لمّا تجلّى الرّبّ بأبهى جماله على الصّليب، ولمّا بلغ حبّه ذروته وهو معلّق عليه، هتف: “اغفر لهم يا أبتِ لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون.”(لوقا 23/34).
بهذه الرّحمة اللّامتناهية، والمحبّة الفائقة القداسة، أعطى السّيّد الصّليب بعداً جديداً مسيحانيّاً، وحوّله من صليب العار إلى صليب الحبّ. فكلّ ما تلامسه يد يسوع يتحوّل إلى أداة للحبّ، وكلّ من لامسه يسوع تحوّل إلى حبّ متنقّل في هذا العالم.
وننظر إليه معلّقاً على الصّليب، فاتحاً يديه المسمّرتين، رافعاً عينيه إلى السّماء فنظنّ أنّ الألم أنهكه، والحزن ملأ قلبه، وإنّما لو تأمّلنا صرخته : “أنا عطشان”، وأصغينا جيّداً، لسمعنا صوت الحبّ ينادينا إليه : “تعالوا إليّ، أنا مشتاق إلى أن أضمّكم حتّى الموت، موت الصّليب”.
إنّ ما نستشعره من وجع وتعب في ملامح يسوع، لهي عناء اللّحم والدّم والّتي تخضّعها إرادة الحبّ. وأمّا الجسد أيّ الإنسان بكلّيّته، الأنا، تخضع للحبّ فقط، فتسير ببطولة درباً طويلة من الألم، بفرح عظيم لمعانقة صليب المجد، صليب الحبّ.
من هنا، وحين نتكلّم عن آلام المسيح المخلّصة، لا يمكننا حصرها في أوجاع اللّحم والدّمّ، بل يجب أن يتخطّاها فكرنا إلى عظمة الألم الّذي هو ألم الحبّ.
والفرق شاسع بين الوجع والألم، إذ إنّ الوجع حالة آنيّة، يمكن تخديرها أو تسكينها، كما يمكن التّخلّص منها نسبيّاً، وقد نتعرّض لها أو لا.
أمّا الألم فهو مسيرة حجّ طويل بين أشواك هذا العالم إلى بيت الله، أي قلبه. وإن لم نخضّع الجسد للحبّ الإلهيّ، وننسحق أمامه انسحاقاً تامّاً، نعود أدراجنا لأنّ الوجع الصّادر عن لسعات الأشواك لا تطاق. وإن انصهرنا والتحمنا بهذا الحبّ، حيينا في هذا العالم غرباء عنه، منقادين بكل أشواقنا إلى أرض ميعاد السّيّد، أرض الحبّ.
ولا يكون الالتحام بهذا الحبّ إلّا بالحوار المستمرّ، مع يسوع، الحبّ المطلق. فيكون هو الحبيب الأوحد الّذي منه ينبثق كلّ حبّ.
هذا الحوار الّذي نعبّر عنه بالصّلاة، هو مناجاة الحبيب في كلّ حين قولاً وفعلاً. نناجيه قولاً، في تأمّلات القلب والتّفاعل مع كلمته المحيية، ونناجيه فعلاً ببذل الذّات جسداً وروحاً. ولا بدّ للجسد أن يبذل ذاته، ليثبت الحبّ، لا للرّبّ بل للإنسان نفسه. لأنّه يمكننا أن نهتف حبّنا للرّبّ ليلاً نهاراً، وهذا سهل، أمّا بذل الجسد فهو المعبّر الأفضل لأنّ به نتخلّى عن العالم في سبيل ربح المسيح. فالرّوح نشيط كما يقول السّيّد وأمّا الجسد فضعيف.
لذلك بذل الرّبّ ذاته جسداً وروحاً، لقد كان بإمكانه أنّ يخلّص الكون بكلمة كما خلقه بكلمة، ولكنّ الحبّ يفترض البذل، والاجتهاد، والعمل. ولذلك أيضاً نلقاه ابداً في سرّ القربان حيث نتّحد به ابداً، ويصبح هو نحن ونحن هو.
“من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه ويتبعني”، أي من أراد أن يكون لي، فليحمل الحبّ ويتبعني.
فليس الصّليب الحزن واليأس الّذي نحملهما، بل هو الحبّ الكبير الّذي نستقيه من السّيّد لنروي عطش العالم المسكين.وليس الصّليب صعوباتنا اليوميّة ومشاكلنا التّقليديّة وإنّما هو الجرأة والشّجاعة على تحدّيها بحبّ.
يسوع حمل الصّليب من اللّحظة الأولى لبدء رسالة المحبّة، وواجه بشجاعة وحبّ كلّ شرور العالم، وسار ثابت الخطوات بين الأشواك لأنّه عشق الإنسان. ولكي يبلغ الحبّ عظمة القداسة، فلا بدّ أن يكون بذلاً للذّات وشهادة حقيقية في سبيل المحبوب.
أحبّنا فخلقنا، ثمّ أتى بنفسه يضمّنا إليه فرداً فرداً، ومن شدّة عشقه لنا، مات حبّاً على صليب المجد، ووهبنا الحياة.
والسلام عليَّ يوم ولدت بالجسد ويوم أموت على الصليب بالجسد ويوم أُبعث حياً في اليوم الثالث بجسد الانسان المتأله…لأجلس عن يمين الآب في الملكوت.