الليل الدمشقي مليء بالسرد والحكايات التي تحكى في جو أعطى الخيال الشعبي قدرة على أن يشطح شطحات عجيبة. ولعل أبرز ما يمثل حصيلة الليالي الدمشقية أنها أبدعت ما يسمى مفهوم السير الشعبية التي تروى في شكل مسلٍ في ظلام الليل وخفائه وأسراره.
ويبدو الليل الدمشقي رحباً في شكل يتسع لأن يشهد وجود مجموعة من المضحكين والمسليّن والحكواتيين الذين كانوا يذهبون إلى بيوت الأكابر ويلتقون في مجالس تحكي السيرة أو تقدم الطرائف وتؤدي الألحان، ويؤكد ذلك ما جاء في ترجمة محمد بن أحمد الداخل الصالحي 1569م، عند الغزي في كتابة الكواكبي السائرة الذي يوصف بأنه: «كان يتردد إلى الأكابر ويبيت عندهم الليالي»، ويشهد الليل في مجالس أهل الأدب والفقه المذاكرات والمساجلات الشعرية، أو اللغوية والفقهية. وقد نجد في الليل كما يخبر ابن طولون في كتابه مفاكهة الخلان، «امرأة لا تحترم حرمة بيتها وتدخل الرجل إليها وتتساهل في الأخلاق».
– ليل الغانيات وأسرار العشاق
والليل مجال رحب لسرد العجائب والغرائب، التي لا تظهر إلا في العتمة: الأشباح، والجن، والأرواح، وأصحاب الكرامات. هؤلاء الذين لا يظهرون إلا في سواد الليل، أو في جنبات مشابهة من النهار كالمغاور والكهوف والدهاليز وكوارات البيوت، والليل الساحر هو مجال حكايات العشق والعشاق.
ومن المؤكد ولأن الدمشقيين اصحاب اذن موسيقية ومبدعين في الشعر واللحن والغناء، لذلك كان الغناء والشعر ملازمين لليل الدمشقي قبل الاحتلال العثماني وهو ما تشير إليه مصادر الحقبة المملوكية التي تشير إلى امتلاك كل أمير جوقة من العازفين والمغنيات والجواري، ويظهر أن اختلاط الجواري والغانيات بقصور الحكام قد رفع من قدرهن حتى سرت عليهن تقاليد نساء الحكام وحريم الأحرار، فمنع عليهن الاختلاط بغير الطواشي والخصيان، واستطاعت بعض الجواري الوصول إلى مواقع متقدمة والزواج من بعض الأمراء.
في العصر العثماني تحضر قصص الليل في السجل الشرعي لدمشق، فنجد الكثير من الحجج الخاصة بشكوى أهالي بعض الأحياء من بعض الخارجين على أمر الشريعة، ممن يتسببون بإزعاج سكان المحلات الذين يلجأون إلى القاضي الشرعي الذي غالباً ما يتفاعل مع الشكوى ويحقّق فيها، ومن ذلك احتجاج سكان محلة: «الملك الظاهر لدى القاضي بسبب اجتماع أهل الفسق والفعل القبيح ليلاً إلى الدخلة المذكورة في زقاق مدرسة العزيزية الواقعة بين مدفن الملك الناصر لدين الله صلاح الدين الأيوبي والدور التي هي الآن من جملة دار المولى محمد أفندي المرادي».
وتكررت قضايا كهذه في القرن التاسع عشر، ووقف علماء دمشق منها موقفاً واضحاً، ما كان يدفع القضاة إلى إصدار أحكام تقضي بـ «إخراج أهل الفسق والفجور من المحلات والتحريج عليهم».
– سهر الأعيان:
يمتاز السهر في دمشق بأنه أنواع تتبع المواسم، فمنه ما هو خاص بالشتاء أو الصيف أو الربيع، ذاك أن ليالي الصيف تختلف كثيراً عن ليالي الشتاء. وإذا كانت بعض الأسر تتواعد لتمضية أمسيات الصيف معاً في المتنزهات القريبة من دمشق، أو الذهاب أبعد قليلاً نحو مصايف وادي بردى كعين الخضراء وعين الفيجة وبسيمة وجديدة الشيباني والزبداني وبلودان ومضايا… إلخ، فإن أمرها يختلف في ليالي الشتاء الطويلة. ففي ليل الشتاء الطويل، يجتمع الجيران أو الأقرباء أو أبناء الحِرَف في دار أحدهم، ويقصّون أوراقاً وفق عددهم، ويُكتب في كل ورقة اليوم المعين للسهر مع نوع الحلوى الذي سيقدم للساهرين المتسامرين. وتوضع الأوراق في كيس، ويمد كلٌّ يده فيسحب وريقة، فيجد مكتوباً عليها مثلاً «يوم الخميس 10 كانون الثاني والحلوى كنافة مدلوقة». وهكذا تُعْرف مواعيد السهر عند المجتمعين كافة، وأنواع الحلوى. وتهيأ خلال السهرات الشتائية ألعاب التسلية، ويحضر من يغني مع آلته، وغالباً ما تكون العود… ويقتلون ليالي الشتاء على هذا المنوال حتى نهاية الفصل.
ويبدو أن طبيعة الطقس كانت تتحكم في مواعيد السهر، فإذا كان الجو ماطراً وبارداً، فإن ذلك ما يحول بين لقاء الأصدقاء، ثم إننا نجد في الشعر المتبادل بين الأدباء ما يشير إلى ذلك، يقول محمد خليل المرادي في ترجمة مكي الجوخي1778م، وكتب إليّ مرة وقد أعاقه المطر عن زيارتنا:
أيا مولى له شوقي ومالي عنه مصطبرُ……………..مرادي أن أزوركمُ ولكن عاقني المطرُ
أما في الصيف فيقدم ابن كنّان الصالحي 1740م وصفاً لليل العلماء وترتيب سهراتهم، ويظهر من الوصف الذي يقدمه أن سهر الأعيان والعلماء يطول حتى الفجر ويتخلله الإنشاد الذي يجلب الطرب، ويتعدى وصف مجريات السهر إلى وصف مكانه. ولا يخلو الوصف من الصور الفنية التي يقدمها بسرد فني جاء فيه: «في ليلة الأربعاء تاسع الشهر، سهرنا عند صاحبنا الأعز الأمجد الشيخ بلبان الصالحي الحنبلي بدار بمحلة حارة المقدّم وكان أكثر أعيان الصالحية، فكان نائبها القاضي صادق بن هدايات وكان أكثر أعيان الصالحية… وكانت السهرة نحو ثماني ساعات، وأنشد الشيخُ مصطفى جلبي الصالحي بصوته قصيدة بارعة… جواهر فنونها ساطعة، فأطرب المجلس طرباً، وانحاز السأم عنا سراباً. فاهتز المجلس اهتزاز النشوان، وأطرب أقلب حتى كاد يهيم إلى الطيران، وكان الجلوس بقاعته الغناء والغادة البيضاء، تتال بنقوش الأذهان، ترفل في حُلل مسبوغة بمحاسن الألوان. فلما دخلناها نادتنا برحبها الرحيب، وأطارت أنظارنا إلى علوها المناهض للسماع، واللامس للكف الخضيب، وكأن شبابيكها آذان تستمع إلى الرياح الخافقة، وقماريها نجوم النسايم أو عيون النعايم، بعين النظر إلينا وامقة، وشمعتها المنيرة في السّرب كالصباح المتطير بأشعته الساطعة… فهي كالروضة الغناء بألوان نقوشها الكاملة الإحكام».
– سمر الأولياء
في موازاة السهر والطرب والانتشاء مع الأعيان وممثلي الحكم، هناك أيضاً سمر مع الصالحين والأولياء ولكنه خالٍ من الطرب الذي ينتشي له القلب ومما جاء في وصفه: “وفي ليلة السبت رابع عشرين رجب، كنّا عند صاحبنا سي رجب مع جماعة من الخلّان وتوابع من الإخوان، وسهرنا عنده تلك الليلة، وكان السمّر في ذكر الأولياء والصالحين، ومكثنا عنده إلى بعد طلوع الشمس، واستكثرنا خيره وشكرنا برّه».
ومن خلال وصف لجلسة سمر نظمها أحد الأتباع للشيخ ابن كنّان الصالحي نجد أن المجلس يخلو من اللهو والموسيقى والهرج، على خلاف عادات أهالي دمشق، وينقل ابن كنّان وصفاً لسمر الأولياء فيقول: «وفي يوم الأحد كنّا في سهرة عند أخينا وتابعنا السيد أحمد المستوي، وكانت مشتمله على ذكر الأولياء والصالحين، خالية من اللهو والمرج ولله الحمد، وتكلّف كلفة باذخة جزاه الله خيراً، وكنا نحو سبعة أنفار، حتى خالية من الغناء والسماع ولعب المنقلة والشطرنج، كما هي عادة أهالي دمشق».
– ليل الحرملك
يصف الرحالة لوران دارفيو الذي زار دمشق في القرن السابع عشر، سكان دمشق بأنهم» يحبون أن يظهروا بلباس لائق وأن يعيشوا برفاهية وأنهم يحبون حريتهم». ووفقاً لهذا الوصف ينحو المجتمع إلى حب الجمال والترفيه، واقتناء «الأثاث الفاخر». ومع ذلك، تندر أخبار النساء في المصادر التاريخية، بيد أن بعض مشاهدات الرحالة والدراسات التراثية تفيد بأنه في الدار نفسها والتي كانت تشهد سهرات الرجال في الشتاء في قسم السلاملك، كانت النسوة يجتمعن في غرفة قسم الحرملك، فيتحلقن حول مدفأة الحطب التي تلعلع ألسنة النار فيها، أو منقل متوهج الجمر. وتبدأ سهرة النساء بلعب البرجيس أو الورق ويستمتعن بالبرجيس متعة خاصة. وفي ختام اللعبة، فإن المغلوبة تؤدي ما يطلب منها، من رقص أو غناء أو تهريج. وقد يستمعن وفق ملاحظات الرحالة راسل إلى حكواتية مسنة إلى نهاية السهرة.
ثم يتبارين في قول الأمثال. ويتندرن برواية النكات والفكاهات. ولا يفوت الساهرات التحدث عن الأخريات في ما يعرف عندهن” حطوهن بالمقلاية” (المقلاة)، إشارة إلى عيوب أولئك النساء ومساوئهن. ومن بين ألعابهن، أن تغادر إحداهن الغرفة في وقت مناسب، ثم تدخل بغتة، وقد رفعت ملاءتها بيديها الاثنتين الممدودتين حتى أقصاهما فوق رأسها، حيث تبدو وكأنها طويلة على نحو غير عادي، والمنديل مُسْدَل فوق الملاءة كالعادة. عندئذٍ ترتعش الحاضرات للمفاجأة… ثم ما يلبثن أن يستوعبن الموقف. ويبدأ الحوار بين هذه المرأة والساهرات في حركة تمثيلية، في سؤال عادي وتعليق على الجواب غير عادي. ثم تقول، ويداها ما زالتا مرفوعتين، والملاءة عالية فوق رأسها.
هكذا بدت دمشق – وليلها – في القرنين الأخيرين من السيطرة العثمانية، حيوية ناشطة، فاعلة لأهلها شغفاً كبيراً في حب للحياة ورغبة بمباهجها الدنيوية، في فضاء أخلاقي ومجال عام، يشهد فيه الناس من مؤرخين وكتاب يوميات للمدينة بالكثير من الفوضى، وعدم ردع الفسّاق عن فسقهم، وتبارى لبنات الهوى بالحضور جهاراً عياناً في الأسواق، وثمة ليل دمشقي فيه سهرات وسمر، وجلسات علمية وضيافة وأذكار.
(بتصرف عن مهند مبيضين)