حي الصالحية بدمشق
توطئة
من مرّ في الصالحية مساءً، يعرف تماماً أن هذا الحي مسكون بهواجسه حتى الثمالة، فبعد ضجة النهار، صراخ الباعة، تصادم العابرين، زحمة الهواء المشبع بعرق “الكادحين”، اصطفاف سيارات المسؤولين، تأتيه العتمة على حين غفلة، يعود أهل الحارة لحارتهم التي هجروها صباحاً، مشتاقين لصمتها…
فوق مكاتب المحامين المتخصصين بالجنايات الكبيرة، وبقضايا القتل والمخدرات، وفوق عيادات الأطباء المتخصصين بأمراض القلب والتنفس، وقريباً من مجلس الشعب، ووزارات الصحة والمواصلات والاقتصاد، يسكن الناس العاديون، أهل الحي الذي لم يبق حياً، وإنما سوقاً وتجارة، سواء كان سوقاً للملابس والأحذية، أو سوق للعدالة والصحة والقرارات… يبقى سوقاً بمفردات البيع والشراء، ولا يبق لأهل الحي سواء مساءاتهم الصامتة…
ليست الصالحية حياً، بل مدينة، أو على الأقل هكذا كانت منذ أقل من ألف عام، ورغم أن الكثيرين يعدون الصالحية كنتوء دمشقي، تمرد على أسوار المدينة القديمة، إلا أن الصالحية وبنشأتها التاريخية، هي مدينة المهاجرين إلى دمشق… وليست مدينة الدمشقيين، لكنها أصبحت سوقهم بالتأكيد.
ورغم أن هذا الحي اكتسب شهرته كسوق تجاري ينافس الأسواق الأخرى، بل يشكّل أكبر تجمع تسويقي في دمشق، إلا أن أبنيته الحديثة لم تستطع إلغاء أثريته وانتماءاته القديمة، وتضم الصالحية اليوم، سبعين موقعاً أثرياً من أصل 250 موقعاً في مدينة دمشق بأكملها.
حي الصالحية يُختصر اليوم بسوقها القديم المعبد، لكن محلة الصالحية كانت تضم سابقاً، ركن الدين، الصالحية، والمهاجرين، ثم اقتصرت فيما بعد ومنذ عهد الفرنسيين على حي الصالحية.
وهذه المدينة المسماة بالصالحية، كانت لأهل الصلح والكرامات، وكانت مدينة للعلم أرسل إليها أهل دمشق أبناءهم ليتعلموا على مدار ثمان قرون، فكثرت فيها المدارس ووصلت إلى المئات، كما كانت مقراً “للأولياء”، ومنها انطلق عدد من المذاهب الدينية كالحنبلية، كما كانت مدفناً لعلماء الدين والمتصوفة كمحي الدين بن عربي الأندلسي، والشيخ عبد الغني النابلسي، كما دفن فيها لأمير عبد القادر الجزائري وقد نقلت رفاته إلى الجزائر بعد استقلالها.
من الصعب أن تجد مكاناً كالصالحية، تآلف فيه العلم والدين، مع الشعوذة والسحر، واجتمعت السياسة مع الفن، وبيعت فيه صنوف البضائع، من بيانات الانقلابات العسكرية، إلى تعويذات الزواج والطلاق، وصولاً إلى القطنيات وقمصان النوم المزركشة… الصالحية سوق مفتوح، الأبنية متجانسة، حديثة، لكنها ملتصقة ببعضها كبيوتات دمشق، لا تشعر بالصالحية بأسرار الحريقة، أو عتمة الحميدية… فالصالحية لم تكن اشتراكية الهوى يوماً، كما لم تكن مركزاً مالياً ضخماً، اضطر لعقد التحالفات مع السلطة… إنه سوق للتجزئة، للبيع بالتقسيط، والبيع بالمفرق، ولا مكان فيه لحيتان السوق وبياعي الجملة…
نشأة حي الصالحية
كانت نشأة حي الصالحية في القرن الثاني عشر الميلادي أيام والي دمشق نور الدين الزنكي ففي عام 1156 رحل الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة سرا ومعه ثلاثة من أهله من مدينة نابلس قاصدين مدينة دمشق العامرة هرباً من الاحتلال الفرنجي في فلسطين ونزل الثلاثة في مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي وكانوا بضيافة بني الحنبلي.
لم يهدأ بال الشيخ المقدسي حتى أرسل إلى أهله وأولاده رسالة يدعوهم فيها إلى الهجرة “فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم”، فاستجابوا له وهاجر أولاده وبناته وأصهاره حتى بلغوا 35 شخصاً والتحقوا بشيخهم ومكثوا في هذا المكان أربع سنوات، وماكان من الملك نور الدين، إلا أن أمر بنزع الوقف من بني الحنبلي وتسليمه إلى بني قدامة، ولكن الشيخ المقدسي رفض ذلك وقال: “لم أهاجر من بلادي لأنافس الناس على دنياهم، ما بقيت أسكن ههنا”، فذهب الشيخ يطلب مكانا آخر له ولأهله وكان ممن أحب الشيخ رجل يدعى أحمد الكهفي
يملك في سفح قاسيون ديراً مسيحيا عريقاً كان المسلمون قد بسطوا يدهم عليه كغيره من الكثير من الكنائس وقلالي الرهبان والخلوات النسكية والاديار المسيحية، فسار الشيخ مع الرجل ليشاهد المكان الجديد فأعجبه بسبب بعدِهِ عن دمشق إضافةً إلى وحشتِهِ لخلوهِ من السكان وعند ذلك نزل الشيخ إلى نهر يزيد فتوضأ منه وصلى هناك وقال: “ما هذا إلا موضع مبارك”، فسميت هذه الضاحية الجديدة باسم الصالحية نسبة إلى صلاح القوم الذين أسسوها وتقواهم.. “الصالحيةُ جنةٌٌ والصالحونَ بها أقاموا”.
وتوافد الناس بعد ذلك من قرى وضياع فلسطين، وأنشأ المهاجرون أول جامع في الصالحية (جامع الحنابلة) الذي بني وفق مخطط شبيه بالجامع الأموي، كما بنوا أول مدرسة هي (المدرسة العمرية) التي كانت تحتوي 360 حجرة، ولا تزال فيها إلى اليوم 110 غرف ويجري ترميمها حالياً، واتسعت بعدها ضاحية الصالحية في أيام الدولة الأيوبية والبعض يقول أن اسم الصالحية جاء من اسم القائد الأيوبي صلاح الدين، وزاد الأيوبيين من المدارس حتى بلغت العشرات، كالمدرسة الأتابكية التي تعرف اليوم بجامع التابتية، والمدرسة الركنية والقاهرية والأشرفية البرانية والمرشدية واليغمورية والجهاركسية ومدرسة الصاحبة التي بنتها الأميرة خاتون أخت السلطان صلاح الدين، وتحولت المنطقة تدريجياً إلى معقل للعلم، وسمي أحد أحيائها لكثرة مدارسه بحي المدارس.
وفي عام 1248 بني البيمارستان القيمري وسط سوق الجمعة الآن، ويدل بناء هذا المستشفى الكبير في حي الصالحية على درجة التطور العمراني للمنطقة ومدى الاستقلالية التي وصلت إليها، استمر استعمال البيمارستان القيمري كمستشفى حتى أواسط القرن الماضي، واليوم تقام فيه محاضرات ونشاطات إلا أن أهالي حي الصالحية يطالبون بإعادة البيمارستان القيمري صرحاً صحياً كما كان أيام زمان يخدم أهل الحي ويبقى معلماً أثرياً في الوقت نفسه.
وعنداحتلال الأتراك لدمشق السنة 1516 كان السلطان العثماني سليم الأول شديد الإعجاب بآراء وتعاليم الشيخ محي الدين بن العربي وطريقته بالتصوف، فأمر ببناء مسجد بجانب ضريح الشيخ محي الدين بن عربي والذي سمي بالجامع السليمي وأنشأ مقابله تكية كمطعم للفقراء, وتدعى التكية السليمية.
لم تتوقف حركة التوسّع والتجديد العمراني في الحي، وظل موقعه المهم يلفت الأنظار، فاشتهر في العهد العثماني، وتحولت الصالحية في أواخر هذا العصر إلى مركز يجذب وجهاء دمشق وأعيانها، فيبنون حول بساتينها الخضراء دورهم الصيفية فتحولت إلى مصايف خاصة بعائلات شامية عديدة.
استمرت الغوطة بفصل مدينة الصالحية عن مدينة دمشق، لكنهما بدآ بالاقتراب رويداً حتى الالتصاق التام، وبالطبع ابتلعت العاصمة المدينة القريبة وحولتها إلى أحد أحياءها، لكنه أصبح الحي الأغنى، وكانت مفردات الثروة تظهر بجلاء في نمط حياة أهل الحي… أكثر من ذلك، وبسبب نسبها غير الدمشقي، كانت الصالحية أكثر تقبلاً، لاستقبال “الجديد”. فكان أهل دمشق ممن سافروا إلى الغرب، أو درسوا في جامعات أوربية، يفضلون سكن الصالحية حيث يبنون بيوتهم على النمط الغربي، ويخلعون طربوشهم وشروالهم ويلبسون البرنيطة والبنطال، وإن كانوا يعودون للباس الدمشقي عندما يزورون المدينة القديمة، هكذا جسدت الصالحية أول احتكاك بين القديم والجديد، ولذا فإن أول دور السينما والمسرح، أقيمت هناك…
العصر الحديث
في عام 1916، أنشأت ولاية دمشق العثمانية أول دار للسينما في دمشق في شارع الصالحية، وافتتحها جمال باشا السفاح وسميت سينما “جناق قلعة”، تخليدا لذكري انتصار الأتراك على الأسطول البريطاني في مضيق جناق قلعة الذي يصل البحر الأبيض المتوسط ببحر مرمره، وعرض في هذه الدار أول فيلم سينمائي من صنع ألمانيا، وهو مجرد قصة مثيرة مع فيلم آخر إخباري يمثل استعراض الجيش الألماني في برلين… لم تدم الحال طويلا في سينما جناق قلعة، إذ لم يمض شهر واحد على الافتتاح حتى شاهد من كان يقيم في الأحياء المرتفعة من دمشق لهيبا هائلا يتصاعد نحو السماء يصحبه دخان كثيف، وسمع من كان يسكن شارع الصالحية أصواتا مرعبة، لقد كانت سينما جناق قلعة تحترق..
بعد بضع سنوات، كانت الصالحية أيضاً، من استقبل نمط الحكم الغربي، وبُني مكان السينما المحترقة، بناء مجلس البرلمان السوري عام 1929، لتملأها ضجة السياسة والسياسيين، وتنبت مقرات الأحزاب السورية حولها، حيث شهد هذا الشارع مرور كل رؤساء الجمهورية في سورية وهم يتوجهون للبرلمان، وشهد أول زيارة للزعيم جمال عبد الناصر إلى سورية بعد إعلان الوحدة مع مصر، وشهد مرور الدبابات العسكرية لاحتلال البرلمان وساحة السبع بحرات، كما شهد مئات من المظاهرات الغاضبة ضد الحكومات المتعاقبة، قبل أن يستقيل الدمشقيون من التظاهر، ويعقدون “صلحاً” مع حكومتهم، ليتقاعد حي الصالحية من العمل السياسي.
أما المقاهي التي ملأت الصالحية يوماً كمقهى الفاروق والروضة والشانوار، واشتهرت بجلوس سياسيي دمشق ومفكريها فيها، كخالد بكداش، وجمال الأتاسي وعدنان المالكي، فإما أغلقت أو تحولت إلى مقاه لا تقدم المشروبات السياسية.
استمر النشاط العمراني في الصالحية بالنمو، حين سكنتها العائلات الثرية الفرنسية والإيطالية، ومنها عائلة المندوب السامي، مما جعلها تعتبر من أرقى الأحياء الدمشقية خصوصاً مع ظهور الترام ووصوله إليها، وعندما بدأ السوق الحالي بالتشكل، كان أحد تعبيرات صعود الطبقة البرجوازية في سورية، فقد جاء هذا السوق لينافس سوق الحميدية القديم، وليضع بضائع أغلى وأحدث، ليتحول سوق خاص بالطبقات الغنية، ويبدأ الحميدية بخسارة موقعه كالسوق الأول، ويصبح سوقاً شعبياً، واليوم خسر الصالحية مركزه أيضاً وتحول بدوره إلى سوق شعبي، فيما أصبح هناك أسواق أخرى تجسد الثروة والنفوذ والسلطة أيضاً، كالمالكي والمزة وكفرسوسة، وما زال البعض يرى أن الصالحية، تعكس صورة الطبقة الوسطى في دمشق، وأن هذا التآكل الذي يصيب الحي من أطرافه كافة، يشبه تآكل الطبقة الوسطى، حتى أن ما كان مدينة يوماً ما، أصبح يختصر بشارع لا يتجاوز طوله 300 متر…
وعلى مدى التاريخ الطويل لحي الصالحية تعرّض لتغييرات جذرية في جوانب عديدة منه حيث انقسم المستشفى العسكري العثماني الذي شيد عام 1865م، بعد خروج الاستعمار الفرنسي، إلى قسمين أحدهما مخصص كمبنى للأركان والآخر استمر كمستشفى عرف فيما بعد باسم يوسف العظمة، وكان مبنياً على طراز العمارة الأوروبية بتأثيرات عمرانية عثمانية، لكنه هدم عام 1949م، وارتفعت مكانه سلسلة متصلة من الأبنية الحديثة، بينما بناء نادي الضباط القديم أقيم مكان منزل الوجيه صبحي بركات الأثري الذي تولى رئاسة الوزارة السورية عام 1922 1925م، أما مبنى المعهد العربي الإسلامي المشيد من قبل آل القباني في أوائل الثمانينات من القرن 19 فارتفع مكانه الآن برج الصالحية الشهير الذي يحتوي مئات المكاتب والمحال التجارية الحديثة، لكن رغم هذه التغييرات استطاع أصحاب البيوت أن يبقوا في حيهم.