دير النورية أو دير سيدة النور / لبنان
موقع الدير
هذا الدير أشهر من ان يُعَّرَّفْ، وهو مقصد المؤمنين ليس من لبنان وحده بل من سورية… ومن كل دول العالم يقصدونه لإيفاء النذورات، حتى البعض منهم يقصده حافي القدمين…
هذا الدير المبارك يفرض على الزائر الخشوع التلقائي، حيث يشعر المرء انه بالفعل في أرض مقدسة ترتاح فيها النفوس المؤمنة والمتعطشة الى سكينة الله، حيث ظهرت السيدة العذراء الطاهرة وأضاءت في القرن السادس عشر طريق البحارة العابرين في البحر الابيض المتوسط، حيث كانت السيدة العذراء تنير الجبل الذي يعرف باسم “رأس الشقعة” في نطاق بلدة حامات الشمالية في جبل لبنان في ليالي العواصف.
كان هذا الرأس البحري من أكثر المناطق خطراً على شاطئ البحر، وكان البحارة يطلبون نجدة العذراء التي قالت لهم: “لا تخافوا انا معكم” يوم ضربت عاصفة بحرية بحارة قادمين من ايطاليا.
دير سيدة النورية حين تصل اليه، تتداخلك مشاعر من الرهبة و الخشوع، حيث الامل بشفاعة السيدة العذراء أم النور، منظر طبيعي خلاب يشدك شداً الى الراحة التي تحل عليك امام تلك المناظر الطبيعية، وعند مناظر الامواج التي تتلاطم وتتكسرعلى الصخور، في مشهد طبيعي لا يضاهيه مشهد آخر في العالم.
يبعد الدير عن بيروت قرابة 75 كلم، وهو في منطقة تقع بين البترون وشكا، و على ارتفاع ما يقارب المائتي متر، و يتبع لمطرانية جبيل و البترون الارثوذكسية (جبل لبنان).
يذكر الراهب اليسوعي أورين كريسلون انه عندما كان في رحلة من صيدا الى طرابلس يرافقه ثمانية أتراك، و تاجران فرنسيان، فاجأتهم عاصفة بحرية، وأخذت الامواج العاتية تتلاعب بالمركب، فنذر الراهب والتاجران الصوم كل يوم سبت مدى العمر، فهدأ البحر وتراجعت الامواج فوراً.
في العام 1650م يقول هذا الراهب:” ان الدير يدعى دير سيدة المنيرة لأن العذراء تنير الجبل في ليالي العواصف، ليرى البحارةُ صخورَ هذا الرأس الخطير على شاطئ البحر.”
كلمة نورية تعني العطايا التي تقدم إلى الإكليريكيين في عيد الظهور الالهي. عندما يدور الكهنة (كما درجت العادة في المدن والقرى) على بيوت المؤمنين لتكريسها في عيد الغطاس ويرشونها بالماء المقدس مرنمين طروبارية العيد” باعتمادك يارب في نهر الاردن…” فيقوم المؤمنون بعد تكريس بيوتهم بتقديم النورية لهم.
كما أن النورية تعني ايضاً مساهمة الرعايا والقرى مالياً وعينياً في المطرانيات والبطريركية بتقديم ” الأنورية” من مال وأرزاق من إنتاج أراضيهم ومواشيهم كالقمح والبرغل والسمن والالبان والاجبان والزيتون والزيت في قرى ابرشية دمشق وحوران وجبل الشيخ، كما درجت العادة الى منتصف القرن 20 كان يقوم بها احد الاكليريكيين ومعه طرس بطريركي لجمع التبرعات عند الموسم. (الوثائق البطريركية)
تاريخ الدير
تأسس الدير القديم في منتصف القرن السادس على يد المتوحد عبد المسيح الأنفي- من انفة بجبل لبنان، وروى متروبوليت حلب “ميكاس” في العام 554 ميلادية:” ان الدير صغير الحجم والمتوحدون يقطنون في صوامعهم وكهوفهم”
منذ تاريخه والديرعظيم النعمة، يكفي ان يقرأ الزائر قصة الراهبين اللذين أسسا المنسك بأمر من والدة الاله، و هما المتوحد عبد المسيح من بلدة أنفه والمتبدئ يوحنا بن كسانوفون، وهذا الأخير إبن أحد الوجهاء اليونانيين نجا من الغرق أمام شاطئ الدير بفضل السيدة أم النور، والراهب عبد المسيح ومكث راهباً في الدير ثلاث سنوات ثم انتقل إلى دير القديس سابا في فلسطين وهو الدير الاشهر في الرهبنة ببلاد الشام حيث ترهب فيه القديس يوحنا الدمشقي ( انظره هنا في موقعنا).
نصل الى الدير القديم، إما من خارج الدير الحديد، أو من باب في الجدار الشمالي الغربي من الرواق الداخلي، يقود إلى حديقة صغيرة، تشاهد عبرها منظراً رائعاً للبحر والشاطئ. ومن الحديقة نسلك درجاً يتبع انحراف الجرف الصخري إلى المغارة العجيبة حيث ظهرت العذراء فيها للبحارة، عند نهاية الدرب ممر مسقوف قصير على جانبيه بضعة صوامع، وإلى يساره نبع ماء عذب.
تقع المغارة مباشرة خلف الصوامع مزودة بباب ونافذتين وبضعة مقاعد مقابل المذبح.
في هذه الكنيسة الصغيرة يلف الخشوع المكان من الأيقونات إلى رائحة البخور التي تمتزج مع أريج الزهور البرية، ونسيم البحر.
الصخر داخل المغارة عتيق يذكر بايام غابرة، و الحجارة غطاها التاريخ بطبقة سوداء.
كُّرِّستْ الكنيسة على اسم الملاكين ميخائيل وجبرائيل، وأُعيد بناؤها في القرن الثامن المسيحي، ورُممت عام 1950. وفي العام 1990 رممت القلالي، و بعد عام 2007 أُضيف اليها الأيقونسطاس.
اما الأيقونات الملكية فرسمها نيكولا فافوبولو اليوناني، أما أيقونات الرسل فكتبتها الراهبة بلاجيا تبشراني.
في هذا المُجَّمع التاريخي المقدس، أُنشئ ديرٌ جديدٌ، بناه مثلث الرحمات المطران غفرائيل شاتيلا الدمشقي العام 1890، و كان يومها مطران بيروت والجبل قبل وفاته عام 1902 وانفصال الأبرشية إلى أبرشيتين، أبرشية بيروت، وأبرشية جبيل والبترون وتعرف بأبرشية جبل لبنان وكان أول مطارنتها بولس أبو عضل الدمشقي، وكان انشاؤها لتسهيل رعايتها حيث ان مطران الابرشية كان لايقدر ان يزور رعاياه في جبل لبنان الا مرة في كل عدة سنوات وبنتيجة مطالبات مكثفة من الرعايا ( الوثائق البطريركية).
وأنشأ المطران غفرئيل على مقربة من الدير القديم ديراً جديداً بإسم دير سيدة النورية، وهو مكون من طبقتين الأولى علوية و تضم أربع غرف، ومكتبة، وغرفة طعام. اما الطبقة السفلية فضمت الكنيسة الجديدة إضافة إلى إسطبل.
المطران غفرئيل شاتيلا عُرف بتنسكه، و حبه لحياة الرهبنة، وهوالذي طلب من أهالي بلدة حامات بناء الدير، وفق مخطط هندسي تقليدي، مع ساحة داخلية، يحيط بها رواق مقفل، وأبنية الدير.
المطران غفرئيل وضع بيده ورسم المخطط العمراني فجاءت هندسته تتلاءم مع حياة الرهبنة التي يحبها ويعيشها ذاتياً.
شهد الدير مؤخراً بعض أعمال الترميم.
الطبقة الارضية للدير
من الباب الواقع في الجهة الجنوبية، يوجد رواق صغير، ينتهي الى فناء داخلي، على جهتي الرواق غرفتين، الأولى لاستقبال الزوار، والثانية لبيع التذكارات الدينية والساحة المركزية مرصوفة باللبلاط الابيض، وفي وسطها نافورة ماء.
و يوجد رواق معقود يتألف من أقواس محددة الرأس وخلفه أبواب تقود إلى غرف الديروالصوامع، وإلى شرق الباحة كنيسة سيدة البشارة.
كنيسة الدير
كنيسة الدير مكرسة على بشارة والدة الاله، من قبل الملاك جبرائيل، وتتألف من صحن واحد، والأيقونسطاس من الرخام الابيض، وهي من الانماط الرومية البيزنطية والروسية الارثوذكسية، ترجع الى أوائل القرن العشرين.
أيقونة النورية
و في الدير أربع نسخ من “أيقونة النورية” إثنتان في الكنيسة، واثنتان في المغارة القديمة، حيث ترتدي العذراء رداءً أحمرَ فوق ثوبها الازرق. و تقف في الجزء الأعلى، وتحمل على ذراعيها الطفل يسوع، الذي يرفع ذراعه اليسرى مباركا بالاشعة المضيئة المنبثقة من هالتيهما. و يتناقض هذا المشهد مع المشهد المرسوم في أسفل الايقونة حيث الغيوم السوداء تتلبد خلف الامواج العاتية التي نرى في وسطها البحارة يواجهون خطر الموت، والعذراء المرشدة ترشدهم إلى برالامان إلى الرب يسوع المسيح.
دير النورية اليوم محجة لكل المؤمنين و المؤمنات من كل الاديان والطوائف يأتونه من كل المناطق والبلدات حتى بات مركزاً رئيسا من مراكز الحج المسيحي، و مرفقاً مهماً من مرافق السياحة الدينية المسيحية.