اللاهوت والحياة…
بما أنّ اللاهوت معرفةُ الله، فهو لا ينفصل عمّا يسمى الحياة الروحيّة؛ تلك الحياة المهتمّة بالإنسان بكلّيته؛ جسداً ونفساً، مادةً وروحاً، انطلاقاً من التركيز على الإنسان الداخلي، بغية الوصول إلى الإنسان الجديد الحقّ المتغيّر من الداخل لا من الخارج فقط. لبّ هذه الحياة الروحيّة، في الأرثوذكسيّة، هو النسك.
قد تكون لفظة النسك مخيفةً في زمن الاستهلاك والرفاهية والمجون المعاصر هذا الذي نحيا فيه. لكنّها، في المفهوم المسيحيّ الشرقيّ، مرادفةٌ للتحرّر. فالحياة الروحيّة نمطُ حياةٍ يطمح الإنسان فيه إلى الحريّة الحقيقيّة، ليتخلّص من كلّ ما يقيّده ويتحكّم فيه وتالياً يستعبده. يتخطّى المؤمن العابرات طلباً للباقيات. “لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة”(يو6/27).
المسيحيّ إنسان التسامي. إنّه ينتهج الدرب الذي يقود الصورة الإلهيّة فيه إلى مثالها الإلهيّ، عبر درب التنقية والتطهّر. وهذا لا بدّ له من النسك طريقاً إلى التحرّر الداخليّ أوّلاً.
تسامي المسيحي يقوده إلى العمل على جعل الأرض صورةً عن الملكوت السماوي. لكنّه، في سعيه هذا، يطالب نفسه لا الآخرين. يبدأ بتنقية ذاته ليصير، بنعمة الله، صورةَ المسيح. وعندما يتحرّر داخليّاً من قيود وأربطة الشرّ المعششة فيه ويستبدلها بالحريّة التي حررنا بها المسيح (غلا5/1) يبلغ المحبّة الحقّة ويصير نوراً للآخرين وقدوةً لهم.
يتموضع سعي المسيحيّ الحقّ في أن يحيا الإنجيل بملئه، ومن ثمّ له أن ينتهج مع غيره، عمليّاً، الدربَ الذي يلهمه الله إيّاه في سبيل تحسين الحياة البشريّة والتخفيف من الشرور المحيقة بها وتطهيرها من تلك المتأصلة في داخلها.
من هنا نفهم التشديد في روحانيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة على التوبة المستدامة. [يدعوها القدّيس باييسيوس الآثوسي: العمل اليدوي الذي لا ينتهي أبداً]. ليس المقصود بها انقطاعٌ عن أفعال وعادات رديئة فقط، بل، أيضاً، عن أيّ فكرٍ أو نمطِ حياة لا يتوافقان والإنجيل واستبداله بما يوافقه.
التوبة مسيرة حياة مستمرّة ابتغاء بلوغ الإنسان الحرّ حقّاً؛ توبةٌ تتطلّع إلى نزع الخطيئة التي تستعبد واستبدالها بالفضيلة التي تحرّر. إنّها تحرير الضمير والنَزَعات التي تقزّم الإنسان قبل تحرير البنية الخارجيّة التي يعيش فيها. أيّة عمليّةِ تحرّرٍ لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الداخلي (الروحيّ) تبقى ناقصة ولا تبلغ الكمال. تربية النفوس على روح المحبّة المسيحيّة الحقّ أمرٌ شديد الأهميّة. تمهد التربية الطريق إلى اللاهوت القويم الذي يغيّر الإنسان جذريّاً.
يعتبر التعليم المسيحي أنّ الروحانيّة غير المؤسّسة على اللاهوت الحقّ المستقيم، إنّما هي روحانيّةٌ هشّةٌ، نتاجٌ بشريُّ لا إلهيّ؛ وتالياً لا تُشبع النفس البشريّة ولا تُبلغها إلى السلام والفرح المنشودين.
من هنا، يحتاج أيّ عملٍ أو تعليمٍ تقوم به الكنيسة إلى الاستناد على لاهوت سليم ونقيّ؛ على رؤيةٍ موافقةٍ للإنجيل.
لنضرب مثالاً، والأمثلة كثيرة. إذا أردنا أن نرسم سياسةً ماليّةً للأوقاف الكنسيّة فلا يمكننا وضعها استناداً إلى الدراسات الاقتصاديّة والمحاسبيّة والإداريّة فقط. هذه علوم لا بدّ منها من أجل نجاح الاستثمار والتنمية والحفاظ على استمرارهما، لكنّها لا تكفي للحصول على تعاطٍ للمال موافق للإنجيل. ما دور المال ووظيفته ومكانته مسيحيّاً؟ ما علاقته بالله والإنسان بعامّةٍ، وتالياً استخدامه بما يتوافق مع واقع الكنيسة وحياتها؟ نضع الرؤية اللاهوتيّة للمال أوّلاً لكي نرسم سياسة وقفيّة موافقة لإيماننا، ومن ثمّ نستفيد من العلوم المذكورة في تطبيق هذه الرؤية بالطريقة الفضلى التي تحقّق الهدف.
تطلق صفة اللاهوت اليوم على حقول متنوّعة فيُقال لاهوت الرعاية، الليتورجيا، الحقّ الكنسي… لاهوت المال، العدالة، الفقر والغنى… إلخ. المقصود بهذا الكلام هو الرؤية المسيحيّة لهذه القضيّة أو تلك. تشمل المسيحيّة الحياة بكلّيتها، لا جزءاً منها. كلّ مسيحي مدعو بصدقه وبنعمة الله، إلى تجسيد كلمة الربّ: “أتيت لتكون لكم الحياة ولتكون أوفر” (يو10/10)، وتالياً إلى جعل العالم أفضل.
لكن، عندما يكون التأثر بفكر هذا العالم أقوى من التأثر باللاهوت المستقيم تميل كفّة الكنيسة إلى هذا العالم ويبدأ الانحراف. آنذاك يكون فكر هذا الدهر هو المسيّر لها لا فكر المسيح. هذا التحدّي قائمٌ دائماً في وسط الكنيسة. ولا حلّ له إلا بكثرة المستنيرين والمتألهين.
التوتّر بين الانحياز إلى فكر المسيح أو إلى فكر هذا الدهر تحدٍّ يواجه الكنيسة، على صعيد الجماعة والفرد، في كلّ حين، حتّى اليوم الأخير إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وما أكثر التحدّيات في هذا الزمن. تواجه الكنيسة في زمننا الحاليّ تغيّرات شديدة التسارع تطرح عليها تحدّياتٍ لم يسبق أن واجهتها البشريّة قبلاً. كما أنّ سياق الفكر الطاغي يقود إلى رفض ما هو تقليديّ عموماً.
يتغنّى الشرقيّون بلاهوتهم، وهذا حقّ. فقد بقي اللاهوت الأرثوذكسي صافياً وسامياً، لكن المهمّ أن يُرى ويُلمَس في الحياة. إذا ما تغنّينا به ولم يظهر فينا يبقى حبيسَ الكلام. هل تكفي إقامة الحجج والبراهين على استقامته ما لم يتجسّد فعلاً في الحياة؟
لا يحتاج الناس إلى من يخبرهم عن محبّة قويمة، بل إلى من يرونها حيّة مُعاشةً فيهم.
السؤال الأهمّ في هذا السياق هو: كيف نجسّد لاهوتنا في الحياة اليوميّة بحيث تصير أعمالنا ومواقفنا وسلوكيّاتنا، أفراداً وجماعات، كنائس ومؤسّسات كنسيّة وشخصيّة، نابعة منه ومتطابقة معه؟
للذين أنارهم الروح القدس الدور الأهمّ في رسم هذه المسيرة الملكوتيّة وتفعيلها. يبقى أنّ أيّ تجاهل لللاهوت المستقيم إنّمّا يتمّ على حساب الإنجيل وحقّه.
(المتروبوليت سابا اسبر)