مدرسة بكفتين الحقوقية التي كانت قائمةً في دير سيدة كفتين الروميّ الأرثوذكسي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
نظرة تاريخية بسيطة
هذه المدرسة تأسَّسَت سنة 1881 في ديرٍ قديمٍ جداً يعودُ للقرن السابع، بدليل وجودِ جدرانياتٍ قديمة لوالدة الإله طُلِيَت بالكلس في حقبةِ حرب الأيقونات منعاً لظهورِها. يقعُ هذا الدير المدعو دير كفتين في بلدةِ بكفتين الكورانية الصغيرة التي هي على خطِّ تماسٍ ثلاثي بين الكورة ومنطقة طرابلس ومنطقة زغرتا، والى جانب نهر قاديشا (أبو علي). وتعني كلمة بكفتين الآرامية أو الكنعانية “بيت المنازل المعقودة”. وبكفتين هي قريةٌ زراعيةٌ هامة يملكُ الدير ما يقاربُ ثلثَ أراضيها التي تَزرعُ الزيتون والعنبَ والليمونَ واللوز ونباتاتٍ أخرى موسمية.
ويضمُّ الدير القديم عشرين خليّةٍ قديمة للرهبان من القرن السابع. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ إمتدَّت حتى سنة 1499 ويكتنفُها غموضٌ كبير، بُنِيَت غرفٌ جديدةٌ للرهبان، مما يشيرُ الى حياةٍ رهبانية مستمرةٍ في الدير. وبعد سنة 1699، بدأ بناءُ الدير الحالي الذي أنشِئ حسب طرازٍ نموذجي جميلٍ ومحكمٍ لم يبدأ، بالفعل، إستخدامُه كمدرسةٍ حقوقية الاّ في سنة 1881. والجديرُ الذكر أنَّ ديرَ كفتين لعب دوماً، عبر تاريخِه الطويل، دوراً ثلاثياً تتلازمُ فيه الحياةُ الروحية والإنتاجُ الزراعي والخدمة التربوية التعليمية. وهذا الأمرُ طبيعيٌّ في الأديرة الرومية التي تهدفُ لزرعِ كلمة الله في المجتمع، لذلك كانت الأديرةُ دوماً مدارسَ ومشافي ومآوي ومياتم تكشفُ للإنسان وجهَ الله.
مدرسة الحقوق
تأسَّسَت مدرسة الحقوقِ في دير كفتين سنة 1881 بفضلِ تلازمِ إرادةِ الإكليروس الأرثوذكسي وإرادة الشعبِ الروميّ المؤمن، بإنشاءِ معهدٍ تعليمي عالي المستوى ذي نفحةٍ وطنية. وكانت هذه الفترةُ التاريخية تشهدُ نهاياتِ الدولة العثمانية وتكاثرَ الإرساليات الغربية من كاثوليكية وبروتستانتية تنشرُ العلمَ في الأوساط الرومية. وقد لعبَ مجلسُ العمدة لهذه المدرسة دوراً أساسياً في إنشاءِ المؤسسة، وكان مؤلفاً من أركانِ طائفةِ الروم في طرابلس، وبينهم قنصلُ روسيا وقنصلُ اليونان ونافذون في الدولة العثمانية وتجارٌ على علاقةٍ وطيدةٍ بالدولِ الأوروبية. وأسهمَ مجلسُ العمدة في تأسيسِ هذه المدرسة بفضلِ تمويلِ أعضائه وعلاقاتِهم الوطيدة بالأوساط السياسية والدولِ الأجنبية. لكنَّ مدرسة كفتين الحقوقية تميَّزَت بطابعِها الوطني الذي كان يفرِّقُها عن سائر مدارسِ الإرساليات الأجنبية، حتّى الموسكوبية الأرثوذكسية. وبهذا المعنى، جمعَت أساتذةً وطلاباً من جميع المللِ والطوائف، منهم الموارنة والبروتستانت والمسلمون. وقد برز بين الأساتذة المرموقين في المدرسة الشيخ إبراهيم الفتّال الطرابلسي الذي كان يُدرِّسُ أصولَ المحاكمات والفقه والشريعة والدستور العثماني، والذي كان وراءَ جعل مدرسة كفتين مرجعاً للإفتاء والبحث القانوني في منطقة شمال لبنان وفي مدنٍ وقرى بعيدة.
عاشَت مدرسةُ الحقوق في كفتين من 1881 الى 1914، وتوقفت بعدئذٍ بسببِ المجاعة والحربِ العالمية الأولى. وتأثرَت، في تاريخِها، بالتغيرات والتبدلات السياسية التي كانت سائدةً في حينِه، في ظلِّ الصراعات بين المؤثرات العثمانية والفرنسية والإنكليزية والروسية، لكنَّ همَّ مدرسة كفتين ومجلس العمدة الذي كان يرعاها كان دوماً الوطن، مع رعايةٍ خاصةٍ للفقير. أدَّت الحربُ اللبنانية في سنة 1975 وما يليها من سنوات، وبسببِ وجودِ الدير في منطقة تماس، الى إحتراق الدير ونهبِه وخرابِه. ولم تبقَ فيه الوثائقُ القديمة التي تكشفُ تفاصيلَ تاريخِ المدرسة. لكنَّ ما بقيَ من سنتَي 1887 و1888 يشيرُ الى وجودِ حوالي مئة طالبٍ و12 أستاذ، ينتمون الى مختلفِ الطوائف والملل والتياراتِ الفكرية. وكانت المدرسة تعلِّمُ العربية والتركية والروسية والفرنسية والإنكليزية، وكان نظامُها داخلياً، يضمُّ طلاباً من جميع الطبقات الإجتماعية وعدة دولٍ مشرقية، مع توفُّرِ الكتب والعناية الصحية والرعاية للفقير.
ويلفتُ النظرَ المشاركةُ الحقيقية بين الإكليروس والشعبِ في العناية بالمدرسة، وكان الشعبُ ممثلاً “بالأخوية” وهي الجمعية الخيرية الأرثوذكسية الطرابلسية المكوَّنة من أشخاصٍ خبراء في مختلفِ أوجهِ الحياة الإجتماعية والإقتصادية، كانوا يكمِّلون بركَة الأسقف بجمعِهم المال والنفوذ في خدمة المدرسة. ويذكرُ الأستاذ بشارة حبيب، في مقابلتِه، العائلات الرومية الأرثوذكسية الطرابلسية الكبرى التي دعمَت المدرسة. لكنَّه يأسفُ لغيابِ بعض هذه العائلات التي بادَت مع الوقت وإختفَت.
كانت البرامج، في هذه المدرسة، متقدمةً ورفيعةً توازي ما كان يُدرَّسُ في الجامعة اليسوعية والجامعة الأميركية. ومن أبرز خريجي المدرسة الكثر، يجدرُ ذكرُ الأديب فرح أنطون الذي هاجرَ لاحقاً الى مصر وعُرفَ بدفاعِه عن التحرُّر والمرأة. وذكرَ ألأستاذ حبيب عدداً من العمدة الكبار (وهبه خلاط، إسكندر كستافليس، جرجي النقاش، حنا الصراف، حبيب نوفل وجرجي ينيّ) والأساتذة (إبراهيم الفتال، داوود عيسى، ونقولا إبن يعقوب منصور) والخريجين (فرح أنطون، نسيم صيبعه، جرجي تامر، عبد الله الأيوبي وقيصر مابرو).
توقَّفَت المدرسة قسرياً في سنة 1914، وإستعملَت الدولة اللبنانية المباني في سنة 1946 كمدرسةٍ إبتدائية، ولحقَت بها مدرسةٌ لتعليم اللغة الإنكليزية (دائرة Point Four الأميركية) سنة 1950، الى أن قرَّر المثلث الرحمات المتربوليت إلياس (قربان) تأسيسَ مدرسة بكفتين الفنية في سنة 1988، وأضيفَت إليها، في سنة 2001، مدرسة بكفتين الثانوية. وتتضمنُ المشاريع المستقبلية، بالرغمِ من الصعابِ الإقتصادية الحالية، الإرتقاءَ بالمؤسسة الى المستوى الجامعي وإعادةَ كلية الحقوق الى الحياة، وضمَّ “واحة الفرح للعناية بذوي الحاجات الخاصة” الى المجموعة المتحلِّقة حول دير كفتين.
(نقلا عن صفحة الجمعية الثقافية الرومية
الأستاذ بشارة حبيب، مدير مدرسة سيدة بكفتين الثانوية ومدرسة بكفتين الفنية العالية)