تأمل في انجيل الانجيلي والبشيرلوقا (18: 18-27)
أن يدخل الجمل في ثَقْب الإبرة أيسرُ من أن يدخل الغنيُّ ملكوت الله
تتكرّر هذه الآية ثلاث مرّات في العهد الجديد: (متى ١٩: ٢٤)، (مرقس ١٠: ٢٥)، (لوقا ١٨: ٢٥)،
ومعناها العامّ استحالة دخول الغني ملكوت الله كاستحالة دخول الجمل خُرم الإبرة.
الشقّ الثاني من الآية، يشير إلى أن دخول الغنيّ ملكوت الله أمر عسير جدّاً، ولكنّه غير مستحيل. الخالق ليس ضد الغنى والثراء، فهو جعل سليمان الملك وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب وغيرهم من الأغنياء، المهمّ ّعبادة الله والاعتماد عليه، لا على المال والثروة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو
لماذا؟ نعرف أن في متّى ١٩: ١٦-٢٤ دار حوار قصير بين يسوع المسيح وشخص غنيّ.
هناك تحدّث يسوع عن البِرّ، فسأله رجل غنيّ “أيّها المعلّم الصالح، أيّ صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ ” فقال له يسوع: “إن أردت أن تدخل الحياة فأحفظ الوصايا”، قال له: “أية وصايا؟” فأجابه يسوع: “لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك وأحبّ قريبك كنفسك”.
ردّ الشاب الغنيّ: “ماذا يعوزني بعدُ، فكلّ ذلك حفظته منذ نعومة أظفاري؟”
قال يسوع: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِع كل ما لديك وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني.”
بعد سماع الشاب لكلام يسوع، حزن كثيراً لأنّه كان ثريّاً جدّاً واستهول التنازل عمّا له، عندها قال يسوع لتلاميذه: “الحقَّ أقول لكم، إنه يعسُر على الغنيّ دخولُ ملكوت السماوات، وأيضاً أقول لكم إنّه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت السماوات.”
وفي نهاية الإصحاح متى ٢٩: ٣٠ نقرأ: “…وكثيرون من الأوّلين يكونون آخِرين ومن الآخِرين يكونون أوّلين.”
لاحظ أنّه قال يكون لك كنز، ولم يقل حياة أبدية، إنّه يتكلّم عن مسألة الغنى وتركه، فإنه سيتمتّع في السماء بقدر أكبر بكثير، ممّا كان بحوزته على الأرض. هذا، لا يعني بالطبع، أنّ كلّ الأغنياء لا يستطيعون دخول ملكوت الله، بل أولائك الأثرياء الذين يظنّون أنّ ثروتهم العظيمة، بوسعها أن تُدخلهم إلى الملكوت.
في ايماننا المسيحي المستقيم الرأي ان دخول ملكوت السماوات ، كما هو معروف، يكون عن طريق الإيمان الحقيقي بالمخلّص يسوع المسيح الفادي، الذي بذل نفسه لمغفرة خطايا البشر أجمعين.
يسوع المسيح، منح نعمة الخلاص للمؤمنين مجّاناً. قارن مرقس ١٠:٢٣ “ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله”. القدّيس مرقس باع كلّ ما كان عنده وتبع يسوع، ونذكر أنّ الجمل من خلق الله، أمّا ثَقْب الإبرة فمن صنع الإنسان. بعبارة أخرى، الغنى ليس بحدّ ذاته إثم أو خطيّة، ولكن عبادة المال والثروة، بدلاً من الله، هي عين الخطية. وقد ورد في متّى ٦: ١٩-٢٤ ما يوضّح هذه النقطة، وجاء في النهاية: “لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين / ربّين لأنّه إمّا أن يُبغض الواحد ويُحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر / ويَرْذُل الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال”. الجمع بين حبّ الله وحبّ المال أمر مرفوض في ملكوت الله. لذلك فان برنابا باع حقله وطرح ثمنه عند اقدام التلاميذ لاعالة الاخوة المنكل بهم في اورشليم…
ذلك الشاب الغنيّ، الذي وجّه سؤاله للرب يسوع حول إمكانية الدخول إلى ملكوت الله، كان بمثابة المثل للأخلاق والأملاك، كما يقال، غِنى روحي وثراء مادي، فماذا ينقصه إذن؟ يفتقر دوماً إلى الله، إنّه فقير في ثرائه، ففي الغنى كبرياء وتعجرف. وقال القدّيس أغسطينوس، أسقف هيبو (٣٥٤-٤٣٠م) الكبرياء هي الحشرة الأولى للغِنى، إنّه العثّ المفسد الذي يتعرّض للكلّ ويجعله تراباً، وأضاف: التقوى مع القناعة تجارة عظيمة. كلّ الخيرات هي من عند الله، وهو يمنحها لمن يشاء وبوفرة.
الخيرات، في الأساس، ظاهرة صالحة، وقد منح الله الإنسان القدرة والفطنة على زيادة الخيرات من أجل رفاهية وخدمة الجميع، وليست كل الخيرات صالحة في نتائجها. مفهوم الصلاح مسيحياً، يعني كلّ شيء صادر عن الله، أبي الأنوار، والمستخدم من قِبل البشر من أجل الله (أنظر رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس ٦: ١٨؛ متّى ٥: ٤٢). إذ لا صالح سوى الله وحده! الغنى مسيحيّاً، لا يعني الاستغناء عن الله بل زيادة الاتّكال عليه، فالله وحده بمقدوره إدخال الثريّ إلى ملكوته، إذ غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله.
هل الغنى امر سيء؟
الغنى في ذاته ليس أمراً سيّئاً، إلا أنّه عبء ثقيل على صاحبه (أنظر مثلاً سفر الجامعة ٥: ١١-١٢؛ ١ تيموتاوس ٦: ٦-١١). يبدو أن الشاب توقّع من المسيح أن يجيبه: أُترك كتاباتِ موسى واتبع وصاياي. وكما قال القدّيس جيروم (٣٤٢-٤٢٠م) ما فحواه: ان بيع الإنسان كلَّ ما يملكه وتوزيعه على الفقراء والمساكين، هو ذروة الفضيلة (أنظر لوقا ١٢: ١٥، ٣٣؛ ١٨: ٢٢).
الله منح خليقته المال لتحيا حياة كريمة، وقال الربّ يسوع في أعمال الرسل ٢٠: ٣٥: “إنّ العطاءَ أعظمُ غبطةً من الأخذ”. ومن المعروف أن أغنياء كثيرين في الماضي، مثل نيقوديموس ويوسف الرامي وأليعازر وشقيقتيه مريم ومرتا وزكّا العشّار، ساروا على خُطى يسوع، ولم يطلب منهم التخلّص ممّا كان لهم من مال، بعكس ذلك الشاب الفرّيسي الذي أحبّ ماله أكثر من محبّته لله، وظنّ أنه بمقدوره الوصول إلى الحياة الأبدية ببرّه الذاتي.
باب ملكوت السماوات ضيّق، وقلائل هم الذين يحظون بدخوله، ذلك الباب هو في الواقع، الربّ يسوع المسيح، وهو مفتوح على مصراعيه للجميع: المتزوج والأعزب، الطفل والبالغ، الفقير والغني، رجل الدين والإنسان العادي. بعبارة موجزة، لا الفقر لذاته منقبة، ولا الغنى لذاته مثلبة، لابدّ من إيمان حقيقي بالمخلّص، مقرون بالعمل الصالح لنيل الخلاص، بنعمة ابن الإنسان.
خلاصة القول
العمل لوحده لا يكفي لدخول الملكوت وكذلك الإيمان غير العامل يكون ميتاً، لابدّ من إيمان وعمل صالح لدخول ملكوت السماوات.