في بزته الإنجليزية الأنيقة، ونحافته التي تلفت الانتباه في شيخوخة بلغت الرابعة والستين من عُمره، وثقته التي تبطن نوعا من الخيلاء والتفاخر بما قدّمه الرجل لبلاده بريطانيا، وله الحق، يصعد درج القاعة التي امتلأت عن آخرها، في تؤدة وهدوء، الجميع ينتظر كلمته بشغف، وصمت، الكل يريد أن ينهل من تجربة نادرة لا يجيدها إلا الأفذاذ من الرجال الذين استطاعوا تقمص دور محرّك عرائس الماريونيت، بل عرائس من البشر ذوي الدم واللحم والعروق، بجدارة يستحق عليها أرفع الأوسمة والنياشين.
إن الرجل الداهية القادم من عمق الصحراء العربية القاحلة، وشمسها الحارقة، استطاع أن يُخضع المتصارعين من رجال المشيخات والقبائل والدول الناشئة في تلك البلاد المتناحرة منذ جاهليتها، بل وفوق ذلك يتحد معهم ليُسقط أعظم وآخر خلافة جمعت العرب والترك في تلك المنطقة منذ عصر العباسيين، ألا وهم العثمانيون!
يصعدُ السير بِرسي كُوكس ( Sir Percy Cox) في يوم ضبابي من أيام لندن الباردة في منتصف شباط من سنة 1929م أمام أعضاء الجمعية الملكية البريطانية بمناسبة مرور ست سنوات على تركه وظيفة المندوب السامي البريطاني في بغداد، ليقدم للحضور من أعضاء الجمعية لمحة عن ظروف إرسال الحملة العسكرية البريطانية التي احتلت العراق بين سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وما ينبغي لبريطانيا أن تقوم به في إقامة العلاقات مع شيوخ الخليج العربي في قادم الأيام، قائلا وناصحاً صناع القرار السياسي في الإمبراطورية البريطانية الذين جلسوا بين يديه تلاميذاً
“لقد ارتفعت أصوات المنتقدين لإرسال هذه الحملة في ذلك الحين وفيما بعده… وقد فات هؤلاء المنتقدين طبيعة الموقف الذي حتّم علينا مواجهته نظرا لارتباطنا بمعاهدات ملزمة، وبصداقات متينة مع الحكّام العرب على الساحل الغربي وخاصّة أولئك الذين يحكمون رأس الخليج العربي أمثال شيخ الكويت وشيخ المحمّرة، وكان من المؤكد أننا لو تركنا هؤلاء دون عون فلن يكون أمامهم خيار آخر غير تجربة حظّهم مع العثمانيين، وبذلك تصبح معظم المنطقة العربية في قبضتهم، وسيجر ذلك إلى إعلان الجهاد ضدنا وإلى تعرّض مصافي النفط على شاطئ الخليج، وكنا على ثقة من جهة أخرى أننا إذا ما أظهرنا مقدار قوتنا وقدرتنا على مساعدة الحكام العرب فإننا سنتمكن من كسبهم إلى جانبنا”.
في 21 كانون الثاني من العام 1600م أعلنت الحكومة البريطانية عن إنشاء شركة الهند الشرقية، وخلال قرنين كاملين استطاع الإنجليز إقصاء منافسيهم البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين من الساحة الخليجية ليخلو لهم المجال لفرض السيطرة، فكانت شركة الهند الشرقية لاعباً أساسياً في هذه التطورات، وهي واحدة من أكبر الكيانات التجارية وأكثرها تأثيرا على الإطلاق، منذ سبعينيات القرن الثامن عشر وما تلاها، تطور وضع الشركة في الهند من السيطرة الاقتصادية إلى لعب دور سياسي ساعد في تعزيزه جيشها وأسطولها.
في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، سيطر اتحاد قبائل القواسم على مضيق هرمز، وهو نقطة العبور إلى الخليج. كان للقواسم أسطول هائل من السفن التجارية والحربية مقره رأس الخيمة والشارقة بالتبادل. وكانت الضرائب هي مصدر الدخل الرئيسي للقواسم، حيث قاموا بفرضها على جميع أنواع التجارة المارَّة عبر مضيق هرمز.
رفض البريطانيون دفع هذه الضرائب وبطبيعة الحال تأججت توترات بالغة بين القواسم والبريطانيين، ووصل الحال بالبريطانيين إلى أنهم نعتوا القواسم “بالقراصنة”. وبعد سلسلة من المواجهات بين الجانبين في ١٨٢٠، حاصرت القوات البريطانية رأس الخيمة ودمَّرت أسطول القواسم بالكامل؛ وبالتالي بدأت الهيمنة البريطانية الحقيقية على المنطقة.
تمثّلت الهيمنة البريطانية على الخليج العربي منذ ذلك الحين بتعيين وكيل سياسي تولى زمام الأمور من جزيرة قشم ثم انتقل إلى بوشهر جنوب إيران بمعية من حكومة بريطانيا في الهند، وظل الوكيل السياسي البريطاني يتابع مهام عمله السياسية في مراقبة وأداء الاتفاقيات السياسية مع حكام مشيخات الخليج العربي حتى انتقل إلى البحرين سنة 1947م، ولعل أهم تلك الاتفاقيات وأكثرها لفتا للانتباه معاهدة سنة 1853م التي تم بمقتضاها تنازل الحكام العرب لا سيما “إمارات الساحل العُماني” عن حقهم في شن الحروب البحرية مقابل الحصول على حماية البريطانيين ضد التهديدات الخارجية الموجهة لحكمهم.
امتدت العلاقات البريطانية بكل من حاكم مسقط والأئمة في اليمن ومشيخات ساحل عُمان (الإمارات) والكويت والبحرين وقطر، فضلا عن علاقتها بكل من الوهابيين التي بدأت مبكرا سنة 1809م في عهد سعود بن محمد ثم علاقتها بالأشراف في الحجاز والتي تكللت باتفاق الجانبين على ما عُرف تاريخيا باسم “الثورة العربية الكبرى”.
كان الهدف البريطاني الأساسي حماية المصالح التجارية والسياسية، وتحطيم النفوذ العثماني في تلك المناطق، ولأجل ذلك أبرمت مع أمراء وشيوخ الخليج العديد من اتفاقيات الحماية العسكرية والتجارة، وكانت تدفع في سبيل التوزان السياسي وعدم الاعتداء البيني في تلك المناطق مُشاهرات أي مرتبات شهرية لعدد من شيوخ تلك المشيخات.
في عام 1895م تعرّض فيصل بن تركي سلطان مسقط عُمان إلى اضطرابات داخلية ساعده فيها القنصل الفرنسي المسيو بوتافي، ترتب على ذلك حصول الفرنسيين على إقامة مستودع للذخيرة ومحطة فحم في مسقط تتزود منه السفن الفرنسية، الأمر الذي أقلق البريطانيين، وعدّوه خرقا للمعاهدة السرية المعقودة مع السلطان سنة 1891م التي كانت تنص على عدم تنازل السلطان العُماني عن أي جزء من أراضيه إلى دولة أجنبية ما عدا بريطانيا، ودفع ذلك اللورد كرزن (Lord Curzon) نائب الملك في الهند إلى اختيار السير برسي كوكس ليكون وكيلا سياسيا لبريطانيا في مسقط، وذلك في الأول من تشرين الأول 1899م لفشل الوكيل البريطاني السابق في توثيق العلاقات مع سُلطان مسقط.
منذ ذلك العام يبدأ نجم برسي كوكس في البزوغ، وفي إعادة تشكيل منطقة الخليج العربي ولحد قيام الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) والتي ستكون تكليلا لنجاحاته في ترويض مشيخات الخليج لصالح السياسة البريطانية وحتى الوصول إلى الهدف الأكبر بإسقاط العثمانيين في الخليج والعراق.
نجح كوكس في إثناء حاكم مسقط عن معاهدته مع الفرنسيين، كما أسهم في الجهود البريطانية للحد من تجارة الأسلحة المجلوبة للخليج والتي كان مركزها الأكبر في مسقط، وحين زار اللورد كرزون الخليج العربي بادئا زيارته من مسقط الذي استقبل حاكمها فيصل بن تركي ومستشاره كوكس على ظهر الأسطول البريطاني.
جاء في خطابه: “لقد أنقذناكم من أن تهلكوا بأيدي جيرانكم، وفتحنا هذه البحار لسفن جميع الدول، ومكّنا لأعلامها من أن تُرفرف في سلام، ولم نأخذ أراضيكم ولم نحاول القضاء على استقلالكم، بل عملنا على حماية هذا الاستقلال، وبالتالي فلن نفرّط الآن بما حقّقناه من نصر كبير طيلة قرن من العمل الدؤوب”.
ا
اللورد كرزون
عقب ذلك انطلق كوكس مع نائب الملك البريطاني في الهند لاستكمال باقي الزيارة التي حطّت رحالها في الكويت في 28 تشرين الثاني 1903م، وهنالك التقى كوكس بالشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت، وسرعان ما اتفق الجانبان على إنشاء وكالة/ممثلة سياسية بريطانية في الكويت تم افتتاحها بالفعل في 5 آب 1904م.
كان إنشاء هذه الوكالة تكليلا للاتفاقية الموقعة بين الجانبين في 23 كانون الثاني 1899م، وفيها ما يشبه إعلان الحماية البريطانية على الكويت، حيث تعهّد شيخ الكويت “عن نفسه وورثته وخلفائه من بعده ألا يقبل وكيلا أو قائم مقام من جانب دولة أو حكومة في الكويت أو في أي منطقة أخرى من حدوده بغير رخصة الدولة البهية القيصرية، كما يُلزم نفسه وورثته وخلفاءه من بعده بألا يتنازل ولا يبيع ولا يؤجر ولا يرهن ولا يعطي للتملك أو لأي غرض آخر أي جزء من أراضيه إلى حكومة أو رعايا دولة أخرى بدون الموافقة السابقة للحكومة البريطانية على هذه الأغراض”.
في مقابل الامتيازات والاستثناءات الجمركية التي حصلت عليها بريطانيا من الكويت، وإقامة وكيل قنصلي ورفع العلم الإنجليزي بجوار العلم العثماني، كانت بريطانيا تدفع نظير ذلك إلى الشيخ مبارك سنويا مبلغ 15 ألف روبية من خزانة بوشهر، كما تساهلت بصفة خاصة في تصدير الأسلحة لكي يستعين بها الشيخ ضد أعدائه، وبسبب من هذه الاتفاقية سحبت الدولة العثمانية ملكية الأراضي الكويتية الواقعة على شط العرب والتي كانت تدر على الشيخ 4 آلاف جنيه بريطاني كل عام، الأمر الذي اضطر معه الشيخ مبارك إلى إبقاء الاتفاقية قيد السرية.
بسبب نشاط كوكس الذي أفاد وزارة المستعمرات البريطانية إفادة كبرى بتقريب وجهات النظر، وتوثيق العلاقات مع حُكّام مشيخات شرق الخليج العربي، فقد جاء القرار بترقيته وتعيينه في عام 1906م مقيما سياسيا دائما لبريطانيا في الخليج العربي بدلا من الكولونيل كمبل (Kembal) متخذا من بوشهر مقرا لعمله، ومن هناك أخذ الرجل يُتابع علاقات بلاده مع شيوخ الخليج، ويبعث بتقاريره وبرقياته إلى رؤسائه المباشرين في حكومة الهند البريطانية، وكانت أولى المهام التي رأى أن حلها يجب على وجه السرعة، إنهاء الخلافات الحدودية بين تلك المشيخات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، العلاقات بين آل مبارك حكام الكويت وآل سعود حكام نجد وقتها، والتي أولاها البريطانيون اهتمامهم فعليا؛ لخوفهم من تحالف الكويتيين مع الدولة العثمانية وممثليهم القريبين منهم في البصرة وبغداد.
يؤكد الباحثون في تاريخ تلك الحقبة الأهمية المتنامية لدور كوكس بوصفه المقيم البريطاني في الخليج، وعلاقته بالكويت التي اعتبرت حجر الزاوية في ترسيخ وتقريب إمارات نجد لا سيما آل سعود وآل رشيد مع البريطانيين، ففي وثيقة مؤرخة بـ 24 نيسان 1907م أرسل كوكس إلى رؤسائه في حكومة الهند البريطانية برقية جاء فيها لجوء أمير حائل سلطان بن حمود آل الرشيد إلى الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت طالبا منه في مناسبتين مختلفتين أن يتوسط لدى الحكومة البريطانية لوضع إمارته تحت حماياتها، نكاية في العثمانيين الذين تجاهلوه ولم يعودوا يرسلون له المخصصات المالية التي كان يرسلها الباب العالي في إسطنبول إلى أمير آل رشيد كما جرت العادة، والذي أقلقه أيضا علاقتهم بمنافسه آل سعود في الرياض.