معركة ساردارابات واعلان قيام جمهورية ارمينيا…
توطئة
تعد هذه المعركة التي حصلت في 28 ايار 1918 هي المفصل الحاسم في اعلان ولادة دولة ارمينيا وعاصمتها يريفان على جزء من التراب الارمني لذلك ومع اقتراب هذا التاريخ نسلط الضوء على هذه المعركة الملحمية وتأثيرها العظيم على ارمن ارمينيا والشتات
معركة ساردارابات
معركة ساردارابات من الملاحم التي خلدت في ذاكرة الشعب الأرمني إلى الأبد لما كان لها من نتائج تاريخية على أرمينيا. ففي هذه المعركة حسمت أرمينيا قرارها باعلان الجمهورية الأولى رغماً عن الدول المجاورة بعد ثلاث اعوام فقط من الإبادة الجماعية.
فماذا حدث في ساردارابات؟
بدأت بوادر العثمانيين بالقضاء على ما تبقى من أرمينيا بعد ثورة اكتوبر 1917 في روسيا واستلام البلاشفة زمام الحكم وما تبعه من سحب القوات الروسية من جبهة القوقاز. ليبقى الأرمن و كارثتهم المتمثلة بالإبادة وحيدين دون سند.
بكل الأحوال الأرمن رفضوا الاعتراف حينها بسلطة البلاشفة، وانسحب العديد من الضباط و القادة العسكريين الأرمن من الجيش الروسي، وباشروا فوراً بتشكيل وحدات قتالية أرمنية لتحل محل القوات الروسية المنسحبة والوقوف بوجه الزحف العثماني.
ففي اوائل أيار من عام 1918 القوات التركية اصبحت على مشارف أرمينيا الشرقية، للأجهاز على ما تبقى من أرمينيا، في وقت كانت أرمينيا تعاني فيه ظروف مزرية و كارثية، مع وصول اعداد من الناجين من الإبادة إلى يريفان وهم شبه احياء. حتى المانيا -حليفة العثمانيين- عارضت بشدة الهجوم ورفضت مساعدة العثمانيين في العملية التي كان هدفها الرئيس سحق أرمينيا لتحقيق وصل جغرافي مع أذربيجان و الوصول لآبار النفظ في باكو.
بكل الأحوال تشكلت فرق أرمنية عسكرية متمرسة بحروب العصابات، وصل تعداد مقاتليها للـ9000 متكونة من الأرمن المحليين، والذين وصلوا للمساندة من جورجيا وإيران وروسيا و بعض العائدين من سورية والعراق، وكذلك الهاربين من الجيش الانكليزي و الفرنسي.
كان قادة الجانب الأرمني: الجنرال توماس نازاربيكيان، وموفسيس سيليكيان، ودانيال بيك-بيروميان و بوغوص بيك-بيروميان، و كريستوفر آراراتوف. الكل وجدوا انفسهم محاصرون في يريفان وضواحيها و حول بحيرة سيفان في مساحة لا تتجاوز الـ 12000 كيلو متر مربع.
في حين أن قادة الطرف التركي كانوا: وهيب باشا و كاظم قره بكر و رشدي باشا على رأس قوة تركية تكونت من 13000 عسكري تضمنت حوالي 1500 مقاتل من الأكراد.
بدأ الهجوم التركي في 15 أيار 1918، و نجحت القوات التركية باقتحام مدينة اليكساندروبول”غيومري اليوم”. وهو ما خلق تهديداً لغزو كامل أرمينيا الشرقية. للتمكن من مقاومة الهجوم قرر قائد الفيلق الأرمني توماس نازاربيكيان نشر القوى لحماية الطرق الإستراتيجية بين يريفان وعاصمة جورجيا تبليسي.
مع وصول القوات الأرمنية المنسحبة لسهول آرارات، هناك تم تشكيل فرقة قتالية تحت قيادة الجنرال موفسيس سيليكيان “المنسحب من الجيش الروسي” لاحباط الهجوم التركي على يريفان.
لا يمكن نفي أن الغزو التركي لأرمينيا الشرقية وضع القيادات الأرمنية في كل من تبليسي ويريفان في وضع صعب. حتى انه في 19 أيار1918 اعلن القيادي العثماني خليل كوت من باطومي، أن الأرمن قد هُزموا و عليهم الطاعة، وتسليم أرمينيا الشرقية بالكامل، ولَّقب حينها الأرمن بـ “الجيش المهجور” نتيجة تخلي روسيا عنهم، وبقائهم وحيدين في الساحة.
وسط ذعر كبير في مدن أرمينيا الشرقية، ويريفان وافق مجلس مدينة يريفان في 18 أيار 1918 باقتراح من رئيس البلدية تاديفوس توسيان بتسليم المدينة للأتراك دون مقاومة واخلاء السكان و قيادتهم للجبال. لحسن الحظ القرار لم يسفر عن أي نتيجة عملية بسبب قيام المجلس الوطني الأرمني في تبليسي (جورجيا) برئاسة آرام مانوكيان معارضة ذلك بشدة وتم الاطاحة بالقرار وتم تسليم يريفان إلى لجنة خاصة. وقام آرام مانوكيان بالمساهمة بوصول 1500 مقاتل جدد إلى يريفان لتعزيز دفاعات المدينة.
في 18 أيار طلب آرام مانوكيان من الكاثوليكوس كيفورك الخامس مغادرة ايتشميادزين لأسباب أمنية. إلى أن الأخير رفض الاقتراح بشدة بل اظهر مساندة كبيرة لاعمال المقاومة،ما رفع معنويات المقاتلين.
قام حينها الكاثوليكوس كيفورك الخامس بالأمر بقرع أجراس الكنائس لمدة ستة أيام لحشد كل الأرمن من فلاحين وشعراء وحدادين ورجال دين و مهندسين ومن كل طبقات المجتمع والقادرين على حمل السلاح. حتى المدنيين والأطفال ساعدوا في هذه الجهود حيث يقال “ازدحمت العربات التي تجرها الثيران والجوامس و الأبقارعلى الطرقات وهي تحمل الطعام والأمتعة و الذخائرللمتطوعين من محيط يريفان”.
قام حينها آرام مانوكيان بلعب دور حيوي، من حيث حشد المقاتلين، وتأمين الذخيرة لقلب ميزان المعركة لصالح الأرمن. و أمرالجنرال موفسيس سيليكيان بوقف أي عملية انسحاب للقوات الأرمنية، ووقف الهجوم التركي على يريفان بأي ثمن.
على الجانب التركي كانت أفواج المشاة التركية 106-107-108 تتحرك نحو غيومري-يريفان بالإضافة إلى فرقتي مدفعة كما دعم الجانب التركي من قبل فوج منفصل من الفرسان ومقاتلين أكراد. وكان تحت تصرف الاتراك حوالي 40 مدفعاً.
على الجانب الأرمني و خلال معركة ساردارابات تشكلت القوات الأرمنية من كتيبة يريفان التي كانت قد شاركت في معركة آباران. يقودها الجنرال موفسيس سيليكيان بالإضافة لأفواج من الفرسان و المشاة كذلك كتيبة من الفرسان الإيزيديين تحت قيادة “اوسوب بيك و جانكير آغا”. و كان لدى الأرمن 16-20 مدفعية. الأرمن قاموا بعدة انسحابات و مناورات كبيرة من أجل تأمين سهل آرارات و منع العثمانيين من القيام بأي عمليات التفاف.
بكل الأحوال في 21ايار قام الأتراك بالهجوم على مناطق متاخمة لمحطة قطار آراكس و اصبحوا على مقربة 7 كم من ايتشميادزين “عاصمة أرمينيا الروحية” و مقر كنيستها. في ذلك اليوم قامت كتيبة مصطفى ذهني باشا (ذو الأصل الكردي) بهزيمة وحدة أرمنية مكونة من 600 مشاة و 250 فارس و استولت على ساردارابات التي تقع اليوم في مدينة آرمافير في أرمينيا. و تابع الأتراك هجومهم ليصبحوا على بعد 20 كم من يريفان.
كان هدف الأتراك وضع القوات الأرمنية جنوب سكة الحديد و السكان المحليين بالإضافة إلى 100 ألف من الفارين من الإبادة اصبحوا تحت خطر كبير. إلى أن فرقة المدفعية الأرمنية تحت قيادة الكابتن خورين ايكيتخانيان استطاعت وقف الأتراك على الفور. على الرغم من الانسحاب تم تعزيز لدفاع عن الجسور على الضفة اليسرى لنهر آراكس و في نفس الوقت تم ارسال مزيد من الوحدات الأرمنية إلى ساحة معركة يريفان.
نتيجة تكتيكات ناجحة استطاع الأرمن شن هجمات مضادة ضد الأتراك من ساردارابات مكبدينهم خسائر كبيرة في مساء 21 أيار/1918. في 21-22 أيار استطاعت وحدة قتالية أرمنية بالإضافة إلى وحدة إيزيدية باحباط هجوم تركي من الخلف. العملية ساعدت القادة الأرمن “دولوخانيان و بيريكريستوف” على اعادة تعيين القوات للمعركة و مكنت الكابتين سيرجو آتاناسيان و فلاديمير ساكيلاري من حشد المدفعية من جديد.
في 22 أيار1918 تم تعيين قائد مفرزة يريفان و قائد قوات ساردارابات الكولونيل دانيال بيك بيروميان لقيادة الهجوم المضاد و الحاسم للقوات الأرمنية. ففي الساعات الأولى من 22 أيار, شن الأرمن هجوم كبير على طول الخط الأمامي على القرى التي يتمركز بها الأتراك. نجح الهجوم بتدمير طليعة من القوات التركية بتغطية من المدفعية المتمركزة على التلال المحيطة بساحة المعركة. بالتزامن مع الهجوم الأرمني على الخطوط الأمامية. قام فوج بيريكريستوف للمتطوعين و فرقة إغدير و زيتون و خنوس و فوج الفرسان الخاص الأول بشن هجوم من الجانبين و الخلف.
ابدى الأتراك مقاومة كبيرة تضمنت قتال الحربة وجهاً لوجه إلى أنهم اضطروا للانسحاب بعد تكبدهم خسائر فادحة. واصل الأرمن تقدمهم و استعادوا كامل القرى و البلدات المحيطة التي كانوا قد انسحبوا منها مؤخراً و من ضمنها قرية ساردارابات. و في اثناء ذلك تم تدمير كامل القوات التركية في المقدمة و استمر التقدم الأرمني لاستعادة الشمال.
بعد أن عانت القوات التركية الهزيمة في 22-23 أيار, استغل الأتراك حقيقة أن الأرمن توقفوا عن ملاحقتهم لتجنب ابتعادهم عن مواقعهم الأولية. و تراجع الأتراك إلى محطة آراكس حيث تمركزوا على التلال المحيطة. و كان لتلك التلال المرتفعة أهمية تكتيكية كبيرة لكلا الجانبين.
في 23 أيار, لم يكن هنالك عمليات قتالية نشطة على طول جبهة ساردارابات. تم اعادة تجميع القوة على الجانب الأرمني و تم تكليف فرقة زيتون بالدفاع عن جسور نهر أراكس و قد نجحت هذه الفرقة بالإضافة إلى الفرقة الأرمنية الخامسة بصد محاولات الأتراك المتكررة لعبور النهر بشراسة فائقة. في 23 أيار قام ممثلو الكنيسة الأرمنية بقيادة الاسقف كاريكين هوفسيبيان و رئيس الاساقفة زافين بزيارة جبهات القتال لتشجيع الجنود قبل بدأ المعركة الحاسمة.
بعد معارك 22 أيار, ارسل الجنرال سيليكيان وحدات قتالية إلى آباران لمنع تقدم الأتراك نحو يريفان. و أمر وحدة بوغوص بيك بيروميان -وحدة حرب عصابات احتياطية- بشن هجمات على الأتراك. بالطبع كان لانتصار الأرمن بالمعارك الأخيرة أهمية حاسمة لم تؤثر فقط على مجريات الحرب بل ساعدتهم على تعزيز الاستعداد القتالي و ازالة الهلع بين السكان.
بعد الهزيمة الأولى في جبهة ساردارابات, تبنى الأتراك تكتيك جديد و ذلك باضعاف مؤخرة القوات الأرمنية عن طريق تحفيز عمليات شغب في بعض القرى التي يسكنها الأتراك و بالفعل تعرضت الفرقة الأرمنية الرابعة لهجوم من قبل عصابة مكونة من 5000 كردي و تركي لتبدأ مواجهة شرسة حسمها الأرمن بالقضاء على هذه العصابات و ضبط السيطرة على تلك القرى.
في 24 أيار شن الأتراك هجوم جديد تم ايقافه و خلف خسائر فادحة بصفوفهم سببتها نيران المدفعية الأرمنية و من أجل اخفاء الخسائر الكبيرة قامت القيادة التركية بصياغة قصة وهمية حول غرق وحدات قتالية تركية بسبب فيضان نهر آخوريان و تم نشر الخبر بالصحافة حينها.
في 25 أيار, هاجم الأرمن التلال 440-449 التي يتمركز عليها الأتراك و واجهوا مقاومة كبيرة اضطرت الأرمن للتراجع للمواقع الأولية. حينها ادرك الأرمن أن الأتراك عززوا مواقعهم بقوات اضافية.
في الساعات المبكرة من 26 أيار, و بعد هجوم أرمني فاشل على مواقع تمركز الأتراك، بضربات من الخلف في نفس الوقت و تم تعزيز الجناح الأوسط و الأيسر للجبهة.
في فجر يوم 27 بدأ الأرمن هجومهم من الجناح الأيسر حيث تمكنوا من اختراق خاصرة الأتراك و لكن لم ينجحوا في اختراق الطرف الأيمن لذلك اضطرت فرقة الجناح الأيمن على التوقف حتى وصول المساندة و في نفس الوقت بدأت المدفعة الأرمنية ضربات قوية على مواقع الأتراك لمدة نصف ساعة لقمع نيران العدو و ثم شن الأرمن هجوم مركزي أمامي على مواقع العدو في انتظار ضربة حاسمة من الخلف. و لتشجيع جنوده ارتدى الكولونيل دانيال بيك-بيروميان الزي العسكري و قاد جيشه في المعركة في الخطوط الأمامية. بعد اختراق الجانب الأيسر للأتراك تحولت الكتيبة الأرمنية تلك نحو الجنوب لتصل مؤخرة التلال التي يسيطر عليها الأتراك و حينها شنت الفرقة الرئيسية لجبهة ساردارابات هجمة ناجحة تمكن من خلالها الأرمن من الاستيلاء على المرتفعات القريبة بحلول الساعة 2 ظهراً يوم 27 أيار.
مع فرار الأتراك من ساحات المعارك و قرب الانتصار, في نفس اليوم اطلق الأرمن هجوماً كبيراً على طول خط السكة الحديدة و تم تحرير محطة آاراكس و استمر تقدمهم لتطهير معظم مناطق أرمينيا الشرقية و في تلك العمليات تم اسر عدد كبير من الأتراك و تم الاستيلاء على مدافعهم.
خلال معركة 27 أيار الحاسمة تم دحر القوات التركية الرئيسية بالكامل و اجبروا على التراجع بذعر و في ذلك اليوم القى الأرمن القبض على عصابة كردية مكونة من 100 مقاتل كانت تحاول عبور نهر أراكس نحو أرمينيا الشرقية.
في ليلة 27-28 أيار تقدمت القوات الأرمنية لتبسط سيطرتها على مزيد من أراضي أرمينيا الشرقية و قد خاضت معارك شرسة. لكن الجنرال سيليكيان حث المقاتلين الأرمن على الاستمرار بالمعركة حتى استعادة كيومري.
انتهت الأعمال القتالية الرئيسية باتفاق وقف اطلاق نار في 29 ايار/1918 و تم استعادة كيومري بعد تعيين فصل قوات من جديد ارتسمت على اثره حدود أرمينيا الشرقية..
ليعلن الأرمن الجمهورية الأرمنية الأولى في 28 أيار بعد هزيمة الأتراك.. هكذا تم انقاذ الناجين من الإبادة من إبادة وشيكة و تم انقاذ أرمينيا الشرقية – جمهورية أرمينيا اليوم- من الزوال من الخارطة و تم وضع اسس الدولة من جديد لتكون أول دولة أرمنية بعد غياب قرون عن الخارطة.
الانتصار بمعركة ساردارابات ادى الى هدنة مودروس وقواعد فك الاشتباك، و نتيجة ذلك تحولت مساحة ارمينيا من 12000 كم الى 56000 كم، واضطر الاتراك الى الانسحاب تنفيذاً للاتفاق، وتنفس الشعب الأرمني الصعداء وبدأت حملات الاغاثة والمساعدات تتدفق على أرمينيا.
( المصدر صفحة ارمن سورية)