تَدْمُرِيّاتْ…
لعَلَّ أشهر ما خَرَجَ من تدمر هو الألواح الجنائزية التي استُخْرِجَتْ من مدافن تدمر والتي فاقَ تقدير تعدادها الثلاثة آلاف وهي موزَّعَة على مختلف متاحف العالَم بِغَرْبِهِ وشَرْقِه…
هذه الألواح التي تحمل جميعُها بدون استثناء نحتاً نافِراً لِلنصف العلوي من الأشخاص المُتَوَفّين (الصدر والرأسْ) سواءً أكانوا إناثاً أَمْ ذُكوراً أم أطفالاً. وكانت هذه الألواح الجنائزية تُغطّي خلايا أو تجاويف الدفن (المُعَدَّة على أوجه المدافن) في كافة المدافن التدمرية وعادَةً ما نُقِشَ عليها فوق الكتف بالتدمرية وقلّما باليونانية، كتابةً موجزة تَعَرِّفُ باسم المُتوَفّى ونسبته وعبارة (حبل) والتي تعني بالتدمرية “وا أسفاه”، ومازالت هذه الكلمة دارجة إلى اليوم على ألسنة أهل حمص بشكل رئيس وحماه حيث يقولون (حبالتاي) أي (وا أسفاه)، واللفظ آرامي من فعل “حبلْ” أي أفْسَدَ وشَوَّهَ، وهذا يُذَكِّرُنا بالقول المصري الدارج اليوم إذ يقولون: ” يا خَرَابي” عندَ تَلَقِّيهِم نبأ وفاة أحدِهم….
اختَرْتُ لَكُم هنا مثالاً لافِتاً من هذه الألواح يخص سيدة تدمرية تحمل اسماً نادر الاستخدام في الأونوماستيكون (معجم أساء العَلَم) التدمري؟!؟!…
والاسمُ هو “أمية” والذي لا أتجاسرُ على تَشْكِيلِهِ بالحركات تفادياً للوقوع في مَطَبِّ الإشكال؟!؟!… وإْنْ كُنْتُ أُرَجِّحُ بيني وبينَ نفسي أن يكون ” أُمَــيَّـــةَ” لأسبابِ ودواعٍ أشهرها وأقواها هو الحضور الموثوق لِثنائية الثقافة الآرامية – العربية في ثقافة تدمر وإثْنِيَّـــتِها. ولا أرى شاهدةً أخرى على ما أزعم أقوى من اسم العَلَم “عَلِيّْ” الذي وَرَدَ في مقدِّمة التعرفة الجمركية التدمرية على النحو التالي ( ع ل ي ي) أقصد بالياء المضاعفة أو المُشَدَّدة، ما لا يَدَعُ مجالاً للشكِّ أو الريبة في الجزم بتعريف هذا الاسم الأخير باسم العَلَم العربي “عَلِيّْ”.
وإليكم قراءتي للنقش التدمري فوق الكتِف الأيسر (يمين الناظر) فيما يلي
القراءة مُعَبّرٌ عنها باستخدام الحرف العربي هي كالتالي
• ” أ م ي ت ب ر ت ي رح ي ح ب ل “
والترجمة
• “أمية بنت يرحاي. وا أسفاه”.
لَنْ أتطَرَّقَ إلى مسائلَ أخرى تخصُّ أسلوب النحت التدمري المتميز بشخصية وسِماتٍ تجعل التمييزَ بينها وبينَ سواها من مدارس النحت القديمة أمراً يسيراً بمتناول حتى قليلي الإلمام من العامة.
وتجدُرُ الإشارة في الختام أن الحلي والجواهر والقيافة وتصفيف الشّعر التي تَسِمُ منحوتات النسوة التدمرِيّات عموماً تشي بثرائها بالمستوى الرفيع من الثراء والغِنى بل والبَذَخ والرخاء المادي للتدامرة عموماً، ولهذا أسبابه المعروفة كون تدمر كانت مدينة التجارة والعبور بامتياز. علماً بأن حلي السيدة “أمية” هذه متواضعة إذا ما قورِنَتْ بغيرها. ولِلْعِلْمِ أيضاً أن سفور الوجه، وخصائل الشَّعر هي سمةٌ عامة لمنحوتات النسوة التَدْمُرِيَّاتْ رغم غطاء الرأس النموذجي والممَيّز بِأشكالِهِ وموديلاته المتعدِّدَة التي تُذَكّرُنا اليوم بغطاء رؤوس النسوة في مدينة محردة السورية الأصيلة.
بقي أن نشيرَ في الختام، حرصاً على الوثائقية، إلى أن هذه المنحوتة الجنائزية محفوظة في المواضع التالية
Near Eastern Antiquities
Sully wing
Ground floor
Arabia: the caravan cities, Dura-Europus, Palmyra, 3rd century BC–3rd century AD
Room 315
Display case 1
(م. ملاتيوس جغنون)