الاديبة الدمشقية الثائرة ماري عجمي
مقدمة
لقد أسهمت المرأة السورية إسهاماً كبيراً في النضال الوطني والحفاظ على اللغة العربية والدعوة إلى الاستقلال والتضامن العربي.
في تاريخ المرأة السورية الحديث صفحات مشرقة لا تقل نصاعة عن صفحات رجالات سورية الكبار الذين حققوا لسورية الاستقلال وساروا بها في معارج التقدم والنماء، فمن يبحث عن إسهام المرأة في مجالات النضال الوطني ورقي المجتمع السوري، يقف على صفحات مشرقة لها، مازالت مجهولة، وهي جديرة بالوقوف عندها وتوضيحها استناداً إلى وقائع ووثائق ذكرها المؤرخون.
وعلينا نحن الكتاب والعاملين في حقل التاريخ السوري الحديث أن لا نبخس حق المرأة السورية ونطمس تاريخها الوطني المشرق، وعلينا أن نؤكد أن المرأة السورية في أوائل القرن العشرين، كانت مهمشة، وقلما كانت متعلمة، ومع ذلك شاركت بني قومها بتدعيم أسس النهضة الأدبية والاجتماعية، وبالدفاع عن عروبتها، وبمناهضة مختلف أنواع الظلم والاستغلال التي حاقت بسورية في زمن الاحتلال العثماني واواخره اي عهد الطورانيين (جماعة الاتحاد والترقي)، ولاسيما في حقبة طغيان رمزهم في ذاك العهد ذلك العهد أ جمال “السفاح” ونيازي وطلعت.
لقد كان أول صوت نسائي ارتفع لدعوة المجتمع إلى النهوض، وحث المرأة على الأخذ بالعلم والوعي الوطني هو صوت الكاتبة “ماريانا مراش” في أواخر القرن التاسع عشر، ومي زيادة، وعند الحديث عن دور المرأة السورية الوطني في الربع الأول من القرن العشرين لابد من استذكار الأديبة الشاعرة “ماري عجمي”، أول امرأة صحفية سورية.
فمن هي يا ترى ماري عجمي؟
إنها أديبة رائدة، ومناضلة ثائرة محترمة.
الولادة والاصل
ولدت ماري عجمي في دمشق القديمة بمحيط الكاتدرائية المريمية في الرابع عشر من أيار عام 1888، والدها هو يوسف عبده عجمي من كنيسة الروم الأرثوذكس، وأصله من حماه، انتقل جدها الأعلى إليان الحموي إلى دمشق في القرن 18، ورحل جدها يوسف من دمشق، الى بلاد العجم (بلاد فارس) بتجارة الحلي والمصوغات الذهبية فقيل له العجمي، وبذلك اكتسبت العائلة كنية عجمي وتفرع نسله الى ثلاث أُسر: عبد النور، وصروف (سيرافيم واليها ينتسب الخوري اسبريدون صروف تلميذ الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي والذي صار واعظاً للكرسي الاورشليمي)، والعجمي.
والدها هو يوسف عبده العجمي أحد اعضاء المجلس الملي الأرثوذكسي البطريركي الدمشقي، ووكيل الكاتدرائية المريمية، وكان رجلاً محباً للعلم والأدب.
اما والدتها فهي زاهية بنت جرجي يورغاكي واصل اسرتها من اليونان الوافدين الى دمشق بنتيجة المظالم العثمانية، وكانت عائلة عجمي تسكن في الحارة الجوانية سكن الطبقة الغنية من ارثوذكس دمشقوهي حارة جوانية حصينة تقع في زقاق طالع الفضة خلف مبنى مدرسة الآسية الارثوذكسية وكنيسة القديس يوحنا الدمشقي الأرثوذكسية، وبقيت ماري عجمي تعيش مع اسرتها بعد وفاة ابيها ومعها امها زاهية في هذا البيت الدمشقي الفخم حتى يوم وفاتها، وكانت تتمنى واصدقاؤها من الادباء والكتاب تحويل هذا البيت القصر الى متحف على اسمها يضم مقتنياتها وتراثها الأدبي والصحفي… بعد وفاتها.
وكان المثل الشعبي عند مسيحيي دمشق:” حط المية فوق المية واسكن في الجوانية” والسبب ان هذه المنطقة حصينة ضد الفتن الطائفية بسبب كونها حارة جوانية، وكانت مساكنها عبارة عن قصور تماثل قصر العظم وجورج الدحداح، ومكتب عنبر، وقصر النعسان، وكانت لذلك حارة سكنية للعائلات الأرثوذكسية الغنية من طبقة التجار الكبار والقناصل وتراجمة القناصل في القرنين 18 و19.
دراستها
وتعلمت بداية في مدرسة البطريركية الارثوذكسية للبنات، التي كانت معروفة “المدرسة الروسية” بسبب انها كانت بادارة الجمعية الامبراطورية الفلسطينية- الروسية الارثوذكسية التي كانت قد نشرت المدارس في بلاد الشام في الفترة مابين التسعينات في القرن 19 وتولت تحديداً ادارة مدرسة الآسية، ومن ثم تابعت دراستها في المدرسة الإيرلندية البروتستانتية للبنات وتقع في منطقة سفل التلة بدمشق القديمة على طريق القشلة.
وبالطبع، درست إلى جانب العربية/ التي أتقنتها/، اللغتين الروسية والإنكليزية فأتقنتهما مع معرفة بالفرنسسية تلقتها من المدرسة الروسية، وحصلت على شهادة المدرسة الايرلندية سنة 1903. ثم انصرفت إلى التدريس لمدة سنة واحدة، قبل أن تلتحق بمدرسة التمريض في الكلية الأمريكية ببيروت. لكن الطالبة على شغفها بالعلم لم تتمكن من المتابعة لأسباب صحية، فعادت إلى دمشق وعينت معلمة من درجة أولى في معلمة في المدرسة الروسية في عام1906
التدريس
مارست التعليم على التوالي في زحلة، وفي بور سعيد، وفي الإسكندرية بمصر عام 1908 حيث قامت بتدريس مادة الادب العربي كونها اتقنت اللغة العربية اذ عكفت على قراءة القرآن الكريم، ودرست بكل نهم بمفردها كتب التراث الأدبي، ودواوين الشعر العربي لكل الشعراء الفحول والمبدعين.
وأنشدت الشعر الرصين منذ مطلع شبابها بلغة متينة، وأسلوب مشرق عذب، استجابة لموهبتها الشعرية، ولمشاعرها الوطنية والإنسانية.
وعادت مجدداً الى دمشق، لتقوم مجدداً بالتدريس في “المدرسة البطريركية الارثوذكسية للبنات”(الروسية) حيث تلقت علومها الاولى وكان ذلك في عام 1908
كما علمت ايضاً وفي دمشق في معهد الفرنسيسكان للبنات في عام 1909، كما أنها علمت في فلسطين وفي العراق كذلك، وبهذا تكون قد درسّت في مدارس البنات في المشرق العربي كله تقريبا.
مجلة “العروس”
وكانت ماري تكتب خلالها بعض المقالات الصحفية، فالصحافة كانت عشقها الأكبر إلى جانب العلم كان لـها تطلعات أخرى. فهي تهوى الكتابة، وقلمها طيع في الشعر والنثر. والعصر عصر انتشار الفكر وإنشاء المجلات والصحف. كما هو عصر تفتح الوعي على الصعيدين: الإنساني والوطني. وكانت الصحف والمجلات شخصية فردية، أي أن صاحب المجلة يقوم بكل ما تتطلبه من أعمال، ويحرر إذا اقتضى الأمر جميع المقالات ويستعير لها الأسماء، وهكذا وجدت ماري أن عدداً من الصحف يفتح صدره بالترحاب لاستقبال قصائدها أو مقالاتها التوجيهية، وقد حررتها في البداية ـ وكما كانت تقتضي “الموضة” تحت اسم مستعار “ليلى” ـ وبعدما نالت شهرة ترضيها، تخلت عن “ليلى” المستعارة وعادت إلى ماري الأصلية. ولم تقف ضمن حدود وطنها، بل راسلت صحفاً في كل من لبنان ومصر، وبات لها اصدقاء وصديقات، ومعجبون بقلمها، وانطلقت هي تكتب عن الآمال المعقودة على النهضة، وكان التوجه التربوي غالبا في مقالاتها، ولا غرو في ذلك، أوليست هي معلمة ؟
ونتيجة لهذا الإرث الذي حملته ورصانة لغتها العربية، قامت بترجمته إلى عمل إبداعي ثقافي توّج في مشروع إنشاء أول مجلة نسوية في دمشق والمشرق كله وذلك في عام 1910 اسمتها “العروس” وكانت قد راسلت لذلك قبلاً جريدة “المقتبس” بدمشق، وصحيفة “المهذب” بزحلة.
لم تكن “العروس” اول مجلة نسوية، بل كانت مجلة تقدمية بكل مافي الكلمة من معنى، واحدثت ثورة في نظرة المجتمع نحو المرأة.
اذن العام 1910 كان موعد صدور “عروس” ماري العجمي وبذلك، تكون ماري قد حققت طموحا دغدغ مشاعر كل كاتب وكاتبة في تلك الحقبة. إذ صدرت خلال تلك الأعوام، عشرات الصحف والمجلات. وكانت منابر لأقلام أصحابها وصاحباتها في الدرجة الأولى، وإذا جاء مقال أو قصيدة، من كاتب لم ينشئ صحيفته بعد، فلا بأس، ينشر له في العروس محاطا بالحفاوة والتكريم.
أقبل القراء على مجلتها آنذاك، إذ وجدوا فيها مقالات وأبحاثاً قيّمة تعالج المشكلات الاجتماعية والتربوية، وتدعو إلى الأخذ بالعلم والوعي الوطني للنساء والرجال معاً، وتطالبهم بالذود عن الوطن والتمسك باللغة العربية.
وكانت بالتالي عبارة عن مجلة أدبية تربوية فكاهية، تستهدف المرأة، وتحمل بين طياتها مقالات وأقصوصات أدبية، بالإضافة إلى أبواب صحية تهتم بصحة المرأة والعناية بالطفل، وجعلت شعار المجلة “إن الإكرام قد أعطي للنساء ليزين الأرض بأزهار السماء.” وقالت للمرأة السورية في تقديم “العروس”:
إليكِ “العروس“ فرحبي بها غير مأمورة ليذهب عنها شيء… من حيائها، فتُسِرُّ إليك بمكنونات قلبها وشعائر موقفها“.
“عروسة لا عريس لها سوى الشعب الجاثي على أقدام حرتين يطلب بركة الوطنية تحت سماء العِلم والعَلم مسجلاً عقد قران عليها بمداد الفكر والقلب، مكللاً رأسيهما ببراعم الآمال وأزهار الحب.
كانت المجلة تطبع أول الأمر في حمص واستمرت إلى سنة 1914 حيث
ظلت تصدرها مدة أربع سنوات، ثم توقفت عن الصدور في سنة 1914 عند اندلاع الحرب العالمية الاولى بسبب أزمة الورق، حيث توقفت المجلة عن الصدور، عندئذ انصرفت إلى التعليم.
وبقي التعليم مهنتها ومصدر عيشها، لا الأدب “الذي لم يكن يطعم خبزا”. وفي سبيل التدريس، انتقلت سنة 1909 إلى الإسكندرية حيث عينت ناظرة لمدرسة الأقباط في تلك المدينة. غير أنها لم تلبث أن عادت تنتقل بين معاهد التعليم في سوريا، ولبنان، والعراق، وفلسطين، وحيثما حلت كانت تفرض شخصيتها بمواهبها الثلاث: التعليم، الكتابة، والخطابة. “العروس” لم تقو على عبور سنوات الحرب الصعبة، فتوقفت عن الصدور سنة 1914، أي مع نشوب الحرب العالمية الأولى، لتعود فتظهر سنة 1918، ولمدة سبع سنوات وصاحبة “العروس” لم توقف نشاطها الآخر، وهو التدريس، فانصرفت تمارسه في معهد انشأته ورعته بنفسها، ودأبت فيه، على غرس الحس الوطني الصحيح في صدور الطالبات، وتوجيههن في الخط القويم، كما غرست في نفوسهن اليافعة، بذور مناهضة للاستعمار العثماني التركي المتخلف والبغيض.
شهداء6 أيار 1916 وخطيبها الشهيد بيترو باولي
تحابت ماري عجمي ووكيل مجلتها في بيروت الشاب الوطني الغيور بترو باولي والمناضل ضد الاستعمار العثماني، الذي التقت به على حب الوطن بمسيرة نضالية ومحاربة الظلم والاستبداد فخطبها، ومالبث إلا أن اعتُقل بينما كان ذاهبا إلى بيت مري حيث له أخ مريض، فخدعه الشرطي، واقتاده إلى دائرة البوليس حيث قضى ثلاثة أيام اندلعت خلالها الحرب العالمية الأولى. فنقل السجناء وهو في جملتهم إلى دمشق. وعندما علمت به ماري جن جنونها، وأشارت عليه أن يهرب. لكنه لم يصغ إليها، إذ كان بريئا ولم يرتكب جرما يدفعه إلى الهرب وكان اعتقاله مع من اعتقالهم من قوافل الاحرارالوطنيين الداعين للحرية والاستقلال وبتوجيه من السفاح جمال أُوقفوا سنة 1915، وقد
ثارت ثائرتها من اعتقاله، وهي كانت تتحدى الجنود الأتراك وتذهب لزيارته في السجن في دمشق وتنقل إليه الرسائل وتشجعه وتشد من أزره، وكانت الخطيبة لا تنقطع عن مراسلته، حتى وهو خلف قضبان السجن. وأحيانا، كانت تكتب الرسالة ثم تحملها بيدها وتمضي إلى زيارته غير مبالية بما يحيط بها من صعوبة ومخاطر. وكيف تبالي بالخطر، والرجل الذي أحبت سجين، وهي تعلم أنه مظلوم في تلقي الأحكام الجائرة، دون أن يعطى فرصة الدفاع عن النفس؟… وبالطبع، لم يكن بيترو خطيبها السجين الوحيد، ففي سجن عاليه كما في سجن “جامع المعلقة” في دمشق، عشرات بل مئات السجناء. تحت الظلم والبطش التركي، ولكن الذين كانوا يثيرون اهتمامها (واهتمام الصحافة والرأي العام بالطبع) هم السجناء السياسيون وبينهم رجال الصحافة.
كانت ماري تحمل الرسالة إلى الخطيب بنفسها، فإذا استوقفها شرطي نهرته بعكاز لم يكن يفارقها، بسبب ضعف في إحدى ساقيها. أما إذا تمادى الحارس في وقاحته معها، استعانت عليه بالمتنفذين من وجهاء البلد. وأحيانا “كانت تستخدم قسطل الماء لابلاغ رسالة شفوية إلى أحد السجناء في قاع الزنزانة، وقد رشت الخفير أكثر من مرة بربع مجيدي ليسمح لها برؤية حبيبها بترو باولي حين كان يحضر الى البهو من سجن الجامع ” المعلق” وهو جامع أثري قديم يجري تحت ردهته الرحبة أحد فروع نهر بردى وكانت ردهته تضم 420 سجيناً من كل طبقات الأمة وهذا ماذكره الأديب عيسى فتوح في مقال له بعنوان” شاعرة دمشق”.
يقول عنها “رئيف خوري” في تأبينها: “نذرت حياتها نذراً للأدب، حتى ليمكن القول إنها ترهبت للأدب ولم تكن عروساً لغير القلم”. أسست مع السيدة “نازك عابد بيهم” النادي النسائي الأدبي، وانتخبت عضواً في الرابطة الأدبية التي أسسها الشاعر “خليل مردم بيك” وكانت المرأة الوحيدة فيها.
قال الشاعر “خليل مردم بك” فيها: لاأحب من غواية المرأة إلا غوايتها في الأدب، وأكثر مايعجبني من أدب المرأة هو سحر الحياء، وهذان المعنيان ماثلان في الآنسة ماري عجمي وفي أدبها. لقد أعطى الله هذه السيدة موهبة شعرية نادرة ولو أنها تفرغت لنظم الشعر ولم تصرف جلّ وقتها في التدريس والترجمة والمجلة لكانت تركت ديواناً ضخماً.
وظلت تراسل حبيبها بيترو، وتحمل له الرسالة بيدها، إذ لم يتوفر لها من ينقل كلماتها واشواقها إلى الحبيب فتقول:
“أخي السجين، أكتب إليك على ضوء القنديل، ولكن ما ينفع النور إذا كان القلب مظلما؟.. أراك على كرسيك الطويل وهو عرشك الجديد في مملكة المجرمين، تتلو على مسامعهم سمراً لطيفا يخفف من بلوائهم، فأنت في موقف قلما تسنى لكاتب إلا أجاد في وصفه، فلا تعبث بتأملاتك، بل قيدها، لأن الزمان قد قيد عليك الوجود بين المجرمين.. لقد نسيت العالم منذ رأيتك على هذه الحال.. خذ حرية كحريتي، إن شئت، وأعطني سجنا كسجنك…”
وفي رسالة أخرى تقول: “أخي السجين: أتدري أنك في سجنك أكثر حرية مني، وأن السلاسل والأقفال التي يغلون بها أيدي السجناء ليست بأشد مما توجه إلى ذاكرتي…”
وفي يوم، اقتحمت مقر الحاكم السفاح جمال الذي كان يذر الرعب في النفوس، وحظيت منه بمقابلة، وناقشته، وهي امرأة، في أمور كثيرة، وخرجت من المقابلة لتكتب مقالا وصفت فيه الرجل وما جرى بينهما، وكاد ذلك يقودها إلى السجن وربما إلى الموت.
لكنها، مع الأسف الشديد، لم تفلح في إنقاذ خطيبها ورفاقه…فلم تلق منه الا كل هزء حاقد، فوسطت البطريرك الارثوذكسي العظيم غريغوريوس الرابع الذي كان منذ توقيفهم يسعى لدى السفاح ليعفي عنهم ويوقف المحاكمات الصورية بحقهم، ويطلقهم قبل ان تتوسطه ماري عجمي… وعاود التوسط مراراً بعد توسطها، ولكن مثلث الرحمات كان يلقى دوماً من السفاح الوعود الخلبية…
ولأن الغدرسجية رئيسة من سجايا السفاح التركي والطورانيين اجمالاً وكل الاتراك عموماً من اتحاديين وعثمانيين وسلاجقة وسواهم من التركستان والمغول والايغور، فأصدر السفاح جمال الحكم بشنقهم، بدون محاكمة، وشنقوا في ساحتي الشهداء في بيروت ودمشق في وقت واحد فجر 6 أيار 1916، وكان منهم خطيبها الشهيد بيترو باولي، فكانوا أول قافلة من الوطنيين الأبرار احرار الشام الكبرى الذين أعدمهم جمال باشا السفاح.
أما قافلة الاحرار الوطنيين الثانية فلقد ذهبت ضحية طغيانه الأثيم، وخسرت بلادنا نخبة من رجالنا المناوئين للظلم، والداعين للحرية والاستقلال.، وقد استشهدوا شنقاً في السادس من أيار، في ساحة الشهداء، ببيروت، وساحة المرجة بدمشق
باترو باولي لم يتخل لحظة عن شجاعته، لا في مواقفه الفكرية، ولا الإنسانية، فها هو يصرخ وقبل أن يعلقوا الحبل في عنقه بلحظات:
“هلموا أيها الأخوان………………………إنها أرجوحة الأبطال
وأنت، يا تركيا الشقية…………………….حياتنا في ظلك ممات
ومماتنا في ظلك حياة…………………….فدونك إذن، هذه الروح
التي اقمت منذ عامين…………………….تحومين حول نزعها
بكل ما لديك……………………………من وسائل الإضطهاد
وماعهد سقوطك ببعيد………………….وهنيئاً لمن يعيش ليرى الرجاء
ولم يدعه الجلاد يكمل الحرف الأخير، إذ تقدم منه، وأحاط عنقه بالحبل. فرفس باترو باولي الكرسي بقدميه، ولسان حاله يقول:
“من لم يمت بالسيف…………………….. مات بحبل المشنقة”
نضالها ضد الاستعمار العثماني
حزنت ماري عجمي الرفيقة الحبيبة على خطيبها وزملائه المناضلين البررة حزناً كبيراً
لقد انفجرت كالبركان الثائر من الحزن الذي تغلغل إلى أعماق نفسها، عبَّرت عنه بمنشورات وزعتها بالخفاء عن أعين الجواسيس راح حزنها يتشظى عبر قلمها، فكتبت تخاطب الشهداء بنبرة تحمل إلى جانب الحزن، تحدي المرأة الجريح:
“أما تبرحون غارقين في رقادكم أيها النائمون؟
أما تعبت أجنابكم………….وملت من اللصوق بالرمال؟
قوموا، فقد نمتم طويلاً، إن نفحات الربيع مالئة الفضاء، والأطيار تتسابق على الأفنان، والجداول تناديكم: أن هيا، عودوا إلينا لقد كفى القلوب وجداً وأنيناً، قوموا، فإن الأمة التي تعرفتموها، لا تريد أن تتعرفكم…
لقد اتخذت لنفسها أحباباً من بعدكم يراوغونها مراوغة الثعالب، لقد غدت تطرد أبناءها، وتبيع حق حياتها للغريب، رخيصاً، وتجد لذة في امتصاص دمها
عودوا… فقد عادت الورود الحمراء إلى مآقينا…”
إن العلاقة التي كانت تربط بين الكاتبة ماري عجمي وحبيبها الشهيد باترو باولي وبقية شهداء الوطن المذبوحين، هي علاقة وثيقة، وحميمية، ومن هذا المنطلق، ومن أعماق اليأس والحزن، تستل قوتها، غير هيابة. فإذا قضى الحبيب ورفقته الابطال، ماذا تريد من دنياها، أكثر من وقفة شموخ واعتزاز؟…
نضالها ضد الاستعمار الفرنسي
كما لم تطأطئ رأسها، ولم ترضخ للعثمانيين البغاة الحاقدين واستمرت في النضال ضدهم تعمل لاستقلال وطنها، كذلك واجهت المستعمر الفرنسي الذي نكل بالشعب السوري وحاول استمالتها، لقد واجهته، بنفس الجلادة وذات البطولة.
ولم تتزوج…فكان الوطن واستقلاله هو زوجها المنشود الذي امضت عمرها لأجله.
فقد واجهت الإنتداب الفرنسي بالروح الوطنية الرافضة لكل إرادة خارجية. وها هي تدلي بشهادة أخرى هامة، إثر غزو الفرنسيين دمشق، فقالت:
بعد أيام قليلة انقضت على استيلاء فرنسا على دمشق جاءني شرطي برقعة، يدعوني فيها رئيس الوزارة الجديد إلى اجتماع أراد عقده. فكتب عليها كلمة “تبلغت” وأبيت أن ألبي الدعوة.. وبعد انعقاد الإجتماع، سألت عن القصد منه، فقيل لي أن مدير إدارة المطبوعات الفرنسية خطب في الحضور، وهم من الكتّاب، وعلمهم كيف يكتبون، ووزع عليهم ورقا بلا ثمن، ووعدهم بالمساعدة…
ولم يمر ردح طويل على ذلك، حتى طفق أحد معارفي يتردد علي كل مساء محاولاً اقناعي بأنني، إذا هتفت لفرنسا وأنشأت الفصول، معددة الاصلاحات التي تقصد والتي قام الانتداب علينا من أجلها، فزت بأجر شهري ضخم من الذهب الوهاج.”
وفاجأته يوما بقولي: ما هي تلك الإصلاحات التي تريد أن أكتب عنها؟
قال: “علي أن آتيكِ بقائمتها مرة بعد أخرى، وعليكِ إقناع القوم بها شفاهاً وخطابة وكتابة.”
قلت: “لتنجز فرنسا اولاً ما تعدنا به من الاصلاحات، فأترنم بذكرها مجانا… وكان جوابي هذا له آخر عهدي به.”
قالت في الاستقلال
” من ذا الذي يقول اننا امة لايليق بها أن تُمنح الاستقلال، لا تعرف أن تحكم ذاتها بذاتها؟ واسفاه حتى الآن لاتزال الأغراض تلعب بنا والضعف يكم الأفواه، والتحزبات تمثل بنا، فليعمل كل منا على إحياء الوطنية في قلوب أبناء سورية وبناتها، لأنه إذا استولت علينا فرنسا لاتجعلنا فرنسيين، ومحال إن حكمتنا بريطانيا أن نصير بريطانيين.”وإن دلت هذه الشهادات والأقوال على شيء، فإنما تدل على أهمية حضور تلك الأديبة وعمق تأثيرها في مجتمعها، ولدى قرائها ثم صلابة موقفها، وعدم تخليها عن مبادئها، برغم كل تهديد أو إغراء.
عودة “العروس”
وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في سنة 1918 استأنفت إصدار مجلتها “العروس” التي استقطبت خيرة أقلام كتاب عصرها، وعبرت عن ابتهاجها بانهزام الاتحاديين وخروج آخر جندي تركي من سورية وقد قضى في هذه الحرب شباب الوطن بدون سبب في كل ميادين القتال وبالذات على جبهة قناة السويس، وايدت الشريف حسين والأمير فيصل ابنه والثورة العربية الكبرى ولم تتوقف مجلتها عن الصدور حتى سنة 1925 بسبب اندلاع الثورة السورية.
يمكن تقسيم مجلة العروس الى ثلاثة اقسام أو ابواب هي
1- باب الأدب والتاريخ
2- اقتطاف ماغرزت مواده وتعددت فوائده في الشؤون البيتية وكيفية تمريض الأطفال والعناية بهم.
3- الفكاهات والنوادر والمناظرات والروايات الأدبية التهذيبية، لقد ارادت ماري عجمي ان تجعل من العروس منبراً للأدب والفكر الاصلاحي والتربية الأخلاقية ودعوة الى تحرير المرأة من قيودها والرجل من جموده فكانت رائدة في هذا الحقل، وكانت اول امرأة تصدر مجلة في سورية .
بدأت العروس ب32 صفحة ثم انتهت الى 64 صفحة في المرحلة الاولى من 1910-1914 صدرمنها ثلاثة مجلدات وتقع في اكثر من 1500 صفحة، وفي المرحلة الثانية 1918-1926 صدر منها سبعة مجلدات تقع في حوالي 5400 صفحة، وبهذا يكون مجموع ماصدر منها 11مجلداً في 6900 صفحة.
وكتب بها كبار كتاب وادباء ذاك الزمان منهم: جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، جميل صدقي الزهاوي، معروف الرصافي، إسماعيل صبري، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، شبلي الملاط، الشاعر القروي، الأخطل الصغير ، إلياس أبو شبكة، شفيق جبري،عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، فارس الخوري، وسواهم إضافة إلى بعض النساء ما يدل على أهمية المجلة وانتشارها في عواصم العالم العربي وبلاد الاغتراب كذلك.
متابعة المسيرة
عاصرت ماري عجمي الأحداث المؤلمة التي شهدتها سورية فانفجر قلمها باكياً مثل قلبها في خلالها، وكرست حياتها للتدريس، كما أسهمت في تأسيس النادي النسائي الأدبي بدمشق في سنة 1922. ويوم أقام ذلك النادي احتفالاً كبيراً في 10/10/1922 بمناسبة زيارة الأديبة مي زيادة لدمشق، حضره وخطب فيه لفيف من صفوة الرجال والنساء أمثال الأديبة السيدة “روز عطا الله شحفة” رئيسة النادي، والأديبة الآنسة “ماري عجمي”، والسادة: “الدكتور مرشد خاطر، والدكتور توفيق قندلفت، وفائز الخوري، وشقيقه فارس الخوري وأنطون الأشقر”، والشاعران “خليل مردم بك” و”شفيق معلوف” الذي استهل قصيدته بهذا البيت المشهور
“بنت الجبال، ربيبة الهرم………………. هيهات يجهل اسمها حيُ
وتابعت مجلة العروس صدورها رغم التضيق عليها في 11/10/1922 وكرست عدداً كبيراً من صفحاتها لوصف الاحتفال هذا، ونشر الخطب والقصائد التي ألقيت فيه، والإطناب بمزايا المحتفى بها مي زيادة وكتبت ماري عجمي تقول: “لقد قمت بزيارتها في فندق فيكتوريا إثر وصولي إلى دمشق بصحبة الآنسة المثقفة “أليس قندلفت”، وصرفنا ما ينوف على الساعتين في محادثة ميّ، ثم ودعناها وفي النفس نزوع إلى البقاء معها”.
هذا ماورد في ترحيب ماري عجمي بمي زيادة في الاحتفال الشهير الذي اقيم تكريماً لها في مقهى قصر البللور في القصاع.
بانتهاء الاحتفال وقفت “مي زيادة” وألقت كلمة بليغة في وصف دمشق، شكرت فيها المحتفلين من غير أن تذكر شيئاً رداً على خطاب الأديبة ماري عجمي الترحيبي بها، مما دعا الزعيم الوطني فارس الخوري إلى نقد سلبيتها بارتجال هذين البيتين من الشعر عقب مغادرة مي “قصر البللور” في حي القصاع الدمشقي الذي جرى فيه الاحتفال حيث قال:
“يا أهـيل العبقريـة سجلوا هذي الشهادة……… إن ماري العجمية هي مي وزيادة”
وبذا يكون قد استرد لماري عجمي حقها.لقد جاء وصف الأستاذ الكبير فارس الخوري،مطابق لمواقف لها، كانت غاية في الجرأة، والشجاعة، والوطنية. وقد ارتقت بها، وحلقت، وليس بالكلمة وحدها.
وفي الحقيقة فإن ماري عجمي كانت تقف في صف هدى شعراوي(مصر)، ومي زيادة الأدب، وجوليا طعمة دمشقية الصحافة، وسواهن من صاحبات اليقظة المبكرة، والوعي النير، حاملات مشعل العلم والتقدم في المشرق العربي، دون التفرقة بين بلد وآخر.
لكن ميزة ماري عجمي، عن سائر الرائدات المعاصرات، أن قدرها وضعها لفترة من الزمن، هي مرحلة تفتح الصبا، وضعها في صميم معركة النضال الوطني في بلادها. وقد خاضت عمليا دروب الكفاح، وأطلعت عن كثب على المعاملة السيئة التي لقيها الوطنيون على أيدي المستعمر التركي الغاشم ، والتي بلغت حد شنق الاحرار الشوام المتنورين ومنهم حبيبها الذي خطبته.
يقول الشاعر والأديب أمين نخلة (1901- 1976) عن ماري عجمي ما يلي: “لا أعرف في الأقلام النسوية قلماً كالذي تحمله ماري عجمي فهو شديد شدة أقلام الرجال، لطيف لطف أقلام النساء، في آن معاً، ولعمرك هيهات أن يجتمع النساء والرجال على شمة واحدة واجتماعهم في أدب ماري عجمي”. بينما خليل مردم بك يقول في كتاب “ماري عجمي”: “جمعت ماري بين الصناعتين النثر والنظم، فلها المقالات والخطب والقصائد وعالجت الترجمة كما عالجت الإنشاء”. يقول عنها عيسى فتوح وقد زارها وهي في أواخر عمرها، يصف لنا منزلها في دمشق: “هذا المنزل الأثري الذي كنت أتمنى أن يصبح في يوم من الأيام متحفاً يضم (تراث ماري عجمي وأشياءها)، وهي دار دمشقية واسعة في صحنها بركة ماء وأشجار نارنج وأزاهير شتى… كانت صاحبة نكتة فريدة وسخرية لاذعة”.
إن لماري عجمي ديوان شعر واحدا جميلا، ومن أجمل قصائدها أنقل الأبيات المؤثرة التي كتبتها في إبان مرضها الأخير حيث ظلت قابعة في بيتها، وحيدة، لا شيء يسليها سوى جهاز الراديو
“أنام والأنغام في مسمعي تدوي وحر الشوق في أضلعي
تردد الأصداء مخضوبة بما نزل في كبد موجعِ
يا صلتي بالكون في وحدتي إذا دجى ليل النوى الأروعِ
مدي بهذا الصوت يا طالما حملت إلى الملأ الأرفعِ
أكل ما يبقيه دهر لنا سلك من الفولاذ في المخدعِ؟
النادي النسائي الادبي
ولم ينحصر نشاطها في التعليم وحده، خلال تلك الفترة القاسية على شعبها ووطنها، بل قامت تلبي الحاجات الاجتماعية الناتجة عن الحرب. فانصرفت الى تأسيس الاندية والروابط الوطنية.
مع نازك العابد (بيهم) (التي رافقت يوسف العظمة بثياب الجنود الى ميسلون لتقاتل الغزاة الفرنسيين يوم 25 تموز 1925) اسست “النادي النسائي الأدبي” ثم “جمعية نور الفيحاء” و “مدرسة بنات الشهداء”. كما انتخبت عضوا في “الرابطة الأدبية” التي أسسها خليل مردم بك. وكانت المرأة الوحيدة فيها..
في افتتاح النادي النسائي الأدبي قالت ماري: “إصلاح البلاد لا يتم ما لم يوجد التوازن بين الجنسين في العلم والمعرفة، ليتعاونا معاً في الوصول إلى مركزهم ليتعاونا معاً في الوصول الى مركزها العلمي، إن صرخة النساء في طلب المساواة طبيعية لامناص فيها، وبرهاني على ذلك يقتضي الرجوع الى التاريخ، فإذا قبتم صفحاته ترون الأمومة أقدم عهداً من الأبوة.”
مع الاشارة الى ان تلك الجمعية التي اسستها ” النادي النسائي الأدبي” لاتزال من الجمعيات الثقافية الناشطة في الوطن بالرغم من جرح الوطن وتقدم المساعدات للطلبة وتضم نخبة من السيدات المثقفات.
تكريمها
ومثلما أحيطت الكاتبة بتقدير ائمة ورواد الأدب والصحافة والتدريس في سورية ومواطنيها وإعجابهم، كذلك حظيت بتقدير البلدان العربية المجاورة.
ففي بيروت، دعا الأستاذ جرجي نقولا باز، الملقب ب”نصير المرأة”، إلى حفلة أقامها على شرفها سنة 1926 وذلك اعترافا بالمكانة الرفيعة التي كانت تحتلها وتناوب الخطباء على منصة الخطابة مشيدين بمناقبيتها وبما اعتمل في نفوس قرائها وأصدقائها.
تقديرا لنضالها في حقلي الأدب والصحافة تعاقبت على تكريمها المحافل الأدبية، في حيفا ويافا، كما أن الكلمات التي ألقيت في تلك الاحتفالات لم تركز على قيمتها الفكرية وحسب، بل على مواقفها النضالية.
فازت ماري عجمي بجائزتين من الاذاعة البريطانية في المباراة الشعرية لعامي 1946، و1947.
المشوار الأخير
هذه هي ماري عجمي الأديبة والشاعرة والصحافية التي عاشت حياة ملأى بالأحداث وكان لها مساهمة فاعلة في مجتمعها السوري الكبير عامة والدمشقي خاصة وخصوصاً المجتمع النسائي.
توفيت ماري عجمي في دمشق في 25 كانون الأول يوم عيد الميلاد عام 1965 عن 77 عاماً بعد أن عاشت في نهاية عمرها في عزلة بسبب المرض، صلي على جثمانها في الكاتدرائية المريمية.
مع مزيد الأسف لم يشارك في جنازتها سوى نفر من المخلصين الذين صلوا على جثمانها الطاهر، ومشوا وراءها إلى مثواها الأخير في مقبرة القديس جاورجيوس للروم الارثوذكس في منطقة الباب الشرقي في دمشق.
يصف لنا الأديب عيسى فتوح ذلك بالم فيقول: “ماتت ماري عجمي من دون ضجيج أو جلبة حتى أنه لم يرافقها إلى المقبرة سوى 16 شخصاً من أقربائها ليس بينهم أديب إلا الأديب فؤاد الشايب”.
الخاتمة
ماري عجمي اسم يمر أحياناً في الذاكرة. ربما علق بها من أيام الدراسة، من قطعة أدب مختارة في كتاب القراءة، أو قصيدة وطنية، تتغنى فيها بتراب الوطن، وتشيد بالإنسان العامل من أجل بناء ذلك الوطن.
ولكن، هل يحمل اسم هذه الاديبة أي معنى للأجيال الناشئة؟ هي ورفيقات لها من رائدات النهضة الأدبية، النسائية؟… المناضلات في صفوف الوطنيين، على دروب التحرر، حين كان النضال، تلك الشعلة التي تنير السبل، وتشحذ الهمم، وتجمع النفوس والقوى، وتشحن الطاقات، في سبيل البناء والعمران؟
يبقى اسم ماري علامة فارقة بل ومميزة، في مسيرة النهضة العربية، ليس في سورية ولبنان وحدهمان بل في أي بلد في المشرق العربي.
وهذا الحب الحزين في فؤادها على حبيبها باترو الشهيد ورفقته شهداء الوطن، راح يتفجر مقالات تشحذ فيها همم أبناء وطنها، لمناهضة المستعمر، والالتفات إلى دواخل النفوس والاهتمام بالثروات الطبيعية والإنسانية، وتطويرها واستثمارها…
وقد تكون ماري الكاتبة المناضلة الوحيدة التي توغلت في السجن،فترة الاستعمار العثماني ثم الفرنسي، وشهدت في نضالها، ما يعانيه السجناء وخاصة زمن البغي العثماني (وجلهم من رجال السياسة والصحافة) من جور وتعسف. ولما طُلب إليها أن تكتب وصفا لمشاهداتها، كان ردها على ذلك، ما ورد في مقال عنوانه “السادس من أيار” قالت فيه:
“دخلت باباً، قام على جانبيه وفي صدره ثلاثة سجون منفصلة، لكل منها حاجز خاص، مصنوع من القضبان الحديدية، وهي مجموعة سجون، أو عبارة عن كهوف صخرية، يوصل إليها بثماني درجات، فرأيت وراء أحد تلك الأبواب نخلة باشا (المطران) جالساً عن كثب، عند مدخل مغارته الضيقة المنخفضة السقف، أمامه سلسلة ضخمة معلقة إلى قدميه، تزن ثلاثين رطلاً، لقعقعتها، كلما تحرك، صدى أجش.. وكان يرفعها بيديه إذا مشى. ولما رآني رفع بصره، وأشار علي بالصمت مخافة الجواسيس والرقباء.
وأنا أعجب لحالته وتجلده بعد أن نال تلك الإهانات، ولطخ وجهه آن التشهير بالأقذار وصفع مئات الصفعات، بأيدي أناس لم يكن يرضى أن يكونوا له عبيداً…
وخرجت من ذلك المكان، فإذا غلام يحمل قصعة من اللبن، أرسل بطلبها أحد معارفي من السجناء. فإذا الخفير يحفر بأنامله القذرة، حفرة في تلك القصعة للتثبت مما فيها، ثم يلحس أنامله، لتطهيرها مما علق بها، فيفحص غيرها من القصاع، على اختلاف ألوان الطعام.
وما زالت زياراتي للسجون تتوالى، حتى رأيت أن أسعى جهدي لإنقاذ بعض الأدباء ساعة علمت أن لا مفر لهم من حكم الإعدام. وكانت المحكمة العرفية لا تسمح بدفاع المحامين…”
هذا الوصف الواقعي، وتلك الشهادة لمرحلة هي من أخطر ما مرت فيه البلاد في حينه، هي ما يميز أدب ماري عجمي وشخصيتها إذ لم يسبق لكاتبة أن عاشت مثل هذه الأحداث الخطيرة بتأثير الاتراك الوحوش، وانغمست فيها، مثلها، ثم شهدت لها في أدبها. وتركت الشهادة ساطعة على المعاناة التي اختبرها حاملو الأقلام والأفكار الوطنية.
تابعت ماري عجمي خط نضالها على جبهاتها الثلاث: الكتابة، الخطابة، والتعليم. وكانت تلجأ إلى الشعر في المواقف الحماسية، إذ إنه يعبر بشكل أقوى وأغنى، عما يجيش في صدرها من براكين الغضب:
“ردوا التراب فما الوقوف بنافع…………… والقوا الستار فمن ثوى لم يرجع”
بهذه النظرة الواقعية كانت ترى الأحداث وتدعو مواطنيها ليبصروا الحقيقة، ويمعنوا فيها النظر، ويأخذوا منها عبرة لبناء غد أفضل ولتجاوز السقوط في اليأس.
وبقيت الكاتبة واقفة وسط الصحراء شامخة كنخلة، قوية، بل تلهم القوة، كما توحي إلى كل من هم حولها بالتقدير والاحترام.
لكن الزهو الذي عرفته في الصبا، ومطلع سن النضج، لم يستمر معها حتى منتصف العمر، حيث خيمت غمامة قاتمة، فوق رأس ماري عجمي، وغلفت نفسها بغلاف السوداوية القاتم. وبقيت على تلك الحال ردحا من العمر، وعجزت محاولات الأصدقاء عن إخراجها من عزلتها وسوداويتها. وحاولت جماعة منهم ضم قصائد الشاعرة في ديوان، كما جلدت أعداد مجلتها “العروس” في عدة مجلدات.. لكنها كانت قد أصبحت بعيدة عن ذلك كله، والصدمة التي عرفتها في أوج شبابها، راحت تتغلغل في الأعماق، وتقتات من حيويتها.
حتى لحظة انتقالها الى الأخدار السماوية.
وفي مقالة لها عن “الحرب والمجد” سوف تتضح لنا أبعاد رؤيتها الإنسانية ومعاداتها لسبل تحقيق المجد بالحروب، وستعتبر ذلك امتهان للكرامة الإنسانية وسلوك وحشي يتساوى فيه السفاح والبطل، فلا فرق بين فرعون ونيرون وتيمورلنك الذين وصفهم التاريخ بالوحشية، وبين الإسكندر وبونابرت وغيرهما من الأبطال الذين يثني عليهم التاريخ، لأنهم جميعاً بحثوا عن أمجاد زائلة فتقودهم الأوهام إلى قبور البشرية مترنمة بأناشيد الموت وهم يحسبونها ألحان الحياة. هكذا تفصل الأجساد عن الرؤوس من أجل أراض صماء تبتلع الإنسانية ولا تفنى. إن كلّ ما أحرزه نابليون من الظفر في “أوستر ليتز” لا يوازي خسارة حياة إنسان واحد في عين الله… لا أرى في العالم إلاّ شرائع الدمار ووسائط الخراب… إن حفلة تعقد لترقية المدارس هي خير لدى العقلاء من تأليف أسطول انجليزي ثان، وعمل باستور في العالم هو أشرف وأفضل من عمل جميع أبطال العالم وفاتحيه.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، أنه: “لماذا بقيت أعمال ماري عجمي وأولئك النفر من النساء الرائدات مجهولة حتى الآن، ولماذا ظلّ الذكور من رعيلها من الكتاب ممجدين في مناهجنا الدراسية وفي منابرنا الإعلامية؟ ألاّ تستحق المرأة العربية أن تخرج من فضاء الحريم والمطابخ في ذاكرتنا الجمعية إلى ما تستحقه من تكريم، أو على الأقل تأخذ حيّزها المناسب في تاريخنا الثقافي، لدورها الإبداعي والتنويري الذي قامت به؟ أعتقد أن مبادرة دار الريّس لنشر مثل هذه الأعمال المهمّة، تساهم إلى حدّ كبير في بعث تقاليد ثقافة التنوير، التي أريد لها أن تغيب من حياتنا، وهي بذلك تستحقّ منّا جميعاً كلّ الدعم والمساندة…”
يتوجب على الوطن ان يخلد ذكر هذه الاديبة العظيمة بكل شيء، وان تنشر وزارة الثقافة نتاجها الأدبي المقاوم للاستعمار… وعلى وزارة التربية ان تعيد الى الاجيال في مناهجها التربوية من هي ماري عجمي الاديبة المناضلة الثائرة في سبيل الوطن واستقلاله…وعلى اعلامنا المقروء والمكتوب والمسموع ان يسلط عليها وعلى اعلام الوطن وما اكثرهم في برامجه وعلى صفحات الجرائد والمجلات…
وعل الدولة السورية ان تمنح ماري عجمي وامثالها وسام الاستحقاق السوري لنضالها في سبيل الوطن واستقلاله والمرأة ودورها في المجتمع كأبرز الطليعيات الثوريات والمناضلات في سبيل المرأة والمجتمع.
في زمن الارتداد الى التخلف والتعصب والانطوائية الدينية والمذهبية وخاصة بحق المرأة السورية، ما احوجنا في هذا الوقت الى هذه الصرخة الوطنية النسائية صرخة ماري عجمي…
ماري عجمي التي لم تقل في عنفوانها الوطني عن خطيبها الشهيد باترو باولي ورفقته من شهداء 6 أيار والشهيد يوسف العظمة ورفقته ابطال ميسلون وعلى الوطن ان يبقي ذكرهم جميعاً مؤبداً.
مراجع البحث
-ماري عجمي- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
– عيسى فتوح – شاعرة دمشق
– الوثائق البطريركية- وثائق دمشق
-اسد رستم كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى