زرع الأعضاء وموت الدماغ
مقدمة
أصبحت عمليات زرع الأعضاء جزءاً من الحياة اليومية في المجتمع الحديث. المواقف الإيجابية والسلبية التي تمّ التعبير عنها في الأوساط الكنسية واللاهوتية كانت غَالِباً ذات طبيعة مجزأة، إلى الآن، لم تتخذ الكنيسة الأرثوذكسية قراراً نهائيًا بشأنها. ولا يمكن تبني مثل هذا الموقف من قبل أفراد أو لجان منعزلة تحاول أن تبني وجهات نظرها على تقليدها، ولكن يجب أن تكون بناءً على طلب من ضميرها العالمي.
تعود بدايات زرع الأعضاء إلى العصور القديمة. عرف المصريون القدماء بالفعل كيفية صنع ترقيع الجلد. ومع ذلك، فإن أول عمليات زرع الأعضاء الحيوية وأنسجة جسم الإنسان تمّت في عصرنا.
تمّ إنجاز أول عملية زرع كلى ناجحة في عام 1954، وحدثت أول عملية زراعة للقلب في عام 1967. ومنذ ذلك الحين، أصبحت عمليات الزرع، كطرقٍ علاجية لا تقتصر فقط على البقاء بل على القضاء على المشاكل الصحية، أكثر شيوعاً وتمّ تلقيها بحماس في جميع أنحاء العالم.
عمليات الزرع: البحث عن الخلود الدنيوي؟
من دون شك، يمكن أن يعزى هذا الحماس إلى أهمية الإنجاز، ولكن ربما أيضاً إلى رغبة الناس اليوم في تحقيق نوع من الخلود الأرضي. لهذا السبب، ليس من المبالغة أن نقول إن هذه العمليات تحمل خطر قيادتنا إلى الضلال عن الهدف النهائي لوجودنا ومشاكله الأكثر عمقاً.
في الواقع، إذا أخذنا في الحسبان حقيقة أن الأرواح البشرية التي يمكن إنقاذها من خلال عمليات الزرع لا تصل إلى واحد بالألف من تلك التي دمرتها عمليات الإجهاض، فإن النسبية للحماس لحماية الإنسان تصبح أكثر وضوحاً.
إن الثقة المفرِطة في عمليات زرع الأعضاء تركّز اهتمامنا على صحتنا الجسدية وحدها، وفي الوقت نفسه، تخلق انطباعاً خاطئاً عن خلود دنيوي مرتبط بها. لكن لا يمكن التوفيق بين السعي وراء الخلود وتوقع الخلود، والإيمان بالانتصار على الموت بالمسيح. هذا يعني أنه لا يمكن أن تهدف الكنيسة إلى نشر بعض الشعارات مثل “اعطِ وخلِّصْ” والتي يتم توجيهها بسهولة نحو منظور الاستهلاك أو التجارة. أي موقف من هذا القبيل من شأنه أن يكشف الدهرية والدخول في روح العصر.
في منظور الكنيسة، تفقد الحياة البيولوجية والموت البيولوجي تنافسهما الكبير ويصيران نسبيين. في أي حال، بسبب طبيعتهما، الحياة والموت مترابطان ومتشابكان. تتكشف الحياة كعملية موت. كما أن هناك موت في كل مرحلة من مراحل الحياة [1]. على وجه الخصوص، الموت موجود هناك كمرحلة التغيير النهائي للحياة: كانتقال من هذه الحياة العابرة إلى وجود حقيقي. هذا الاحتمال لا يلغي الطبيعة المأساوية للموت فحسب، بل يخلق أيضًا إمكانية وجود طريقة إيجابية لا بل عدوانية للتعامل معه. الموت البيولوجي قاسم مشترك بين البشر والوحوش. نحن المسيحيون لا نحتاج إلى الانتظار بشكل سلبي للموت أن يجدنا. يمكننا أن نقبل ذلك عن طيب خاطر، وبهذه الطريقة نجد الحياة الحقيقية.
لكن بنفس الطريقة التي يمكن أن يخدم بها الموت الجسدي الحياة الروحية، كذلك يمكن أن يكون المرض الجسدي إيجابياً للصحة الروحية. بالطبع، لا ينبغي بنا أن نتجاهل أهمية حياة الجسد وصحته. على أي حال، تصرّ الأنثروبولوجيا المركّبة للكنيسة على وحدتنا النفسية الجسدية، فمن الطبيعي أن تأخذ نظرة إيجابية نحو الصحة الروحية والجسدية أيضًا. هذا ما أظهرته صلوات الكنيسة العديدة من أجل صحة روحنا وجسدنا [2]. ومع ذلك، في نفس الوقت، أعطت الكنيسة أيضًا بركتها للعلاجات والإجراءات الطبية.
على الرغم من إنجازاته المذهلة، يعبّر الطب الحديث عن الأنثروبولوجيا الإنسانية ويبسطها في المجال الأرثوذكسي لأنه يحصرنا ضمن عالم الخلق والفنائية. إن اهتمامها بالناس مستنفد بوظائفنا البيولوجية ما يجعل الحياة تعادل البقاء على قيد الحياة البيولوجية. لهذا السبب يُقال في كثير من الأحيان أنه حيث يسود الطب وحده يُنزَل الله عن العرش.
الكنيسة تؤدّي للعلم الطبّي الشرفَ الذي يستحقه
بالرغم من هذا، لا يمكننا إهمال قيمة العلم الطبّي، التي تأتي كهبة من الله لتعزيتنا في مرض حالتنا الروحية والجسدية. المسيح نفسه أتى إلى العالم كطبيب نفوسنا وأجسادنا. إعلانه ملكوت الله تجلّى بشفاء المرضى. لكن العلاجات المختلفة التي جرت بواسطة القديسين في العالم معترف بأنها نتيجة نعمة الله الخاصة. وعادةً ما تنطوي هذه العلاجات على استكمال عضو جسدي، كما في حالة الرجل الذي كان أعمى منذ ولادته وشفاه الرب [3] ، ولكن أيضاً زرع جزء من الجسم، مثل حالة القديسين كوزماس وداميانوس حيث أخذا عظم ساق جثة وزرعاها في ساق مريض. أخيراً، المرض الجسدي شبيه بالمرض الروحي. إن علاج المرض الجسدي يُقدّم كنموذج للعلاج والشفاء الروحيين. تماماً كما أن المرض الجسدي يعني تجنب الأطعمة الضارة، فإن مرض الروح ينطوي على مراعاة وصايا الله.
ما من سبب لدينا نحن المسيحيين لتجنّب الأدوية أو البحث عن أكثر الأطباء خبرة [4]. ولكن سواء ذهبنا إلى الأطباء طلبا للمساعدة أو تجنبناهم، فعلينا أن ننظر إلى الله وصحة أرواحنا. على أي حال، هذا ما يجب أن نفعله: “سواء أكنت تأكل ، تشرب أو تفعل أي شيء آخر، قمْ بذلك دائمًا لمجد الله” [5]. لذلك، نحن المؤمنين، نلجأ إلى الأطباء والعلوم الطبية كلما دعت الضرورة، ولكن دون أن نعلّق آمالنا عليهم [6].
يهتم الطب بترميم صحتنا أو تحسينها. في متابعة هذا الأمر، فإنه معني أيضًا بإطالة الحياة. الكنيسة لا تعيق الطب في جهودها، لكنها لا تتجاهل الطبيعة النسبية لفوائده. ومع ذلك في الوقت نفسه، تروّج لمواقفها الخاصة من الناس وحياتهم. هدف الكنيسة ليس إعطاء الناس وسيلة من وسائل البقاء، بل الحياة التي تهزم الموت. في تقليد الكنيسة النسكي على وجه الخصوص، هناك تركيز كبير على الاستخدام المقيّد للأدوية والاستشفاء للتغلب على الحب المفرط لهذه الحياة. بطبيعة الحال، هذا غالباً من أعمال النساك. لكن لا ينبغي لأي مسيحي أن يكون غير مبال تجاه هذا الموقف، لأننا جميعًا يجب أن يكون لدينا نزاع. ومن الطبيعي أن يكون هذا التصرف مرتبطًا بنضجنا الروحي، مما يجعلنا أكثر استعدادًا للعطاء من الأخذ. وبالطبع، هذا صحيح أيضا في مسألة زرع الأعضاء.
يتم تطبيق الزرع الآن على نطاق واسع وبأشكال متنوعة. يبدأ بنقل الدم، وهو تبادل للأنسجة السائلة، ويتقدّم إلى توفير أحد الأعضاء المزدوجة وينتهي بزراعة الكبد أو القلب. في الآونة الأخيرة، في الواقع، في سياق العلاج الجيني، رأينا أيضا زراعة الخلايا المعدّلة لعلاج أمراض مثل التليف الكيسي. إلى جانب ذلك، قد تهمّ عملية زرع الأعضاء شخصًا واحدًا فقط، إذا تم نقل الأنسجة من جزء من الجسم إلى جزء آخر ، على الرغم من أن المزيد من الأشخاص سيشاركون أيضًا في حالة أخذ الأنسجة أو الأعضاء منهم. أخيرًا ، قد يكون المتبرع حيًا أو ميتًا. أبدت بعض الدوائر الكنسية واللاهوتية تحفظات جدية أو حتى اعتراضات قاطعة فيما يتعلق بحقنا في التصرف بهذه الطريقة. بطبيعة الحال، تظهر هذه الاعتراضات بشكل كبير محسوس، عندما يتعلّق الأمر بعضو رئيسي مثل القلب، حيث الافتراض هو أن المتبرع قد مات.
تحفظات حول وهب الأعضاء: الحجج السلبية ضد عمليات الوهب
تستند الحجج السلبية ضد عمليات الوهب بشكل رئيسي إلى قدسية الجسم البشري والبعد الروحي الذي تتمتع به هذه الأعضاء الأساسية في أنثروبولوجيا العهد القديم، والتي ما زالت محفوظة في التقاليد الآبائية. يرتبط القلب والدم والكبد والكلى، خاصة في العهد القديم بحياة المؤمن الروحية [7]. في التقليد النسكي الأرثوذكسي أيضًا، يرتبط القلب المادي ارتباطًا مباشرًا بالحياة الروحية. الطريق إلى القلب الروحي الأعمق للشخص تمرّ عبر القلب المادي. إضافة إلى ذلك، تزعم الحجج السلبية أننا مدينون لجسدنا لله ولا يمكننا التخلي عنه ببساطة. جسد المسيحي هو هيكل الله، أو عضو في المسيح. إلى جانب ذلك، لا ينتمي المسيحيون إلى أنفسهم تمامًا ، لكن “تم شراؤهم بثمن” [8]. هكذا، تقول الحجة، إنهم لا يتمتعون بحرية التصرف في أنفسهم أو جسدهم كما يحلو لهم.
على الرغم من هذا، لا يستطيع المسيحيون وحسب، بل يجب عليهم التصرف وفقًا لإرادة المسيح، التي يتمّ التعبير عنها في وصاياه. وعندما نتصرف وفقًا لوصايا المسيح، فإننا نتصرف ضمن منظور الحياة الحقيقية، حتى لو كان ذلك يمر بالموت. السمة الخاصة للأنثروبولوجيا المسيحية هي أنها تتطلع إلى حياتنا الحقيقية فقط من خلال عبور الموت، ولهذا الأمر عواقب ثورية. لذا فإن السؤال هو ما إذا كنا، من خلال التبرع بالأنسجة وأعضاء الجسم، نلتزم بوصايا المسيح، والتي تم تلخيصها في وصيتي المحبة، وما إذا كنا نتّبع مثاله.
يعلّم المسيح التضحية بالنفس وقد ضحّى من أجل العالم. هو نفسه يغذّينا بجسده ودمه، ليس، بالطبع، لإطالة حياتنا على الأرض، بل لتجديدنا وجعلنا غير فاسدين. على الرغم من هذا، فهو يقدّم إطالة للحياة البيولوجية من خلال معجزاته. هو من خلالها ينحني إلى مستوى ضعفنا. ليس هدفه من ذلك القيام بتدخلات عجائبية، بل تحريرنا من الخطيئة. يقول للمفلوج: “وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا. قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!»”. إن الشفاءات العجائبية والإقامات من الموت التي أنجزها السيد المسيح هي، في الوقت نفسه، علامات على حضور مملكته. إذا كنا كبشر، لسنا مشدودين إلى هذا الحضور، تفقد الإشارة أهميتها. لذا فإن الكنيسة مدعوة إلى التصرف على هذا المستوى، مانحة علامات على محبتها، من دون أن تنسى مهمتها الرئيسية. إنها مدعوة إلى إيجاد الوسائل الزمنية لفائدة الناس، دون أن تنسى هدفها الأساسي. الغرض الرئيسي من الكنيسة ليس تزويدنا بإعفاء مؤقت من الموت البيولوجي بل بحلّ دائم من الخوف من الموت ومن الموت نفسه. بالنسبة للكنيسة، إن “الإعفاء من الموت، وازدراء إدانة الموت، هو أعظم شيء على الإطلاق” [10].
لكن الالتصاق الصارم بالخير الأعظم، وهو أمر ضروري بشكل خاص في مجتمع اليوم الدهري، لا يعني عدم الاكتراث بما هو أقل نفعًا، وهو أمر ضروري أيضًا، على وجه التحديد بسبب دهرنة المجتمع. الكنيسة لا تعمل فقط بالدقة، بل أيضا بالرحمة. لا يمكن الاستغناء عن اللاهوت. لكن الاستغناء لا يزال له مبرر لاهوتي. الوهب التطوعي لبعض أنسجة الجسم أو العضو ، كعمل محبة غير أناني، هو عمل يستحق الاحترام والتعامل الدقيق من وجهة نظر رعائية. كيف لا يمكننا أن نعجب بلطف شخص، بدافع المحبة، يعطي عينًا أو كليةً، حتى يتمكن شخص آخر من الرؤية أو البقاء على قيد الحياة؟ وماذا يمكن القول إذا كان المتبرع مستعدًا للتضحية بحياته حتى يعيش جاره؟ بالطبع، في هذه الحالة، سيكون لدينا مظهر خالص من النعمة التي سيتم الاعتراف بها من منظورها اللاهوتي، وليس قائمة روتينية من المانحين المتطوعين.
مفهوم الموت بالنسبة للكنيسة وللعلم
تعريف الموت هو الأكثر أهمية في عمليات زرع القلب. ترى الكنيسة موتنا كسرِّ انفصال أو خروج الروح من الجسد [11]. العلم الحديث في كثير من الأحيان يساوي بين الموت وموت الدماغ. يتم تعريف هذا الموت من خلال أنثروبولوجيا العلم الحديث الميكانيكية، على أنه وقف لا رجعة فيه لوظيفة الدماغ، مع فقدان وعي نهائي. ولكن على الرغم من أنه يمكن تحديد توقف وظيفة الدماغ بلا رجعة على مستوى بيولوجي بحت، فإن فقدان الوعي النهائي، في نظرة الكنيسة إلى طبيعتنا، على علاقة بالروح ولا يمكن التعاطي معه على هذا المستوى.
إذا ساوينا انفصال الروح عن الجسد مع توقف النشاط الدماغي النهائي، أي بعبارة أخرى، إن مساواة وجهة نظر الكنيسة إلى وفاة الإنسان بموت الدماغ هو موقف غير موضوعي. بحسب نظرة الكنيسة إلى الإنسان، فإن النفس بصفتها جوهرًا معينًا، موجودة في كل جسمنا وهي ما يربطه ببعضه. الدماغ ليس وعاء للنفس، بل عضو فيها [12]. إن موت أنسجة(Necrosis) الدماغ يعني أن النفس لم تعد قادرة على التعبير عن ذاتها، ولكن ليس بالضرورة أنها لم تعد موجودة. وفقًا لنظرة الطب الحديث للشخص البشري، التي ترى أن النفس هي من الظواهر أو الأنشطة السيكُولُوجِيّة، فإن موت الدماغ يتساوى مع وقف النشاط النفسي وبالتالي مع الفقدان المطلق لأي وعي. من الواضح، إذن، أن الاختلافات بشأن مسألة موت الدماغ في النهاية تتسبب في تشويش حول جوهر النفس ونشاطها. في نظر الكنيسة للطبيعة البشرية، للنفس جوهر معين ونشاط. في نظر العلم الحديث النفس هي مجرد نشاط. إن موت أنسجة الدماغ أو موت الدماغ يعني ببساطة توقفه عن النشاط. بالنسبة إلى العلوم الطبية، هذا يعني فقدان الوعي التام، ولكن من وجهة نظر الكنيسة فإن هذا يعني فقط وقف عمليتها النشطة.
في النهاية، يبقى الموت كانفصال أو خروج للنفس من الجسد سراً. لا أحد يستطيع أن يقول على وجه اليقين أنه يتزامن مع موت الدماغ. قد يتزامن معه، وقد يسبقه وقد يتبعه. الأشخاص الذين ماتوا سريريًا وعادوا بعد ذلك إلى الحياة مرّوا بانفصال النفس عن الجسد وعاشوا تجارب مكثفة خارج الجسم، وتمكنوا بعد ذلك من روايتها. قد يُعتبر هذا مؤشراً على انفصال أو خروج النفس من الجسد قبل موت الدماغ، بالنظر إلى أن توقف وظائف المخ لا يمكن عكسها ولا يمكن العودة إلى الحياة إذا حدث ذلك. لكن الناس عادوا إلى الحياة بعد توقف نظام القلب والأوعية الدموية بسبب احتشاء القلب. هذا يعني أن أي توقف لنظام القلب والأوعية الدموية ليس هو انفصال النفس عن الجسد بشكل نهائي لا رجعة فيه. فماذا نقول بعد ذلك عن انفصال النفس عن الجسم عندما يكون أنظمة قلب المريض وأوعيته الدموية يعملون على نظام المحافظة على الحياة (life-support)؟ لا يوجد حتى الآن أي جواب لهذا السؤال.
كيف نُفهَم ونعرَف كصورة لله؟
إن أي تبرع بأنسجة أو بعضو هو نوع من التضحية بالنفس. على الرغم من هذا، سيكون من غير المنطقي اعتبار مثل هذا الإجراء بمثابة تقليد لتضحية المسيح. المسيح قدّم جسده ودمه ليمنح البشر، ليس بعض الوجود المؤقت، بل الحياة الحقيقية والتي قد تنطوي في الواقع على التضحية بهذا الوجود المؤقت. هذا الوجود العابر لا ينبغي فصله عن الحياة الحقيقية وجعله مستقلاً. إن الالتزام بهذا الوجود الانتقالي يطفئ الرغبة بالحياة الأبدية. “مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا” [13] “مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ” [14].
بمعنى آخر، إن الذين يحبون حياتهم سيفقدونها. وأولئك الذين لا يهتمون لوجودهم في هذا العالم، يحفظونه للحياة الأبدية. إن المسار الإنجيلي هذا، وهو ينطوي على مفارقة كبيرة للعقل البشري، هو المسار الذي وطئه المسيح أولاً، وبالتأكيد لا يمكن تطبيقه على مستوى الانعكاسات حول عمليات الزرع. ومع ذلك، فإن ميزة عمل الخير أو البطولة التي تشكّل جزءًا من التبرع الطوعي بالأنسجة أو الأعضاء للزرع لا تزال ذات قيمة. كما لا يمكن تجاهل الاهتمام الرعائي بالأشخاص الذين في حالة حرجة.
إن الاعتبارات التي يقدمها البعض حول تمامية الجسد بعد وفاة الذين يهبون الأعضاء هي ذات طبيعة سكولاستيكية. كأشخاص، لا ينبغي مساواتنا بجسدنا، ولا مع نفسنا، ولا بمزيج من الاثنين، ولا مع تراكم الاثنين. نحن شيء يتجاوز كل هذه ويجمعها معاً، من دون أن تكون مجتمعة بأي شكل من الأشكال ومن دون أن يُعرّف بأي منها[15]. كأناس نحن مخلوقون على صورة الله، ويجب أن نُفهم دائماً ونُعرَف على هذا النحو. وهذا الفهم لطبيعتنا والتعرّف عليها كصورة ينطبق على كل البشر، كما هو الحال بالنسبة لكل واحد منا ولأفعالنا الفردية. وأبعد من أي تمييز مثير للشقاق بين المادة والروح، الفرد والمجتمع، كصور للكلمة الإلهية، نحن الناس في التزامنا بوصيته عن المحبة، نعيش في الله الذي هو المحبة ونشكّل جميعًا جسد كنيسة السيد المسيح الواحد.
ضمن هذه النظرة الديناميكية والمتعددة الأبعاد للشخص البشري، كلّ قطرة دم يتمّ تقديمها إلى أحد الإخوة هي تقدمة عامّة غامرة من الشخص. لذلك فإن كل تحقيق متحذلق، في تداعيات التبرع بالأنسجة أو العضو على السلامة الجسدية، يفقد معناه. وفي الوقت نفسه، يتّضح تمامًا إلى أي مدى لا يمكن التوفيق بين نظرة الكنيسة للشخص وهذه النظرة الآلية للبشر والتعاطي مع أنسجة الجسد وأعضائه كمجرّد علاج أو بديل.
مقاربة الكنيسة الأرثوذكسية لوهب الأعضاء
من الطبيعي أن يكون الكمال مقياس المقاربة اللاهوتية للمشاكل المعاصرة، وهو مقياس المسيح. لكن هذا المقياس، الذي يجب أن يحفظه المسيحيون أمامهم دائمًا، لا ينبغي تحويله إلى سيف للتغلب على الضعفاء في الإيمان[16]. بالتأكيد، الكمال المسيحي هو للجميع ويجب ألا يختفي عن أي من المؤمنين. لكن الضعف البشري واقع مشترك للجميع وليس لنا إدانة أي شخص بسببه. احترام الكنيسة لحرية الإنسان غير محدود وهي تستنفد كل ما لديها من تفّهم حليم للحفاظ عليها. تبدأ المعارضة الصريحة للكنيسة من اللحظة التي يتم فيها تجاهل حرية الناس وازدراء قدسيتها. لا يوجد ما يبرر إجبار الناس على إعطاء الأنسجة أو أعضاء الجسم لا قبل وفاتهم ولا بعدها.
الجسد البشري مقدس. ويجب احترامه ليس على قيد الحياة وحسب بل أيضًا بعد الموت. ليس صحيحًا أنه يجب التعامل معه كمواد علاجية أو كمخزن لقطع غيار. لا يوجد ما يبرر افتراض الموافقة على التبرع بأعضاء الجسم، ناهيك عن التصرف بناءً على افتراض الموافقة هذا لمجرد عدم وجود كتاب امتناع محدد. أخيرًا، لا يوجد ما يضفي الشرعية على فرض موت الدماغ كمعيار وحيد لتحديد لحظة الموت في عقول أولئك الذين يرون الموت على أنه سرّ الانفصال أو خروج النفس من الجسد.
لا يقدّم اللاهوت الأرثوذكسي عادةً قواعد محددة للتعامل مع مشاكل الحياة اليومية، لكنه يضع الأسس ويلاحظ المعايير الأساسية التي قد يكون لها مجموعة متنوعة من التطبيقات. هذا لا يفعله لأنه يفضّل الالتباس والغموض، بل لأنه يحترم الحقيقة والشخص. إذا كان النهج المتّبع حتى في المواد غير العضوية يتبنى ميكانيكا الكمّ مع إحتمالين متبادلين (ثنائية الموجة والجسيمة) ويطلب أن يؤخذ موقف المراقب دائمًا في الاعتبار، فكيف يمكن التفكير في تبنّي مقاربة أحادية البعد وميكانيكية تجاه البشر ومشكلاتهم الصحية؟ بعض الحقائق الموضوعية قد تعني شيئين متناقضين تماماً بالنسبة لنا.
لا تقتصر حقيقة الأمر على الشكليات الخارجية. كما أن استئصال الحياة يمكن أن يكون فعل محبة فائق العظمة (التضحية بالنفس) أو فعلاً كاملاً من قصرِ الذات واليأس المطلَق (الانتحار) ، لذلك فإن وهب الأنسجة أو الأعضاء من شخص لآخر قد يكون عمل محبة عظيمًا أو فعل إذلال للشخص أو حركة نهائية. قد يكون انتصاراً على الموت بالقبول الطوعي بالموت، ولكنه قد يكون أيضًا خضوعًا تامًا للفَنَائِيَّة، مع الاستبعاد المتزامن لأي عنصر روحي. لا يستطيع اللاهوت الأرثوذكسي قبول وهب الأنسجة أو الأعضاء من شخص لآخر، أو حتّى مجرّد نقل الدم، كإجراء ميكانيكي. ومع ذلك، يستطيع قبوله كأفعال بذل وتضحية بالنفس. وهذا هو السبب في أن الكنيسة لا تتعامل مع مشكلة عمليات وهب الأعضاء بكتاب قواعد صارم، بل على أساس كل حالة على حدة، والمعيار هو المحبة غير الأنانية واحترام الشخص.
(جورج منتزاريدس تعريب اسرة التراث الارثوذكسي)
حواشي البحث
[1] “الحياة والموت، كما نسمّيهما، يبدوان مختلفين تمامًا، لكنهما بمعنى ما محسومان ومتتاليان”. القديس غريغوريوس اللاهوتي، العظة 18, 42, PG 35, 1041A
[2] أنظر بوجه خاص الأفشين الثالث من خدمة مسح الزيت: “وانهضهم من مضجع الأمراض وفراش الأسقام، وهبهم لكنيستك أصحاء كاملين مرضين لك وعاملين مشيئتك”.
[3] أنظر يوحنا 1:9-7.
[4] See V. Keki, Οι Άγιοι Κοσμάς και Δαμιανός. Η πρώτη μεταμόσχευση, Σύχρονη Ιατρική Ενημέρωση (Saints Kosmas and Damianos. The first transplant. Contemporary Medical Update), no. 6, Jan.-Mar. 2002, pp. 77-82.
[5] أنظر القديس يوحنا الذهبي الفم، إلى أولمبيا 17، PG 52, 590.
[6] 1 كورنثوس 31:10.
[7] أنظر مثلاً، العدد 14:17، التكوين 6:49، المزامير 21:72، أرمياء 10:17.
[8] أنظر 1 كورنثوس 20:6.
[9] مرقس 10:2-11.
[10] الذهبي الفم، حول متى 34، PG 57, 375-6.
[11] أنظر مثلاً، مزامير 4:145، لوقا 20:12
[12] “إنه ليس جوهر العقل وقوته، بل النفس التي تسكن في الدماغ كما في عضو، بل فقط طاقة العقل، كما قلنا أعلاه، في البداية.. لا تهتم بقول الأطباء والماورائيين المعاصرين بإن جوهر النفس يكمن في الدماغ وفي الغدة الصنوبرية في الدماغ [ديكارت وغيره]. هذا مثل القول بأن النفس المادية لا يمكن العثور عليها مبدئيًا في جذر الشجرة، بل في الغصن والثمرة”. القديس نيقوديموس الأثوسي. كتاب النصائح.
[13] متى 5:14، وانظر مرقس 35:8. [من الغريب أن كلا الماجعين القديمين يقولان “الروح” (اليونانية ψυχή واللاتينية anima، بينما في هذه المقاطع وغيرها، كالمقطع التالي، حيث يوجد تمييز واضح بين “النفس” و”الحياة”، فإن الكلمة تُترجم عالميًا باللغة الإنجليزية إلى “الحياة”، حتى منذ أيام وايكليف، WJL]
[14] يوحنا 25:12
[15] أنظر مكسيموس المعترف، أسئلة، PG 91, 1225A
[16] رومية 1:14