افضلية كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى
يثقل كاهل كرسينا الانطاكي المقدس تاريخ طويل حافل بالأمجاد وبالمآسي بآن معاً، فتطالعك أكثر صفحاته مشرقة بالفخر والعظمة، ومآقيها مسودةً بالخطوب والشكزك وحتى بالدموع.
فأما المجد والعظمة، يخفي كون هذا الكرسي الرسولي مهداً للمسيحية، وفيه اُتخذ اولاً هذا الاسم الشريف (مسيحيون)، ومنه انطلقت المسيحية نحو العالم بشارةً سماويةً، بطريق الخلاص، براً وعدلاً ورحمة للعالمين.
هذه البشارة السماوية انطلقت دمشقية المولد مع شاول المهتدي بولس، وانطاكيةَ الانتشار معه وبرنابا رفيق تبشيره… بكل عزمها وايمانها لتدك معاقل الوثنية، وتُسقِطُ أعلامها ومعابدها، وتبني محلها كنائس الله وتنشر عليها راية الصليب المقدس خفاقة وبها تنتصر…
ولا ابالغ ايها القارىء الحبيب بقولي ان تاريخ كرسينا الحبيب يكاد يكون تاريخ الكنيسة جمعاء، منه تحرك الفكر والعمل، وخرجت الشهادة الى اقصى الارض على ايدي متقدمي الرسل وصحابتهم الرسولية الشريفة وخلفائهم الميامين…
في انطاكية طُرحت القضية الأخطرْ، الا وهي فصل المسيحية عن اليهودية، والتحرر من حرفية الناموس وختن الجسد، والانتقال الى حرية النعمة وحرية الله ونعمة المعمودية والروح الكلي قدسه المرافق للمؤمن بيسوع له المجد.
سحابات الشهود كانوا شهداء بعشرات الألوف، طاروا من اجواء انطاكية سراعاً ليشهدوا لحق السماء في الارض امام طغاة العالم من اباطرة وسلاطين وولاة، وليعطروا الدنيا بشهاداتهم بدمائهم الزكية شهداء على غرار المعلم الالهي شهيد الصليب.وببطولاتهم واعيادهم التي تذكرنا بشهاداتهم على مر اليوم في كنيستنا…
القرون الثلاثة الاولى كانت ام المجازر الدموية بحق ابناء انطاكية العظمى الارثوذكسية المحافظة على الايمان القويم، والتي لايمكن وصفها…
بعد ذلك شهدت الحياة الرهبانية بشهودها الرهبان الشهداء بالمسيح دون معمودية الدم لهذا الاله العظيم الذي حررنا من الخطيئة. فانتشرت في طول بلاد الشام وعرضها الى مابعد كيليكيا وآسية الصغرى وماردين ومابين النهرين…
على ارض انطاكية العظمى تحركت الأبحاث وعقدت المجامع الكنسية المكانية الكثيرة وفيها صُنفت العقائد، عدا عن جهابذة العقول في اللاهوت والتاريخ القويم والعقائد والأدب والبلاغة والفلاسفة والوعَّاظ الذين تضيق بهم صحائف تاريخ انطاكية العظمى، كما تضيق بجماهير المعترفين والنساك المدافعين عن الارثوذكسية بمواجهة الهرطقات حتى الشهادة.
من يجهل دور مدرسة اللاهوت الانطاكية المستقيمة الرأي، بمعلميها وخريجيها، ومناهجها، وكم اعار كرسينا الانطاكي المقدس من هؤلاء القديسين والمعلمين الى كرسي القسطنطينية وكرسي الاسكندرية وسواهما بطاركة واساقفة…
خاتمة الافتخار
القول مع القديس باسيليوس الكبير:
“كنيسة أنطاكية أجدى نفعاً من جميع كنائس المسكونة…”
وما كتبه آباء المجمع المسكوني الثاني الى كنيسة انطاكية:
” الى الكنيسة الرسولية فعلاً، كنيسة أنطاكية سورية الجزيل احترامها وقداستها التي فيها اولاً استعمل الاسم المسيحي.”
شهادة ثانية من القديس يوحنا الذهبي الفم في مديح القديس الشهيد أغناطيوس الأنطاكي بالقول:
” كأني به (المسيح) جعل مدينتنا في كفة ميزان، والعالم كله في كفة أخرى”
“…لأن امتياز مدينتنا على كل المدن قائم على اتخاذها، من الأصل هامة الرسل بطرس معلماً وراعياً لأنه أن يكون اول الرعاة الرسل راعياً للمدينة التي دُعيَ فيها المسيحيون بهذا الاسم الشريف…”
“…أما انتم ايها الانطاكيون، فإذا دار الكلام في الرئاسة، فاطلبوا التقدم على كل المسكونة، لأن مدينتكم هي المدينة الأولى التي سُميَّ فيها اسم المسيح.”
مآسي انطاكية
وتمثلت مآسي أنطاكية بتدفق الهرطقات والهراطقة ارباب هذه الهرطقات فيها، وفاضوا منها، وارتدوا تعاليم هرطوقية على تعليمها القويم، وبالتالي ادت الى انقساماتها على ذاتها، ودور النضال الارثوذكسي المرير لمواجهة هذه الهرطقات التي أثقلت ظهرها، لكن رأسها الارثوذكسي القويم بقي مرفوعا، لأن أنطاكية الارثوذكسية هي دوما منتصرة…
-الهرطقات
مذهب الطبيعة الواحدة
ذّرَ قرن هذا المذهب الهرطوقي المخالف لتعليم خلقيدونية بأن في المسيح له المجد طبيعتين الهية وبشرية، ومشيئتين الهية وبشرية، فكان اتباع التعليم الهرطوقي من اليعاقبة (نسبة الى يعقوب البرادعي) في سورية، واتخذوا السريانية قومية، نكاية بالدولة الرومية وكنيستها الارثوذكسية، وجاراهم اقباط مصر، واحباش الحبشة وارمن ارمينيا.
واتخذوا قومية الكنيسة ضداً للدولة الرومانية بمختلف قومياتها، وسيسوا العقيدة للتحرر كما سنرى بعد ذلك، وساعدوا كل الفاتحين لاي مصر من امصار الامبراطورية بكونها دولة محتلة ويجب التحرر منها، لذلك ساعدوا الفرس والمسلمين في حربهم ضد الدولة الرومية ابتغاء للتحرر ولكن خاب مسعاهم…كما يُظهر التاريخ لاحقاً وبات الندم شعارهم.
بكل اسف شق ارباب الطبيعة الواحدة وحدة الكنيسة الجامعة بكل اصرار وعناد!!!
مذهب المشيئة الواحدة
بعد النصف الثاني من القرن المسيحي الخامس، وعبثاً بُذلت كل الجهود والمساعي المخلصة من الدولة الرومية برئاسة الاباطرة ورئاسة الكنيسة لرأب الصدع ووقف التدهور والانقسام. وادت هذه المحاولات المخلصة الى بروز بدعة هرطوقية جديدة هي “المشيئة الواحدة” التي تبناها الموارنة وهم فريق من اليعاقبة بقوا على مذهبهم الارثوذكسي، وتعرض رهبانهم الى تنكيل وبطش بهم من اشقائهم اليعاقبة، لكنهم اعتنقوا لاحقا مذهب المشيئة الواحدة وشكلوا كنيستهم المستقلة وكان اول بطاركتهم يوحنا مارون…
حتى جاءت الغارات والحروب الفارسية المدمرة، فضعفت الدولة الرومية وعاصمة الكرسي انطاكية، واندرست وبقية الأرجاء السورية بغزوة الفرس الدموية المدمرة والدموية الشاملة، التي مهدت لدخول المسلمين سورية بشكل مرتاح عسكريا نتيجة ضعف القوات الرومية، بدءاً من دمشق وخيانة كاهنها يونان بالتواطؤ مع خالد بن الوليد وماجر اليه من استشهاد 40 الف خلقيدوني من ابناء دمشق ذبحاً، وتحويل كل كنائس القسم الشرقي من المدينة وعددها 15 كنيسة الى مساجد، فمعركة اليرموك وخيانة الغساسنة بقيادة جبلة بن الايهم وانحيازهم كلياً الى المسلمين بقيادة خالد وانتصارهم المدوي على القوات الرومية، فحمص و…بمساعدة فعالة وتهليل من السريان طمعاً” بالتحرر من النير الروماني الحاكم وكنيسته الارثوذكسية الخلقيدونية المهيمنة…”
مع ماتلاها بعد القرن العاشر من غزوات الفرنج والمغول والمماليك والترك السلاجقة فالعثمانيين وغيرهم…وكله على حساب انطاكية بحدودها الجغرافية والسياسية والروحية…
نهضة ارثوذكسية انطاكية
رغم ظلام مرحلة غزو المسلمين لأنطاكية واحتلالهم سورية الكبرى اي دائرة الكرسي الانطاكي، الا انه علينا ان نتأمل الحقيقة المتمثلة بغدر الاشقاء في المسيح وخيانتهم.
بالرغم من هذا الظلام وخيانة وغدر الاشقاء الا انه علينا بالمقابل ان نلاحظ ازدهار كنيسة انطاكية بوهجها الارثوذكسي، ويرى نشاطها اللاهوتي والكتابي المتمثل في هذه الجمهرة من الآباء القديسين الكبار البارزين كرائد التعريب الشماس عبد الله بن الفضل الانطاكي المطران، وثيودوروس ابي قرة المدافع الشرس عن الارثوذكسية في الوسط اللاخلقيدوني.
وفي دمشق كان قد سبقهما القديس يوحنا الدمشقي الملقب بمجرى الذهب، وصفرونيوس الدمشقي بطريرك اورشليم، واندراوس الدمشقي اسقف كريت والشماس رومانوس الحمصي المرنم شماس مطرانية بيروت، ويوحنا موسخس وسواهم…
ويذكر القديس ثيوذورس الستوديتي رئيس دير ستوديت في القسطنطينية، انه انعقد في دمشق مجمع مسكوني من الشرق والغرب ضد محاربي الايقونات، بكل اسف ضاعت اعماله. وقد اكتملت نوابذ هذه الكنيسة المتألمة، وهي ترزح تحت نير الاستعمار التركي بدءاً من القرن 16 انشقاقات عديدة كانت نتيجة للتبشير البابوي الانتهازي والاستغلالي معوضا اخفاقه بشق صف وحدة الكنيسة في حروب الفرنجة التي دامت قرنين من الزمان، وهدفها الاساس جذب ارثوذكس المشرق الانطاكي والفلسطيني الى طاعة البابوية وليس تنصير المسلمين.
بدءا من القرن 15 لم ترحم جحافل المبشرين من يسوعيين وسواهم ابناء ثلاث بطريركيات مشرقية هي انطاكية والاسكندرية واورشليم المظلومين الواقعين تحت الظلم الاسلاموي بدويلاته الشعوبية المتعاقبة، فنشأت طوائف صغيرة منشقة عن امها الكنيسة الارثوذكسية وحتى عن الكنائس اللاخلقيدونية كالارمن والسريان والاقباط، وبالتالي نشأت مذابح كنسية دخيلة مقابل امهاتها الاصيلة العريقة… فكان اول المنشقين الارمن الكاثوليك ليتبعهم السريان فالأقباط واخيرا الروم.
ليلحقها بعد قرنين غزو بروتستانتي محتج على البابوية (صكوك الغفران) انطلق من اللوثرية والكالفينية والايرلندية… ليغزو المناطق الفقيرة واقتناص الشعب المتعلم، وانشئت دكاكين تهَّود معظمها، وتتناسخ يوميا بفضل سيول من الاموال المشبوهة من الماسونية واليهودية والصهيونية والمسيحية المتهودة وهي التي ساهمت بشكل مكثف باخراج العائلات والشباب المسيحي عند كل ازمة يمر بها مشرقنا وخاصة بذبح لبنان في الحرب الاهلية 1975-1990 وغزو العراق 2003 والحرب الكونية الارهابية على سورية منذ 2011 وحتى الآن وبعثرتهم في التيه العالمي تنفيذا للمؤامرة الكبرى بافراغ المشرق من المسيحيين اصحابه…