السيّد الأمجد إيفان مازيبا
من التاريخ الروسي- الاوكراني
في صيف 2009، قام رئيس بلدية مدينة تشرنيهيف في شمال أوكرانيا برفع الستار عن نصب أقيم في حديقة ديتينتس يمثل القائد إيفان مازيبا، صمّمه وأشرف على تنفيذه فنان معروف محليا، يحمل الجنسيتين الأوكرانية والبولونية، يُدعى جينادي جيرسو. شهد هذا الاحتفال الرسمي يومذاك اشتباكات حادة بين الحشود التي اجتمعت في الحديقة، حيث انقسم الجمهور إلى فريقين، فريق يرفع إيفان مازيبا إلى مصاف كبار الأبطال القوميين الأوكرانيين، وفريق يرى فيه خائنا وضيعا أنشأ القيصر بطرس الأكبر على اسمه تحقيراً “رتبة يهوذا”، ممّا جعل اسمه مرادفا لاسم يهوذا الأسخريوطي، تلميذ المسيح الذي تآمر مع رؤساء كهنة اليهود، وسلّم معلمه لهم مقابل ثلاثين قطعة فضة.
كان إيفان مازيبا من كبار قادة فرسان القوزاق في القرون الوسطى، يوم كان قسم من الأراضي الأوكرانية تحت وصاية الأمبراطورية الروسية، فيما توزع القسم الآخر بين ليتوانيا وبولندا. نسج الرواة حول هذه الشخصية التاريخية روايات عديدة، واستعاد كبار الأدباء هذه الرويات بأسلوب شعري، فامتزج الواقع بالمتخيّل، وبات من الصعب الفصل بينهما. بحسب هذه المصادر.
السيرة الذاتية
وُلد إيفان ستيبانوفيتش مازيبا سنة 1639 في قرية بولوني، غرب سلوفاكيا، وكانت يومذاك تابعة لإحدى المحافظات البولونية. تلقّى علومه الأولى في مدينة كييف، ثم أكمل دراسته في معهد الآباء اليسوعيين في وارسو، وانتقل بعدها إلى خدمة يان الثاني كازيمير، ملك بولونيا ودوق ليتوانيا الأكبر، وتلقّى في البلاط الملكي معارف جمة، ثم سافر في شبابه إلى فرنسا وإيطاليا وهولندا، واستقر لفترة في فولينيا، وهي منطقة تاريخية تمتدّ بين بولندا وروسيا، تشكل اليوم جزءًا من غرب أوكرانيا. في هذه المنطقة، هام مازيبا بزوجة نبيل بولوني يُدعى فالبوفسكي، وأضحى عشيقها، وحين علم الزوج المخدوع بهذه العلاقة الآثمة، عمد إلى ضبط العشيقين في الجرم المشهود، ثم قيّد مازيبا عارياً على حصان وحشي بعدما طلى جسده بالزفت، وأطلق هذا الحصان، فسار بالأسير بعيدا في السهول الأوكرانية.
انجازاته لصالح اوكرانيا
وسط هذه السهول، عمد بعض الفلاحين إلى تحرير مازيبا من قيوده، وآووه، فاستقر بينهم، وأعجب بهذا الشعب الذي يواجه حروب الممالك المتقاتلة من حوله، فانتمى إليه، وبات ضابطا معاونا لقائدهم إيفان اسماعيلوفيتش، وخلفه في صيف 1687، وحقق نجاحا كبيرا في الحكم، حيث جعل من مدرسة كييف أكاديمية، وعمل على إنشاء نخبة متعلمة في البلاد، كما عمل على توسيع قلعة هذه المدينة، حالما بالاستقلال.
القيصر الروسي بطرس الأكبر
في تلك الحقبة، حظي القائد القوزاقي بثقة القيصر بطرس الأكبر، فقلّده وسام القديس أندراوس، أقدم وأرقى وسام في روسيا، وجعله مستشاره الخاص طوال عشرين سنة، ورفعه إلى مرتبة أمير أوكرانيا، غير أن مازيبا ظلّ يحلم بالاستقلال، وحين علم بأن القيصر بطرس الأول كان ينوي إعفاءه من دوره في دولته واستبداله بألكسندر مينشيكوف، انحاز مع جيشه إلى تشارلز الثاني عشر، ملك السويد.
كان الملك السويدي قد هزم أمبراطورية بولندا وليتوانيا، وبات يتطلع شرقا في اتجاه روسيا. أحس بطرس الأكبر بالخطر، فعمل على بناء جيش قوي كثير العدد. في ذلك الوقت اجتاز جيش كارل الثاني عشر نهر فيستولا، وعبر روسيا البيضاء، ووصل إلى مشارف مينسك دون مقاومة، ثم انطلق عبر السهول المنبسطة في بيلاروسيا، ونجح في شق جيش بطرس، وتابع تقدمه إلى أن وصل إلى الضفة الغربية من نهر الدينيبر.
انقلابه على الروس
سعى ملك السويد إلى التحالف مع إيفان مازيبا حين أصبحت أوكرانيا ساحة المعارك للوصول إلى موسكو، ورأى مازيبا في هذا التحالف فرصة سانحة للتخلص من وصاية الروس، لكن بطرس الأكبر باغته، وأرسل ألكسندر مينشيكوف على رأس عشرين ألف جندي حاصروا على مدى خمسة أيام باتورين، عاصمة القوزاق، وحين استسلمت، دخلوها ودمّروها ونكّلوا بأهلها. فرّ مازيبا مع بضعة من رجاله، ولحق بالملك تشارلز الثاني عشر الثاني، وانتهى أمره بعد معركة قلعة بولتافا الكبرى التي انتهت بسقوط جيش الأمبراطورية السويدية وملكها في 1709.
الفارس الرومنطيقي
رتبة يهوذا
بعد هذه الهزيمة المدوّية، لجأ مازيبا إلى مولدافيا حيث توفي بعد بضعة أشهر، وقبل رحيله بزمن قصير، أنشأ القيصر بطرس الأكبر على اسمه تحقيراً “رتبة يهوذا”، ممّا جعل اسمه في الذاكرة الروسية مرادفا لاسم يهوذا الأسخريوطي، تلميذ المسيح الذي خانه وتآمر مع رؤساء كهنة اليهود. من هنا، أضحى اسم مازيبا كنية اعتمدها الروس في تحقير الأوكرانيين “الخونة”، فباتوا يُعرفون بـ”المازيبيين”.
على العكس، رفع الأوكرانيون مازيبا إلى مصاف كبار الأبطال القوميين بعد استقلال بلادهم في 1991،
تخليده فنياً
رفع الاوكران أنصابا تمثله في أمكنة عدة. قبلها، سحرت مسيرة مازيبا العديد من أعلام الأدب والفن في أوربة، ممّا جعل المقاتل القوزاقي فارساً رومنطيقياً بامتياز. بدأ هذا التقليد في 1819، حيث وضع اللورد بايرون قصيدة إنشائية طويلة خاصة بمازيبا، وكرّست هذه القصيدة صورة العاشق الملقى عاريا على فرس وحشي. استعار كبار الفنانين التشكيليين الفرنسين هذه الصورة في العديد من أعمالهم، فباتت أشبه بالصور الميتولوجية المتوارثة من جيل إلى جيل.
ردّ بوشكين على بايرون بقصيدة معاكسة تعكس القراءة “الروسية” لمسيرة القائد “الخائن”، فيما تبنّى فيكتور هوغو القراءة “الأوكرانية” في قصيدة من ديوانه “الشرقيات”. دخل مازيبا عالم المسرح البريطاني في تلك الحقبة، كما ألّف الأديب البولوني يوليوش سواتسكي في 1840 مسرحية حملت اسم هذا القائد. توالت الأعمال الفنية التي تحمل هذا الاسم في السنوات التالية، إلى أن هدأت هذه الموجة في مطلع القرن العشرين. مع استقلال أوكرانيا في 1991، عاد مازيبا إلى الواجهة، وظهر في فيلم فرنسي عُرض في 1993، ثم في فيلم أوكراني عُرض في 2002. هكذا برز مازيبا من جديد في موطنه، وظهرت أنصابه في أماكن عدة، منها حديقة ديتينتس في مدينة تشرنيهيف.
اهتمامه بأورثوذكس انطاكية
من المفارقات الغريبة، أيضا وأيضا، تطلّع مازيبا خلال مسيرته في اتجاه الشرق العربي كما يبدو، فمنذ بضع سنوات، كشف السفير الأوكراني في لبنان إيهور أوستاش عن نسخة من انجيل باللغة العربية تُعرف بـ”انجيل مازيبا”، وذلك لكونها قد طُبعت في حلب سنة 1708 على نفقة هذا “السيد الأمجد”، “طلبا للأجر والثواب”، كما جاء على هذه الصفحة. تضمّ هذه النسخة المطبوعة مقدّمة من سبع صفحات كتبها بخطّ اليد بطريرك إنطاكية أثناسيوس الثالث دبّاس الدمشقيّ، منها صفحتان باليونانية وخمس بالعربية. في هذه الصفحات، يثني البطريرك اثناسيوس على التزام القائد مازيبا في رعايته للشرق الأوسط الأرثوذكسي بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي طوال مسيرته في الحكم.
د. محمود زيباري
بتصرف