بطرس نقولا قندلفت
السيرة الذاتية
هو بطرس بن نقولا بن بطرس قندلفت ولد في دمشق اواسط القرن 19 من حارة المريمية من والده نقولا الذي عُرف في عهده بالغيرة الارثوذكسية والنزاهة والاخلاص للمجتمع والمدينة مما اورثه لاولاده كاستمرار لهذه العائلة الدمشقية الغيورة على كنيستها وانتمائها الارثوذكسي والدمشقي..
تعرضت الاسرة كبقية الاسر الدمشقية المسيحية عامة والارثوذكسية خاصة الى منجل الابادة بيد تكفيريي ذاك العصر في المجزرة الطائفية عام 1860، وقد نجاها الله من هذه المجزرة بحماية بعض الاصدقاء من رجالات محلة الميدان(1)
انتقل به والده مع الاسرة كلها الى بيروت فأقاموا فيها سنوات ثم عادوا الى دمشق حوالي العام 1865 فأدخله والده في مدرسة الآسية الارثوذكسية الدمشقية للصبيان وتعلم فيها مبادىء العربية والعلوم على الاستاذ المربي وطيب الذكر نقولا ابو طبيخ الدمشقي معلم زمانه الذي تعلم عليه ايضاً العديد من شبان الرعية الدمشقية العربية وآدابها وبعض الرياضيات.
توفيت والدته بعد العودة من بيروت واستقرارهم في دمشق بزمن يسير، فترك الدراسة وتعلم حرفة الصياغة بكل الاجتهاد والدقة حتى برز فيها وهو لم يبلغ نهاية العقد الثاني من عمره.
زواجه
اقترن وهو في هذه السن الصغيرة بالابنة فريدة ابو شنب ابنة عبده، وجرى اكليله في كنيسة القديس يوحنا الدمشقي المجاورة لصرح الآسية(2) وقد احبه عمه عبده كثيرا ولنبوغه وجديته قرر عمه مشاركته في عمل جديد. لكنه اعتذر واراد والاستمرار بمهنته الصياغة لكونه اختارها وبز فيها وهو لايزال صغيراً.
حياته العملية
قصد مصر بعد اشهر من اكليله، ومارس فيها مهنة الصياغة وتميز هناك وحقق مدخولاً وفيراً وأقام فيها عازباً سبع سنين كان فيها مثالاً معروفاً في الجد والادب والتقوى والعفاف في المجتمع المصري المنفتح على الحرية الاوربية.
تعرف في مصر على مجموعة من الشباب الدمشقي الارثوذكسي الغيورين وقد ضمهم بيت واحد كان لهم فيه بمقام القيّم والوصي المرشد صوناً لآدابهم وكبير الاسرة بالرغم من حداثته…وكان كل ذلك بفضل غيرته المسيحية وتعمقه في انتمائه الارثوذكسي. فحفظهم سالمين من الانجرار الى مفاسد عصره كما افادوا هم.
وكان ممارساً وهم معه لطقوس كنيسته الارثوذكسية في مصر
عاد الى دمشق ومعه حصيلة تعبه وفق ماوفقه اليه الله، حيث لبث فيها اياماً ثم حكمت الظروف بأن يعود الى مصر مجدداً فأقام فيها سنتين جديدتين، لم يعرف فيها غير العمل الشريف ورجع الى دمشق حاملا معه حصيلته وسمعته واستقامته وقد صار بالرغم من صغر سنه وحداثته في المهنة من شيوخ الكار والمتقدم بينهم.
اهتمامه بكنيسته
ورث عن والده هذا الاهتمام وصار عضواً في الكثير من المؤسسات الارثوذكسية الفاعلة في البطريركية وكان اهمها عضوية المجلس الملي البطريركي في عهد البطريرك جراسيموس (1885-1891) ونظراً لجرأته الموروثة والموصوفة في الدفاع عن مصالح الكنيسة الدمشقيته فقد وقف من المشاكل البطريركية التي بدأت بالظهور في عهد البطريرك المذكوروكان ماكان من مسألة الخلاف على دعوى تمس صالح الرعية فناضل فيها نضال الابطال حتى كتب فيها الفوز القانوني لأرباب الحق وعاد الأمر الى نصابه. ومما ذُكر له في هذه المسألة أنه لما آنس من البطريرك المذكور مع بعض رجال المجلس الملي واراخنة الملة الارثوذكسية تراخياً في العزم وانقياداً مع سياسة ذلك العهد على ماحفظه التاريخ انبرى بجرأة لاتعرف الخشية والحذر ومال على البطريرك وانصاره بكلام صريح وصارم حتى ان البطريرك المذكور مبرراً استعفاءه من الكرسي الانطاكي وقبوله البطريركية الاورشليمية بقوله ذات مرة:”انه لم يزهده بالبطريركية الانطاكية الا كلام (بطرس) وهذه كانت طليعة وقائعه المذكورة في المسألة البطريركية.
ظهر تمسكه بحق البطريركية بالحق الوطني في هذا المنصب، بعد استعفاء البطريرك جراسيموس وانتقاله الى الكرسي الاورشليمي بطريركاً بآلية الانتخاب الصوري وتراخي اقرانه، ما تركها للتاريخ على كونها رواية مُثلت فصولها الفاجعة على الكرسي الانطاكي والمنصب البطريركي وفرض اسبريدون من قبل البطريركيتين المسكونية والاورشليمية مشفوعاً بتعهده بتقديم عطايا للكرسي الأنطاكي عامة وابرشية دمشق خاصة. وبالنتيجة الرضوخ للاغراءات المادية التي فازت واخضعت عزائم اهل الشأن في ذلك الانتخاب بعد جهاد طويل، لكن علمنا بقي تابت الموقف مع عامة الشعب الارثوذكسي الدمشقي الغيور في مضمار الجهاد بعد ان فازت الرشوة بقوة الاصفر الرنان (كما مر معنا)
استمر في جهاده ضداً لممارسات البطريرك اسبريدون(1891-1898) طيلة سبع سنوات التي ادمت مطارنة الابرشيات والكهنة والرعايا والاستلاب الممنهج لابناء الرعايا من الكنائس والرهبنات الكاثوليكية والارساليات البروتستانتية…
سبع سنوات من النضال ضد البطريرك المستبد اسبريدون قادها ومعه وجهاء مثله والكهنة والرعية الدمشقية ذاقوا فيها انواع الاضطهاد ماتتوقف عن بيانه الالسنة والاقلام، وقد شهد بذلك مطران كيليكيا اليوناني جرمانوس في رسالتيه المتلاحقتين الى المطران ملاتيوس الدوماني مطران اللاذقية عام 1898 وفيها يدعو الى توحيد الجهود معتذرا من الدمشقيين من كهنة وعوام وقد استبسلوا وحدهم لاسقاط البطريرك المذكور وتحملوا كل الضيقات.(3) وكان اغلب هؤلاء المجاهدين الدمشقيين الارثوذكسيين قد وقفوا في وجه هذا المستولي على السدة البطريركية من الدمشقيين الحرفيين البسطاء وعمال اليومية واكثرهم من اهل العوز وكم اصابهم من العوز والفاقة لتوقف اعمالهم بزجهم في التوقيف وهو في مقدمة الموقوفين وقد اوقف مرارا مع بعض رفاقه الغيورين الصادقين. ولما رأى والي دمشق المعلوم بقسوته ان زعيمهم بطرس لم تثن همته ضيقات السجن هم بنفيه وحده…ولما نمي اليه الخبر استعد لفراق عائلته وودعهم متكلاً على رب الكنيسة اضافة الى ان هذا لجهاد لمرير لم يتوقف لأجل الكرسي البطريركي ومصلحة الرعية طيلة عشر سنوات من زمان البطريرك جراسيموس في السنوات الثلاث الاخيرة وطيلة عهد هذا البطريرك اسبريدون المستبد الممتدة سبع سنوات طافحة بالألم. وقد خسر الكثير بسبب هذا الجهاد حيث اهمل عمله ورعاية عائلته، ولم يخضع لاغراءات حاشية البطريرك رافضاً رشاويهم الجزيلة للسكون. ورفض ذلك واهان فاعلها.
وهذا الذي اشار اليه مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس في تأبينه في المريمية ساعة جنازه بقوله:” ان من كان سميّاً لمن سماه الرب من فمه العزيز بطرس لجدير بأن يكون الرب نوره ومخلصه…وانه ظهر صخراً في امانته صخراً في امانته صخراً في شجاعته، صخراً في ثباته، وصخراً في مطالباته…وان غيرة الرجل ونزاهته وشدته وصبره وثباته جعلت الملة في الكرسي الانطاكي مديونة له ومعترفة بجميله…”
وقد قال فيه احد المطارنة في جنازه:” انه لولا المرحوم بطرس قندلفت لما كان احد منا نحن الاساقفة على كرسيه اليوم”
تعريب السدة البطريركية
ان مابذله علمنا في هذا الموقف يوجب علينا ذكره لقد عمل بما يوحيه ضميره الانطاكي واخلاصه نحو قضية عادلة هي تعريب السدة الانطاكية فأضاف جهداً فوق جهده السابق المستمر المحكي عنه…
لكن في هذ القضية لم يتعرض الى سخط الحكام وتعسفهم ارضاء للبطريرك السابق، لكن هنا يجب حشد الرأى الدمشقي والانطاكي معيناً لرفاق دربه المطارنة واولهم البطريرك المنتخب شرعيا ملاتيوس الدوماني…
لقد تفرد بغيرته وجهده غير المسبوق فاق بعنائه كل جهد سابقبذله في سبيل القضية الانطاكية…وكان مناه تعريب السدة البطريركية واعادة الحق الى اصحابه.
في هذا الجهاد تفوق على الكثير من العلماء والادباء والكتاب والشعراء الذين كانوا يتبجحون بجهودهم لهذه القضية المصيرية، واعتمد/ وهو الذي لم يتلق من العلم في آسية دمشق الارثوذكسية الا اقله/ على عون الباري على بصيرة فطرية انارها الاخلاص وصقلت مرآتها معارك الايام وكفى بذلك شاهداً قول البطريرك غريغوريوس الرابع في تأبينه يوم جنازه في المريمية فقد وصفه بقوله: “وله الآراء الصائبة عند اشتداد الازمات”.
بقي يجاهد حتى بعد اعتلاء البطريرك ملاتيوس السدة الانطاكية الى ان افتقده الله وقد تصدى لحل الكثير من المعضلات التي عانتها الرعية الدمشقية واهمها عدم اعتراف بطاركة الكراسي الثلاثة بالبطريرك ملاتيوس والمشاكل التي نشبت في الابرشيات ذات الحضور اليوناني الكبير ككيليكيا وارضروم وديار بكر مماجعل الكرسي الانطاكي في حالة تأهب دائمة مع شح الموارد، كان علمنا هو العون المخلص في تدبير الكثير من الاعمال البطريركية على ماوسعه اختباره وبلغه جهده واقتداره.
كان يزور البطريرك يوميا حتى ان الكثير من قصاده كانوا يعرفون انه ان لم يكن في بيته فهو في الحضرة البطريركية وفي هذا الكثير من حكايات العائلة حتى انه في كثير من الليالي لم يكن يتناول طعامه اذا حانت ساعة الجلسة القانونية مع غبطته او استدعي لمهمة لم يكن من امرها على انتظار.
لم ينحصر تعلقه فقط بالبطريرك ملاتيوس بل ايضا مع خليفته البطريرك غريغوريوس… ومع مطارنة الكرسي الانطاكي في العهدين. وهذه المناقبية التي تجلت بأبهى مجاليها واسمى معانيها في علمنا جعلته في اشد درجات الحب والثقة والاحترام فكانوا يواصلونه في كل مهمة من شؤونهم مستعينين بغيرته وتقواه على تشييد دعائم الاصلاح…وظهر ذلك الحب في كل هذه المدة الطويلة عند وفاته من البطريرك غريغوريوس فبكاه قلب غبطته الجريح الحنون، وقام مطارنة الكرسي بارسال برقيات التعزية بوفاته الى البطريرك لما علموا بوقع هذه الوفاة على قلبه الابوي بولده وهو من افاضل الملة الارثوذكسية ومجلسها الملي وبقية الجمعيات والمؤسسات الارثوذكسية الدمشقية.
مناقبه
الجملة التي قيلت عنه يوم جنازه وهي الاساس في وصف عامة الناس له كانت :” كان رحمه الله غيوراً ورعاً صادقاً اميناً مقداماً هماماً وابن كنيسة وايمان.”
1) اخلاقيته وتجرده عن النفع الذاتي في الشأن الارثوذكسي الدمشقي، بإخلاص خال من طموح الى منصب او جنوح الى وجاهة او طلباً لشهرة، إخلاص خالٍ من الغرض الذاتي لدرجة التهور في سبيل الدفاع عن مصالح الكنيسة والكنيسة في مفهومنا هي جماعة المؤمنين ومايهمهم، هو كان لهم هكذا.
كان لايخشى في قول الحق لومة لائم اذا رأى الحق مع المظلوم… وهذا ظهر في سلوكياته في كل مراحل حياته لذلك كان مرجعاً في حل الخلافات في مهنته بين اربابها.
2) صدقه وامانته، اذا قال فعل وشهادته وفعله دوماً حق، بحيث حاز ثقة الجميع وهي كنزه المصون والاسم العاطر الذي اخذه من عائلته ونماه وحافظ عليه واورثه لأولاده. كان نعم الصديق الذي لايخون المتعاملين معه على اختلاف الملل والطبقات، ففي اعماله التجارية تميز بالأمانة التجارية بما تقضيه كلمة التاجر وتعامله النزيه، هكذا كانت امانة ونزاهة علمنا الذي لم يدخل الى صندوقه قرشاً حراماً واحداً بشهادة كل المتعاملين معه في التجارة، رافضاً الاحتيال والكسب الحرام والسمسرة مايعده الكثير من التجار شطارة في اشغال الوساطة التجارية. وكثيرا ماكان يكتفي بالقليل اذا كان الموضوع يخصه ذاتياً وبدون اي شيء اذا كان الموضوع للنفع العام.
اجمل مايُذكر من امانته المشهودة ان خصمه البطريرك اسبريدون في امر الانتخاب البطريركي لم يختر سواه مؤتمنا على اوراقه المالية التي قدمها للطائفة متعهدا بتنفيذها ان تم انتخابه، حتى يقال وقتئذ انه سلمها له دون اية ثبوتية او شاهد اعتمادا منه على امانته ونزاهته بالرغم من خصومته لسلوكيات البطريرك وشرائه الضمائر.
والذي يستحق الذكر هنا انه هو بسعيه وثباته ومتابعته جرى شراء اكثر الاوقاف التي خصصت كريعية للمدارس الارثوذكسية الدمشقية ولدير سيدة صيدنايا البطريركي لما استلم وكالته البطريركية.
3) غيرته اضافة الى ماسبق في الحديث عنها في سيرته ومناقبيته يصدق فيها قول النبي داود في مزموره:”غيرة بيتك اكلتني يارب” لذلك قال الجميع في وفاته “لقد فقدنا رجل الغيرة الارثوذكسية”
4) كان علمنا الغيورحر القول والفعل لم يكن يتهيب معها اي مقام كبير او متنفذ متى كان على حق كما حصل معه بوقوفه ضد البطريرك اسبريدون ولذلك اوقف في السجن بأمر الوالي المتحيز للبطريرك المستبد. وقد اجمع اصحاب الضمائر النقية على ذلك ويشهدون ان حريته تزداد وتتصاعد بحدة في قول الحق وفعله ونصرة للمظلوم بمواجهة عارف بالحق ومستبد يتجاهله في علاقته بالناس، بعكس امثاله من افاضل القوم، لما يغلبهم الحياء في قول الحق يكون علمنا بطرس قائدهم المقدام ودليلهم الجريء.
5)ورعه وتقواه وربما هذا يجب ان يتصدر مناقبه، وان الناس من اهل الحكمة والحقيقة كانوا يعترفون بها لعلمنا وقد انطبق عليه القول الشعبي”بيخاف الله” يعمل بقول الله الازلي “رأس الحكمة مخافة الله” و “التقوى نافعة في كل شيء” لأنه معروف بأنه صاحب ايمان وان صاحب الايمان كعلمنا بطرس قندلفت لايأتي بالخير الا من قلب طهرته نعمة الله القدوس.
فعلمنا كان على قدر موصوف من الورع وخوف الله بشهادة الكارهين قبل المحبين، اذ كان ضميره الحي باعثه الأعلى في كل ماسمت نفسه اليه وعوَّلت عليه، منها تمسكه الشديد في تمسكه بأركان العبادة في ممارسة الصلاة والصوم والاجتهاد المستمر في حفظ شعائر الدين على الاجمال، وان الذين وقفوا على حياته اليومية ومعيشته المنزلية يشهدون له تعبده في الخفية والعلن، فقدكان يلازم صلاة الجماعة كأي مؤمن بسيط لم يقف في الكرسي المخصص،(4) رغم انه من اراخنة الشعب الارثوذكسي الدمشقي في الكنائس الارثوذكسية ايام الاحاد والاعياد والاصوام، متمسكا بصيامه ولو كان على سفر، وقد شهد من كان معه في سفرته الاخيرة الى مصر انه حين عزم على العودة الى الشام وكان قد الم به آلام صدرية توجب عليه طبياً ان يتناول اللحوم والاجبان الا انه رفض وبقي متمسكا بشعائر الصوم.
في ورعه وتقواه تجاه دينه وارثوذكسيته لم يكن ينظر تلك النظرة المتعصبة نحو اصحاب الاديان والمذاهب الاخرى كما هو حال المتعصبين هو كان مؤمنا متمسكا بايمانه بدون تعصب بل كان يحترم ويوقر كل تقي في دينه عملاً بقول شفيعه الرسول بطرس” بالحقيقة انا اجد ان الله لايقبل الوجوه، بل في كل امة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده” (اع34:10 و35) لكنه كان حرالفكر طلق اللسان عن معرفة وتعمق في الرد على المتعصبين الطاعنين في ايمان كنيسته الارثوذكسية ودينه المسيحي.
6) الثبات كان علمنا بطرس قندلفت جبلاً راسخاً ثابتاً في موقفه وقناعته، بشهادة مطارنة عصره وقد رووا عنه الكثير من ثباته.
– اضافة الى المناقب التي ذكرناها بايجاز كان مع تواضعه المسيحي ومحبته للجميع كان كبير النفس شهما بأنفة وكبرياء واباء للضيم، كان يفضل الخسارة بما عز وغلا على ارتكاب الدنايا، لايلفظ بكلام قبيح ولابفاحش الكلام بل كان غاية في التهذيب وآداب السلوك والالفاظ لا في الجد ولا المزاح.
مجلسه انس ورقة مجافياً مجالس المجون على انواعها كارهاً لها كريم المزايا…لايتكلم الا في الكلام الجاد سيما ان كان الموضوع يخص كنيسته عندها صر خطيب الجلسة بلا منازع والكل مهما علت مراتبهم مستمعون مؤمنون على كلماته.
كان يميل الى مؤانسة البسطاء والمستضعفين من عامة الشعب اميل منه الى مقابلة اهل حب الظهور والفخفخة الكاذبة ولو انزلوه بينهم ارفع المنزلة والاحترام والاكرام وبالفعل فقد اكتسب لقب “رجل الملة العظيم”
كان شديد الحرص على امواله لاينفقها الا في موقعها الصحيح، وكان جميل الهندام لائقاً في مظهره وفي مظهره انعكاس للياقة نفسه ومناقبيته وكرامة الانسان.
نتيجة ماذكرنا من جهد واجتهاد في سبيل الكرسي الانطاكي عموماً وابرشية دمشق الارثوذكسية خاصة وسعي دؤوب خلال عقد كامل من الزمان، اصيب بضعف شديد في قواه الجسدية حتى انه كان يعاني من الالام المبرحة في سنواته الاخيرة، والكل من معاصريه اجمع على انه ضحى شطراً كبيراً من حياته من اجل قومه واعلاء كلمة الحق في سبيل اصلاح الاحوال في كرسينا الانطاكي واعادة الحق الى اصحابه.
من اهتماماته
اختير مرارا لعضوية المجلس الملي الدمشقي اضافة لعضويته جمعية نور الاحسان الارثوذكسية الارثوذكسية وكلفه البطريركان ملاتيوس وغريغوريوس وكيلاً مشرفاً على دير سيدة صيدنايا البطريركي بماعهد فيه من الغيرة والامانة والحرية
مايستحق الذكر بفخر تجاه ذكره ان علمنا كان من المحسنين الكرام بحق مستوري عائلته والفقير والمحتاج من الرعية ليس فقط من خلال عضويته في الجمعيات الخيرية وفي مقدمها جمعية نور الاحسان الارثوذكسية بل باحسان فردي ومشهود عنه بره بالايتام والارامل والمحتاجين والمنقطعين من كبار السن الذين احوجهم الدهر لالتفاتة المحسنين، وكان علمنا يمارس هذا الامر بسرية وبدون ضجيج عملاً بقول السيد له المجد”لاتجعل يمينك تعرف بمافعلت يسارك…”
كان عاشقا بكل معنى الكلمة لافعال الرحمة التي دونها الانجيل عن ربنا يسوع المسيح له المجد واقتدى بها في تقديم ثمار البر المستورة يشهد له الله انه كان لكثير من العائلات أباً شفيقاً وأخاً مؤاسياً يؤثرهم على نفسه…
كان سباقاً الى الاشتراك بمعونات اللجان الخيرية والتبرعات السنوية، كريم النفس في منزله مضيافاً للنزلاء والغرباء.
مع كل هذه المزايا التي تحلى بها الا انه كان دائم الشكوى من حدته مما يوقع في الزلل في بعض الاحيان ويحاسب نفسه من جهة، ومن جهة اخرى كان يشكو دوما من عدم اكماله تحصيله العلمي كون نفسه كانت تتوق الى اكمال كل المراحل الدراسية.
كان مربوع القامة، جميل الطلعة مشرق المحيا واضح الجبين اشهل العينين تشتعلان حدة وذكاء.
وفاته
توفي علمنا في اواخر عام 1910 وكان من الصاغة المرموقين في سوق الصاغة الدمشقي الشهير وترك تركة وفيرة جمعها من تعب يديه في المهجر والوطن بكل نزاهة وامانة…كما ترك سمعة طيبة جداً في المهنة من جهة وفي كرسينا الانطاكي من جهة ثانية.
تبدت هذه السمعة في جنازته الحافلة التي قاربت في ضخامتها جنازات المطارنة المتوفين وشهدت لها مريمية الشام التي ضاقت بالمشيعين الباكين ورئس خدمة الجناز البطريرك غريغوريوس الرابع ولفيف الاكليروس البطريركي كله، وقد فاه غبطته بمناقب علمنا ومزاياه ممن خبرها عنه منذ اول جهاده منذ منتصف عهد البطريرك جراسيوس وطيلة عهد البطريرك اسبريدون حتى تنزله عن الكرسي ونضاله مع اعيان الملة الدمشقية في الانتخاب البطريركي الذي اثمر بانتخاب مطران اللاذقية ملاتيوس الدوماني الدمشقي بطريركا وطنيا بعد قرابة قرنين من التغرب مع كل الاحترام للمخلصين من الاخوة اليونانيين الذين قدموا مصلحة الكرسي الانطاكي وخدموه باخلاص طيلة القرنين وان بعض غيوم اصحاب المنافع الشخصية كآخر البطاركة لايحجب شمس تعب المخلصين…
وتحدث غبطته عن اخلاقياته واحساناته وسأل الله ان يضمه الى القديسين في الفردوس مكافأة له في الحياة الخالدة، ثم وري الثرى في مقبرة القديس جاورجيوس الارثوذكسية.
شارك في الجنازة كل الجمعيات الارثوذكسية اضافة الى القنصل الروسي في دمشق.
عائلته
ترك عائلة مؤلفة من زوجة وفية تحملت معه تعبه لأجل النفع العام نفع كنيستنا الانطاكية الدمشقية الارثوذكسية العامة واربعة انجال هم امين وتوفيق وسليم وقيصر وابنة وحيدة بذل في تربيتهم وتهذيبهم بتربية صالحة.
نال من الحكومة الروسية الامبراطورية نيشان القديس ستانسيلاس وقد جاء في الرقيم الامبراطوري في هذا الشأن انه كان” مكافأة على غيرته وحميته وتضحيته في سبيل نجاح الايمان الارثوذكسي في سورية”
وقد نال من الباب العالي والحكومة العثمانية الاذن بتعليق النيشان على صدره وحمل براءته وفق الاصول.
الخاتمة
ان علمنا المغمور الذي لايعرفه احد لاسيما قد مرت فترة طويلة عليه مع امثاله من المضحين في العصر الحاضر لأجل كرسينا الانطاكي المقدس، وهو مادفعنا دوماً (ولازلنا) الى البحث عنهم في خفايا الوثائق وباطن الاوراق المؤرشفة ونستعين بعض الاحيان بالذاكرات الشعبية ان كان هؤلاء الاعلام من دمشق مما يُحتمل من يتذكره بما عنه كما عن غيره وفق خطنا الواضح باظهار هؤلاء الافاضل في حقل الكنيسة وكرسينا الانطاكي اقول ان هذا الغيور عدا خدمته الممتازة في تعريب الكرسي الانطاكي وما عاناه من اهوال قام بخدمة الفقراء في جمعية نور الاحسان الارثوذكسية اعواماً عديدة وكان عضواً في المجلس الملي البطريركي الدمشقي اكثر من عشرين عاماً حائزاً في انتخابه على اكثر الاصوات ومع سعة شواغله الفكرية ومشاغله العمومية والخاصة قام بخدمة كنيسته في احلك الظروف مضحياً بوقته وجهده وماله وبصحته ابتغاء الاجر والثواب من سيد الكنيسة ومؤسسها له المجد.
حواشي البحث
1) لم تتعرض محلة الميدان للفتنة الطائفية التي ضربت دمشق ومحيطها بفضل مشايخ الميدان المسلمين وقلاء المحلة الذين نأوا بالميدان محلة خارج الفتنة… وبقيادة مباشرة من الامير الكبير عبد القادر الجزائري الذي ساهم بحماية المسيحيين في دمشق بجنوده المغاربة…
2) تم تدشين الكاتدرائية المريمية بعد اعادة بنائها في عام 1868 مع الصرح البطريركي، وكانت كنيسة القديس يوحنا الدمشقي هي الكنيسة الرعوية لذا تم اكليله فيها.
3) وثائق ابرشية كيليكيا…
4) كانت تخصص كراسي مميزة لأراخنة او شيوخ الشعب بجانب كرسيّ البطريرك والمطران وكانت هذه الكراسي متصلة على الجانبين الايمن والايسر بمعدل 3 او 4 كراسي. وقد الغيت بتدبير مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع في اول عهده 1979 لقناعته بتساوي الجميع في الكنيسة ولا حاجة لموقع او كرسي تكريمي للعلمانيين فالكل واحد.
مصادر البحث
-الوثائق البطريركية/ وثائق ابرشية دمشق
– متري قندلفت…مجلة النعمة البطريركية/ الجزء الثامن/ السنة الثانية كانون الثاني1911