الحضارة الرومانية من الوثنية الى المسيحية
هذه المرحلة الأهم في تاريخ الامبراطورية الرومانية لأنها شهدَت التحوُّلَ من الوثنية الى المسيحية اولاً والإنتقالَ من الغربِ الى الشرق ثانياً
تمتدُّ هذه الحقبة المعنية بالعبور من الحضارة الرومانية الى الحضارة الروميّة من سنة 330 مسيحية الى سنة 476 مسيحية بعد سقوط روما بيد البرابرة الجرمان.
بدأت الحلقةُ بتعريف من البروفسور نجيب جهشان رئيس الجمعية الثقافية الرومية ببيروت بالتعريف بالحضارتَين المعنيتَين بهذا الموضوع وهما:
الحضارة الرومانية: هي حضارة الإمبراطورية الرومانية التي كانت روما القديمة مركزَها، وكانت تجمعُ وتصهرُ جميع حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط ودياناته، وكانت تؤمن بالوثنية وتؤلّه الأباطرة.
أما الحضارة الروميّة فهي الحضارة التي ورثَت الحضارة الرومانية، لكنَّ مركزها كان روما الجديدة القسطنطينية، وكانت مسيحيةً تعتمد مبدأ السيمفونيا في إرتباط الدولة بالكنيسة. لا تجوز تسميتُها بيزنطيّة لأن بيزنطية كانت مدينة وثنية، ولا رومانيّة شرقية لأنها كانت تشملُ في الأساسِ كلَّ أقطار حوض المتوسط، وتضمُّ روما القديمة. ومن المستحسن تسميتها في اللغات الأوروبية Neoroman أو Romaian.
في 11 إيار 330مسيحية ، كُرِّسَت القسطنطينية روما الجديدة عاصمةً جديدةً للإمبراطورية، وإنتقل الحكمُ إليها. وفي سنة 476 مسيحية، إستقال آخرُ إمبراطور روميّ في الغرب، ونُقلَت آلة الحكم بأكملِها الى القسطنطينية، وإعترفَ البرابرة الحاكمون للغربِ بالسلطة الإمبراطورية في القسطنطينية.
كانت أهم معالمِ هذه الحقبة إعلان تيسالونيكية في سنة 380 مسيحية الذي جعلَ المسيحيةَ دينَ الدولة من قبل ثيوذوسيوس الكبير، وحرَّم الوثنية والهرطقات المسيحية. وفي سنة 396، وعند وفاةِ ثيوذوسيوس الأول الكبير، قُسِّمَت الإمبراطورية على إبنَيه هونوريوس وأركاديوس الى شرقية وغربية.
أسرتان رئيسيتان حكمتا هذه الحقبة: أسرة قسطنطين الإيليرية والتي ضمَّت، الى قسطنطين الكبير، أبناءَه وإبن أخيه يوليانوس، وإسرة ثيوذوسيوس الإسبانية والتي إشتهر منها ثيوذوسيوس الأول وثيوذوسيوس الثاني. ومرَّ بين الأسرتَين الإمبراطور فالنتنيانوس الأول.
أسّس قسطنطين الكبير مركزاً جديداً للدولة الروميّة هي روما الجديدة التي دُعِيَت بعده القسطنطينية، وكرَّسها من قبل الأساقفةِ المسيحيين في 11 إيار 330.
بنى فيها المباني الحكومية، والكنائس والاديرة ولم يسمح البتة باقامة اي هيكل وثني فيها وحظر اقامة اي طقس وثني فيها فكانت مدينة الله.
وأنشأ فيها مجلسَ الشيوخ، وحضرَ إليها معظمُ الشيوخ والإداريين من روما القديمة. أصبحت روما القديمة، تدريجياً، مدينةً ثانويةً، وحافظَت لمدةٍ طويلةٍ على طابعها الوثني الغالب. بعد إنقسام سنة 396مسيحية، نشأت آلتان للحكم في روما القديمة وروما الجديدة، لكنَّ الغربَ الروميّ وقعَ تحت سلطة الغوط البرابرة، فتآكلت السلطةُ في روما القديمة وإنتهَت مع رومولوس أغسطولوس في سنة 476. إعترفَ ملوك الغوط وأمراؤهم حينئذٍ بالإمبراطور الشرقي كحاكمٍ شرعي واحد، وتوحّدت الإمبراطورية مجدَّداً، على الأقل ظاهرياً في مؤسساتها.
شكَّلَ الفرسُ في الشرق والشعوبُ الجرمانية في الشمال والغرب التهديدَ الرئيسي للدولة الرومية. جابه الأباطرةُ في الشرقَ إمبراطورية الفرس بنجاحٍ وتمكَّنوا من صدِّ هجوماتها. أما في الشمال الغربي، فإخترقَ الغوط الجرمانُ نهرّي الدانوب والراين وإجتاحوا الولايات الغربية. إحتل الأوسترغوط إيطاليا والفيزيغوط إسبانيا والفرنج فرنسا والفاندال أفريقيا الشمالية. وسقطت العاصمة الغربية بأيدي الأوسترغوط الذين أقاموا فيها مملكتهم.
في عهد قسطنطين الكبير، كان المسيحيون يشكلون 10 بالمئة فقط من السكان. لكن سياسة قسطنطين وأولاده عزَّزَت المسيحية ووسَّعت إنتشارها، وكانت لها الغلبةُ في عهد ثيوذوسيوس الأول الذي حرَّمَ الوثنية والشيع المسيحية، وأعلن المسيحية دينَ الدولة الرومية. كان عهدُ يوليانوس الجاحد (361 – 363) المرحلة الوحيدة التي حاولَت خلالها الوثنية الغلبةَ على المسيحية وإستعادةَ السيطرة. لكنَّ المسيحية عرفت في هذه المرحلة صراعاتٍ عقائدية تسبَّبت بخلافاتٍ وإنقساماتٍ أوجبَت إنعقاد المجامع المسكونية الأربعة الأولى التي حدَّدت تباعاً العقيدة المسيحية الأرثوذكسية الجامعة التي سادت، في النهاية، في معظمِ مناطق الإمبراطورية.
في مطلع القرن الخامس، لم تكنْ الكنيسة متفاهمةً على عقيدةٍ واحدة، أو لم تكنْ هذه العقيدة واضحة المعالم. كانت أهم قضيةٍ كنسية في ذلك الحين هي تحديدُ طبيعة المسيح: ما هي علاقته بالآب؟ هل هو إلهٌ كامل؟ هل هو إنسانٌ كامل؟ من هو الروح القدس؟ أجابت المجامع الأربعة على هذه الأسئلة، لكنْ بمخاضٍ عسير. وتسبَّبت الصراعاتُ بإنقساماتٍ أسفرت عن تحريم الكنائس لبعضِها البعض، وتأسيسِ طوائف مسيحية مستقلة أهمها كنيسة الشرق النسطورية وكنائس الطبيعة الواحدة. أما الآريوسية فإختفَت من الداخل الروميِّ وبقيت خارجه مزدهرةً أو تحت الرماد. وفي هذه الحقبة، تنظَّمت إدارةُ الكنيسة ونشأت البطريركيات الخمسة وهيكيلة الكنيسة، وتحدَّدت أسفارُ الكتاب المقدس، وكُتِبت الليتورجيا الأرثوذكسية.
في هذه الحقبة، تراجع دورُ روما القديمة ونما دورُ روما الجديدة القسطنطينية لأن مركزَ الثقل الإداري إنتقل الى روما الجديدة، ووقعَت روما القديمة تحت إحتلالِ قبائل بربرية جرمانية أدخلتها في ما يسمّى القرون الوسطى. تأسَّست البطريركية المسكونية الملازمة للعرش القسطنطيني وتضاءلَت سلطةُ كرسي روما. وعُقِدت جميعُ المجامع المسكونية في القسطنطينية أو في مدنٍ مجاورة، وكان دور بابا روما فيها ضئيلاً أو ثانوياً.
منذ عهد قسطنطين الكبير، صدرت تشريعاتٌ إدارية ومدنية عّززت الحضورَ المسيحي في الدولة والمجتمع، وأدخلت القيمَ المسيحية الأخلاقية والإجتماعية الى التشريع الروماني القديم. وفي عهد ثيوذوسيوس الثاني، جُمعت هذه القوانين في مجموعةٍ متكاملةٍ دُعيت Codex Theodosianus وأصبحَت المرجعَ القانوني للدولة وللكنيسة. وتعزَّزت في حينه كلياتُ الحقوق في القسطنطينية وبيروت والإسكندرية.
شهدت هذه الحقبة إزدهاراً كبيراً للفلسفةِ التي تحدَّرت من الفلسفة اليونانية القديمة وأركانِها سقراط وأريسطوتاليس وأفلاطون. ومن أبرز فلاسفة هذا العصر، أفلوطين الذي كان له أثرٌ كبيرٌ على اللاهوت المسيحي. ومن تأثيراتِ هذه الفلسفة، الصراعاتُ العقائدية التي عصفت بالمسيحية، وأنشأت شيعاً عديدةً تُرجمت مذاهبَ دينية مختلفة. وفي هذه المرحلةِ أيضاً، أسَّسَ ثيوذوسيوس الثاني جامعة القسطنطينية سنة 425. وطوَّرت الكنيسة في هذا العصر الموسيقى الكنسية والكتبَ الليتورجية والقداسَ الإلهي، ونمَت الأديارُ والرهبانياتُ في سائر الأقطار.
ولخَّصَ الدكتور جهشان، في نهاية المقابلة، خصائصَ هذه المرحلة التاريخية، وهي
حضارة الروم هي في أساسِها الحضارة الرومانية الإغريقية التي تطبَّعت بالقيم المسيحية الأخلاقية والإجتماعية، “إعتمدَت ولبست المسيح”
كبار أباطرة هذه المرحلة التاريخية هم قسطنطين الكبير وثيوذوسيوس الأول وثيوذوسيوس الثاني، وقد عملوا كلهم لنصرة الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة، وحاربوا الوثنية والهرطقات
هي حقبة تأسيسية هامة جداً لأن الكنيسة حدّدت في هذه الحقبة عقائدَها وليتورجيتَها وكتبَها المقدسة، وعقدت أربعة مجامع مسكونية
كانت الإمبراطورية، في هذه الحقبة، أمميّةً بإمتياز، وعملت بموجبِ مبدأ السيمفوني
إجتياح البرابرة الجرمان للجزء الغربي من الإمبراطورية أدخلَ أوربة الغربية في العصور الوسطى والإنحطاط، بعكس المشرق الرومي
(من حلقة تلفزيونية لبرنامج تراث من نور على التيلي لوميير نور سات
البروفسور نجيب جهشان رئيس الجمعية الثقافية الرومية ببعض التصرف)