الفسيفساءات السورية…
إذا نَظَرْنا إلى ما احتَوَتْهُ أرضيات الكثيــــر من بيوت أسلافِنا السوريين على اتساعِ أراضينا التاريخية، مِنْ روائــــــــــعَ فسيفسائية نشاهدها اليوم معروضة في متاحفنا…. السويداء، شهبا، دمشق، حمص، تدمر، حماة، معرة النعمان، إدلب وحلب ودير الزور وأنطاكية وأورفة وعينتاب ….لأدْرَكنا كَم كانوا عليه من سعة الاطلاع على مختلف صنوف الثقافة التي تعوز معظم مثقفينا اليوم في عصر المكتبات والمطابع والصحافة ووسائط النشر والاتصال والإنترنت و و و …
وسأباشر (والقول هنا للصديق العلامة الآثاري المهندس ملاتيوس جغنون ومن صفحته وهو زميل عزيز قديم في لجنة الابحاث والنشر بمجلس كنائس الشرق الاوسط ) بنشرِ سلسِلَة منها، لوحة مختارة واحدة فقط في كل منشور، كل حين وآخر بفواصل زمنية قد تطول وقد تقصر….. وتمهيداً مني إلى هذا المُؤَدّى سأبدأ بلوحة فسيفسائية اختَرْتها من محفوظات متحف معرة النعمان تمثِّلُ رمزيّا تشخيصاً لِشهر نيسان أو “كسانثيكوس “ΞΑΝΘΙΚΟΣ (أو كسانذيكوس(*) باليونانية) …. نيسان هذا، المرمز له بشخصٍ يقف إلى يسار الناظر إلى اللوحة، وهو يُمْسِكُ بيديه إكليلاً من الزهور وَيَهمُّ بِوَضعِهِ على رأسِ “جِيا” ΓΗ الربّة المُمَثِّلة للأرض وترمُزُ لها ….. وهذه الزهور، في أحلى وأثرى أيام الربيع ستُخْصِبُها لكي تجود جيا علينا بوفير خيراتها ونِعَمِها فيما بعد بدءاً من الزهور التي في التاج الذي يضعه كسانذيكوس على هامتها…. انظروا هذه الثمار تتدلّى من غصنٍ رمزي إلى يمينِكم وأيضاً الفَلّاح الذي ينثر البذار وتحت يده حمامة وفوقها حيوانٌ أليف رمز للحياة الحيوانية ويلتَوي بينهما غصن كرمة صاعد من الأرض. وأخيراً بين كسانذيكوس وجيا عُرْق رمان(؟) مُتَدَلٍّ مُثْقَلٍ بثمار الرمان. لاحظوا أن جِيا تنظرُ بعينَيها إلى كسانذيكوس…
(*) الصحيح في اسم الشهر باليونانية هو كسانذيكوس وليس كسانثيكوس. ومثل هذا الخطأ يعود إلى طريقة نُطق الاسم باليونانية حيث الذال Δ (أي حرف الدلتا) أقرب نُطقاً إلى الثاء منه إلى الذال وكان أسلافنا السوريين يكتبون اليونانية كما يسمعونها.
إبّان فترة انتشار اللغة والثقافة اليونانِيَّتَين في المشرق، ومن ضمنه سورية، والتي امتدَّتْ من عام 312 قبل الميلاد ولفترةٍ جاوزت الألف عام وصولاً إلى أواسط القرن الثامن الميلادي ازدهر فَنُّ الفسيفساء في سورية بشكل غير مسبوق. وتشهَدُ على ذلك مئات لوحات الفسيفساء بمختلف مواضيعِها على اتساع الأرض السورية.
ومنشوري اليوم هو الثاني بعد لوحة الفسيفساء التي تُصَوِّرُ تمثيلاً لِرَبّة الأرض “جِيا” ΓΗ يكلِّلُها شهر نيسان أو “كسانثيكوس “ΞΑΝΘΙΚΟΣ (أو كسانذيكوس إيذاناً بنضوج فصل الربيع…..
ثمة اسئلة هي
ماذا يمكنُنا الاستنتاج معاً من اهتمام الإنسان السوري الثقافي والمعرفي في تلك الأيـــــــــــام التي:
1. لم تكن فيها الكُتُبُ سوى مخطوطات ضئيلة العدد جِدّاً وليسَتْ واسعة الانتشار كما هي عليهِ من الكَمِّ الهائل اليوم،
2. ولَم تكن فيها وسائط النقل المعهودة اليوم من طائرات وقطارات وسيّارات وسواها
3. وفي الوقت الذي لَم تكن فيه وسائط إعلام من راديو وتلفزيون وسواها موجودة أصلاً كما هي عليه اليوم،
4. ولم تكن هناك وسائط الاتصال على شبكة الإنترنت وعلى وسائط التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) كما هي اليوم
5. وفي الوقت الذي كانت المسارحُ هي الوسيلة الوحيدة للتواصل والحضور الجماعي آنذاك…. حيث كانت على الأراضي السورية منها ما لا يقل عن ثلاثين مسرحاً موزّعةً على مساحة أراضي سوريا التاريخية آنذاك…
ماذا يمكنُنا الاستنتاج من اهتمام الإنسان السوري في تلكَ الأيّام واطِّلاعه الأكيد على ثقافاتٍ عَزَّتْ على طبقتِنا المثقفة اليوم بحيث نعتبرها أنها من ثقافات النُّخبة أو عليَّة القومْ The Elite ؟!؟!؟!؟!…..
ولهذه التساؤلات وهذا المُؤَدّى أسوق لكم مثالين ناصعَين عن مدى رفعة ورُقِيِّ معارف واطِّلاع أسلافنا السوريين في الفترة المشار إليها أعلاه؟!؟!؟!..
المثالُ الأول هو لوحة فسيفسائية نادرة تأتينا من متحف أفاميا والمُسْتَخرجة من مدرسة أفاميا للفكر الفلسفي والمثال الثاني هو لوحة فسيفساء تأتينا من السويدية في قضاء بعلبك بلبنان والمحفوظة والمعروضة اليوم في أرضية متحف بيروت مباشرة لدى دخولك للمتحف وهي أول ما يستقبلك هناك نظراً لأهميتِها البالغة وهما مُكَرَّستان للحكماء السبعة الإغريق.
وبمناسبة تَطَرُّقِنا إلى فلاسفة اليونان وحكمائهم، يتوجّبُ علينا التنبيه والتنويه إلى أنَّ معارف أسلافنا السوريين لم تقتصر فقط على ذِكْرِ ومعرفة فلاسفة الإغريق، بل تُعَدَّتْها، وبالتأكيد، إلى إسهاماتهم هم أنفُسُهُم بالثقافة والفلسفة ورِفْدِها أيضاً يا أحبتي ولا أدَلَّ على ذلك من فيلسوفِنا السوري العظيم زينون الرواقي مؤسس مدرسة الرواقية في قلب أثينا وأيضاً مدرسة أفاميا للفكر الفلسفي التي استُخرِجَتْ من أرضيتها لوحة الحكماء السبعة الإغريق موضوعُنا اليوم وكانت تزهو بمجموعة من الفلاسفة السوريين على رأسهم ﭘـوسيذونيوسْ الفيلسوف الرواقي والمُؤَرّخ والعالِم الطبيعي الأفامي في القرنين الثاني والأول ق.م. وأيضاً نيومينيوس أو نعمعين الأفامي أيضاً المؤسس الحقيقي للأفلاطونية الجديدة في القرن الثاني الميلادي وأميليوس الأفامي الذي أَسَّسَ مركز الأفلاطونية الجديدة تحت رعاية الملكة العظيمة زنوبيا وأخيراً تلميذَيه ﭘـورفيريوس ويامليخوس… ولَم يُحَذِّر الشاعر الروماني التهكمي جوفينال الرومان عَبَثاً وبدون مبررات من الخطر السوري المُحدق بروما في مقولتِه الشهيرة ” إنَّ نهر العاصي أصبَحَ يَصُبُّ في نهر التيبِرْ منذ زمن بعيد حامِلاً معه لُغَتَهُ وعاداتِهِ وقيثاراتِهِ وأوتارِهِ وأعوادِهِ.” وإلّا فما معنى ومدلول الانتشار الواسع للمسارح التي سَبَقت المسارح الرومانية زمنيّاً وهذه الأخيرة، أي المسارح الرومانية، لم تكن مخصصة أبداً لنشر الثقافة بل لنشر غطرسة القوة وعنجهيتِها بمصارعة الحيوانات المفترسة وبين المصارعين Gladiators ولتمثيلات مشاهد الحروب، بما فيها البحرية وذلك في أمفيثياتر روما القديمة الضخم الشهير بالكولوسِّــــيوم وسواه في حين كانت مسارحنا هي للعروض المسرحية وكانت تُقدَّم عليها عروضٌ درامية وتراجيدية وكوميدية من أعمال الكتاب المسرحيين الكلاسيكيين من أمثال إسخيلوس وصوفوكليس ويوريـﭘـيذيس، وهذا الأخير هو مؤلف مسرحية هيـﭘـّوليتوس. كما كانت تقدم أعمال كوميدية للكاتب أريستوفانيس، هذا بالإضافة إلى الحفلات الموسيقية والراقصة وغيرها.
والآن إليكُم أحِبّتي تعريفٌ موجز سريع بالحكماء السبعة الإغريق
الحكماء السبعة الإغريق:
ثمة إجماع في كافة المصادر على ستة من أسماء هؤلاء “الحكماء” الذين يُعْرفون بالإغريــقية باسم οι επτà σοφοí
وبالإنكليزية The Seven Sages of Greece وأسماؤهم كما يلي،
1- كليوبولوس Cleobulos حاكم ليندوس في رودوس وشاعرها في القرن السادس قبل المسيح و هو صاحب مقولة (خير الأمور أوسطها).
2- ﭘـيريانذروس Periandrosحاكم كورنثة بين عامي 627-586 ق.م. الذي أوصل كورنثة إلى أوج قوتها ورفاهها.
3- باياس الـﭘـرييني Bias of Priene أي المولود في ﭘـييريا إحدى أهم مدن أيونية في آسية الصغرى في القرن السادس ق.م. وكان فيلسوفاً.
4- طاليس (أو تالِس ) الميليتي Thales of Miletus أي من مدينة ميليتوس (حوالي 624 -546 ق.م. ) كان أول فلاسفة الإغريق المعروفين وعلمائهم.
5- صولون الأتيكي Solon of Attica( من 638 ؟ -559؟ ) الشاعر ورجل الدولة الأثيني الذي وضع أسس الديموقراطية.
6- خيلون الإسبارطي Chilon of Sparta في القرن السادس الذي يرجع إليه الفضل في تبديل صورة إسبارطة المحبة للحرب إلى إسبارطة السياسية التي تسعى لتوحيد اليونان.
أمـا الحـكــيم السـابـع، فتتـباين المصـادر بـين أن يـكون “ﭘـيتّاكوس الميتيليني” (أي من ميتيلين) ) Pittacus of Mytilene (c. 650 BC على الأرجح وبين أن يكون “سقراط الحكيم” أقل ترجيحاَ.