منزل الشاعر الدمشقي نزار قباني
مقدمة
يشكّل المبدعون في المجالات الفنية والعلمية والفكرية، جزءاً من نهضة البلدان والشعوب التي ينتمون إليها، ما يدفع حكومات بلدانهم لتكريمهم وتخليد ذكراهم بطرقٍ شتىّ، منها تحويل بيوتهم إلى متاحف ومزارات خاصّة. شيءٌ لم تعتد عليه الدول العربية عمومًا وسورية خصوصاً اذ ما اكثر مبدعينا واعلامنا!!.
في لبنان، تقيم بلدية مدينة بشرّي في الشمال، متحفًا في منزل الأديب اللبناني الراحل جبران خليل جبران، وفرنسا تجمع كل الشخصيات المؤثّرة في تاريخها في مقبرة واحدة تسمّى “البانتيوم”، كما تشير بلافتات طرقية إلى أماكن سكن وعمل مبدعين فرنسيين من كل المجالات، كـ ماري كوري وفيكتور هوغو، تمامًا كما هو الحال في مصر التي تهتم بإرث شخصيات أغنت الفن العربي كأم كلثوم وغيرها، أما في سورية فلم تأبه بلدية دمشق بحال الكثير من بيوت مبدعيها أو إرثهم الفني والثقافي، كحال منزل الشاعر السوري الراحل نزار قباني.
مكانه ووصفه
يقع منزل الشاعر نزار قّباني وسط حي مئذنة الشحم في قلب مدينة دمشق القديمة، وعلى مقربة من سوق البزورية الشهير، ومنطقة الباب الصغير وهو اصغر ابواب سور دمشق.
ولد نزار في آذارمن سنة 1923 وهناك عاش فترة طفولته وشبابه، حيث تحف المكان أشجار الياسمين والنارنج التي تخيّلها معظم قرّاء الشاعر ومحبّوه.
هناك، جلس أبو المعتز وأم المعتز، بحسب قصائد صاحب “قالت لي السمراء” أيضًا، هناك اجتمع رجال الكتلة الوطنية لأكثر من مرّة خلال الانتداب الفرنسي، فوالد نزار كان وجيهاً في حيه وناشطاً سياسياً، وعن هناك يقول الشاعر:
“في باحة الدار الشرقية الفسيحة، أستمع بشغف طفولي غامر، إلى الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا، ويخطبون في ألوف الناس، مطالبين بمقاومة الاحتلال الفرنسي، ومحرّضين الشعب على الثورة من أجل الحرية، وفي بيتنا في حي (مئذنة الشحم) كانت تعقد الاجتماعات السياسية ضمن أبواب مغلقة، وتوضع خططٌ للإضرابات والمظاهرات ووسائل المقاومة. وكنّا من وراء الأبواب نسترق الهمسات، ولا نكاد نفهم منها شيئًا”. من نص “الولادة على سرير أخضر”.
منزل الشاعر الدمشفي نزار قباني الذي يقع في هذا المكان الدمشقي العريق مأئنة الشحم دمشق القديمة، تسكنه اليوم عائلة دمشقية عريقة اشترته منذ عام 1968 ومازالت تحافظ عليه… ويتكون منزل “القباني” من طابقين أحدهما باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والأعمدة الرخامية التي يتسلقها الياسمين الأبيض والورد الأحمر وفيها شجر الليمون والكباد وفي منتصف الباحة نافورة مياه، وكان هذا البيت معقلاً من معاقل المقاومة ضد الانتداب الفرنسي، حيث كان رجال الكتلة الوطنية، وزعماء الأحياء الدمشقية وأبناؤها يجتمعون فيه، وحول ذلك قال الشاعر الراحل في مقدمة ديوانه “دمشق نزار قباني”: ”لطالما جلست في باحة الدار الشرقية الفسيحة أستمع بشغف طفولي غامر إلى الزعماء السياسيين السوريين يقفون في إيوان منزلنا، ويخطبون في ألوف الناس، مطالبين بمقاومة الاحتلال الفرنسي، ومحرِّضين الشعب على الثورة من أجل الحرية”.
وأحب نزار قباني المنزل ودأب على زيارته من لندن وبيروت ومن كل مكان فى العالم مع أولاده، ثلاث مرات في السنة أحياناً، لأن قبر ابنه توفيق الذي توفي يقع خلف البيت.
وظل الشاعر الكبير مشدوداً إلى بيته وبيت أهله في دمشق بحبل سري لم تستطع سنوات الترحال والتنقل أن تؤثر فيه، ولعل أجمل وأروع وصف البيت نجده في قصائده ونصوصه المنثورة حيث يقول في إحداها: “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر، بيتنا كان تلك القارورة”.
ويتابع: “إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر وإنما أظلم دارنا، والذين سكنوا دمشق وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون”.
ويردف الشاعرالدمشقي المبدع: “هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل الصبيان في كل الحارات. مضيفاً أن “هذا المنزل كان السبب في نشوء الحس (البيتوتي) لدي الذي رافقني في كل مراحل حياتي”.
“…الآن أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه، وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته..”. في هذه الكلمات ومثلها كثير مما كتبه نزار حول بيت طفولته، نعثر على علاقته الشديدة مع المكان خاصة في يفاعته الأولى، تلك التفاصيل الدقيقة التي يسردها نزار حول أرض الديار والجدران والشبابيك، كل ذلك يظهر درجة التأمل الكبيرة التي عاشها الشاعر في تلك المرحلة من الصبا والتي رافقته حتى آخر أيامه لأنها كانت بمنزلة الخزان والملجأ حتى وهو بعيد عنها..
بيع البيت
البيت تم بيعه في ثمانينيات القرن الماضي، وكان نزار حيّاً في ذلك الوقت، إلا أنه كان يقيم في لندن، وانتقل بعض أفراد الاسرة للإقامة في حي أبو رمانة الأرستقراطي في الثمانينيات.
البيت العربي القديم وسط حي الشاغور، يغيب اليوم بكل تفاصيله التراثية ومعانيه التاريخية للحركة الوطنية في سورية، وما أكسبه للشعر العربي من مخيلة نزار قباني، حيث لم يعد موجوداً إلأ بـ أسواره الخارجية فقط، فمُلاك البيت الجدد، وهم من عائلة نظام الدين العريقة في دمشق، غيّروا فيه (وهذا من حقهم ببيتهم) وأصبحت أرضه مرمراً بأشكال حديثة وجدرانه بعضها من السيراميك، كما وضعوا مصعداً كهربائياً بين الطابق الأوّل والثاني.
الخاتمة
السؤال الأهم هو لماذا لم تهتم بلدية دمشق أو وزارة السياحة أو مديرية الآثار والمتاحف في وزارة الثقافة بشراء البيت، وهل كان سيواجه مصيراً أفضل أم أنه سيكون كحال منزل جدّ نزار مؤسّس المسرح السوري الدمشقي الخالد أبو الخليل القباني، الذي يصفه الباحث الاقتصادي العامل في وزارة السياحة السورية سابقاً يوسف حمامي بـ “الخرابة”، مستطرداً: “البيت كان خرابة اشترته وزارة السياحة ولم تُقم فيه أي نشاط ثقافي، حيث اختُلف على تحويله إلى متحف أو مطعم”.
العزاء الوحيد ربّما لأسرة الشاعر السوري الراحل نزار قباني، هو أن البيت لا زال مسكوناً ولا ينكر أصحابه تاريخه، حيث فتحوا أبوابه مشكورين لـ تقبل عزاء القباني في نيسان 1998، وهذا يبدو أفضل على الأقل من أن يتحوّل إلى مطعم أو مقهى تراثي، ليبقى باب السؤال مفتوحاً، عن مصير إرث مئات المبدعين السوريين، ليس ما يتعلّق بمساكنهم فحسب، بل إنتاجهم الإبداعي وحقّهم من التكريم في الحياة والموت.