حنا دياب المبدع…
الشغف الذي جعل المستشرقون يزحفون الى حلب كان للتأكد من روعة ما رواه لهم الكراكوزاتي الحلبي !
حنا دياب كان راوي للقصص و يتقن فن الماريونيت ” كراكوزاتي ” و كان يجيد اثارة مخيلة المشاهدين كباراً و صغاراً…
روى و ابدع عن المرأة الحلبية و ابتكر روايات مثل علي بابا وعشرات اخرى اضيفت الى كتاب الف ليلة و ليلة !
ولد في حلب حوالي النصف الاول من القرن السابع عشر و عاش حياة الترحال و السفر و الف روايات شعبية عن حلب و نسائها و جمالهن و عاداتهن و قصصهن و تألقهن في باريس، و كان سبب ايحاءات عن الشرق و لياليه لفنانين رسموا ما سمعوه في لوحات متخيلة بديعة ...
من هو حنا دياب
سبق لحنا، قبل رحلته هذه بفترة وجيزة، أن حاول الترهّب في دير بجبل لبنان ثم عدّل عن ذلك. تعرّف على بول لوكا “سائح من سواح سلطان فرنسا” في حلب، وطلب منه الأخير مرافقته كترجمان، ما دام ابن دياب يلم بقدر من الفرنسية (والإيطالية) يضاف إلى العربية والتركية، ووعده في المقابل بوظيفة “في خزانة الكتب العربية” في “بهريس”، و”بيصير لك علوفة (من علف، والمقصود هنا مخصص مالي) وبتعيش طول عمرك تحت نام الملك (المقصود تحت رعايته)”.
هذا الرجل الذي يتجول في العشرين من عمره، ويحكي مغامراته التي دامت أكثر من ثمانين سنة. إن قصة هذا المستأجر الشاب لدى أحد التجار الكبار والمستقر في مدينة حلب السورية غير عادية. يحظى بتجربة رهبانية بلبنان، ويستأجره أحد الرحالة الفرنسيين – بول لوكاس – سرّاً، ويتعرف في زيارته إلى الخازن، جامع الضرائب من المسيحيين والموالي للعثمانيين، ويتوجه نحو الصعيد المصري، ثم ليبيا، وتونس، وإيطاليا، مواجهاً العواصف ومتحدياً القراصنة وصولاً إلى مرسيليا الفرنسية. ويتوجه نحو مدينة باريس، ويقدم إلى الملك لويس الرابع عشر أحد الجرابيع غير المعروفة لدى هواة العلوم في ذلك العصر، ويظل سنة قبالة جسر سان ميشيل، ويلتقي أنطوان غالان الذي كتب له ألف ليلة وليلة.
لم تكن في جعبة غالان في تلك المدة أي حكايات، لذلك طلب من دياب أن يزوده بها. لم يتردد حنا في ذلك، ونقل له من المشرق الشهير بعض الحكايات المشهورة منها «علي بابا» و«علاء الدين»، التي ستعرف نجاحاً باهراً. كتب حنا دياب بلغة مألوفة واعتيادية، تشبه إلى حد كبير لغة طفولية ماقبل ثلاثة قرون. استثمر مرونة اللهجة العامية لاستعادة الأوضاع، وبشكل عنيد أحياناً. ابتكر طرائق الملاحق وصيغاً جديدة من الكلمات التي عبرت عن مشاعره بشكل ممتاز. فيما وراء مهاراته الروائية، تظل كتابته فريدة من نوعها: يتحدث عن مخاوفه، وملذاته واندهاشاته.
– إنه بالتأكيد «رجل عادي»، وخادم، وطباخ وعامل تنظيف، تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية، لدى تجار حلب، لكنه اكتسب بعض المواهب. إنه أصغر أشقائه المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه الاجتماعي. لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد عملية ارتقائه الاجتماعي. لكن، وبفضل جرعة من العصيان، بحث عن طريقه الخاص: غادر حلب سرًّا؛ لأن إخوته «لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب» كما يقول. وفي الصعيد، رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلًا: «أنا الآن رجل يحدد مساره بيده». عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته، رد بنبرة قوية، بأنه يريد «استكشاف العالم». صحيح أن الكتابة المتأخرة لهذه الرحلة، بعد خمسين سنة من وقوع الحدث، مدهشة للغاية، لكنني أتفق من جهتي مع مسار فكري دشنه أحد الجامعيين الألمان الشباب الذي يميز بين شخصين لدى حنا دياب: الراوي والمسافر. ترتبط قصة المسافر بالمغامرات والتقلبات، على حين أن كتابة الراوي هي انعكاس ذاتي: «وثيقة أنوية». بهذا المعنى يصبح المؤلف مدخلًا نحو الحداثة.
الهوية المارونية مركزية في نصّ حنا. يعبّر عن ارتياحه، لأنه في بيروت “ما في قيد على النصراني ايش ما لبس”، وعن إعجابه بمنظر مشايخ آل الخازن الذين رآهم فيها “لافين بروسهم شاشات يانس” (أي من القماش الحريري المتموج)، و”على أكتافهم مشالح صوف انكلري (أسود فاتح، بالتركية)”، و”شاكين خناجر مجوهرة”. يظهر نفوره من لؤم الروم الأرثوذكس في قبرص. يخبرنا عن فزعهم من التبشير الكاثوليكي الفرنسيسكاني. يصفهم بالهراطقة والمتواطئين مع المسلمين “بيقولوا دايماً مسلمان ولا رومان”. ينقل أنهم يجوزون بناتهم للانكشارية (يكتبها “الالجكارية”) لأجل نيل الحماية من الحكام، و”ما لهم عرف ولا دين”. يسعد برؤية ماروني يتحدر من الذين هاجروا إلى قبرص يوم كانت تتبع للبندقية، والذين يحترسون من “الكريكية الهراطقة”. يقصد الروم الهراطقة يتأسّف على أنّ بلاد المغاربة التي زار منها طرابلس الغرب وتونس مع بول لوكا لم تعد مسيحية. لا يخفي تعصّبه الكاثوليكي عندما يتحدّث عمّا عايشه من اضطهاد البروتستانت في فرنسا. مع ذلك، لا يتوان حنا عن انتقاد الكاهن الكاثوليكي الذي بات عنده، هو ومعلّمه، في الفيوم. يروي أنه كان يقصده كثير من رجال ونساء وأولاد “منهم قبط ومنهم فلاحين، وكان يعلمهم طريقة الإيمان”، لكنه كان يكثر من استخدام الكي لمعالجتهم.
للأمانة التاريخية
إذا كان من الثابت تاريخياً أن المستشرق الفرنسي أنطوان غالان هو أول من حمل إلى الغرب في القرن الثامن عشر، كتاب «ألف ليلة وليلة» في ترجمته الفرنسية، فمعروف أيضاً أن ترجمته هذه كانت حافزاً إلى سعي مستشرقين آخرين في القرن التاسع عشر على إعادة ترجمة «الليالي» وتصويبها، وفي مقدمهم البريطانيان إدوارد لين وريتشارد بيرتون. ثم توالت لاحقاً الترجمات العالمية في القرن العشرين، مولية هذا الكتاب الفريد المزيد من الأمانة والدقة. راجت ترجمة غالان الفرنسية عند صدورها في فرنسا وحصدت ترحاباً شعبياً ونقدياً، وانكب عليها الروائيون يستوحونها ويقلدونها.
ولكن، عندما وقعت هذه الترجمة بين يدي المستشرق البريطاني إدوارد لين وجدها محرّفة ومضافاً إليها بضع حكايات لم يجدها في الأصل العربي الذي أتى به من مصر. بل إن الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس أحد كبار العارفين بـ «ألف ليلة…» وقارئها في ترجماتها الأولى الفرنسية والإنكليزية، وصف صيغة غالان بأنها «الأشد كذباً وضعفاً»…
لكنه في الحين ذاته كشف سراً مهمّاً يتمثل في شخص يدعى حنا دياب، وهو «ماروني من حلب» كما يعرّف به، رافق غالان وكان مساعده في الترجمة والنقل من العربية إلى الفرنسية.
ويمتدح بورخيس حنا هذا الذي كان ورد اسمه في بعض الوثائق، ويسميه «المستشار الغامض» ويقول أن له «ذاكرة لا تقل خيالاً عن شهرزاد».
وفي دراسته المهمة «مترجمو ألف ليلة وليلة» يؤكد بورخيس، مستنداً إلى مراجع تاريخية، أن حنا دياب أملى على غالان قصصاً لم ترد في أصل «ألف ليلة…» وكانت من تأليفه وصنع خياله، ومنها:
حكاية علاء الدين
قصة الأربعين حرامي
قصة الأمير أحمد والساحرة
قصة أبو حسن النايم واليقظان
قصة الأختين الغيورتين…
وهذه القصص التي راجت هي من عيون الحكايات التي ضمها كتاب «ألف ليلة…»، والتي أحبها قراؤه.
ظل حنا دياب أشبه بالطيف الغامض على رغم الأثر الذي تركه في أحد أعظم الكتب العالمية، وحيكت حوله حكايات متخيلة، لكن هذا الغموض ما لبث أن تبدد بعدما اكتُشفت أخيراً في مكتبة الفاتيكان مخطوطة رقمها «سباط 254» تحمل تاريخ الانتهاء من كتابتها وهو الثالث من آذار (مارس) 1764 واسم كاتبها هو حنا دياب.
والمخطوطة عبارة عن مذكرات دوّنها حنا دياب بقلمه ويروي فيها فصولاً من سيرته ورحلته إلى فرنسا في صحبة سائح فرنسي يدعى بول لوكا وهو الذي عرّفه إلى أنطوان غالان وحينذاك وجد فيه غالان شخصاً حكواتياً مثقفاً يجيد لغات عدة ويملك مخيلة رحبة.
وسرعان ما استعان به ليسرد له نحو أربع عشرة حكاية ضم معظمها إلى ترجمته لـ «ألف ليلة…»، ثم عاد حنا فجأة إلى حلب، واختفى.
هذه المخطوطة استطاع أن يحصل عليها محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران وهما باحثان في جامعة ساو باولو – البرازيل ولهما أبحاث في حقل «الليالي»، ووجدا فيها كشفاً مهماً وحدثاً أدبياً فريداً ينتظره دارسو «ألف ليلة…».
ووفقهما هي نظرة ممتعة على العالم بعيون ولغة مسيحي سافر من حلب إلى فرنسا في القرن الثامن عشر
وحنا دياب. بحسب بول فحمة – تييري:”رجل عادي”، وخادم، وطباخ وعامل تنظيف، تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية، لدى تجار حلب، لكنه اكتسب بعض المواهب. إنه أصغر أشقائه المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه الاجتماعي. لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد عملية ارتقائه الاجتماعي. لكن، وبفضل جرعة من العصيان، بحث عن طريقه الخاص: غادر حلب سرّاً، لأن إخوته “لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب”، كما يقول. وفي الصعيد، رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلًا: “أنا الآن رجل يحدد مساره بيده”. عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته، رد بنبرة قوية، بأنه يريد “استكشاف العالم”).والطريف، بحسب صفاء جبران، أن المخطوطة مكتوبة باللغة “العربية الوسطى” وتغلب عليها اللهجة الشامية (والتي ما زالت تسمع في لبنان) وفيها الكثير من العبارات الإيطالية والفرنسية والتركية. وتقول جبران: “يبدو أن اللغة التي استعملها حنا في تدوين مخطوطته تندمج بما يطلق عليه اللغويين المختصين اسم “اللغة العربية الوسيطة”، وتتضمن ألواناً لغوية عديدة ظهرت في نصوص عديدة على مدى تطور اللغة. وأن من كتب هذه النصوص ينظر الى العربية كنموذج مثالي لكنه يفشل في استخدامها فتتدخل العامية في نصوصهم بحيث تقترب بنيتها غالباً إلى اللغة العامية ذاتها. ولذلك فلا يمكن اعتبار هذه النصوص مكتوبةً بالعامية نظراً لتجلي المحاولة فيها للتقرب من الفصحى في الأساس، كما لاحظ فرستيغ.ويمكن إدراج لغة حنا في العربية الوسيطة فهي نموذج من اللغة العربية باللهجة الشامية كما كانت متداولة في القرن الثامن عشر، خصوصاً في الكلمات والعبارات، ولوّنها بأشكال من الفصحى وربما لعدم إلمامه بقواعد الفصحى وكتابتها، فقد جاءت لغة حنا بهذا الشكل الممتع العفوي والأليف. لكن لا أعتقد انه يمكننا ان نشبهها باللغة العربية البيضاء المعتبرة ” لهجة وسطى بين الفصحى العامية وهي أرفع من هذه وأدنى من تلك” فليس في لغة حنا ما يقيدنا بهذا التحديد”. وتضيف جبران “هذا من جهة اللغة أما من جهة الكتابة والتدوين فمما يثير الفضول والاعجاب هو كيف يكتب نفس الكلمة بحروف مختلفة ومراراً عدة على نفس السطر كـ باريس-بهريس-بهريس، اما ما لفت نظرنا هو أن الاستغراب الذي يشعر به القارئ في البدء سريعا ما يتحول الى قراءة ممتعة خاصة عند استعماله كلمات اعتاد سمعنا عليها من كثرة استعمالها من قبل اجدادنا فطالما سمعت جدي وجدتي يقولان: “طسكرة، بوغاز، ناولون، أخور، خرستانه وططلي وتتن ومغيّر حلاسه”.
وليس من المبالغة اعتبار “رحلة حنا دياب وثيقةً نادرة، لعلّها الأولى من نوعها، عن اكتشاف أوربة من قبل عربيّ مشرقيّ. ويزيد من أهمّيتها براعة حنّا في القصّ – ومن الثابت في هذا الصدد أنّه هو الذي عرّف أنطوان غالان، مترجم كتاب “ألف ليلة وليلة” إلى الفرنسيّة وأوّل من بوّأه مكانته العالية في الآداب العالميّة، على اثنتي عشرة قصّة، منها “علي بابا” و”علاء الدين””… بمعنى آخر يملك حنا دياب متخيلاً اضاف الى الف ليلة وليلة بعض القصص، سميت القصص المزورة وهي مزورة بنبل اذ لا تقل اهمية عن النص الاصلي، وبذلك يكون حنا قدم اضافة على كتاب ألف ليلة وليلة الذي يعتبر الكتاب الأكثر كوزموبولوتية في العالم، فهو كتاب بلا مؤلف في الأساس ويقال انه يعود الى الاصل الهندي وترجم حتى وصل الى اللغة العربية وأضيفت اليه بعض القصص في العراق وفي مصر وغيرها من البلدان، وفي طبعاته تعرض للرقابة باستثناء طبعة بولاق المصرية. وسبق للمحقق والمترجم محمد مصطفى الجاروش أن يبيّن أن قصة “علاء الدين” وهي من “الليالي العربية المزورة” موجودة في مخطوطتين مودعتين في المكتبة الأهلية في باريس، ناسخ الأولى القسيس السوري ديونيسيوس شاويش، الذي طُرد من فرنسا إثر ثورة 1789، والثانية اللبناني ميخائيل الصباغ، نشرها للمرة الأولى والأخيرة المستشرق الفرنكو – بولاندي زوتنبرغ عام 1888 في باريس، ولم يشكك أحد في النص جدياً حتى جاء الباحث العراقي محسن مهدي عام 1984 وقال إن هذا النص ليس إلا مجرد تزوير من غير أي قيمة علمية أو أدبية قام القسيس شاويش بترجمة مزعزعة له لم يَلتفَت إليها أحد بعين الجد (فهو، مثلاً، لم يحسن حتى إملاء اسم البطل، فيكتبه “عليا الدين”)، ثم جاء بعده ميخائيل الصباغ وصحّحها ونقلها إلى مخطوطة أخرى فحظيت باهتمام أكبر لدى المستشرقين آنذاك لإتقان ناسخها اللغة العربية.وضمن رحلة حنا دياب التي تصدر عن منشورات الجمل، مقدمة للباحثة المتخصصة في “ألف ليلة وليلة”، كريستياني داميان(ترجمة محمد مصطفى الجاروش) تفيد بأنه قبل التسعينيات من القرن العشرين، عندما اكتشف الباحث الفرنسي جيروم لنتان مخطوطة ذكريات حنا دياب في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان، فإن المعلومات الوحيدة عن حياة دياب لم تتوافر إلا في يوميات المستشرق الفرنسي أنطوان غالان. نجد في يومياته تلك إشاراتٍ عديدةً إلى حنا دياب، خصوصاً خلال الفترة التي قضاها في باريس نزيلًا عند بول لوكا، والذي كان سائحًا يجوب العالم الشرقي. ومع كون الإشارات الموجودة في يوميات غالان تُعْلِمُنا، باقتضاب، أنه ماروني من حلب أتى إلى باريس صحبة بول لوكا، وبقي في العاصمة الفرنسية على الأقلّ حتى الفترة التي بين مارس/آذار ويوليو/تموز1709، وتلمح إلى انه كان رجلًا مثقفًا، والأهمّ انها تكشف لنا أن حنا قصّ على غالان حكايات طريفة كثيرة، وهذه الحكايات استخدمها غالان لاحقاً “لإكمال” ترجمته “ألف ليلة وليلة”، لأن مخطوطة الكتاب الوحيدة المتوفرة لديه آنذاك كانت “ناقصةً”، في حين أنه كان قد انتهى من نقلها إلى الفرنسية. أكثرية الإشارات إلى حنا في اليوميات تأتي مصاحبةً بملخَّصاتٍ لحكاياته، وهي 16 حكاية، نشرت منها 12 في المُجلّدات الأربعة الأخيرة لترجمة غالان لألف ليلة وليلة.
وبحسب داميان، بقي نصّ ذكريات حنا مجهولًا لدى الجمهور بعد اكتشافه في تسعينيات القرن العشرين، ولم يُعرف إلا بعد نشر ترجمته الفرنسية العام 2015. ويأتي نشر هذه الذكريات، بمعلومات مهمة عن حنا، ابتداءً من اسمه الكامل: أنطون يوسف حنا دياب. ونصه، الذي كتبه عندما كان قد تجاوز السبعين ونيفًا من عمره، يروي الرّحلة التي قام بها منذ أكثر من نصف قرن، صحبة بول لوكا كترجمان له في المدن العربية المختلفة التي مرّا بها. وحسب ملاحظاته، فإن الرحالة الفرنسي كان قد وعده، إذا رافقه في رحلته، بوظيفة في مكتبة الملك. لهذا السبب جاب حنا، بين 1707 و1709، أماكن كثيرة في البحر المتوسط، من طرابلس الغرب، حتى بورساليا، حيث استقبله الملك لويس الرابع عشر. إلا أنه، بعد وصوله إلى فرنسا، وجد حنا نفسه بين بول لوكا وأنطوان غالان بسبب صراعهما من أجل مصالحهما الخاصّة ونمائمهما، ولذا لم يفِ بول لوكا بوعده، ما أدّى إلى قرار حنا بأن يقفل عائدًا بمفرده إلى حلب، وقبل عودته النهائية إلى هناك مرّ في طريقه ببعض المدن التركية، منها أزمير والأستانة.
يعرّف الراوي الحلبي نفسه بـ «الفقير الحقير عبد القاري أنطون يوسف حنا دياب» كما كتب في نهاية المخطوطة، وكان ناهز السبعين عندما بدأ كتابتها.
وهو يسرد متكئاً على ذاكرته «الخارقة» كما تخيلها بورخيس ويروي تفاصيل مما رأى وسمع وعاش. ويورد انطباعاته حيال فرنسا التي زارها ويقارن بينها وبين حلب بلدته الأم.
وينتقد العادات الشرقية التقليدية والمتخلفة ويمتدح العالم الغربي المنظم والمنضبط.
“التفت الملك وكل أكابر الدولة نحوي، وسألني واحد منهم عن اسم هذه الوحوش، فقلت له أنه في بلادهم يسمى جربوع، فأمر الملك بأن يقدموا لي قلم وقرطاز (قرطاس، الصحيفة التي يكتب فيها) حتى أكتب اسمهم بلساني”. أما الملك الذي من شدة هيبته “ما بيقدر انسان يحقق النظر فيه”، فهو لويس الرابع عشر (ت 1717). “سلطان فرنسا” كما يسمّيه كاتب النص، حنا الماروني الحلبي، عندما قرّر أن يدوّن كتابةً ذكريات رحلته من حلب إلى باريس، وصولاً إلى بلاط مليكها وحاشيته، في مطلع القرن الثامن عشر. أما الكاتب فليس بكاتب محترف. ماروني من حلب، اسمه الكامل أنطون يوسف حنا دياب. كان في السبعين من العمر حين أخذ في تدوين رحلة شبابه هذه، في صحبة سائح فرنسي “ملكي” يدعى بول لوكا، من حلب إلى باريس. باريس التي يكتبها في معظم الأحيان “بهريس”.
حلبي ماروني و”جرابيع” في بلاط البوربون
أمّا الجرابيع فهي بعض مما جلبه هذا السائح الملكي، بول لوكا، من رحلته في الشرق العثماني إلى البلاط الملكي الفرنسي.
والجرابيع من القوارض الليلية الصحراوية، لونها من لون الصحراء. حملها لوكا، أو بالأحرى مرافقه الترجمان حنا دياب، من صعيد مصر إلى “بهريس”. مات خمسة منها في الطريق، وبقي اثنان، ويبدو أنّها أثارت تعجب واهتمام الملك، و”منسنيور الدلفين ابن الملك” (الذي “كان يقال عنه بأن أباه ملك وابنه البكر ملك اسبانيا وما هو ملك” كما يعرّفه حنا)، وأميرات البلاط، سيّما أنّ هذه الجرابيع الصحراوية لم تكن مذكورة في كتب الطبيعيات عندهم. يصف لنا حنا كيف تمازج الاهتمام و”التعجّب من خلقة” الجربوعين في القفص، وبين تفحّصه هو، “الشرقي حامل القفص”، الذي عرّفه بول لوكا للملك بأنّه “من بلاد سورية، ومن الأرض المقدسة، وهو من طائفة الموارنة الذين استقاموا في الكنيسة البطرسية من عهد الرسل، وما انشقوا عنها إلى الآن”. لكن الرابطة الدينية الكاثوليكية التي تجمع حنا دياب بأهل بلاط لويس الرابع عشر، لم تحل دون تعجبّهم من شواربه و”القلبق” الذي يعتمره، “فتركوا فرجة الوحوش (الجرابيع)، و”صاروا يتفرجوا عليّ وعلى ملبوسي ويضحكون”، فـ”لما تفرجوا على الوحوش، وعليّ أيضاً، أرسلوني إلى عند أميرة أخرى، ومن هناك إلى عند غير أميرة”.
وظلوا يأخذونه من مكان إلى آخر “إلى ساعتين بعد نصف الليل”. صعب على أميرات فرنسا تمييز هذا الماروني عن المسلمين. “تعالوا تفرجوا على سيف المسلم!” قالت إحداهن، فارتكب حنا محظور الجواب بأنّه سكين لا سيف. وهذا كان ليودي به إلى التهلكة، لأنّ الدخول على البلاط بسكين، يفيد نيّة الغدر، في حين أن الدخول عليه بسيف أو “سيخ” كما يسمّيه حنا، أمره مختلف. كان هذا هو “ثاني خطأ بروتوكولي” يرتكبه عمّنا حنا في بلاط آل بوربون، ويجري التسامح معه. الأوّل كان أكثر وقاحة: أخذ الشمعدان من يد “الملك – الشمس”!
نصّ تختلط فيه العامية بالفصحى
كتب الختيار حنا دياب رحلة شبابه من حلب إلى “بهريس” بمزيج من العامية والفصحى، مع غلبة الأولى. ظلت المخطوطة محتجبة عن عالم القراءة زهاء قرنين ونصف. عام 1926 أهداها قس حلبي إلى مكتبة الفاتيكان، وحُفظت فيه “كخلية نائمة” إلى أن اكتشفت في تسعينيات القرن الماضي. نشرت دار “اكت سود” Actes Sud ترجمتها الفرنسية قبل عامين، في حين تكفلّت “دار الجمل” بنشر النصّ العربي “الوسيط بين العامية والفصحى”، كما كتبه حنا، بتحقيق ممتاز أجراه كل من محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلاء جبران (من جامعة ساو باولو) لنصّ المخطوطة، من دون التدخل إملائياً على أسلوب حنا في كتابة الكلمات بشكل يحاكي طريق النطق في أيامه، مع كثير من العشوائية أيضاً، ذلك أنّه ينوّع في طريقة كتابة الكلمة الواحدة. فرحلته الشيقة من بلاد الشام إلى بلاط لويس الرابع عشر، كتبها في نص مبهر بعامية ممزوجة بالفصحى
هذه المخطوطة التي حققها الباحثان في جامعة ساو باولو، صدرت عن منشورات الجمل و تم من خلال نشرها إلقاء ضوء ساطع على حنا دياب أحد رواة «ألف ليلة وليلة» ومبتدع بعض قصصه البديعة.
السياحة الملكية
انبهر حنا بـ”معلّمه” بول لوكا. “على ما رأيت من هذا الرجل، عنده من كل علم خبره”، الطب والفلك والهندسة والفلسفة والطبيعيات، وخواص الحشائش والنباتات والعقاقير المتنوعة، والأهم “معلمي كان معلّم في علم الجواهر، وخواصاتهم واثمانهم، وفي غاية ما يكون”. لا عجب، فبول لوكا (ت 1737)، كان مكلّفاً بالسياحة في الشرق، لاقتناص وشراء مخطوطات ومسكوكات ومجوهرات ونوادر ونفائس للعودة بها إلى لويس الرابع عشر. بل إن العاهل الفرنسي، الحليف للدولة العثمانية في وجه العدو النمساوي المشترك، كان مهتماً في جلب ما أمكن من آثار مصرية قديمة، بما في ذلك المومياءات الفرعونية. يخبرنا حنا أنّه أثناء توقفهم بحارة الموسكي، حارة تجار الفرنج في القاهرة، قدم أحد الفلاحين ليسرّ إلى أحد خدام “القنصر” (القنصل الفرنسي) بأنه وجد مومياء، كي لا يشاع الخبر ويأخذه الحكام إلى السلطان العثماني. يقول حنا إنّ هذه المومياءات موجودة قرب “المرامات” (الأهرامات)، ويحصل في أحيان نادرة حين يعصف الريح أن يكشف الرمل عن هذه القبور، “فبيطلعوا الفلاحين المتحبرين (…) وبالنادر حتى يبروا قبر فيه جسد مصيّر، وإذا رأوا واحد بيخفوه” إلى أن يباع للتجار الأجانب.
إضافات حنا الحلبي إلى “ألف ليلة وليلة”
لم يأت بول لوكا في المقابل، على مدار مجلّداته الثلاثة عن رحلاته الشرقية، على ذكر حنا. هذا بخلاف المستشرق أنطوان جالان، الذي تعرّف بواسطة لوكا على حنا في “بهريس”.
جالان هو أول مترجم لكتاب “ألف ليلة وليلة” إلى لغة أوروبية. يقول حنا إن جالان كان يستعين به “لأجل بعض قضايا ما كان يفهمها”، وإن المخطوطة التي كان يترجمها كانت “ناقصة كم ليلة”، فأكملها له حنا مما في جعبته من الحكايا.
وبحسب الباحثة كرستيانه داميان (من جامعة ساو باولو أيضاً)، فإنّ الحكايا التي رواها حنا دياب لأنطوان جالان، لتضمينها في ترجمته لألف ليلة وليلة، لم يكن لها وجود إطلاقاً في أي مخطوطة أصلية للكتاب، خصوصاً بالنسبة لحكايتي “علاء الدين والسراج المسحور” و”علي بابا والأربعون حرامياً”. أي أن أبرز ما دخل المخيال السينمائي من قصص ألف ليلة، مصدره حنا الحلبي، وبالتالي التراث السردي الشفهي لحكواتية بلاد الشام. لم يخف انطوان جالان مصدره هذا في يومياته، “حنا الماروني الذي جاء به بول لوكا من حلب” (وفي مواضع أخرى يصفه بـ”الماروني الدمشقي”). يقول في مطلع شهر أيار 1709 إن “السيد حنا استقدم معه بعض الحكايات العربية الجميلة جداً وقد وعدني بكتابتها وإبلاغي إياها”.
يقول حنا دياب إن مخطوطة ألف ليلة وليلة التي كان يترجمها أنطوان جالان للفرنسية كانت “ناقصة كم ليلة”، فأكملها له مما في جعبته من الحكايا… وهكذا أتتنا أشهر القصص مثل قصة علي بابا والـ40 حرامي وقصة علاء الدين والمصباح السحري
يبدأ يومياته بعد ذلك بأيام “في الصباح، انتهى الماروني الحلبي من سرده عليّ حكاية المصباح”، أو “قصّ عليّ حكاية عربية عن ابني عمومة، قمر الدين وبدر البدور”. عدّل جالان بعضاً مما وصله من حنا. فـ”خوجا بابا” أصبح “علي بابا” على سبيل المثال. لكن حنا كان يزوّد انطوان جالان أيضاً – على ما يذكر الأخير في يومياته – بأخبار عن طوائف بلاد الشام، عن العائلات الدرزية التي أصبحت كاثوليكية، وعن أكل الدروز لحم الخنزير وشربهم للخمر، وعن أولئك الذين “يأكلون لحم الكلاب والقطط”، ويقيمون بين طرابلس وحلب، ويقسمون بحق الشمس.
مقتطف من مخطوطة حنا دياب، الحلبي الذي زار بلاط الملك لويس الرابع عشر في فرنسا
“كل ملعوبهم ينبنى عن اشيا صادرة في ذلك العصر، وعن أناس سكرية أشقيا، وغيرهم من ذوي الباطوليين المعترين، وغيرهم من الجنود الجبانين الجزوعين غير الثابتين في الحروب وما يشبه ذلك، وخصوصاً من النشا (النساء) الشراشيح الرعنات. وجميع هذا منظوم بألفاظ مقنعة مسددة، حتى أن السامع ينوعظ من أمثال هل جماعات المكروهة والمدمومة من الجميع”
يسأله حنا: “ألا يوجعك قلبك على هذه الأوادم الذين تعذّبهم بمكاوي النار التي لا يطاق ألمهم؟” (الجملة الأصلية خليط عامية وفصحى، وفصحناها هنا للتسهيل). يجبيه الكاهن بأنّ هؤلاء الأوادم “طبعهم طبع وحوش، الأدوية الاعتيادي ما بتأثر في أجسادهم ولا بتنفعهم، فالتزمت فيهم بأن أعالجهم هذا العلاج الذي بيعالجوا فيه الحيوانات”.
كذلك يصف حنا حال المجدّفين في السفن الشراعية (الغاليرات) الفرنسية، بأسى عميق. فهؤلاء من المجرمين المحكوم عليهم، ما إن يقصّر الواحد منهم عن التجديف حتى يناله السوط المصنوع من “عصب البقر”. “رؤيتهم بتحزن، يقول حنا، كأنهم داخل جهنّم والشياطين تجلدهم وتعذبهم”.
ينهره الكاهن الذي في السفينة عندما سأله في أمرهم، ويذكّره بأنّ هذا ما تقتضي به “الشريعة” (المسيحية). يفضل حنا الصمت حينها، ويشبّه القسم الذي يقيم فيه بالسفينة بـ”الملكوت”، فيما الآخرون في جهنّم.
قسمة السفينة الشراعية الواحدة إلى “ملكوت وجهنم”، واحدة من الصور المؤثرة الكثيرة التي يطالعنا بها هذا النصّ المبهر والشيّق، صعب التصنيف.
“بهريس” دياب و”باريز” الطهطاوي
يبحث دياب خلال مروره في مدن البرّ الفرنسي عن “جشمات” (مراحيض) لا يلقاها، ولا يجد “أدب خانة” لقضاء حاجته. يقارن بين نبيذ بورغونيا ونبيذ جبال لبنان، ثم يقارن بهريس بحلب. يعبّر عن إعجابه بالعاصمة الفرنسية المضاءة بنظام فريد من الشموع في الليل، والتي يلزم فيها كل صاحب منزل بأن يكنس قبالته في الصباح. يخبرنا عن مستشفياتها، وأديرتها، واحتفالاتها الدينية، والتدخلات العجائبية لشفيعتها، وبعض التجار الأرمن المقيمين فيها، وعن التجار الذاهبين منها إلى الهند والشرق العثماني. يوجز عن مسارحها، وعن الكوميديا التي يكتبها “كموديه”، وهي “شبه خيال البزار عندنا” وفيها “الملاعيب من المسخنات والمضحكات، شي بيفوق الوصف”. و”صاحب الملعوب بيسمى اركلين (ارلوكان)، مثل ما عندنا صاحب الملعوب عيواظ وقرى كوز”.
يتابع: “كل ملعوبهم ينبنى عن اشيا صادرة في ذلك العصر، وعن أناس سكرية أشقيا، وغيرهم من ذوي الباطوليين المعترين، وغيرهم من الجنود الجبانين الجزوعين غير الثابتين في الحروب وما يشبه ذلك، وخصوصاً من النشا (النساء) الشراشيح الرعنات. وجميع هذا منظوم بألفاظ مقنعة مسددة، حتى أن السامع ينوعظ من أمثال هل جماعات المكروهة والمدمومة من الجميع”.
يخبرنا أيضاً، أن في هذه المدينة “كثيرين من بنات الخطا (المومسات)، وبيوتهم معروفة من الإشارة المعلّقة على أبوابهم، وهي كبة شوك كبيرة”. و”موجود من المحتالين والمحتالات شي كتير”. تختلف الفترة الزمنية التي حلّ فيها حنا دياب على “بهريس” (1709) عن الفترة الزمنية التي حلّ فيها رفاعة الطهطاوي في “باريز” (1826). مغرية مع ذلك المقارنة بين المشترك والمختلف بينهما. فدياب يركّز على بيئة متدينة محافظة فيها، والطهطاوي يركّز على ابتعاد أهلها عن دينهم الكاثوليكي.
أبرز ما دخل السينما من قصص ألف ليلة وليلة، مصدره حنا الحلبي، المغامر الذي أضاف من عنده لحكايا ألف ليلة وليلة قصصاً لم تكن في أي من المخطوطات الأصلية
طبعاً، بين الرجلين مرّت على المدينة محن وثورات كثيرة. دياب كتب بعامية مختلطة بالفصحى، والطهطاوي بالفصحى غير المسجّعة، المنبئة بحداثة لغوية. دياب بحث عن “إلفته” مع المدينة ككاثوليكي، هو أقرب إليها من هراطقتها البروتستانت. الطهطاوي رأى أبناءها يبتعدون عن الكاثوليكية وعن التدين جملة، ورأى في ذلك إمكان الأخذ عنهم دون التعريض بتديّنه الأزهري… دياب كان أكثر “حداثوية”، من خلال الأنا التي يشير إليها بـ”الفقير” تواضعاً، والتي نجدها حاضرة طول الوقت. يخبرنا عن مغامراته هو، عن تدخّله في الأحداث هو. أما الطهطاوي فأكثر انسحاباً كذات مفردة حين يسرد تفاصيل إقامته في المدينة، ومعاش الباريسيين.
شيء من الندم، شيء من البوح
يخبرنا دياب عن شتاء الصقيع والجوع بباريس، عن الفقراء “أهل القرى والضيع” وهم يتسولون في المدينة، عن دور الإكليروس في رعاية أمور الفقراء الريفيين الوافدين، وحماية المدينة منهم في نفس الوقت. يخبرنا عن العقوبات الجسدية التي كانت لا تزال تعتبر “شريعة” منزّلة عند الكاثوليك في ذلك الوقت. عن حيثيات قراره بالعودة إلى حلب، بعد أن تنازع على استتباعه معلمّه لوكا، والمستشرق جالان. وعن زمن التحوّط في السفر البحري طول الوقت من احتمال القراصنة. عاد أدراجه من باريس إلى مرسيليا إلى إزمير إلى الأستانة، فحلب، حيث زاول التجارة وكوّن أسرة من اثني عشر ابناً وابنة. لم يفكّر بالعودة ثانية إلى “بهريس”، لكنّه، حين دوّن “أدب رحلته”، لم يخف شعوره، وباح بأنه “أول ما وضع رجليه في البر”، بإزمير، “رأيت المسلمين الموجودين في الجمرك، فرجف قلبي، وانوهمت كأني حصلت في اليسر، وندمت على ما فعلت، كيف تركت المسيحية ورجعت إلى يسر المسلمين”.
شاهد عن حنا دياب
يسعدنا في آخر مقالنا عن حنا دياب ان نستشهد بحوارمع بول فحمة – تييري التي ترجمت نص حنا دياب، ووجدت في لغة حلب، وبشكل سردي، طفولته الماضية.
• كيف كان لقاؤك مع هذا المخطوط المدهش؟
– يندرج هذا العمل في إطار أبحاثي حول أدب الرحلات ضمن المخطوطات العربية للقرنين السابع عشر والثامن عشر، التي عثرت فيها على نص حنا دياب. سبق لي أن عملت على مخطوطة مشهورة للبطريرك مكاريوس في روسيا سنة 1653م. مكنتني بعض المخطوطات الشرقية من التعمق في هذا النوع من الأدب في إطار سلسلة ندوات المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بفرنسا. في سنة 2009م، عرض عليَّ برنار هيبرغي هذا المخطوط الطويل، الذي كتب بلهجة مسقط رأسي وظل غير منشور. في البداية كنت أريد أن «ألقي نظرة» فقط. وبالفعل، ألقيت نظرة وعكفت أربع سنوات على ترجمة هذا المتن الرائع.
في وصفها لحنا دياب قالت بول فحمة – تييري عنه
“– إنه بالتأكيد «رجل عادي»، وخادم، وطباخ وعامل تنظيف، تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية، لدى تجار حلب، لكنه اكتسب بعض المواهب. إنه أصغر أشقائه المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه الاجتماعي. لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد عملية ارتقائه الاجتماعي. لكن، وبفضل جرعة من العصيان، بحث عن طريقه الخاص: غادر حلب سرًّا؛ لأن إخوته «لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب» كما يقول. وفي الصعيد، رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلًا: «أنا الآن رجل يحدد مساره بيده». عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته، رد بنبرة قوية، بأنه يريد «استكشاف العالم». صحيح أن الكتابة المتأخرة لهذه الرحلة، بعد خمسين سنة من وقوع الحدث، مدهشة للغاية، لكنني أتفق من جهتي مع مسار فكري دشنه أحد الجامعيين الألمان الشباب الذي يميز بين شخصين لدى حنا دياب: الراوي والمسافر. ترتبط قصة المسافر بالمغامرات والتقلبات، على حين أن كتابة الراوي هي انعكاس ذاتي: «وثيقة أنوية». بهذا المعنى يصبح المؤلف مدخلًا نحو الحداثة.
• ما الاكتشافات التي نتحصل عليها من خلال قراءة هذا النص؟ ما الذي يخبرنا به حول العالم والمجتمع وزمن كتابة النص؟ تقول
– يعد هذا النص فخر الوصف الكلاسيكي، حيث يركز على ما يفاجئ عادة المسافرين الشرقيين إلى الغرب: الآلات المنظفة لميناء مرسيليا، أو الساعة الفلكية بكاتدرائية سان جان في ليون على سبيل المثال لا الحصر. كما يروي حنا اكتشافه لاستخدام الأواني في الغرف، واعتياده على استعمال مراحيض مجهزة بالماء الجاري، وأعجب بتنظيم الإنارة بباريس، ويعلمنا التحضر. كما نشير أيضاً إلى ثابت آخر لهذه القصة، والمرتبط بلقاء حنا بالشرقيين في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
• ما الذي نتعلمه حول ألف ليلة وليلة؟
“– لقد أثر اكتشاف مخطوطة حنا دياب بشكل كبير في مجال دراسة ألف ليلة وليلة. سمحت هذه القصة واليوميات الباريسية لغالان بالتحقق من أصل هذه الحكايات، التي أعاد كتابتها بنفسه، وربط هويتها بـ«حنا الماروني» كما تظهر في يوميات غالان. ظل نص حنا هنا مجهولًا لوقت طويل. يتعلق الأمر إذًا بأصل شفهي للقصص المكتشفة كما وردت لدى حنا دياب، ويمكننا أن نتحدث عن «عنصر فرنسي- سوري» لحكايات ألف ليلة وليلة. هناك طريقة أخرى للربط بين حنا دياب والقصص، وتكمن في إتقانه فن الحكي، وبخاصة قدرته على تضمين السرد خصائص ألف ليلة وليلة.”
• ما التحديات التي واجهت عملك، وما أعظم سعادة لك؟
– “تكمن الصعوبات التي واجهتني في عملية الترجمة فيما يأتي: نص طويل، 174 ورقة، وربما يكون واحدًا من أطول النصوص ضمن هذا الجنس الأدبي، والحذف والإضافات الهامشية، التي تظل داعمة لفرضية كون المخطوطة موقعة بيد الكاتب. لكن السعادة الحقيقية تكمن في اكتشاف حلبي يؤكد على فرادته خلال القرن الثامن عشر ويشيدها بين اقتراض واختراع، وبين امتثال للقيم وعصيان لها، وبين خطاب متفق عليه، وخطاب أحكام شخصية… إنه مسيحي يقلد الغرب، هنا «الفرنجي» هو بول لوكاس، ويعتمد على طرائقه تارة ويخفيها تارة أخرى، لكن هذا التقليد يعطيه فرصة للابتكار، كما يشهد على ذلك بنفسه. إن هذا الاستكشاف لـ«الذات» وهذه الكتابة المتأخرة لحكاية رحلته يمكن أن يرسم لنا ما يسميه غوتيه بـ«البطل الذي يصنع مصيره بيديه».”
خاتمة
حكى عنه كثيرون ومنهم استقينا مقالتنا هنا ولكن ظل حنا دياب أشبه بالطيف الغامض على رغم الأثر الذي تركه في أحد أعظم الكتب العالمية، وحيكت حوله حكايات متخيلة، لكن هذا الغموض ما لبث أن تبدد بعدما اكتُشفت أخيراً في مكتبة الفاتيكان مخطوطة رقمها «سباط 254» تحمل تاريخ الانتهاء من كتابتها وهو الثالث من آذار 1764 واسم كاتبها هو حنا دياب.
يعد حنا دياب راوياً صانعاً للتاريخ؛ إذ إنه لا يمثل فقط نظرة شرقية حول العالم المتوسطي وفرنسا خلال مدة حكم الملك لويس الرابع عشر فقط، إنما نجد أن هذا الرجل العادي يمثل حكواتيّاً منقطع النظير، إذ ساعد أنطوان غالان بشكل كبير في تحرير كتاب “ألف ليلة وليلة” خلال مطلع القرن الثامن عشر، لكنه ظل منسيّاً. يروي دياب أكثر من ست عشرة حكاية. اثنتان منها حظيتا بشهرة كبيرة وأصبحتا الأكثر مبيعًا في العالم، وهما حكاية علاء الدين وعلي بابا. تظل هذه الحكايات يتيمة نظراً لفقدان مصدرها العربي، الذي يعود لحنا دياب. كان هذا الشاب الحلبي غريب المصير، سعى في المقام الأول للهروب ورسم طريقه الخاص، وانخرط في أحد الأديرة. لتحقيق ذلك وضع نفسه في خدمة أحد التجار: لقد وقع طي النسيان على حين أن اسم أنطوان غالان – الذي نقل مذكراته وحرص على الخوض في كل ما يحتاج إليه- ظل براقاً.
إن هذه الصفات الرائعة تعود إلى رجل بدأ رحلته في العشرين من عمره، لكنه لم يعكف على كتابتها إلا بعد أربع وخمسين سنة من عودته إلى بلاده. يشكل الكتاب أيضاً تأملاً حول الحياة، ويظهر حرية أكبر مقارنة بالعديد من كتاب الرحلة، ويتجنب الأماكن المشتركة، وإرباك المعرفة الواسعة التي تساعد في التفاخر. يجب أن تحظى قصته باهتمام القراء لأصالة أدلتها التاريخية، ونظرها الثاقب، ومرونة لغتها التي تبحر بين أشكالها الشفهية والكتابية.
روى و ابدع عن المرأة الحلبية و ابتكر روايات مثل علي بابا و عشرات اخرى اضيفت الى كتاب الف ليلة و ليلة !
هكذا، غدا حنا دياب الحلبي الماروني المجهول أحد مؤلفي قصص «ألف ليلة…» ولو تزويراً ولم يعرف عنه إلا القليل ومنه ما ورد في مذكرات غالان.
المصادر