“يارب القوات كن معنا، فإنه ليس لنا في الاحزان معين سواك، يارب القوات ارحمنا.”
“يارب القوات” هي تلك الترنيمة الخشوعية التي ترتل في صلاة النوم الكبرى في الصوم الاربعيني المقدس حوالي غروب الشمس انها تلك النغمة العذبة التي تكاد تطغي على هذه الصلاة بأكملها الى درجة ان بعض العامة يطلقون على صلاة النوم الكبرى اسم صلاة يارب القوات.
فترنيمة “يارب القوات…” مع ترنيمة ” لتستقم صلاتي…” التي ترتل في خدمة قداس القدسات السابق تقديسها البروجيازمينا يشكلان نافذتين تطل من جلالهما على اعماق النفس الشرية عند ترتيلهما او سماعهما، حيث يشعر المتعبد المؤمن بضعة نفسه وصغرها اللامتناهي أمام عظمة الخالق وحفاوة وبهاء وجوده إزاء سعة هذا الكون اللامتناهي، ولابد له من الإقرار عند هذا بمحبة الله الأبوية وقوته خارقة في تسيير دفة العوالم غير المحدودة.
وفي المدائح السيدية “التي لايُجلس فيها” بصلواتها المرفوعة الى سيدة العالم مساء كل يوم جمعة واندفاع الحناجر “افرحي ياعروساً لاعروس لها” و”اني انا مدينتك ياوالدة الاله…” حيث يموج الصوت الموحد للمؤمنين ومع انتهاء الصلاة واندفاع المؤمنين لتقبيل ايقونة السيدة يرنم المرنمون: “ان جبرائيل اذ عتراه الذهول من بهاء عذريتك…”
في صلوات يارب القوات والمدائح والبروجيازماني تتفتح النفوس نحو ربيع روحي يتواءم مع ربيع الارض القادم…
ان مجرد اقتراب ايام الصوم المبارك هو دعوة لنا بوجوب فحص ذواتنا بصورة مجردة وموضوعية، ذلك لأن الصوم هو فرصة تُعطى لنا لتنقية نفوسنا من شوائب الماضي، بل انه نداء الينا لنتحرر من قيود حياتنا اليومية المؤذية ومشاكلها المتشعبة، وهو فرصة نادرة تظهر فيها سيطرة الروح على الجسد لأنه متى انعتقت الروح من رباطات المادة استطاعت أن تنطلق في اجواء الروحانية المتسامية مقتشة عن الحقيقة الازلية اعني الله الازلي الواحد، وفي غمرة من الفرح والغبطة تتصاعد الروح اليه تعالى مرنمة له وضارعة من القلب:”يارب القوات كن معنا…”
في البلدة الوادعة حيث الإيمان الريفي البكر والحار والنقي، واستعداد المؤمنين لدخول معترك الصوم الكبير المقدس وصولاً الى التعييد في الفصح المقدس ونقوم مع ربنا رب القوات الناهض من القبر ظافراً في عيد الأعياد وموسم المواسم…
ها ان الشمس قد قاربت على المغيب واكتست الجبال بوشاح ارجواني خاص وكأن الطبيعة قد أضناها عمل النهار. وفي هذه اللحظة أخذت الأجراس والنواقيس ترسل رناتها داعية الناس الى الصلاة…وهاهم المزارعون والعمال يتركون امهم الارض ويمسحون العرق المتصبب من جباههم وهاهن ربات الخدور يوقفن اعمالهن المنزلية. واذا بكل هؤلاء يسيرون وكأنهم على موعد، على الدرب الضيق المفروش بأعشاب الربيع الخضراء تحق بهم من هنا وهناك اشجار اللوز المعطرة، بينما تفوح من اشجار الحمضيات روائح ذكية تعطر أنفاس اهل الارض المتعبين وكأن الطيور أحبت أن تشارك هؤلاء المؤمنين صلواتهم المسائية فراحت تملأ الجو بتغريداتها الملائكية.
يدخل المؤمنون كنيستهم وشموع من سبقهم موقدة امام ايقونات السيد والسيدة، فيبادر كل منهم الى شراء شمعة او كثر يشعلونها في مستوقد الشمع امام ايقونتي السيد والسيدة يقبلونهما ويرسمون اشارة الصليب المكرم ويتذكرون اولادهم واحبابهم وخاصة الغائبين عنهم فيستحضرون صورهم مرسومة على هاتين الايقونتين فيصلون لهما ويتضرعون الى صاحب الايقونة لتوفيقهم…ويقبلون الايقونتين بمحبة واحترام ثم يقفون بورع ويشتركون بصلوات المرتلين:”يارب القوات كن معنا فإنه ليس لنا في الأحزان معين سواك…”
هناك في القرية النائية حيث الهواء الطلق والبراري المترامية الأطراف هناك حيث لايسمع ضجيج العربات والسيارات.
هناك حيث يهدد الرعد وتهب العواصف ليكتمل بها فصل الشتاء متممة العمل الموكول اليها. هناك حيث تنشد الطبيعة أناشيدها الساحرة في مختلف الفصول والشهور.
هناك حيث يرقد الراقدون براحة وسكون، هناك في روعة رنين الاجراس واصوات النواقيس ساعة الغروب حيث يقف الألوف والملايين في كل العالم المحتفل بالصوم الكبير المقدس وتضرعاتهم مع ترنيمتي يارب القوات والبروجيازميني” لتستقم صلاتي…”
في القرية الوادعة حيث الايمان بأجلى مظاهره في الكنيسة الصغيرة يأتي المؤمنون بروحانيتهم الريفية وورعهم الفطري ليسكبوا مع شموعهم والبخور المتصاعد ويسحقوا بتضرعاتهم انفسهم بين يدي رب القوات ساجدين امام عرش الجلال صارخاً من أعماق قلبه مع المترنمين :” يارب القوات كن معنا فإنه ليس لنا في الاحزان معين سواك، يارب القوات ارحمنا.”