث نجلس”.
أرسطو وألفيس بريسلي
هكذا ترعرعت أحاسيسنا، أحزاننا، أفراحنا، أحلامنا، أزمنتنا (أزمنتنا برقصة التانغو مع الصنوبر) على أغنيات فيروز التي أثارت دهشة موريس جار، مؤلِّف الموسيقى التصويريّة الشهير، حين غنّت في الأوليمبيا في باريس “فايق يا هوى” وأُضيئت لها الشموع (والدموع).
مجلّة “الفيغارو” كَتبت عن “امرأة آتية من الشرق أيقظت القلوب التي دخلت عنوةً في … لَيل الرخام”. وقالت ما من مطربة في التاريخ بذلك التنوُّع في الصوت حتّى لَتحتار، هل يتناهى إليك صوت الحقول، وصوت الغابات، أم صوت عاشقة تملأ دقّاتُ قلبها العالَمَ؟”. تلك التي غنّت “إلى راعية”، وحيث الحنين إلى العشب الذي يُضاجع أزهار اللّؤلؤ على أنغام الناي أو على ايقاع الريح”، هي التي غنّت “كيفك إنت؟” بصيغةٍ تبدو لا فيروزيّة للوهلة الأولى. في الوهلة الثانية تمتلئ بها.
في تلك اللّيلة الدمشقيّة
محمّد الماغوط في تلك اللّيلة الدمشقيّة التي تخلّلتها تشكيلة من أغنيات فيروز، إذ وصف أغنياتها بسمفونيّة المطر الذي يقتل الضجر في عالَم كلّ ما فيه يوحي بالكآبة، قال “حين يأتيني صوتها أغدو ذلك الآخر الذي يُراقِص بردى بدلاً من هوايتي القاتلة في مُراقَصة العدم”!
هو أيضاً لفتته اللّعبة الفلسفيّة في ما وراء الصوت “الذي يترك لديّ علامات استفهام لا تحصى. مثلما أشعر بأنّ عصا أرسطو تدقّ على صدري؛ أتذكّر الفيس بريسلي وهو يلاعب بالروك أن رول ذلك الصخب الذي بات يستوطن حتّى جدران منازلنا”.
عقب زيارته بيروت، قال الروائي الأميركي دوغلاس كنيدي “هنا لا تدري ما إذا كنتَ في الجنّة أم في جهنّم”! ردَّ عليه صلاح ستيتيّة، الشاعر اللّبناني بالفرنسيّة: لو زرتَ فيروز لعلمتَ أين أنت، ليس في بيروت فحسب، بل وفي كلّ مُدن الدنيا”.
شيء من هذا القبيل قاله الإعلامي التلفزيوني الفرنسي فريدريك ميتران، ابن شقيق الرئيس فرنسوا ميتران الذي أصبح وزيراً للثقافة؛ وقد وضع شريطاً وثائقيّاً عنها بعدما أجرى معها حديثاً تلفزيونيّاً وصفها خلاله بـ”السيّدة التي تسكن العالَم”.
ألَم يقُل وزيرٌ فرنسي آخر للثقافة.. جاك لانغ، وهو مثقّف بارز قلَّدها وسام الآداب في حفلٍ مهيب في القصر إنّ صوت فيروز الملكيّ:(LE PALAIS ROYAL) يجعله يشعر أنّه في الجنّة، بعدما كان قد تعرّف إليها حين كان في العشرين من العمر، ولحقَ بها إلى بعلبك ليعيش ليلةً سحريّة في معبد باخوس؟
في ذروة الأزمة (أو الأزمات) اللّبنانيّة، وفي الذكرى المئويّة لإعلان قيام “دولة لبنان الكبير”، زارها الرئيس إيمانويل ماكرون ليتحدّث بعد ذلك عن “ذلك اللّبنان الذي يُفترض أن يبقى من أجل بقائنا كمُقاتلين من أجل الأمل”، كما نَقَلَ مُراسِلٌ تلفزيونيٌّ فرنسيٌّ آنذاك.
الآن، وقد تجاوزتِ منتصف الثمانينيّات من عمركِ يا سيّدتي، وقد أَدمنتِ الظلّ، إلقِ بأوراق الروزنامة جانباً. حتماً، هذه ليست أوراق العمر التي تُشعشع في أغنياتك. أنتِ الطفلة التي نسيها الزمان عَ سطح الجيران. هناك نراك. هناك فقط لأنّك آخر ما تبقّى لنا من وطنٍ كان لسنواتٍ خَلَتْ (وسيكون) أريكة القمر.
في القاهرة قال لنا أمل دنقل: “الثالوث المقدّس عندنا النيل والأهرامات وأمّ كلثوم”. كيف تتحدّث في لبنان عن أعمدة جوبيتر في بعلبك، ولا تقول إنّها هناك. ألَم يقل الفنّان التشكيلي البعلبكي رفيق شرف، المأخوذ بصورة عنترة بن شدّاد عن الأباطرة الرومان، “لقد رأيناهم واحداً واحداً يهتفون لها.. من أجل صوتك الذي امتلأ بلوعة العشّاق، وبلوعة القياصرة، بَنيْنا هذه القلعة”؟
التي غنّت لبيروت، غنّت لمكّة وللقدس، وغنّت لدمشق؛ غنّت لكلّ العرب. لا جدار بين القلب والقلب. هكذا يقول صوتها. من أقاصي المشرق إلى اقاصي المغرب يردّدون “نعشق هواءكم ونعشق فيروز”. في الأوليمبيا كان هناك الخليجي، والمصري والسوري والمغربي والجزائري والتونسي والفلسطيني. كلّهم صفّقوا لها، وقفوا لها. هذه المرأة تختزل أحزان العرب، وأفراح العرب، وجراح العرب، وأيّام العرب.
حقّاً، عبقريّة التنوّع. هذا ما جعل محمّد عبد الوهّاب يقول إنّ التاريخ سيبقى حائراً، ربّما لقرون، كيف يأتي بفيروز أخرى. هذا الصوت يفتح أبواب التاريخ حين يفتح أبواب القلب. أين نحن الآن، والمغنّون والمغنّيات يتناسلون على الشاشات مثلما تتناسل الأرانب…
بل أين ثقافتنا؟ لوي آراغون، صاحب “مجنون إلسا” على خلفيّة أندلسيّة، وصفَ أبا الطيّب المتنبّي بأنّه “أعظم شاعر في التاريخ”. رائعٌ الألمانيّ غونتر غراس حين تحدّث عن “ثقافة التفاهة”. من زمان ناشدَ سعيد عقل في زاويته الصحافيّة “أجراس الياسمين” الأجهزةَ الأمنيّة والقضائيّة بمُلاحقة “كلّ مَن يلحق الأذى بأحاسيسنا”!
البعض يخشى أن يضيع صوت فيروز بين ذلك الركام من الأصوات التي الكثير منها يشبه هدير الجرّارات الزراعيّة أو صهاريج المازوت. ذاك الصوت الذي يتفاعل مع جدليّة الأزمنة. من هنا الدعوة إلى حماية التراث الفيروزي من “قراصنة القرن”.
صقيع الثقافات
ربّما كانت المشكلة عالَميّة. التدنّي الدراماتيكي في كلّ أشكال الإبداع. تحت عنوان “صقيع الثقافات”، كَتَبَ المُخرج الهوليوودي ديفيد لين (لورنس العرب، الدكتور جيفاغو، جسر على نهر كواي) عن الزلزال الذي أَحدثته الشبكة العنكبوتيّة في الثقافات.
لاحظ أنّ التكنولوجيا أو السوبرتكنولوجيا التي أوشكت أن تنقلنا من حقبة الزمن إلى حقبة ما بعد الزمن قد تنقلنا من الإنسان إلى ما بعد الإنسان، وربّما إلى ما قبل الإنسان، ليسأل ما إذا كان فرنسيس فوكوياما الذي أَطلق نظريّة “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” يقصد نهاية الإبداع البشري… تالياً، نهاية الثقافات. وقال “لكأنّنا نحلّ اللّيدي غاغا محلّ إيلا فيتزجيرالد (اللّيدي إيلا)”، ليسأل “هل هو الصعود أم الهبوط إلى قعر اللّامعقول..؟
حين ننتقل إلى الخشبة اللّبنانيّة، نسأل ما إذا كانت الأصوات الاستثنائيّة أمام أزمة البقاء واللّا بقاء. ذاك الطوفان من الوجوه (اللّا وجوه) التي تُغطّي الشاشات. كثيرات بالصوت الذي يُشبه ثغاء الماعز، بِتنَ من الأسماء البرّاقة، ما دمْنَ يعتمدْنَ على الإثارة، وأحياناً إلى حدود الابتذال.
المشكلة في هذا الطراز من المغنّيات أو المغنّين الذين يزرعون المسرح بحركاتٍ بهلوانيّة لكأنّهم في حلبة لمصارعة الثيران، لا في المكان الذي يُفترض أن يتواصل مع القلب، لا مع الغرائز ولا مع الأقدام. هؤلاء الذين يشبهون الألواح الخشبيّة الناطقة (أو الرسوم المتحرّكة إن شئتم) يستقطبون الملايين في أرجاء العالَم العربي. هل ترانا وصلنا الى هذا الحدّ من الضحالة والخواء…؟
أشياء كثيرة وجميلة انكسرت. ترانا نُبالغ ونحن الذين بأمسّ الحاجة إلى استعادة لغة الروح إذا قلنا “من هنا مرّ البرابرة”، ولكنْ بملابس زاهية وبموسيقى صاخبة يضيع فيها الصوت وتضيع فيها الأحاسيس.
إعادة تأهيل القلب
داخل هذا الركام ولبنان الذي طالما فاخرَ بأنّه مركزٌ للإشعاع، وحيث كان عملاقان مثل محمّد عبد الوهّاب وأحمد شوقي يَعتبران أنّ قضاء ليلة من ليالي الصيف في “جارة الوادي” (زحلة)؛ وحيث أُقيم تمثالان لهما، يعني الاغتسالَ بالسحر وإعادة “تأهيل القلب”، ثمّة مَن يدعو إلى تشكيل “جبهة للدفاع عن خطّ الدفاع الأخير”، أيّ ذاك اللّبنان الذي عشقه العرب، بل وعشقه العالَم.
انكسار الرؤيا
لا تَدعوا صوتَ فيروز ينكسر، لكأنّه “انكسار الرؤيا”، كما كان يقول جورج جرداق. مثلما تحمون غابة الأرز من العواصف العاتية، ومن الآفات، احموا عبقريّة فيروز من الأوبئة التي تغزو الشاشات والإذاعات وحتّى الشوارع وغرف النوم. تلك الأوبئة التي تُقفل ما تبقّى من أبواب القمر…
يوم لفيروز، تلك القدّيسة المتنسّكة داخل محرابها (أو داخل صوتها). نعلم أنّ صوفيا لورين قالت “لم أكُن أعلم أنّ الزمن يشبه، أحياناً، عربة الموتى”. ولكنْ مَن قال إنّ الروح تشيخ، الصوت يشيخ، حين تكون الروح مشرَّعة على الباحثين عن لحظة الروح، وحين يكون الصوت مشرَّعاً على الباحثين عن لحظة الجمر؟
من الطبيعي أن نتساءل: ماذا حين تتأمّل فيروز من وراء الزجاج (ولا نقول زجاج القلب)، ولا ترى سوى الحطام؟ خائفون، خائفون فعلاً أن تتحوّل عيونُها، مثلما تحوّلت عيونُنا، إلى حطام..
كُتب وأفلام عن إديث بياف وعن داليدا وعن بريتني سبيرز وعن سيلين ديون التي ذهبت بنا إلى حدود الهذيان بأغنيتها “قلبي يمضي قدماً” (في فيلم تايتانك). لا كُتب عن فيروز. لكأنّها عابرة سبيل. وقْعُ أقدامها على الرمال. سألنا. قيل لنا إنّها هي مَن اختارت المسافة. في الغرب تنتفي المسافة بين الكاتب والفنّان أو الفنّانة. إذاً تركتنا نقرأها، نقرأ حياتها وما وراء حيلتها، في كلّ أغنياتها.
لن نتوقّف عند ذلك السؤال الكلاسيكي: مَن صَنَعَ القبيلة الرحبانيّة؟ القبيلة الجميلة التي نصبت خيامها في كلّ ديار العرب. كما لو أنّ أحدهم يسأل عن الفارق بين الفراشة والوردة، بين رقصة اللّقلاق ورقصة الفالس. هي رزمة من أشعّة الشمس، وكفى…
كعرب، ولا يزال طيف زرياب يتنقّل في خيالنا، معنيّون بفيروز، وبالقبيلة الرحبانيّة ككلّ. هنا فصول فذّة من تراثنا الفنّي والثقافي والفولكلوري، ما يُشكّل شخصيّتنا الحضاريّة التي بحاجة دائمة إلى ديناميكيّة الإبداع التي رافقت الحقب الزاهية من تاريخنا، حتّى أنّ هناك مَن اقترحَ إدخال مادّة على منهاج كليّة الفنون الجميلة بعنوان: “فيروز” التي وصفتها الصحافة الفرنسيّة، إثر زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لها بـ “المرأة الظاهرة”.
النقّاد الفنيّون لاحظوا أنّها ليست كغيرها من المطربات الشهيرات بَقين داخل “الخزانة الواحدة”. إمراة متعدّدة الأصوات ومتعدّدة الأبعاد. من أصابع عاصي ومنصور الرحباني، إلى أصابع فيلمون وهبي وزياد الرحباني (وحتّى محمّد عبد الوهّاب). المسألة ليست في تعدُّد أو تنوُّع المُلحّنين، وإنّما في التكيُّف المُذهل بين الألحان، بما في ذلك الألحان المعقّدة والصدى لدى المتلقّي.
وحتّى بالنسبة إلى المدارس الموسيقيّة والغنائيّة، من سيّد درويش (طلعت يا ما حلى نورها) إلى زياد الرحباني (اشتقتلّك)، وإن كان معلوماً أنّ الأخوَيْن رحباني أَدخلا إلى بعض أعمالهما الفيروزيّة لمساتٍ من يوهان شتراوس وبيتر تشايكوفسكي، إضافة إلى جوزف هايدن وفريدريك شوبان وحتّى لويس أرمسترونغ (الجاز). لن ننسى التقاطُع السحري بين الترانيم الكنسيّة والموشّحات الأندلسيّة.
أكثر من 800 أغنية. تنوُّعٌ عبقري في الأداء، وفي التفاعُل. من الأغنيات التي تعكس بهجة الطبيعة، إلى الأغنيات الوطنيّة البعيدة عن الرتابة. هنا نضيع بين لهيب الأحاسيس ولهيب الأقدام (خبطة قدمكم)، ومن الأغنيات الرومانسيّة، حيث سوناتا القمر تحت شبابيك العاشقة، إلى الأغنيات التراثيّة التي تأخذنا إلى ليالينا العتيقة، وذكرياتنا العتيقة التي قد تكون زادنا الأخير في هذه الأيّام.
ما مِن لحظة، ما مِن كلمة، في غير مكانها. هل ندمت على أغنية ما؟ لا أدري. قرأتُ ذات يوم (لاحظوا مدى الشفافيّة) أنّها خائفة من أن تكون بعض الأغنيات التي أدّتها هي التي ندمت!!
رجاء، لا تدقّوا على بابها. أتركوا فيروز لفيروز. هكذا فهمنا كصحافيّين يفترض أن نكون على تماسٍّ مع النجوم. هذا لا يمنعنا من التساؤل، ولو همساً، ألسنا كلّنا ضحايا الزمن، ويجرّنا الزمن إلى حيث يشاء؟
صوتها يبقى الاحتياطَ الاستراتيجي للبنان. هي الذهب، وهي الجوهرة، أهمّ بكثير من احتياط الذهب في أقبية البنك المركزي، أو في أيّ أقبية أخرى. سفير عربي في بيروت قال لنا في بدايات الأزمة: “كيف للهيكل أن يتداعى وعندكم حارسة الهيكل؟”. ماذا يُمكن لـ”ناطورة المفاتيح” أن تفعل أمام الأبواب الصدئة والرؤوس الصدئة؟
هنا وفي هذه الأيقونة، ثنائيّة الصوت والقلب. ذات الصوت الملائكي أيضاً ذات القلب الملائكي. كلّ مَن عمل معها على مدى زهاء نصف قرن، تحدَّث عن الرهافة في التعاطي. وجهها الذي يوحي أحياناً بالكثير من الجديّة أو الجفاء (والجفاف)، لا يعكس قطعاً ما في داخلها.
بمنتهى الرقّة تتعامل مع سائر أفراد الفريق وصولاً إلى كلّ العاملين في المكان. تَطرب للحن الجميل وتُدنْدِن وتضحك بصوتٍ عالٍ للنكتة الخفيفة الظلّ. هكذا قال سفير أوروبي زارها مع زوجته اللّبنانيّة: “تريدون خلاص لبنان؟ لتكن هذه الأيقونة… الملكة”.
وقال “بتّ أخاف عليكم من فائض الكراهيّة الذي يستشري في كلّ مكان. أنتم الذين كنتم توزّعون الهواء والشعر على ضيوفكم. لا تنتهوا هكذا، أرجوكم. اغتسلوا ليل نهار بأغنيات فيروز، ولسوف ترون كيف تعودون قبلة العالَم وقلب العالَم”.
بالحرف الواحد قال زائر عربي كبير “ابقوا مكانكم، ولا تقلّدوا الطيور المهاجرة. هذا المكان من الأرض لا يليق إلّا بكم”.
لن نُهاجر ونترك فيروز وحيدة تنظر من وراء الزجاج لترى بقايا الزجاج البشري على أرصفة المرافئ. هي المرفأ الذي ترسو عنده الأشرعة من أيّام الأرجوان.
وقلنا إنّها اللّغة التي يتكلّم بها القمر. مثلما هي أيقونة لبنان، هي أيقونة العرب.
كتب الاستاذ نبيه البرجي على صفحته