ايليا سيمونيذس الملقب بالرومي والمعروف ب ايليا الرومي
كلمة اساسية
ايليا الرومي المرتل الأول في مقر الكرسي الانطاكي في ابرشية دمشق البطريركية، وعى الدمشقيون ارثوذكساً ومن كنائس اخرى على مرتل عملاق اسمه ايليا الرومي وعلى الحضور والتألق في الكاتدرائية المريمية وقد رددت جنباتها صوته المميز، وهو على كرسي البروتو بسالتي الايمن يقابله على الكرسي الايسر صوت لم يقل عنه تميزاً وحرفنة أدائية وبصوت قل نظيره هو المرحوم توفيق الحداد ابن ابرشية جبل لبنان رفيق دربه في الترتيل بالمريمية منذ 1936وحتى وفاته في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين.
المرتل الأول ايليا سيمونيذس ( الملقب عند الدمشقيين ايليا الرومي ويذكره المتقدمون بالسن الباقون على قيد الحياة، وكل من عمل في الموسيقا الرومية كبار الموسيقيين بإعجاب) وهو مرتل الكاتدرائية المريمية، زمن البطاركة غريغوريوس (1906-1928) منذ 1923 الى اواخر عهده بوفاته عام 1928، والكسندروس (1931- 1958) وثيوذوسيوس (1958- 1969)
شُرِّدَ إثر ما اسموها “الثورة التركية” (والاصح انها الهياج الطائفي والابادة والتهجير بحق من تبقى من المسيحيين في آسيا الصغرى وتحديداً اليونانيين بقيادة كمال اتاتورك)، من آسيا الصغرى إلى حلب العام 1922 ومنها إلى دمشق، حيث عُيِّن العام 1923 بروتوبسالتي المريمية، أيام البطريرك غريغوريوس الرابع. وتوفي أيام البطريرك ثيودوسيوس في العام 1965.تميز بقوة الصوت وارتقائه… وكان معلِّم الموسيقى في الآسية. له فضل على كل من رتل في القرن 20 في دمشق وفي ضواحيها ونقل الخبرة للمرتلين المعاصرين. من الشائع هنا في دمشق أن الموسيقار محمد عبد الوهاب –الذي اعتاد على الاصطياف في بلودان سنوياً- كان يحضر قداس الأحد في المريمية للاستماع والاستمتاع بترتيل الرومي (باليونانية) وكان يُشاهَد جالساً في المقعد الأخير يدوِّن علامات موسيقية على كراس…(1)
لايزال البعض ممن عاصره او تتلمذ عليه يذكره باعجاب مترحماً على هذه النابغة الانطاكية الفريدة في فن الترتيل الرومي باليونانية والعربية، ولكن بكل اسف ليس من سند كتابي يوثق لسيرة هذا العلم والعالم العبقري… الكل يحلف بحياته… وخاصة من تبقى من الجالية اليونانية في دمشق. لكن لم يكتب عنه احد.
كان الكثير من الاخوة في كنيسة الروم الكاثوليكية الدمشقية الشقيقة يفاخرون بدعوته ليقوم بالترتيل في افراحهم واحزانهم، وخاصة في كاتدرائية سيدة النياح للروم الكاثوليك بدمشق وعندما يكون مترئساً الخدمة غبطة البطريرك…
بحثت كثيراً في الوثائق البطريركية / ابرشية دمشق عن شيء مكتوب عنه في الفترة التي رتل فيها، لم اجد شيئاً ببالغ الأسف…حتى صورة شخصية له لم أجد…استفيد منها في مقالي عنه هنا…
لعل التوثيق لم يكن مُفَّعَّلاً، وخاصة عن الترتيل والمرتلين في دمشق ودرتها مريمية الشام كوكبة من اعلام الترتيل على سبيل المثال لا الحصر منهم الأفذاذ يوسف بن عبده بن مخائيل مخلع الدمشقي العام 1825 ومابعده، والشماس بروكوبيوس من القسطنطينية مرتل المريمية منذ 1826، ومعلم الترتيل في اكاديمية الموسيقى البيزنطية في الأكاديمية العليا التي افتتحها القديس يوسف الدمشقي عام 1851 في صرح الكلية الارثوذكسية الدمشقية/ الآسية. وخليفته شقيق المثلث الرحمات البطريرك ملاتيوس الدوماني، البروتوبسالتي يوسف الدوماني الدمشقي العظيم في فن الترتيل في مريمية الشام في معظم النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد تتلمذ عليه كثيرون لعل ابرزهم بروتوبسالتي الكرسي الانطاكي ديمتري المر وقد تلمذه خلال أربع سنوات (1893-1897).
رتل بعده في الكاتدرائية المريمية في دمشق…اضافة الى الشماس اسكندر طحان الدمشقي (البطريرك) والشماس ابيفانيوس زائد (المطران)… وكنا والصديق قدس الاب الدكتور يوحنا اللاطي وانا قد سلطنا (2)بعد بحث مضن الضوء اليسير عليهم في بحثنا المشترك :” الموسيقى الكنسية في كنيسة أنطاكية في القرنين 19 -20والمرتلون الأنطاكيون”…
كما ورد في سيرة البروتوبسالتي الطرابلسي الشهير والمبدع ديمتري كوتيا انه تتلمذ على علمنا البروتوبسالتي ايليا سيمونيدس…
لم اجد ضالتي سوى شذرات شفهية كما اسلفت، ولكني مؤخراً اثناء تكشيفي للوثائق البطريركية الخاصة بدمشق في ستينيات القرن العشرين وجدت وثيقة باليونانية مطبوعة على الآلة الكاتبة بدون اسم وتوقيع وتاريخ وحددت انها خاصة بعلمنا من خلال معرفتي البسيطة لبعض حروف الهجاء اليونانية وانها تعود الى تلك الفترة فقصدت قدس الارشمندريت الصديق ابراهيم داوود كبير كهنة كنيسة الصليب المقدس فأعانني مشكوراً بتعريبه لها وكانت هي التالية معربة مع اضافة مني (للتوضيح) بعض الايضاحات والتعليقات عليها مابين قوسين:
“ايليا سيميونيديس المرتل الأول في الكاتدرائية في دمشق في بطريركية أنطاكية للروم الأرثوذكس:
السيد ايليا الذي درس الموسيقا البيزنطية في اسطنبول حصل على شهادة بدرجة ممتاز بالموسيقا الكنسية من اسطنبول جاء الى دمشق بدعوة من البطريرك غريغوريوس الرابع عام 1923″
تقول الوثيقة:”معلوم أنه منذ 25 سنة لولاية البطريرك ألكسندروس الأنطاكي”(البطريرك الكسندروس من 1931-1958 وهو تابع الترتيل في عهد خليفته البطريرك ثيوذوسيوس السادس 1958- 1970 الى عام 1965 حين وفاته)
تتابع الوثيقة: ” السيد إيليا سيميونيديس هو يوناني قوي ومقتدر وعارف عميق للموسيقا البيزنطية، الأمر الذي يقتدي الإعتراف بهذه المقدرة للسيد سيميونيديس.
والسيد سيميونيديس بموجب اعتراف عام لعرب ويونان في سورية ولبنان وفلسطين كان متميزاً وبارعاً في خدمته” (بالترتيل وتعليم اليونانية في ابرشية دمشق البطريركية)
في خدمته تشهد الوثيقة:
“السيد سيميونيديس يكمل للتو عامه 32 في خدمته (هنا تتحدد سنة هذه الوثيقة في عام 1955)
خلال هذه الفترة الزمنية قام في عام 1939 بتأسيس جمعية في دمشق تحت اسم جمعية أبولون اليونانية(3) واهتم بالامور المالية للمدرسة اليونانية، معظم اليونان سكان دمشق تعلموا اليونانية من السيد سيميونيديس حتى عائلة القنصل اليوناني في دمشق(4) تعلموا على يديه.
السيد سيميونيديس كان مع عائلته في الخط الاول في الحرب العالمية الأخيرة (الحرب العالمية الثانية1939-1945) وقد قدموا خدمات كبيرة للجنود اليونانيين الذين كانوا موجودين في الشرق الأوسط وللاجئين اليونانيين، وكنوع من الاعتراف بهذه الافضال الكثيرة والمآثر التي قام بها السيد ايليا كرمته اليونان وخصصت له معاشاً تقاعدياً”
خاتمة الوثيقة (وهي ثبت رسمي بجنسيته اليونانية وبتخصيصه بمعاش تقاعدي)
“هذه الورقة هي عبارة عن توثيق وتصديق على كل الاعمال التي قام بها السيد ايليا بمناسبة استكماله 35 سنة في خدمة بطريركية انطاكية ووضع اسمه في وزارة الخارجية حتى يحق له الراتب التقاعدي
تم تعيينه بناء على القانون رقم 2414 للعام 1940 المادة رقم 10 “.
(اذن هي شهادة رسمية بمنحه الجنسية اليونانية بموجب هذا القانون وبالتالي استحقاقه راتباً تقاعدياً من دولة اليونان)
في عموميات معرفتنا عن علمنا
علمنا السيد ايليا سيمونيدس (وتسكت المصادر عن تاريخ ومكان مولده)، اعتقد انه من مواليد مطلع القرن 20 بالاستدلال الى بعض الشهادات الشفهية من احدى مدن ابرشية كيليكيا، وأميل في اعتقادي الى أنه كان إما من إزمير أو مرسين، ودرس في مدارس الكنيسة.
وكانت كيليكيا، خاصة عاصمتها مرسين خزاناً لليونانيين الانطاكيين مع وجود عدد كبير من العائلات السورية الأرثوذكسية الممتدة في دمشق وبيروت واللاذقية وحلب، كونها أساساً ابرشية من ابرشيات الكرسي الأنطاكي، وقد استشهدت هذه الابرشية مع الابرشيتين الأنطاكيتين ارضروم وديار بكر في آسيا الصغرى وكانت هذه من اراضي المملكة العربية التي لملك العرب الشريف حسين بن علي باعتراف الحلفاء وبالاتفاقية المعروفة باسم” اتفاقية حسين – مكماهون 1916″، وبغدر الحلفاء سُلخت كيليكيا عن سورية وضمها كمال اتاتورك الى تركيا عام 1923، بعد معاهدة سيفر بمساعدة من الحلفاء وفي مقدمهم الفرنسيين والايطاليين وابيد الجيش اليوناني برمته، فبطشوا بسكانها الانطاكيين من سوريين ويونانيين، اضافة الى الأرمن… وبقيت الى الآن فيها اقلية مرتاعة، وشملت الاضطهادات كل المسيحيين في كل المناطق بدءاً من القسطنطينية حيث كان قد أكمل تعليمه العالي الموسيقي البيزنطي في مدرستها العليا التابعة للكرسي القسطنطيني المقدس وعين مدرساً للموسيقى البيزنطية فيها.
اللجوء الى سورية
هرب من القسطنطينية إلى حلب في العام 1922 ومنها إلى دمشق، حيث عينه مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس العام 1923 بروتوبسالتي الكاتدرائية المريمية، وقد جهد مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع(1906-1928) في حماية المسيحيين عموماً كما تؤكد الوثائق البطريركية، وحماية ابناء ابرشية كيليكيا خصوصاً، وبالتحديد الروم الارثوذكس بشقيهم السوري واليوناني من بطش الاتراك مستجيراً ب”المفوضية الفرنسية العليا في سورية وكيليكيا” التي كانت منتدبة بموجب اتفاقية سايكس -بيكو والتي لم يلق منها الا وعوداً عرقوبية، فيما استمر الذبح والتهجير والتطهير الديموغرافي والعرقي والغاء الوجود المسيحي لمن بقي عبر المبادلة السكانية التي تمت برعاية عصبة الامم والحلفاء فانتقل اليونانيون من تركيا الى اليونان وبالعكس انتقل الاتراك من اليونان الى تركيا، فيما كان من هرب ناجياً من اليونانيين(5) والسوريين منذ 1918 الى حلب ودمشق وبيروت واللاذقية. فاستضاف وساعد مااستطاع بصفته البطريرك…ممن لجأ الى هذه الابرشيات مع مطارنتها فهم ابناء الكرسي وكان منهم علمنا ايليا هذا…
وبقي علمنا ايليا بروتوبسالتي المريمية الى حين وفاته في عهد البطريرك ثيودوسيوس في العام 1965. وكان معلماً للموسيقى الرومية في الآسية. له اكبر فضل بتأسيس اول جوقة ضاربة تعلمت اصول الترتيل على الابجدية البيزنطية والتراتيل باللغة اليونانية (بالاضافة الى العربية) في دمشق من شبيبة مركز دمشق لحركة الشبيبة الارثوذكسية في عهد رئيس مركزدمشق الارشمندريت قسطنطين (كوستا) بابا ستيفانو (مطران ابرشية بغداد والكويت وتوابعها لاحقاً) كما كان له الفضل على كل من يرتل اليوم في دمشق وفي ضواحيها بأنه صنع النواة وهذه النواة اعطت المرتلين الحاليين، كما شهد بذلك احد اهم تلامذته السيد فوزي بشارة المرتل المتميزكما ستأتي حرفياً في مقالنا هنا.
وكما اسلفت اعلاه، لايزال البعض ممن عاصره، او تتلمذ عليه، يذكره باعجاب مترحماً على هذه النابغة الانطاكية الفريدة في فن الترتيل الرومي باليونانية والعربية، ولكن بكل اسف ليس من سند كتابي يوثق لسيرة هذا العالم العبقري، ولا حتى قام هو او احدهم بتسجيل لمرتلاته…لكن الجميع يشهد لعطائه بشهاداته الشفهية…
ووفق هذه الشهادات كان الكثير من الاخوة في كنيسة الروم الكاثوليكية الدمشقية الشقيقة يفاخرون بدعوته ليقوم بالترتيل في افراحهم واحزانهم وخاصة في كاتدرائية سيدة النياح للروم الكاثوليك بدمشق وعندما يكون مترئساً الخدمة غبطة البطريرك(6)…
وكان من الشائع هنا في دمشق أن الموسيقار محمد عبد الوهاب –الذي اعتاد على الاصطياف سنوياً في بلودان- كان يحضر قداس الأحد في المريمية للاستماع والاستمتاع بترتيل الرومي (باليونانية) وكان يُشاهَد جالساً في المقعد الأخير من صف المقاعد الايمن، يدوِّن علامات موسيقية على كراس، وكان يلفت هذا الموسيقار الاهم في العالم العربي تَمَيُزْعلمنا السيد ايليا سيمونيدس بقوة الصوت وارتقائه، ومعروف ان المريمية وهي /اكبر كنيسة ليس في دمشق فقط بل في كل سورية/ من الكبر والسعة بحيث يضيع فيها صوت المرتل وجماليات صوته، حيث لم تكن مكبرات الصوت قد أُدخلت اليها بعد.
– لم استكين في البحث، واغتنمت سانحة زيارة الاستاذ فوزي بشارة المحترم(7) الى الوطن، وزرته قاصداً ذكرياته نحو علمنا وهو تلميذه في هذا الفن الرائع…واعتز بصداقته فهو نعم الصديق والنقي في محبته، وكنت تعلمت على يديه صغيراً بداية الترتيل عندما كان بروتوبسالتي كنيسة الصليب المقدس في مطلع سبعينيات القرن 20 ورجوته ان يكتب لي عن مرتلنا الكبير المغفور له ايليا سيمونيدس ففرح لوفائي، وابدى استعداده بكل سرور مع دمعة وفاء من شدة حبه له، ذرفها على ذكراه، وقد كتب لي مشكوراً هذه السيرة الرائعة وقد وجدت ان من الواجب ان ادونها بالحرف وفاء مني للأستاذ فوزي استاذي وكاتبها الكبير.
وهي التالية:
” باسم الآب والابن والروح القدس
من فوزي سليم بشارة، مع أطيب التحيات والاكرام.
الى الأخ الحبيب بالرب يسوع الدكتور جوزف زيتون المؤرخ الكنسي والجزيل الاحترام
يسعدني ويشرفني أيها الأخ الحبيب الوفي أن أُرسل اليكم بناء على رغبتكم، نبذة عن حياة المرحوم ايليا سيمونيذس (ايليا الرومي) بروتوبسالتي الكرسي الأنطاكي المقدس، بحسب ما اتذكره من معلومات استقيتها مباشرة منه خلال فترة حياته لعلاقتي الوثيقة به، اذ كان استاذي ومعلمي الذي أثَّرَ في نفسي أثراً طيباً، فأحببته حباً جماً واتخذته مثالاً وقدوة في الترتيل والاداء الكنسي، ومازلت على نهجه واسلوبه بعد، واستطاعتي وامكاناتي.
إنه حقاً في قمة السلم الذي كنت ومازلت أسعى وأحاول الوصول والصعود في درجاته الأولى. اما المثلث الرحمات المطران قسطنطين بابا ستيفانو فقد زودني ايضاً قبل وفاته عن المرحوم الأستاذ ايليا بمعلومات هي من جملة ما سأكتبه لكم كنبذة عن حياة المرحوم (ايليا الرومي). وإذ أشكركم بكل تقدير لحرصكم واهتمامكم البالغ في جمع المعلومات المهمة عن حياة هذا المرتل الكبير وأمثاله من الذين تركوا بصمات مشعة في مجالات مواهبهم ونشاطاتهم في حياتهم، ينبغي أن نذكرهم بكل فخر واعتزاز وسرور، أقول:
– لقد لمع اسم المرحوم ايليا سيمونيذس (ايليا الرومي) مرتلأً كنسياً بيزنطياً بصوته الغريد عذوبة وحلاوة وتأثيراً في النفس، يُوقظ الخشوع ويُحي الرجاء، ويثير الاعجاب، ويبهج النفس، منذ عهد المثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس في العشرينات من القرن العشرين المنصرم، وفي عهدي المثلثي الرحمات البطريرك الكسندروس طحان والبطريرك ثيوذوسيوس أبو رجيلي حتى عام 1966 على وجه التقريب.
– بعد أن تخرج ايليا سيمونيذس الطالب الموسيقي من معهد الموسيقى البيزنطية التابع للبطريركية المسكونية في القسطنطينية عُيِّن أستاذاً ومدرساً في المعهد ذاته، وبعد مضي سنتين تقريباً بدأ التراك يزيدون من ظلمهم واضطهادهم للمسيحيين عامة واليونانيين ( الروم) خاصة، في سائر أنحاء تركيا بعنصرية بغيضة وقسوة شديدة، ولقد تعرض الكثيرون منهم للقتل والتشريد، فاضطر الاستاذ سيمونيذس للهرب جنوباً خوفاً من الظلم والقتل مشياً على القدمين من بلدة الى أخرى حتى وصل الى مدينة حلب استغرقته رحلته هذه مايقارب خمسين يوماً. وبعون الله القدوس، وبفضل بشرته السمراء عميت بصيرة الأتراك سكان البلدات والقرى التي مر بها لأنهم ظنوا أنه من ابناء جلدتهم خاصة انه كان يتقن اللغة التركية (الفصحى والشعبية) باالإضافة الى الغناء التركي بصوته الرخيم والعزف على آلته الموسيقية (شبيهة بالكمنجا) الآلة الوحيدة التي كانت بحوزته حتى وفاته. كما يُعرف ان الأتراك سكان المدن والساحل هم مختلطون بجنسيات أخرى، ولذلك يتميزون بلون بشرتهم عن ابناء الداخل التركي.
أما صديقه الحميم وزميله في معهد الموسيقى البيزنطية دراسةً وتدريسًا الأستاذ الموسيقي الكبير والمؤلف الذي أثرى المكتبة البيزنطية الأرثوذكسية المرحوم ياكفوس فقد هرب هو ايضاً باتجاه الغرب مشياً على القدمين حتى بلغ شمال اليونان وتابع الى مدينة سالونيك حيث استقبله متروبوليت سالونيك ورحب به الترحيب اللائق وعينه مسمياً اياه المرتل الأول لسالونيك وسائر الأبرشية، فبدأ يسطع، وبدأ نجمه يلمع في سالونيك وسائر أنحاء اليونان، معلماً ومؤلفاً ومرتلاً ومبدعاً في مجال الموسيقى البيزنطية الكنسية. ومازال أغلب المرتلين البيزنطيين حريصين على استعمال كتبه ومؤلفاته الموسيقية الكنسية في سائر اليونان والبلاد الأرثوذكسية.
– اعود الى متابعة سيرة حياة المرحوم ايليا الرومي فعندما وصل مدينة حلب سأل عن مطرانية وكنيسة الروم فأرشده الناس الى مطرانية الروم الكاثوليك لأن الشائع هو عندما تقول مطرانية الروم يعني ذلك مطرانية الروم الكاثوليك وبخلاف ذلك يجب ان تقول الروم الأرثوذكس وذلك في مدينة حلب وحدها، فالتسمية في مدينة حلب آنئذٍ (مطرانية الروم) أو (كنيسة الروم) يُفهمْ منها ( الروم الكاثوليك) ولذلك يجب ان تقول دائماً مطرانية الروم الأرثوذكس كي تميز التسميةعن اسم الروم الروم الكاثوليك. لذلك عندما وصل الى مطرانية الروم الكاثوليك لم يكن يدري أنه بالخطأ ودون قصد وصل الى مكان لايقصده خاصة وان مطران الروم الكاثوليك فحلب آنئذ السيد ايسيدورس فتال الذي استقبله في مطرانيته مرحباً به بعد أن سمع ترتيله، بالاضافة الى ان المطران ايسيدورس كان يتكلم اللغتين التركية واليونانية، وهو من عائلة حلبية مشهورة في حلب، وكان قد أمضى في بلاد اليونان أكثر من سنة لدراسة اللغة اليونانية مرسلاً من الرهبنة المخلصية في جنوب لبنان التي ينتمي اليها، ولذلك عيَّنَ المطران ايسيدورس المرتل ايليا المرتل الأول في الكاتدرائية مبدياً اعجابه به وبترتيله. ومما جعل المرتل الكبير ايليا يظن أنه في موقعه الطبيعي لاسيما وقد هيأ له المطران ايسيدورس كل وسائل الراحة والاقامة في المطرانية هو التقاء التقويم الكنسي الشرقي مع التقويم الكنسي الغربي في موعد واحد تلك السنة بالنسبة لفترتي الصوم الكبير المقدس والفصح المجيد، وبعد مضي أيام من فترة الفصح المجيد طُلب اليه أن يستعد للاحتفال بالقداس الالهي يوم خميس الجسد (عيد لاتيني غربي) أدرك فوراً أنه في مكانه غير الطبيعي، فسأل عندئذ عن مطرانية الروم الأرثوذكس القريبة جداً من مطرانية الروم الكاثوليك فقصدها بعد أن ودع المطران ايسيدورس والمقيمين معه في المطرانية شاكراً. فوجد متروبوليت حلب المثلث الرحمات المطران روفائيل نمر الذي استقبله بترحيب وسرور وأعدَّ له مكاناً للاقامة في دار المطرانية، وعينه مرتلاً في كنيسة السيدة، وكان أبناء الرعية يسمونه مرتل المطران الرومي.
وبعد عيد العنصرة قصد متروبوليت حلب المثلث الرحمات روفائيل (نمر) مدينة دمشق للاشتراك في المجمع الانطاكي المقدس بدعوة من مثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس (حداد) مصطحباً معه مرتله ايليا الرومي، ولما انتهت جلسات المجمع المقدس استعد مطران حلب للعودة الى ابرشيته وبصحبته ايليا الرومي طلب اليه المطوب الذكر البطريرك أن يبقي عنده المرتل ايليا الرومي بعد أن اعجب أشَّدَّ الاعجاب بصوته وأدائه وتمكنه من الموسيقى البيزنطية ومواهبه، فاضطر مطران حلب أن يوافق على مضض لأنه هو أيضاً كان معجباً بهذا المرتل الملائكي. وفي الحال عيَّنَهُ البطريرك غريغوريوس المرتل الأول (اليمين) للكاتدرائية المريمية، وكان أبناء دمشق مسيحيين ومسلمين يقصدون الكاتدرائية في الآحاد والأعياد لسماع المرتل الكبير ايليا الرومي حتى انتشر صيته في كل انحاء سورية ولبنان وكان في طليعة هؤلاء الموسيقار الكبير المرحوم الاستاذ محمد عبد الوهاب الذي كان يمضي فترة الصيف دوماً في ربوع بلودان في الفندق الكبير.
– وعندما كنت شخصياً في الاربعينات طالباً في مدرسة الآسية الأرثوذكسية وواحداً من أعضاء جوق المريمية بقيادة الاستاذ ايليا الرومي، وكنت الصغير الوحيد من الجوق المذكور، اذ كان عمري لايزيد عن 14 عاماً وطالباً في المرحلة الاعدادية في عداد طلابه الكبار من الاكليريكيين في البطريركية الذين يعلمهم مساءً في بعض أيام الاسبوع مبادىء اللغة اليونانية والموسيقى البيزنطية، أذكر منهم المرحومين الارشمندريت انطونيوس معصب، الشماس الكسي كرشة، الشماس أثناسيوس سكاف (مطران حماة الأسبق)، الشماس ايليا صليبا (مطران حماة السابق)، الشماس الياس قربان (مطران طرابلس) وغيرهم…
وأما عن حياته الزوجية فقد تزوج من فتاة يونانية في الثلاثينات من القرن المنصرم ولم ينجبا أطفالاً فتبنى طفل أحد أقرباء زوجته، وعندما كبر الطفل المُتَبَنى تبين أنه معَوَقْ، ومع ذلك كان المرحوم ايليا وزوجته يعتنيا به عناية تامة، وبعد عدة سنوات توفي الطفل، ثم ترمل ايليا بوفاة زوجته وبقي أكثر من عشر سنوات أرمل وبعدئذ تزوج، وهو يزيد على الستين من عمره بزوجة تصغره بقليل، وبعد مضي عدة سنوات أصيب بمرض في الدم وتوفي حوالي عام 1966″.
انتهت شهادة الاستاذ فوزي بشارة الخطية بأستاذه في الترتيل واللغة اليونانية في المرحلة الاعدادية في مدارس الآسية ومدربه في جوقة الترتيل في الكاتدرائية المريمية، وهو اليوم بعمر 84 سنة لازال يرتل بصوته الحنون وبمقدرته الموسيقية الرومية المتميزة في كنيسة السيدة الانطاكية الارثوذكسية في مونتريال / كندا كما كان في كنيسة الصليب المقدس مطلع السبعينات (وكنت حدثاً صغيراً في جوقته) خادماً لكرسينا الانطاكي المقدس في دمشق، ثم في مطرانية الكويت بعهد مطرانها رفيق دربه مثلث الرحمات المطران قسطنطين بابا استيفانو، ثم في مغتربه الحالي مونتريال.
وفاته:
توفي عام 1965 وجنز في الكاتدرائية المريمية التي رددت جنباتهاصوته العذب ، وقد باه تلاميذه من اكلييكيين (مطارنة وارشمندريتية…) وجنزه البطريرك ثيوذوسيوس السادس بمشاركة معظم مطارنة الكرسي الانطاكي المقدس والعديد من اهم مرتلي ابرشيات الكرسي الانطاكي وكان منهم على ماذكر البعض تلميذه المرحوم ديمتري كوتيا برتوبسالتي طرابلس المتميز وجوقة المريمية التي كان يدربها ويقودها واعضاء المجلس الملي البطريركي بدمشق، والجمعيات الخيرية وجمع غفير من ابناء دمشق والجالية اليونانية في دمشق واساتذة وطلاب مدارس الآسية وكبار كوادر مركز دمشق في حركة الشبيبة الارثوذكسية…والقى فيها البطريرك ثيوذوسيوس كلمة ابوية روحية رائعة عدد فيها مناقبية علمنا وغيرته الارثوذكسية وتفانيه في سبيل دمشق والكرسي الانطاكي المقدس. ثم وري الثرى في المدفن الارثوذكسي الدمشقي، مقبرة جمعية القديس جاورجيوس الارثوذكسية.
الاوسمة التي نالها
منحه مثلث الرحمات البطريرك الكسندروس الثالث
– الميدالية الذهبية ليوبيل اسقفيته الذهبي في عام 1954
– وسام الكرسي الانطاكي المقدس وسام القديسين بطرس وبولس عام 1956 بمناسبة يوبيل بطريركيته الفضي.
ونال من الدولة اليونانية وسام المملكة اليونانية.
رحمة الله عليه فلقد ترك اثراً خالداً وان كان النسيان سمتنا نحن بني البشر، لذلك كان بحثي هذا كي يتذكره مرتلونا الحاليون في كرسينا الانطاكي المقدس الذي اعاد بعث موهبة هذا الفن الروحي الأخاذ الترتيل الرومي البيزنطي واعلامه العظام…
شكرا لكل من اسهم معي…
حواشي البحث
1- شهادات شفهية من كثيرين ومنهم جدي فارس زيتون ووالدي جورج زيتون
2-” الموسيقى الكنسية في كنيسة أنطاكية في القرنين 19 -20والمرتلون الأنطاكيون”…انظره في مجلة “النشرة البطريركية” لسان حال بطريركية انطاكية2003، وفي موقعنا هنا باب (اعلام كنسيون)
3- جمعية ابولون جمعية ثقافية ورياضية للجالية اليونانية وجمعيتها الخيرية وكانت تعنى بالشأن الثقافي للجالية اليونانية ومتابعة التعليم للغة اليونانية في اطار مدرسة اليونان في القصاع التي اسستها الجالية عام 1920بدمشق، والشأن الرياضي للجالية عبر نادي الابولون الرياضي لألعاب الكرات وكان لاعبوه من ابناء الجالية اليونانية بدمشق.
(4) أعتقد انها عائلة القدسي الدمشقية الشهيرة وهي تتوارث القنصلية اليونانية بدمشق منذ الثلث الأخير من القرن 19وربما بسبب من اصلها المقدسي اليوناني.
(5) منهم المحسن الكبير بندلايمون كوتسذونديس صاحب الفرن الشهير بفرن الرومي، انظره هنا في موقعنا باب (أعلام ارثوذكسيون).
(6) المرحوم السيد انطون كويتر كبير عائلة كويتر الكاثوليكية الدمشقية وجد زوجتي لأبيها اضافة الى جدي المرحوم فارس زيتون.
(7) قلة من الذين لايعرفون الاستاذ فوزي بشارة ابن جديدة عرطوزوالمرتل الاميز في كنيسة الصليب المقدس ومؤسس اول جوقة في كنيسة الصليب المقدس، صاحب الصوت الغريد والمقيم في مونتريال بكندا وعمره الآن 84 سنة ولايزال يكتب الكتب الروحية، ويرتل في كنيسة السيدة في مونتريال بكندا/ في ابرشية اميركا الشمالية… ومرتلاته على اليوتيوب أطال الله عمره.