الدين Religion (من الكلمة اللاتينية Religio بمعنى ”ضبط النفس“ أو Relegere، و وفقًا للكاتب الروماني (شيشرون)، التي تعني ”التكرار أو القراءة مرة أخرى“، أو هي على الأرجح من كلمة Religionem أي ”إظهار الاحترام لما هو مقدس“) وفي اللغة العربية هو العادة والشأن. والتدين: الخضوع والاستعباد، والدين هو نظام منظم من المعتقدات والممارسات التي تدور حول، أو تؤدي إلى، تجربة روحية معينة. ولا توجد ثقافة مسجلة في تاريخ البشرية لم تمارس شكلاً من أشكال الدين.
”إن الناس هم من استحدثوا الآلهة وأضافوا إليهم عواطفهم وأصواتهم وهيئتهم، فالأثيوبيون يصورون آلهتهم سود فطس الأنوف وأهل تراقية يصورون آلهتهم حمر الشعور زرق العيون ولو استطاعت الثيرة والخيل لصورت آلهة على هيئتهم، وقد وصف هوميروس وهزيود الآلهة بما هو موضع تحقير وملامة، إلا إنه لا يوجد إلا إله واحد أرفع الموجودات السماوية والأرضية ليس مركبا على هيئتنا ولا مفكرًا مثل تفكيرنا ولا متغيرًا بل هو ثابت كله بصر وكله فكر وكله سمع يحكم ويحرك الكل بقوة فكره ودون عناء“.
اعتقد (زينوفانيس) أن هناك ”إله واحد، بين الآلهة أعظم من البشر، وليس على الإطلاق مثلهم في الجسد أو العقل“، لكنه كان بذلك الاعتقاد من الأقلية. فالتوحيد لم يكن له معنى بالنسبة للبشر القدامى بصرف النظر عن قلة من الموحدين وأنبياء اليهودية. معظم الناس، على الأقل بقدر ما يمكن معرفته من السجلات المكتوبة والأثرية، آمنوا بالكثير من الآلهة، وكان لكل منها مجال نفوذ وتخصص خاص. ففي حياة المرء العامة لا يوجد شخص واحد فقط يوفر احتياجات الفرد كلها، يتفاعل المرء مع العديد وأنواع مختلفة من الناس من أجل تحقيق التكامل والحفاظ على التوازن واستمرارية الحياة.
خلال حياة الفرد في يومنا هذا، سيتفاعل المرء مع الذين أنجبوه والأشقاء والمدرسين والأصدقاء والعشاق وأرباب العمل والأطباء والعاملين في محطات الوقود والسباكين والسياسيين والأطباء البيطريين وما إلى ذلك. لا يمكن لشخص واحد ملء جميع هذه الأدوار أو توفير جميع احتياجات الفرد، كما كان في العصور القديمة.
وبالطريقة نفسها شعر القدماء أن إلهًا واحد لن يستطيع إيفاء جميع احتياجاتهم، مثلما أنك لن تذهب إلى سباك بطفلك المريض، فإنك لن تذهب إلى إله الحرب ومعك مشكلة تتعلق بالحب. إذا كان أحد يعاني من مشكلة عاطفية، فإنه سيتضرع إلى إلهة الحب. إذا أراد المرء الفوز في قتال، عندها فقط سوف يستشير إله الحرب.
في حين أن الشرك يعني عبادة ألهة عدة معًا، فإن الهينوثية (التعددية الدينية) تعني عبادة إله واحد بتجسدات عديدة. كان هذا التحول في الفهم نادرًا جدًا في العالم القديم، وقد تكون الإلهة إيزيس وإله مصر آمون أفضل مثال على الصعود الكامل للإله من واحد من بين الكثيرين إلى الخالق الأسمى والاكتفاء به خالق للكون المعروف ذو التجليات المختلفة.
لوحظ أن كل ثقافة قديمة مارست شكلاً من أشكال الدين، لكن متى بدأ الدين أمر لا يمكن تحديده بأي قدر من اليقين. إن الجدل الدائر حول ما إذا كان دين بلاد ما بين النهرين قد ألهم ديانة المصريين قد استمر منذ أكثر من قرن من الزمان ولا يقترب من الاتفاق على رأي حتى الآن. من الأرجح أن تكون كل ثقافة قد طورت إيمانها بالكيانات الخارقة لوحدها بسبب الحاجة العلامة لشرح الظواهر الطبيعية (النهار والليل، الفصول، الظواهر الطبيعية) أو للمساعدة في فهم وجودهم وحالة عدم اليقين التي يجدها البشر في حياتهم اليومية.
في حين أنه قد يكون من المثير للاهتمام محاولة تتبع أصول الدين في كل ثقافة وحضارة، إلا أنه لا يبدو مهمًا جدًا عندما يكون من الواضح إلى حد ما أن الدافع الديني هو ببساطة جزء من الحالة الإنسانية وأن الثقافات المختلفة في أجزاء مختلفة من العالم قد توصلت إلى نفس الاستنتاجات حول معنى الحياة بشكل مستقل.
الدين في بلاد ما بين النهرين القديمة
كما هو الحال مع العديد من التطورات والاختراعات الثقافية التي منحت بلاد ما بين النهرين لقب ”مهد الحضارة“ فهي كذلك مهد الأديان. من غير المعروف متى ظهر وتطور الدين في بلاد ما بين النهرين، ولكن أول سجلات مكتوبة للممارسة الدينية تعود إلى عام 3500 قبل الميلاد في سومر. انطوت المعتقدات الدينية لبلاد ما بين النهرين على أن البشر كانوا زملاء عمل مع الآلهة وتعاونوا معهم لكبح جماح قوى الفوضى التي أطلقتها الآلهة العليا في بداية الوقت، وبذلك نشأ النظام من الفوضى على يد الآلهة. واحدة من الأساطير الأكثر شعبية توضح هذا المبدأ وتروي كيف إن كبير الإلهة مردوخ هزم الإلهة تيامات وقوى الفوضى وخلق العالم. كتب المؤرخ الدكتور (بريندان ناغل):
تم خلق البشر، في الواقع، لهذا الغرض بالذات: للعمل مع الآلهة ومن أجل نهاية تحمل الإفادة للطرفين. ادعاء بعض المؤرخين بأن أهل بلاد ما بين النهرين كانوا عبيداً للآلهة هو أمر لم يعد موضوع نقاش حتى، لأنه من الواضح تماماً أن الناس فهموا مكانتهم كزملاء وأنداد للآلهة. دفعت الآلهة البشر لخدمتهم من خلال رعاية احتياجاتهم اليومية في الحياة (مثل تزويدهم بالبيرة شراب الآلهة) والحفاظ على العالم الذي عاشوا فيه. هذه الآلهة عرفت احتياجات الناس عن قرب لأنهم لم يكونوا كيانات بعيدة تعيش في السماوات بل سكنوا في منازل على الأرض بناها شعبهم، كانت هذه المنازل هي المعابد التي ظهرت في كل مدينة من بلاد ما بين النهرين.
كانت مجمعات المعابد، التي تغلب عليها الزقورات الشاهقة، تُعتبر حرفيًا منازل للآلهة، فكان الناس يطعمون تماثيلها ويلبسونها يوميًا، بينما كان الكهنة والكاهنات يعتنون بها كما يرعون الملك أو الملكة. في حالة الإله (مردوخ)، على سبيل المثال، حُمل تمثاله من معبده أثناء الاحتفال بتكريمه ليجول في مدينة بابل حتى يقدر جمالها بينما يستمتع بالهواء المنعش وأشعة الشمس.
كانت (إنانا) آلهة جبارة أيضًا، وكانت تعتبر إلى حد بعيد آلهة الحب والجنس والحرب، وقد اعتنى الكهنة بتمثالها ومعبدها بأمانة واهتمام كبيرين. تعتبر (إنانا) واحدة من أوائل الأمثلة على شخصية الإله الذي يموت ويحييا بنزوله إلى العالم السفلي وعودته إلى الحياة، فتجلب الخصوبة والوفرة إلى الأرض. كانت عبادتها شائعة جدًا ومنتشرة في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين. ستجد هذه الإلهة بأشكال عدة: (عشتار) لدى الأكاديين (ومن ثم الآشوريين)، (عشتاروت) عند الفينيقيين والكنعانيين و(سوسكا) عند الحوريين الحثيين، وارتبطت بـ (أفروديت) عند الإغريق و(إيزيس) في مصر و(فينوس) لدى الرومان.
شكلت المعابد مركز حياة المدينة عبر تاريخ بلاد ما بين النهرين من الإمبراطورية الأكادية (حوالي 2334-2150 قبل الميلاد) وصولًا إلى الآشوريين (حوالي 1813-612 قبل الميلاد) وحتى بعد ذلك. قدّم المعبد خدماته في مجالات متعددة، إذ قام رجال الدين بتوزيع الحبوب وفائض البضائع على الفقراء وتقديم المشورة للمحتاجين وتقديم الخدمات الطبية ورعاية المهرجانات الكبرى التي كرمت الآلهة. على الرغم من أن الآلهة اهتموا كثيراً بالبشر أثناء حياتهم، إلا أن الحياة الآخرة لأهل بلاد ما بين النهرين كانت عالمًا كئيبًا مريعًا يقع أسفل الجبال البعيدة، حيث شربت الأرواح مياه متعفنة من البرك وأكلوا الرماد إلى الأبد في ”أرض اللا عودة“. هذه النظرة القاتمة لمثواهم الأبدي كانت مختلفة بشكل ملحوظ عن وجهة نظر المصريين.
كان الدين المصري مشابهًا لإيمان بلاد ما بين النهرين، حيث إن البشر كانوا زملاء للآلهة في عملية الحفاظ على النظام. كان مبدأ التناغم (المعروف لدى المصريين باسم ماعت) ذا أهمية قصوى في الحياة المصرية (وفي الحياة الآخرة)، وكان دينهم متأصلاً بالكامل في كل جانب من جوانب الوجود. يعتبر الدين المصري مزيجًا من السحر والأساطير والعلوم والطب والطب النفسي والروحي وعلم الأعشاب، إضافة للفهم المعاصر والواعي لـ ”الدين“ باعتباره الإيمان بقوة أعلى وحياة بعد الموت. كانت الآلهة أصدقاء البشر ولم يسعوا إلا إلى تحقيق الأفضل لهم من خلال تزويدهم بالأراضي المثالية للعيش فيها ومنزلًا أبديًا للاستمتاع به عند انتهاء حياتهم على الأرض.
تأتي أول سجلات مكتوبة للممارسة الدينية المصرية من حوالي 3400 سنة قبل الميلاد في فترة مصر ما قبل التاريخ (6000 – 3150 قبل الميلاد). ظهرت بعض الآلهة مثل (إيزيس) و(أوزيريس) و(بتاح) و(حتحور) و(أتوم) و(ست) و(نيفتيس) و(حورس) كقوى عظيمة جرى الاعتراف بها في وقت مبكر إلى حد ما. تشبه أسطورة الخلق المصري قصة بلاد ما بين النهرين حيث لم يكن هناك في الأصل سوى مياه فوضوية راكدة، ذلك المحيط كان بلا حدود بلا عمق وذا صمت مطبق، وعلى سطحه كان هناك تلة (تعرف باسم بن بن، الرابية البدائية أو الأساسية، التي يُعتقد أنها ترمز إلى الأهرامات) وقف الإله العظيم أتوم (الشمس) على بن بن وتكلم، وحينها ولد الإله شو (من الهواء) والإلهة تيفنوت (من الرطوبة) والإله جب (الأرض) والإلهة نوت (السماء). وبجانب أتوم وقفت هيكا، التي تجسد السحر، والسحر (هيكا) أنجب الكون.
تقدم (أتوم) للزواج من (نوت) لكنها وقعت في حبّ (جب)، ولغضبه من العاشقين، فصلهما (أتوم) عن طريق مد جسد (نوت) عبر السماء على ارتفاع عالٍ عن (جب) على الأرض. على الرغم من انفصال العاشقين خلال النهار، فقد اجتمعا ليلًا وأنجبت (نوت) ثلاثة أبناء هم (أوزيريس) و(ست) و(حورس)، وابنتين هما (إيزيس) و(نيفتيس).
أُعلن أن (أوزيريس)، كونه الأكبر سناً، هو ”رب الأرض“ عندما وُلد واعتبرت أخته (إيزيس) زوجته المستقبلية. كره (ست)، الذي أحرقته الغيرة، شقيقه وقتلته لتولي العرش. قامت (إيزيس) بتحنيط جسد زوجها وبتعويذة قوية أعادت (أوزيريس) من بين الأموات لإعادة الحياة لشعب مصر وإنجاب (حورس). خدم (أوزيريس) لاحقًا باعتباره القاضي الأعلى لأرواح الموتى في قاعة الحقيقة، ومن خلال وزن جوهر الروح في الميزان يقرر من يُمنح الحياة الأبدية.
رعت الآلهة البشر بعد الموت تمامًا كما تفعل في الحياة منذ بداية الزمن، وفّرت الإلهة (كيبيشت) الماء إلى النفوس المتعطشة في أرض الموتى وغيرها من الآلهة مثل (سركت) و(نيفتيس) اللواتي رعتا وصانتا الأرواح أثناء سفرها إلى حقول القصب. فهم الإنسان المصري أن الكون القديم، منذ الولادة وحتى الموت وصولًا لما بعد الموت، قد نُظّم من قبل الآلهة ولكل فرد دوره في هذا النظام.
الدين في الصين والهند
يعد مبدأ النظام أمرًا بالغ الأهمية في أقدم الديانات العالم والتي لا تزال حيّة حتى يومنا هذا، كالهندوسية (المعروفة باسم أتباع سانتان دارما، ”النظام الأبدي“). على الرغم من أنه غالباً ما يُنظر إليها على أنها ديانة متعددة الآلهة، إلا أن الهندوسية هي في الواقع ديانة هينوثية، أي أنه هناك إله واحد فقط في الهندوسية، وهو (براهما)، وجميع الآلهة الأخرى هي تجلياته وانعكاساته. نظرًا لأن (براهما) مفهوم هائل للغاية للعقل البشري بحيث يتعذر فهمه، فهو يقدم نفسه في العديد من الأشكال المختلفة والتي يتعرف عليها الناس كآلهة مثل (فيشنو) و(شيفا) والعديد العديد من الآلهة الأخرى. يشمل نظام المعتقدات الهندوسية 330 مليون إله، وتتراوح بين أولئك المعروفين على المستوى الوطني (مثل كريشنا) إلى الآلهة المحلية الأقل شهرة.
الفهم الأساسي للهندوسية هو وجود نظام للكون ولكل فرد مكان محدد في هذا النظام. كل شخص على هذا الكوكب لديه واجب (دارما) لا يمكن لأحد آخر القيام به سواه. إذا كان المرء يتصرف بشكل صحيح في أداء هذا الواجب (الكارما)، فحينئذٍ يكافأ المرء بالاقتراب من الكيان الأعلى ويصبح في النهاية واحدًا مع الإله، وإذا لم يحدث ذلك يتجسد المرء عدة مرات بقدر ما يستلزم الأمر لفهم كيفية العيش والاقتراب من الاتحاد مع الروح العليا أخيرًا.
تبنى (سيدهارتا غوتاما) هذا الاعتقاد عندما أصبح البوذا وأسس الدين المعروف باسم البوذية. ومع ذلك، في البوذية، لا يسعى المرء إلى الوحدة مع الإله ولكن مع الطبيعة الأسمى، حيث يتخلى المرء عن أوهام العالم التي تولد المعاناة وتغمر العقل بالخوف من الخسران والموت، أصبحت البوذية ذات شعبية كبيرة لدرجة أنها انتقلت من الهند إلى الصين حيث تمتعت بنجاح مكافئ.
كما يتضح من التصميمات على السيراميك الموجودة في موقع أثار العصر الحجري في قرية بانبو شرق مقاطعة شيان الصينية، يُعتقد أن الدين قد تطور منذ أوائل عام 4500 قبل الميلاد في الصين القديمة. ربما كانت مجموعة العقائد المبكرة هذه مزيجًا من الأرواحية والأساطير، حيث تشتمل تلك التصميمات على حيوانات يمكن التعرف عليها كتنانين الخنازير، وهي أسلاف التنين الصيني الشهير.
اعتقد الناس أن (شانغتي) يتحمل الكثير من المسؤوليات لدرجة أنه أصبح مشغولاً للغاية بحيث لا يستطيع تلبية احتياجاتهم، واُعتقد أنه عندما يموت شخص ما فإنه يذهب للعيش مع الآلهة ويصبح وسيطاً بين الناس وتلك الآلهة. أثرت عبادة الأسلاف على نظامي المعتقدات الصينية الأكبر، الكونفوشيوسية والطاوية، وكلاهما جعل عبادة الأسلاف من المبادئ الأساسية لممارساته. بمرور الوقت، تم استبدال (شانغتي) بمفهوم ”تيان“ (الجنة)، وهي جنة يقيم فيها الموتى في سلام دائم.
من أجل الانتقال من حياة الأرض الدنيوية إلى الجنة، كان على المرء عبور جسر النسيان فوق الهاوية، وبعد النظر إلى حياته الماضية للمرة الأخيرة، يشرب من فنجان يُطهر الذاكرة بكل ما فيها. على الجسر يتم الحكم على المرء إما أنه يستحق الجنة وبذلك يمر، أو لا يستحقها فينزلق من الجسر إلى الهاوية ليتم ابتلاعه في الجحيم. تدعي إصدارات أخرى من هذا السيناريو نفسه أن الروح تتقمص جسدًا آخر بعد تجرعها من الكأس. في كلتا الحالتين كان من المتوقع أن يتذكر الأحياء الموتى الذين عبروا الجسر إلى الجانب الآخر وعليهم تكريم ذكراهم.
الدين في أميركا الوسطى
إحياء ذكرى الموتى والجزء الذي لا يزالون يلعبونه في حياة من هم على الأرض كان مكونًا مهمًا لجميع الأديان القديمة بما في ذلك معتقدات شعب المايا، وقد شاركت الآلهة في كل جانب من جوانب حياة المايا. كما هو الحال مع الثقافات الأخرى، كان هناك العديد من الآلهة المختلفة (أكثر من 250 إله) كل منهم له مجال نفوذه الخاص. سيطروا على الطقس والحصاد واختيار الشريك، أشرفوا على كل ولادة وكانوا حاضرين في كل وفاة.
الحياة الآخرة لشعب المايا مشابهة لبلاد ما بين النهرين من حيث أنها كانت مكانًا مظلمًا وكئيبًا، لكن المايا تخيلوا مصيرًا أسوأ حيث كان المرء يتعرض دائمًا للتهديد بالاعتداء أو للخداع من قبل أمراء الشيطان الذين سكنوا العالم السفلي (المعروف باسم زيبالبا أو مينتال). كان الخوف من الرحلة عبر زيبالبا بمثابة قوة ثقافية مُحرّكة لشعب المايا لدرجة أنها الثقافة القديمة الوحيدة المعروفة التي تكرم آلهة الانتحار (إيزتاب)، لأنه كان يُعتقد أن حالات الانتحار تتجاوز زيبالبا وتذهب مباشرة إلى الجنة، (كما الحال مع أولئك الذين ماتوا في عملية الولادة أو في المعركة). آمن المايا بطبيعة الحياة الدورية، أي أن كل الأشياء التي تبدو وكأنها تموت ببساطة قد تحولت من شكل لآخر، واُعتبروا الحياة البشرية مجرد شكل آخر من النمط الذي رأوه من حولهم في الطبيعة، فقد شعروا أن الموت كان تقدمًا طبيعيًا إلى الحياة الآخرة، لكنهم كانوا يخشون من الاحتمالية غير الطبيعية للغاية المتمثلة في عودة الأموات لمطاردة الأحياء.
لم يكن الناس وحدهم هم الذين يجب تذكرهم وتكريمهم، ولكن أيضًا ممثلي الإله المهم جدًا والذي يشار إليه باسم ”إله الذرة“. إله الذُرة هو شخصية سماوية تموت وتحيا في صورة (هون هانبو) الذي قُتل على يد أمراء زيبالبا، فأعاد ولداه التوائم البطل إلى الحياة، ليخرج من العالم السفلي بهيئة نبتة ذرة. لإله الذرة عدة تجليات شائعة في صناعة التماثيل لدى المايا، حيث يجري تصويره دائمًا باعتباره شابًا وسيمًا خالدًا برأس ممدود مثل الذرة، وشعر طويل يتدفق مثل شعر الذرة، ومزين بزخارف من الأحجار الكريمة ترمز إلى ساق الذرة. اعتبر المايا هذا الإله مهمًا جدًا لدرجة أن الأمهات كن يربطن رؤوس أبنائهن الصغار بالأرض على الجبهة ويمددن رؤوسهم للتشبه به.
لقد بقي إله الذرة ذا أهمية كبيرة للمايا حتى عندما تغلب عليه أعظم وأشهر الآلهة (غوكوماتز) –المعروف أيضًا باسم كوكولكان وكيتزالكووتل –وما يزال هرمه الأكبر في تشيتشن إيتزا يُزار من قبل ملايين الناس كل عام في الوقت الحاضر. عند تساوي الليل والنهار سنويًا، تلقي الشمس بظلالها على سلالم الهيكل الهرمي فتبدو أشبه بالثعبان الكبير الذي ينحدر من الأعلى إلى الأسفل، ويعتقد أن هذا هو (كوكولكان) العظيم يعود من السماء إلى الأرض. يجتمع الناس في تشيتشن إيتزا إلى يومنا هذا لمشاهدة هذا الحدث في الاعتدالين لتذكر الماضي والأمل في المستقبل.
الديانة اليونانية والرومانية
كان إحياء ذكرى الموتى جزءاً لا يتجزأ من التعبد الديني للفرد وذا أهمية كبيرة في معتقدات الإغريق أيضًا، فاستمرار ذكرى الموتى من قبل الأحياء يحفظ روحَ المتوفى من الفناء في الآخرة. لقد آمن الإغريق، مثل الثقافات الأخرى المذكورة أعلاه، بالعديد من الآلهة الذين كانوا يهتمون في كثير من الأحيان بالإنسانية ولكنهم، كما هو الحال في كثير من الأحيان، أهتموا لمتعهم الخاصة أكثر.
ربما تكون الطبيعة المتقلبة للآلهة قد ساهمت في تطور الفلسفة في اليونان حيث أن الفلسفة لا يمكن أن تتطور إلا في ثقافة لا يقتصر الدين فيها على احتياجات الناس الروحية. ولذلك انتقد (أفلاطون) باستمرار المفهوم اليوناني للآلهة وقال السياسي (كريتياس) أن الآلهة ببساطة خُلقت من قبل البشر للسيطرة على البشر الآخرين. وكما ذكرنا، اعتثد (زينوفانيس) أن النظرة اليونانية كانت خاطئة تمامًا وأن الإله لا يمكن تصوره.
ومع ذلك، كان يتوجب تكريم الآلهة بالنسبة لغالبية الإغريق –وكحاجة لسير المجتمع –وكذلك تكريم أولئك الذين انتقلوا إلى عالم الآلهة. فلمجرد أن الشخص لم يعد حيًا على الأرض لا يعني أنه ينبغي أن يُنسى، كما الحال مع تكريم الآلهة غير المرئية الذي يجب ألا يُنسى، وكما هو الحال مع الثقافات القديمة الأخرى، دُمج الدين في اليونان بالكامل في الحياة اليومية والروتينية.
استشار الإغريق الآلهة في مسائل تتراوح من شؤون الدولة العليا إلى القرارات الشخصية المتعلقة بالحب أو الزواج أو عمل الفرد. تحكي قصة قديمة كيف ذهب الكاتب (زينوفون) (430 – 354 قبل الميلاد) إلى (سقراط) ليسأله عما إذا كان الفيلسوف يعتقد أنه ينبغي عليه الانضمام إلى جيش (قورش) الأصغر في حملته إلى بلاد فارس. أرسله (سقراط) لطرح السؤال على الإله في معبد دلفي المخصص للإله (أبولو)، لكن بدلاً من طرح سؤاله الأصلي، سأل (زينوفون) إله دلفي عن أي من الآلهة الكثيرة كان من الأفضل له التضرع لها لضمان عودةٍ سالمةٍ غانمة، ويبدو أنه حصل على الإجابة الصحيحة كونه نجا من الحملة الكارثية التي قام بها (قورش)، ولم يعد فقط إلى أثينا، بل أنقذ الجزء الأكبر من الجيش.
كانت عبادة الآلهة في روما مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشؤون الدولة، وكان يُعتقد أن استقرار المجتمع يعتمد على مدى تبجيل الناس للآلهة ومشاركتهم في الطقوس التي تبتغي وجههم. عذارى فستال هنّ أحد الأمثلة الشهيرة لهذا الاعتقاد، حيث أنه تم الاعتماد على هؤلاء النساء اللواتي عملن ككاهنات للمحافظة على العهود التي قدمت للإلهة وأداء واجباتهم بمسؤولية من أجل تكريم الإلهة (فستا) –إلهة الموقد والبيت والعائلة –باستمرار والحفاظ على النار المقدسة بحيث تظل مشتعلة دائماً تكريمًا لكل ما قدمته الآلهة للبشر.
على الرغم من أن الرومان قد استوردوا آلهتهم الرئيسية من اليونان، وبمجرد تأسيس الدين الروماني وربطه برفاهية الدولة، فلم يتم الترحيب بأي آلهة أجنبية. عندما دخلت عبادة الإلهة المصرية الشهيرة (إيزيس) إلى روما، منع الإمبراطور (أوغسطس) أي معابد يتم بناؤها على شرفها أو إقامة الشعائر العامة التي لاحظها لها لأنه شعر أن مثل هذا الاهتمام الموجه إلى إله أجنبي سيؤدي إلى تقويض سلطة الحكومة والمعتقدات الدينية الحالية. بالنسبة إلى الرومان، خلقت الآلهة كل شيء وفقًا لمشيئتها وصانت الكون بأفضل طريقة ممكنة، وكان على الإنسان أن يُظهر لها الامتنان على نعمها.
لم يُطبق هذا الاعتقاد على الآلهة الرومانية ”الرئيسية“ فقط ولكن أيضًا على أرواح المنزل، فكانت البيناتس أرواح منزلية تحافظ على منزل الفرد وأمانه وتناغمه، ومن المتوقع أن يكون المرء ممتنًا لجهودها ويتذكرها عند دخوله منزله أو مغادرته، فيتم مثلا إحضار تماثيل للبيناتس من الخزانة و وضعها على الطاولة أثناء الوجبات لتكريمهما، وترك بعض الطعام في الموقد من أجلها، إذا كان المرء مجتهدًا في تقدير جهودها فقد تتم مكافأته بالصحة والسعادة المستمرة، وإذا نسيها فإنه سيعاني جراء هذا النوع من الجحود. على الرغم من أن ديانات الثقافات الأخرى لم يكن لديها بالضبط نفس هذه الأنواع من الأرواح، إلا أن الاعتراف بأرواح المكان –وخاصة المنزل– كان شائعًا.
الموضوعات الشائعة في الدين القديم وما استمر منهاتشترك أديان العالم القديم مع بعضها البعض في العديد من الأنماط على الرغم من أن الثقافات ربما لم يكن لها أي اتصال ببعضها البعض، فمثلًا تم مقارنة التشابهات الأيقونية الروحية لأهرامات المايا والأهرامات المصرية منذ أن تم توجيه انتباه العالم إلى تلك الحضارة من قبل المستكشف وعالم الآثار الأمريكي (جون لويد ستيفنز) والمستكشف والفنان الإنكليزي (فريدريك كاثوود) في القرن التاسع عشر، كما أن بُنى المعتقدات الفعلية والقصص وأهم الشخصيات في الأساطير القديمة تتشابه بشكل ملحوظ من ثقافة لثقافة.
يجد المرء أنماطًا متطابقة أو متشابهة جدًا في كل ثقافة، والتي وجدها الناس كملاذ لهم والتي أعطت حيوية لمعتقداتهم. تتضمن هذه الأنماط وجود العديد من الآلهة التي تهتم وترعى حياة الناس، خلقهم من قبل كيان خارق للطبيعة، خلق الطبيعة، وجود كائنات خارقة أخرى تنبثق من الكيان الأول والأكبر، مع وجود تفسير خارق للطبيعة لكيفية إنشاء الأرض والبشر، إضافة للعلاقة بين المخلوقات البشرية وإلههم الخالق والتي تتطلب العبادة والتضحية.. كل هذه المبادئ موجودة في كل الأديان.
يتكرر محتوى الرسالة الروحية نفسه لهذه الأديان المختلفة من نصوص فينيقيا (2700 قبل الميلاد) إلى نصوص سومر (2100 قبل الميلاد) إلى فلسطين (1440 قبل الميلاد) إلى اليونان (800 قبل الميلاد) إلى روما (حوالي 100 قبل الميلاد) وصولًا لمعتقدات أولئك اللاحقين. تم التطرق إلى هذه الفكرة في اليهودية في صورة يوسف (سفر التكوين 37، 39-45) الذي يبيعه أخوانه ليصبح عبدًا في مصر، ويوضع في السجن بعد اتهامات زوجة بوتيفار له، ثم يتم إطلاق سراحه واستعادة مكانته، وعلى الرغم من أنه لا يموت بالفعل، إلا أنه بعد ”قيامته“ الرمزية، ينقذ البلاد من المجاعة، ويصلح حال الناس بنفس الطريقة التي تصلح بها الشخصيات الأسطورية الرمزية الأخرى.
اعتبرت الحكاية الفينيقية عن الإله العظيم (بعل) الذي يموت ويعود إلى الحياة لمحاربة فوضى الإله (يام) حكاية قديمة من عام 2750 قبل الميلاد عندما تأسست مدينة صور (وفقًا لهيرودوت) والقصة اليونانية للإله (أدونيس) الذي يموت ليعود ويحيى (حوالي 600 قبل الميلاد) كانت قد استمدت من الحكايات الفينيقية السابقة المستندة إلى الإلهة (تموز) والتي استعارها السومريون (ثم الفرس لاحقًا) وجسدوها في أسطورة هبوط (إنانا) إلى العالم السفلي.
اكتسب موضوع الحياة بعد الموت والحياة المنبثقة منه، وبالطبع الحساب بعد الموت، أكبر شهرة من خلال الجهود الإنجيلية التي بذلها القديس بولس الذي نشر كلمة الإله يسوع المسيح القتيل الذي قام، في جميع أنحاء فلسطين القديمة وآسيا الصغرى، اليونان وروما (حوالي 42-62 ميلادي). لقد استمدت رؤية بولص لشخصية يسوع، ابن الرب الذي مات من أجل خلاص البشرية، من المعتقدات السابقة وغذّت فهم الأشخاص الذين سيكتبون ويجمعون ما يعرف بالعهد الجديد.
جعل دين المسيحية الاعتقاد بالحياة الآخرة معيار إيمان وأنشأ مجموعة منظمة من الطقوس التي يمكن أن يكتسب من خلالها الملتزمون بها الحياة الأبدية. بقيامهم بذلك كان المسيحيون الأوائل يتابعون ببساطة على خطى السومريين والمصريين والفينيقيين واليونانيين والرومان، وجميعهم كان لديهم طقوسهم الخاصة لعبادة آلهتهم. بعد المسيحيين وضع المفسرون المسلمون للقرآن طقوسهم الخاصة لفهم الإله الأعلى الذي، على الرغم من اختلافه في مبادئه عن الديانات المسيحية أو اليهودية أو الديانات الوثنية القديمة، خدم نفس غرض الطقوس والمعتقدات القديمة منذ أكثر من 5000 عام.
لتزويد البشر بفهم أنهم ليسوا وحدهم في نضالاتهم ومعاناتهم وانتصاراتهم، وأنهم قادرون على كبح جماح نزواتهم ورغباتهم، وأن الموت ليس نهاية الوجود فقد قدمت ديانات العالم القديم أجوبة على أسئلة الناس حول الحياة والموت، وبذلك فهي لا تختلف بالمطلق عن تلك الديانات التي تمارس في العالم اليوم.