دير النبي يونان البطريركي
دير اليونان
مقدمة في الرهبنة لابد منها
في سلسلة جبال بلودان الواصلة مابين سهل البقاع غرباً والقلمون الشرقي شرقاً مرورا بجبال صيدنايا بقمة الشيروبيم وجبال معلولا كانت تنتشر معابد عديدة ومزارات للآهة المتنوعة في العهود اليونانية القديمة ثم الرومانية ومع براءة ميلان التي اطلقها قسطنطين الكبير المعادل للرسل من ميلانو بايطاليا عام 314 مسيحية وفيها سمح للمسيحيين بحرية العبادة واوقف المجازر بحقهم انتشرت طريقة جديدة للتعبد الصوفي المسيحي هي الرهبنة بدأها القديسان انطونيوس الكبير وباخوميوس الكبير من صحراء مصر وانتشرت في ارجاء شرق الامبراطورية الرومانية…اي في بلاد الشام ومنطقة آسية الصغرى ولم تبق على مكان في الجبال والقفار والبوادي لم تشمله هذه الطريقة ومنها هذه السلسلة الجبلية الوعرة فقطنها الوف الرهبان فأقاموا مناسكهم وقلاياتهم المنفردة مع تجميع لهم في اديرة كان منها تلك المعابد الوثنية ومزارارات الالهة التي تم تحويلها الى اديرة جامعة لهؤلاء الرهبان النساك اقله في الصلوات المشتركة فكان معبد جبل يونان الروماني موضوع بحثنا هنا، اضافة الى معبد وثني كانت تقدم فيه الذبائح البشرية في ظهر جبل معلولا الغربي، وفيه اقدم مذبح للضحايا البشرية وتم تحويله الى دير سرجيوس وباخوس (مار سركيس)… الى معابد يبرود ومنها كنيسة البلدة الاثرية التي صار اسمها على اسم قسطنطين وهيلانة، الى معبد الضمير ودير العذراء في منطقة عدرا حالياً ومن اسم الديرحمل هذا التجمع السكاني اسم بلدة العذراء ومع تمادي الزمان تحولت التسمية الى تسمية العذراء الشعبية وهي عدرا فنقول متشفعين بها ياعدرا…
اضافة الى بناء عشرات الاديرة كالواقعة في منطقة صيدنايا دير الشيروبيم ومارتوما ودير سيدة صيدنايا ودير القديس جاورجيوس ودير القديس خريستوفورس ودير مار الياس في معرة صيدنايا وتحويل المزارات الوثنية في المنطقة الى مناسك مسيحية كاللولبة…ودير مارتقلا في معلولا…
الدير عموماً
الدير هو نبع ماء حيّ، يروي النفوس العطشى الى الروح، والمعذبة في صحراء الدنيا.
الدير هو قلب الكنيسة الذي ينبض ورعاً وصلاة ودعاءً وانسحاق قلب، انه عيش مشترك في بساطة وتواضع وخدمةٍ ومحبة، وحياة مع المسيح، وبالمسيح، وللمسيح.
تاريخية دير اليونان البطريركي
الاسم الشائع بين اهل بلودان هو دير اليونان والجبل اخذ اسمه من اسم الدير فيسمونه جبل اليونان…
كتب عنه الباحث الفرنسي بيير-لويس غانيه، والباحث السوري ابراهيم عميري من المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق بالفرنسية مايلي ادناه ونقله الى العربية السيد سيمون صيقلي نستخلص منه التالي
” اكتشف هذا المعبد الروماني لأول مرة عام 1872م على يد القنصل البريطاني في دمشق “ريتشارد بورتن” ومنذ ذلك الحين بقي هذا الموقع مهملاً ومتروكاً.
يقع دير النبي يونان أو مايسمى أحياناً “دير يونان” في جبال لبنان الشرقية على ارتفاع 2107 م على قمة جبل بين كتل صخرية ضخمة حيث يطل على سهول الزبداني وبلودان وسرغايا وعين حور، كما يطل على سهل البقاع اللبناني.
استطاع القنصل ريتشارد بورتن الذي كان يملك سكنا في بلودان ( سكن للاصطياف)، الوصول الى الموقع سالكاً الطريق الطويلة والوعرة انطلاقاً من بلدة عين حور وباتجاه اعلى الجبل حيث دير النبي يونان.
يذكر بورتن التقليد الذي يربط هذا الموقع نسبة الى شخص يدعى يونان الكتَّابي الذي تعود اليه تسمية هذا الموقع ب(دير النبي يونان)
“Le Monastere du Prophete Jonas”
وصف الموقع
يصف القنصل الموقع على أنه بقايا بناء مستطيل مع حائط طويل من جهة الشمال(8م،66سم) والى الجنوب يوجد سور المعبد ويبعد (1م،95سم).
كما استدل بورتون في الموقع على عدة أكوام حجرية وصف إحداها بكتلة من الإفريز. في حين أن الأكوام الأخرى هي عبارة عن أجزاء من أعمدة وأحجار زوايا، وأكوام حجرية جدارية للزينة، وعوارض أبواب حجرية.
بالإضافة إلى هيكل نذري (للنذور) محفور بكتابات يونانية. يوجد جنوب غرب البناء بئر جافة بعمق (4م، 87 سم)، وبالقرب منها وجد بورتن صليباً منقوشاً على صخرة. وقد لاحظ أن بعض حجارة المعبد الكبير
استُخدمت ليُصنع منها حجارة أصغر. وهذا يشير إلى أن المعبد قد تم تحويله الى كنيسة أو دير مسيحي، ويؤكد ذلك ارتباط اسمه بكلمة “دير”.
وكان من الواضح أن البناء الذي رآه بورتن مستطيلاً وموجهاً (غرب – شرق)، قد تحول إلى كنيسة في العصر البيزنطي الأول. وبدا ذلك من خلال سد الواجهة الشرقية للمعبد، وبناء الهيكل وفنح الباب من ناحية الغرب.
حيث يمكن تشبيه البناء الذي يصفه بورتن بالمعابد القروية الصغيرة كمعبد النبي حام، معبد عين حرشا، أو معبد الكنيسة التي تتقارب أبعاده مع موقع دير النبي يونان.
يذكر القنصل ريتشارد بورتن في كتاباته أن الدبلوماسي الفرنسي “جوليان جيرار دي ريال” قد قام بزيارة للمنطقة عام 1866، لكنه لم ير الموقع الأثري. وقد ذكر دي ريال الموقع تحت اسم “قصر يونان”، وبأنه ليس موقعاً يونانياً او رومانيا بل هو عبارة عن هيكل لشعوب المنطقة الأوائل او الأقدمين.
أيضاً ثمة مسافر افرنسي آخر، يدعى “دي سولسي”، كان قد مر بمنطقة عين حور عام 1851 قادماً من الزبداني قائلاً أنه قبل الوصول بقليل إلى أعلى القرية رأى من بعيد على منحدر الجبل حفراً لقبور بأعداد كبيرة، كما لوكانت مقبرة ضخمة لمدينة أثرية.
زار هذا الموقع ريتشارد بورتن، والقليل جداً من المسافرين وعلماء الآثار. وأنه من المؤسف التوقف عن استكشاف هذه المنطقة ونسيانها من قبل الأبحاث العلمية، ومايلي يعكس تماماً هذا الأسف، حيث لم يستقبل هذا الموقع الى اليوم أية زوار أو سياح.
قام الجيولوجي “لويس دو برتره” بالتقاط صور فوتوغرافية، لكتابات منحوتة. وهذه الصور تُعّدُّ الشاهد الوحيد على هذه القطع الأثرية التي لاوجود لها اليوم، والتي قام بتفسيرها عالم النقوش “موتيرد” حيث ذكر فيها:” لأجل سلام الأباطرة”، مايعني أن دير النبي يونان، هو دير روماني قروي من الحقبة الإمبراطورية، وهو مشابه للأديرة الرومانية الموجودة في القرى المجاورة على المرتفعات.
كانت رحلة المؤلفين”لويس غاتيه وابراهيم عميري” الى دير النبي يونان بعد الزيارات التي ذُكرت لهذا الموقع من قبل بورتن، دوبرتره وموتيرد… كانت مجرد زيارة قصيرة، وبالكاد استطاعوا التعرف على الموقع، وعلى ما تعرض له من خراب ومحاولات بحث عن كنوز ومقتنيات أثرية. حيث تعرفوا على بعض الأكوام الحجرية التي ذكرها بورتن في كتاباته، كحجر الإفريز وأحجار الزينة الجدارية، وجزء من عارضة حجرية من الإفريز تمتد باتجاه اليسار لتصبح مسطحة، يليها تراجع مشكلاً بروزاً.
كما يوجد أيضاً جزء من عمود وقطع خزفية.
وبسبب هذا التكدس للأحجار الكبيرة لم يتمكنوا من التعرف على المخطط الأساس لتصميم البناء المندرس.
تخصيص البطريركية الأرثوذكسية
سعت البطريركية بدمشق بتوجيه من مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع وبنتيجة حماس اهل بلودان والزبداني لاعادته كما كان منذ القديم الى حوزة الكنيسة الارثوذكسية، وبعد تقديم المستندات المطلوبة وطلب التخصيص الى رئاسة مجلس الوزراء في سورية، قامت رئاسة مجلس الوزراء في سورية مشكورة بتخصيص بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بمساحة تقارب العشرين دونماً للإشراف على دير النبي يونان الأرثوذكسي الأصل الواقع عليها، وقامت لجنة من أهالي المنطقة وبتكليف من ابينا مثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس الرابع بالاهتمام والاشراف على هذا العمل، مقسمين العمل على عدة مراحل، وكان حتى عام 2008 قد تم انجاز المرحلة الاولى من هذا المشروع الرهباني الحيوي الذي يعيد الى الأذهان ازدهار الرهبنة الأنطاكية الارثوذكسية الى محيط دمشق، هذه المرحلة الأولى كانت شق وتوسيع الطريق وذلك
بمساعدة كريمة مشكورة من وزارة الزراعة والهيئة العامة للمصالح العقارية، كما بوشر بالمرحلة الثانية بتسوير الأرض بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في ريف دمشق، وكان الدور الرئيس في هاتين المرحلتين للمحسنين الكرام من اهالي بلودان والزبداني.
ونظراً لندرة المال فقد كان العمل يتم بطيئاً ولكن في الوقت ذاته كان متقنا وبدأت المرحلة الثالثة بوضع الاساسات لهذا المشروع…
توقف المشروع اعتباراً من بدء الحرب الكونية على سورية وتمركز الارهابيين في هذه الجرود، والآن، بعد ان تم تحرير الزبداني وكل الجرود ومحيط الموقع ومحيط بلدة بلودان والجبال المحيطة بها من الارهاب والارهابيين، يتم الاعداد لمتابعة لمشروع في ضوء الاولويات والاحتياجات الملحة…
الخاتمة
نحن في فوجنا الكشفي الارثوذكسي زرنا الموقع عام 1968 سيراً على الأقدام وكنا مخيمين في اول بلودان ( وقد تغيرت معالم البلدة كلياً) ودام الطريق سيراً في الوعر ثلاث ساعات بدأناها في الساعة الرابعة فجراً ووصلنا اليها في السابعة صباحاً بدلالة دليل من شباب بلودان، وكان مشهداً ولا أروع لهذه الآثار التي رأيناها وكما وردت في وصف بورتن وكنا ننظر من الموقع الى سهل البقاع اللبناني…ثم اقمنا مغامرة كشفية سيراً جديدة لخرائب هذا الديرعام 1974فتعمقنا اكثر وخاصة انا في هذا الموقع وحيث دققت في حجارته المتداعية ولكن شعوري كان فياضاً نحو هذا الموقع الرهباني وبخاصة وأنا اسأل لم لايعاد بعثه من جديد؟؟؟
كانت رحلتان ومغامرتان من العمر تغلغلتا وخاصة الثانية منها كما اسلفت مع اشاعات ومرويات سمعتها من اهل بلودان عن هذا الدير وارتباطه العضوي رهبانياً مع دير القديس جاورجيوس في بلودان بلودان /كنيسة البلدة حالياً، سيما وانه اشيع عن اكتشاف جرس ذهبي وتمثال صغير من الذهب للبقرة…وتزداد المرويات والاشاعات عن الكنوز التي يحفل بها والتي لم يتم التأكيد عنها من اي مصدر وخاصة من الجهة المالكة وهي الهيئة العامة للآثار والمتاحف…
المهم في الأمر ان إعادة إحياء موات هذا الموقع الرهباني الارثوذكسي العريق، تعني الدعوة الى زيارته، من كل من يستطيع هذه الزيارة لتسبيح الله الخالق من هذا الموقع الفريد اولاً المشابه لدير الشيوبيم البطريركي في قمة جبال صيدنايا، كما فعلنا يوم زرناه ككشافة قبل نصف قرن مضى وسبحنا الخالق، لما للمكان من جمال طبيعي وروحاني يجعل الزائر يقف مذهولاً من هذه اللوحة الربانية التي خطها الله بيديه القدوستين ولهذا الدير الذي بنته قبلاً تلك الايادي الرهبانية الخالدة التي اختارت هذا المكان القفر والورع لتنفرد بعبادة الخالق، الامر الذي يدفعنا الى حمل المسؤولية مجدداً جميعاً بطريركية وشعب البلدتين الزبداني وبلودان الغيورين والغيورين المخلصين على التراث الرهباني الانطاكي والدمشقي العريق وخاصة القادرين على تقديم كل دعم سواء في الوطن او الانتشار، سيما والآن مع وجود نخبة من الاكليروس البطريركي هم من شباب المنطقة الغيورين على اعادة هذا الموقع وبعث مجده مجدداً وهم كان لهم الفضل في ماتم، وهي أمانة وضعها الله بين أيدينا جميعاً شاكرين للسلطات السورية ماقدمته من تسهيلات بدءاً من رئاسة مجلس الوزراء الى وزارة الزراعة والمديرية العامة للآثار والمتاحف…
الشكر اولاً واخيراً لأهالي المنطقة الغيورين، والرحمة لروح مثلث الرحمات ابينا البطريرك اغناطيوس الرابع الذي بجهده تم اعادة هذا الموقع للبطريركية صاحبته الشرعية…
وطول العمر لخلفه المعمار ابينا البطريرك يوحنا الذي لايألو جهداً مستطاعاً في اعادة بناء النفوس والحجر وكل مكان كانت ترتفع فيه الصلوات والبخور لله طاله الارهاب بالتدمير…وما اكثر الخراب الذي يحتاج الى بنوك مركزية للترميم واعادة البناء والتعويض عن المنكوبين وخاصة من ابناء كرسينا الانطاكي المقدس والمسيحيين المتضررين في بيوتهم وقراهم التي هُّجروا منها عموماً.
من المصادر
تجربتي الشخصية ومشاهداتي الميدانية…
العددان 7 و8 من النشرة البطريركية 2008