مفهوم المعجزة بحسب الكنيسة الأورثوذكسية
مدخل
كثيراً، في حياتنا اليومية، ما نسمع عن “معجزات” سواء أكانت ظهورات، خوارق انخطافات ترافقها رسائل من والدة الإله أو القديسين …إلخ.
السؤال الذي يطرح نفسه هو
هل كل هذه عجائب فعلاً أم أنها مجرد أوهام ؟؟!
ما هو المعيار الذي نستطيع به الحكم في ذلك؟؟؟
الإجابة على هذا السؤال
ينكر بعض الناس “المعجزات” و لا يؤمنون بها أبداً، معتقدين أن كل ذلك مجرد حالات نفسية لا أساس لها من الصحة. في حين نرى قسماً آخر من الناس مُصاباً بحالة من الشغف بالمعجزات والخوارق التي تغدو حديثهم اليومي، فهم يؤمنون و يصدقون ببساطة كل ما يسمعونه من مثل هذه الأمور.
لأن كلا الموقفين السابقين خاطئين تماماً من وجهة نظر الكنيسة الأورثوذكسية ونظراً لتزايد عدد الدجالين الذين يعبثون بقلوب المؤمنين البسطاء بروايتهم لخوارق و”معجزات” خادعة بغية الحصول على أهداف معينة، فمن الضروري أن نعرف ببساطة، وجهة نظركنيستنا الأورثوذكسية حول تلك الأمور
في ايماننا المسيحي الارثوذكسي
“المعجزة” حقيقة موجودة، والكتاب المقدس غنيّ بالمعجزات الكثيرة التي لا يجوز أن نعتبرها أوهاماً، و لكن في الوقت نفسه، لا يجوز أن نصدق كل شيء نسمعه، كما يقول الكتاب “لا تصدّقوا كل روح” (1يوحنا 1:4).
كما يجب أن نعلم أن الشيطان والأرواح الشريرة قادرة على افتعال رؤى وعجائب مختلفة لتضليل المؤمنين، كما يقول القديس بولس الرسول:” ولا عجب لأن الشيطان يغير نفسه إلى شبه ملاك نور!”(2كورنثوس14:11)
حتى نستطيع أن نفرق بين المعجزة الإلهية الحقيقية، وبين ما سواها من تضليل و خداع ، يجب علينا أولاً أن نفهم الأمور التالية
1-لم تكن المعجزة في تعليم الرب يسوع نفسه شرطاً للإيمان، فرغم أنه أجرى عدداً لا يحصى من العجائب والآيات إلا أنه أكد قائلاً: “طوبى لمن آمن و لم يرَ” (يوحنا29:20).
كما أن الكنيسة الأورثوذكسية لا تعلن عن عجائب الأشخاص، وهم أحياء لكي لا يقعوا في فخ الكبرياء ويسقطوا، بل بعد رقادهم وبعد انتظار فترة طويلة على رقادهم تتم فيها دراسة هذه العجائب.
فالمعجزة الحقيقية في نظر الكنيسة هي في قداسة القديسين أنفسهم، كما يقول المزمور: “عجيبٌ الله في قديسيه”.
إن كل مسيحي مُعمّد بالماء و الروح هو قديس ، و عليه أن يحافظ على قداسته باتحاده بالرب يسوع في القداس الإلهي ، إذ يقول الكاهن : “القدسات للقديسين” أي للناس الأبرار الذين يحيون تعاليم الإنجيل .
2-“المعجزة” إن حصلت ، تأتي لتُرشد وتعزي، وتؤكد للإنسان، أنه يسير على الطريق القويم، في علاقته الشخصية مع الله. عندما يسافر أحدنا من دمشق إلى حلب مثلاً ، فإنه يرى على الطريق لافتات على مسافات محددة يُكتب عليها مثلاً : (حلب 120 كم) ، (حلب 50كم)…إلخ.
“المعجزة” هي تلك اللافتة التي تأتي لتؤكد لنا أننا على الطريق الصحيح فتشدد عزائمنا وتعزز إيماننا فيما إذا أصابنا الشك. لكنها لا تصنع الطريق، وعدم رؤيتها لا يعني أننا لا نسلك الطريق الصحيح … فعندما تكون متأكداً من الطريق، قد لا تنظر أصلاً إلى تلك اللافتات التي ليست غاية وجودها، كما قلنا أن ننشغل بها، بل أن تنقل لنا فكرة هي أننا نسلك الطريق الصحيح.
3-“المعجزة” إن حصلت، تأتي لتُبرز غاية محددة، أو مقصداً معيناً.
إذا أردت أن تعلم صحة معجزة ما، اسأل نفسك السؤال التالي: “ما الغاية مما يحدث؟ هل هو لتقويم الإيمان، وتعزية المؤمنين”؟
ما معنى إذاً أن يظهر قديسٌ للناس و يتحدث معهم بلغة غير مفهومة؟ و أحياناً لا تُعرف ما هي اللغة. لو كان مثل هذا النوع من المعجزات حقيقياً لَتحدّث القديس بلغة يفهمها الناس، يسوع نفسه كان يتكلم بلغة الناس، و بإسلوبهم، كان يشفي الأجساد ليؤمن الناس، مع أنه كان ينظر إلى أن شفاء النفوس هو الأهم، وهوما كان يؤكد عليه.
4-فيما يختص بمعجزات الأشفية الجسدية، كان يسوع في جميع معجزاته يشفي الإنسان شفاءً كاملاً، أولاً من ناحية النفس (التطهير من الخطيئة)، وثانياً من ناحية الجسد، وهذا واضح تماماً من معجزة شفاء المخلع الواردة في (مرقس 1:2): نرى يسوع أولاً يشفي النفس المثقلة بالخطايا “مغفورة لك خطاياك” ثم يشفي جسد المخلع شفاءً كاملاً و مباشراً، ” قم واحمل سريرك وامشِ”. كذلك في معجزة شفاء الأعمى منذ مولده، فقد خلق يسوع له عينين مُبرزاً بذلك أنه الخالق (مرقس 22:8).
نسمع في أيامنا أحياناً عن شفاءات لأشخاص غير مؤمنين أو غير مسيحيين لكنهم يبقون بعد شفائهم على ضلالهم في الإيمان. الرب قادر أن يشفي من يشاء، ولكنه إن لمسَ شخصاً، يستحيل أن لا يمس روحه و نفسه و جسده، أي كيانه كله، من يشفيه الرب يسوع فعلاً يؤمن به، ولا يبقى بعيداً عنه، يسوع لا يشفي الأجساد بمعزلٍ عن شفاء النفوس.
5-فيما يختص بالظهورات، يمكننا أن نقول ببساطة شديدة، إن ظهور القديس أو والدة الإله أو الرب يسوع نفسه، يترافق بحضرة إلهية لا توصف بكلام بشري أبداً، والحضور الإلهي يجلب للنفس سلاماً و فرحاً وغبطة داخلية منقطعة النظير. كما كان يحصل مع القديس سيرافيم ساروف الذي كان خلال انخطافه يشع وجهه كالشمس مانحاً فرحاً و سلاماً لكل من حوله.
عندما تسمع، أخي المؤمن، بظهورات أو “انخطافات” ترافقها علامات الهلع و الرعب والرجفة والإصفرار والبرود …إلخ. فعليك أن تعلم عندها، علماً يقيناً، أن ما يجري ليس بفعل إلهي حتماً ، لأن الحضرة الإلهية كما قلنا لا ترافقها علامات كهذه أبداً بل على العكس يرافقها الفرح و السلام الروحي.
6-عليك أن تعلم أخي المؤمن، أن الرب يسوع نفسه، لم يكن أبداً متلهفاً لصنع العجائب ، لا بل رفض في كثير من الأحيان صنعها، في التجربة على الجبل مثلاً (لوقا1:4) أو في سواها… ولكنه عندما اجترح الشفاءات، وأقام الموتى، فعل ذلك ليعبر عن محبته للبشرية الساقطة في الخطيئة، وليُعَّلِّم الإنسان مقدار الخسارة التي سببته له تلك الخطيئة وليس ليُظهر جبروته وقدرته…
لقد تمم الرب يسوع الفداء على الصليب، و كانت آخر كلماته: “قد تم” (يوحنا30:19).
لم نعد بحاجة لأي ظهور أو أي أنبياء، كل شيء انتهى بالمسيح،
وتبقى المعجزة الحقيقية هي القداس الإلهي الذي غالباً ما نهمله نحن، لقلة إيماننا بينما هو في الحقيقة معجزة حية تمنح الشفاء للنفوس والأجساد.
خاتمة
المعجزة” تعبيرٌ عن محبة الله للناس، إنها، إن حصلت، هدية صغيرة للمؤمن، لا تحتاج المعجزات للتطبيل والتزمير وشاشات التلفزة، إنها حقيقة سرية بين الله و الإنسان.
قال الرب يسوع:” من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، لا بل ويعمل أعظم منها”!!!
ما هو الأعظم من معجزات يسوع؟ من إقامته للموتى؟ يجيب القديس اسحق السوري على ذلك حين قال:” من يعترف بخطئه أعظم ممن يقيم الأموات، ومن يتنهّد من أجل نفسه أعظم ممن استحق مشاهدة الملائكة.”
هذه هي المعجزة، إنها توبتك أخي المؤمن، إنها عودتك بالتوبة إلى الآب السماوي، إنها شفاء نفسك و ليست مجرد الخوارق و الظهورات.
✞و لإلهنا المجد والعزَّة إلى أبدَ الدهور. آمين
المصدر:السمكة المسيحية (بتصرف)