قلعة المرقب آبدة سورية خالدة…
من بين أكثر من 80 قلعة وحصناً أثرياً تنتشر على مختلف البقاع السورية، تحتضن محافظة طرطوس وحدها 14 منها نظراً لأن هذه البقعة تعرضت على مر العصور لغزوات خارجية عديدة فكانت حصن الدفاع الأول عن سورية بوجه الطامعين.
ووسط هذه القلاع التي تنتشر في المدينة وريفها تشمخ قلعة المرقب الواقعة على بعد 5 كم شرق مدينة بانياس والتي اعتبرها الباحثون الآثاريون إحدى أهم القلاع التي بنيت في العصور الوسطى في العالم بأسره، كما صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) قلعة تاريخية مهمة لاحتوائها على تراث إنساني عظيم وسجلت على اللائحة التوجيهية لليونيسكو.
تتميز قلعة المرقب بمنظر خلّاب يستوقف كل من رآها؛ وذلك بسبب رسوخها الشامخ كالجبال، تمتلك القلعة سوران، الأول هو الداخلي، والآخر هو الخارجيّ الذي يحتوي على أربعة عشر برجاً دفاعيّاً، وتتألف القلعة من العديد من المنشآت والمباني في الجزء الداخليّ منها كقاعة الفرسان، والقاعة الملكية، وكنيسة بُنيت في القرن الثاني، وخزّانات، وممرّات بين الأسوار، والأبراج، وأيقونات جداريّة فسيفائية ذات ألوان متعدّدة كأيقونات العشاء السري، وبولس الرّسول، وبطرس الرسول.
تسمية القلعة
عرفت قلعة المرقب من قبل اللاتين زمن الدولة الرومانية باسم “مارغت”، وفي فترة الدولة البيزنطية “مارغوتوم” وأطلق عليها العرب اسم “قلعة المرقب” حيث يقول ياقوت الحموي في “معجم البلدان” معللاً التسمية
“المَرْقَبْ بالفتح ثم السكون ثم بالقاف المفتوحة هو اسم الموقع الذي يرقب منه”
موقع القلعة
تقع القلعة على تلة مرتفعة كالعقاب في وكره، ولا يمكن للمسافر القادم من اللاذقية أو من طرطوس مهما كان على عجلة من أمره إلا تلفت انتباهه، وأن يتوقف مندهشاً حين يصل إلى مشارف مدينة بانياس الساحل ليشاهد بين سلسلة الجبال المشرفة على البحر جبلاً مغطى بالغابات والخضرة تنتصب فوقه قلعة ضخمة بشكل مدهش هي قلعة المرقب أميرة حصون وقلاع الساحل السوري.
ووصف أحد الرحالة الأجانب القلعة التي زارها في القرن التاسع عشر بقوله “المرقب أشبه بمدينة فريدة من نوعها تقع على صخرة كبيرة مشرفة على كل ما حولها يمكن الوصول إليها في حالة النجدة ولا يمكن الوصول إليها أثناء القتال إلا النسر والصقر وحدهما يمكنهما التحليق فوق أسوارها”.
توجد قلعة المرقب على مسافة خمسة كيلومترات من الجهة الشرقيّة لمنطقة بانياس الموجودة على الساحل السوريّ التابع لمحافظة طرطوس السوريّة، وتنحصر إحداثيات القلعة بين 35.151111° باتجاه الجنوب، و35.949167° باتجاه الشرق، وتحدّها من الجهة الشرقيّة جبال اللاذقيّة، ومن الجهة الغربيّة البحر الأبيض المتوسط، وتعدّ من المناطق الاستراتيجيّة، وذلك لأنّها محاطة بالجبال، والغابات الكثيفة، وخندق كبير، وبُنيت على تلّة يصل ارتفاعها إلى ثلاثمائة وسبعين متر فوق مستوى سطح البحر.
نبذة تاريخية
يعود بناء القلعة إلى عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد للمرّة الأولى كما يقول البعض من الآثاريين، وتمت عمليّة إعادة بناء القلعة مرةً أخرى بيد رشيد الدين الإسماعيلي، ونظراً لأهمية القلعة في ذلك الوقت استولى عليهاالفرنج خلال عام 1117م، ثم استولى عليها الإسبارتة، ثم السلطان قلاوون، وتتميّز القلعة بحصن كبير أي من الصعب احتلالها، وذلك لأنّه من الصعب الوصول إليها لارتفاعها الشاهق، حتى إنّ صلاح الدين الأيوبيّ، والظاهر بيبرس لم يستطيعا دخول القلعة.
ولكن حسب تقرير أعدته دائرة آثار طرطوس:” يعود بناء القلعة الى السكان المحليين للمنطقة سنة 1062م في اول الأمر”…
دام استيطان سكانها لها حتى عام 1104، حين وقعت بيد الروم البيزنطيين عام 1104م لفترة قصيرة، ثم استولى عليها العرب مرة أخرى وقاموا بترميمها مابين عامي 1116-1118م وبعد مفاوضات تم التنازل عن القلعة من قبل حاكم المرقب ابن محرز إلى أمير أنطاكية روجر مقابل مقاطعة أخرى، ثم تنازل عنها الأخير مقابل فدية إلى عائلة منصور.
–في العام 1170م تعرضت القلعة للزلازل واستهلك ترميمها مبالغ كبيرة أنفقت من قبل عائلة منصور. ثم تنازلت عائلة منصورهذه عن القلعة إلى الإسبيتارية مقابل مبلغ من المال وبذلك انتقلت ملكيتها إلى برنارد مارغت.
-في عام 1188 مر صلاح الدين الأيوبي من المرقب آتياً من شمال سورية ولكنه لم يهاجمها، ثم سير الملك الظاهر غازي سلطان مدينة حلب عام 601 هـ (1204-1205) حملة إلى المرقب خربت أبراج السور ولكنها انسحبت إثر مقتل قائد الحملة بعد أن قاربت من الاستيلاء على القلعة. وفي عام 1269-1271 قام العرب بمهاجمة القلعة مرة أخرى ثم كانت هدفا دائماً لحملات الافرنج الغزاة المتكررة التي اجتاحت الساحل الشامي واستمرت حوالي قرنين من الزمان.
الفرنج بفضل موهبتهم في بناء القلاع والحصون وكما في قلعة الحصن وبرج صافيتا وقلعة صلاح الدين… أضافوا عليها ابنية وحسنوها وحصنوها، وتتالت معارك الكر والفر عليها بينهم وبين المماليك خلال فترة حروب الفرنجة ومع سقوط قلعة الحصن المجاورة عام 1275 أجبر فرسان المرقب على التنازل عن جزء من أراضيهم مقابل عدم التعرض للقلعة إلى أن حاصرها السلطان قلاوون عام 1285م وحفر نفقاً تحت الواجهة الجنوبية ثم قصفها بالمنجنيق حتى انهار البرج الخارجي الجنوبي المعروف ببرج الأمل فاستسلم الإسبيتارية، حتى استملكها نهائياً السلطان المملوكي المنصور قلاوون في أيار وأخرجهم منها وكان ذلك عام1285م
بعد استملاك المماليك للمرقب ، صرفت مبالغ كبيرة لإعادة تحصينها وتأهيلها وتحصينها، فظهرت عليها بعض الإضافات الجميلة.
احتفظت القلعة بنفوذها في القرنين 14-15 حيث استخدمت كسجن وفي فترة الاحتلال العثماني تم إجراء تغييرات في القلعة لتلائم وجود الحامية العسكرية العثمانية، والتي سكنت القلعة فترة من الزمن…
ولكن إجمالاً يمكن التأكيد انه بعد خروج الغزاة الفرنج من المنطقة وانتهاء حملاتهم المتعاقبة، بدأت القلعة تفقد أهميتها وانعكس تضاؤل دورها في الفترتين المملوكية والعثمانية على انخفاض التحسينات المعمارية على بنيانها.
وإضافة إلى تضاؤل أهميتها العسكرية شكلت الزلازل عاملا كبيرا أثر على بناء القلعة والتي وقعت خلال أعوام 1202م و1404م و1752م و1759م و 1796م و1833م والتي سببت ضرراً بالغاً في بنيانها.
هندسة القلعة
وشكلها المعماري عبارة عن مثلث مساحته نحو 60000 م2 تتجه زاويته الحادة نحو الجنوب ويندمج حرفه مع الصخور المشكلة لجبل الأنصارية والتي كانت نقطة ضعف الموقع في الجهة الجنوبية.
كان السبب في زيادة التحصين عند هذه الزاوية الدائرية هو لصد الهجمات المتوقعة من ذلك الاتجاه.
أقسام القلعة
– سور خارجي
تتألف القلعة من سور مزدوج أحدهما خارجي والآخر داخلي لزيادة تحصين القلعة ومناعتها.
– القلعة الخارجية
تشمل كل الأبنية السكنية، والقلعة الداخلية التي تتضمن مجموعة الأبنية الدفاعية المحصنة بأبراج دائرية ومستطيلة يعلوها البرج الرئيسي، والتي تسيطر على مساحة واسعة تمتد إلى كل الجهات.
زودت اسوار القلعة بمرامي السهام والحجارة، ويحيط بالسور الخارجي من الشرق خندق عميق محفور في الطبقة الصخرية.
– القلعة الداخلية
هي عبارة عن بناء مستطيل الشكل تقريباً لها حلقتان من الأسوار تقع على الذروة الجنوبية للقلعة ويفصلها عن القلعة الخارجية قناة مائية عريضة في الجهة الشمالية من الحصن الداخلي.
مدخل القلعة
يتم الدخول إلى القلعة عبر برج البوابة الرئيسي والذي يمكن الوصول من خلاله إلى الحصن الداخلي مشكلا صلة وصل بين السوريين الداخلي والخارجي أما قاعات القلعة فموزعة في ابراجها.
كنيسة القلعة
هي أكثر الأبنية ارتفاعاً بين الأبنية المحيطة بالساحة الرئيسة، وهو بناء موجه باتجاه شرق غرب وبشكل طولاني كما هو حال معظم الكنائس، ومخططها شبيه بمخطط كنائس جنوب فرنسا من الفن القوطي العائد الى القرن الحادي عشر ويمكن أن نعيد بناء الكنيسة للربع الأخير من القرن الثاني عشر
المسجد
بني هذا المسجد بعد استرجاع المماليك لها من الفرنج.
إضافة إلى وجود العديد من الاصطبلات والمخازن والمستوعادت المنفصلة وغيرها
البرج الرئيس
وهو أهم بناء في القلعة ويعد أنموذجاً مثالياً للأبراج الدائرية التي أقيمت في القرن الثالث عشر حيث يبلغ قطره 21 متراً تقريباً.
يتكون من طابقين مع متراس دفاعي…والفخامة التي يتمتع بها هذا البرج من حيث الارتفاع والقطر وسماكة الجدران المجهزة تؤكد أن هذا البناء كان على الأغلب مخصصاً لقائد حامية القلعة.
اتفاقيات دولية
“مشروع اليورميد”
ونظرا لأهمية القلعة تراثياً ودفاعياً وطبيعياً فقد أدرجت على قائمة “مشروع اليورميد” التابع لاتحاد دول اليورميد وهي:” إسبانيا واليونان وسورية والبرتغال والجزائر ومصر” بهدف توثيق التراث الدفاعي لدول البحر الأبيض المتوسط والمحافظة على القيمة الاقتصادية والحضارية للمواقع الدفاعية المطلة على مسطحات مائية.
المديرية العامة للآثار والمتاحف
قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية بتنفيذ العديد من مشاريع الترميم والحماية منذ استملاكها القلعة عام 1959 م وتسجيلها أثرياً على لائحة التراث الوطني.
أعمال الترميم واعادة التأهيل
البنية الانشائية للقلعة
-المرحلة الأولى
بداية ركزت هذه المشاريع على معالجة المشاكل الإنشائية، وترميم المناطق الخطرة والمهددة للسلامة العامة، وترميم وإغلاق الفتحات الخارجية للقلعة، ونكش فواصل وتكحيل جدران، بالإضافة إلى عزل أسطح المباني للحد من تأثير العوامل الجوية عليها.
– تأمين مسارات الحركة فيها والزيارة من خلال تنفيذ حواجز حماية وتهذيب المسارات وتنفيذ تباليط حجرية للممرات.
– إعادة بناء الأدراج الحجرية، وتأهيلها للزوار، وترميم مرامي السهام وتنفيذ أعمال حفر وترحيل ردميات ترابية ضمن مباني القلعة، وذلك للوصول إلى السويات الأثرية واعتمادها في أعمال الترميم والتأهيل وإزالة الأشجار والأعشاب الضارة.
– كما نفذ عامي 2005و 2007م وعلى مرحلتين بقيمة تقريبية عشرين مليون ليرة سورية مشروع تأهيل وترميم تضمنت المرحلة الأولى منه إنجاز المخطط التوجيهي لقلعة المرقب مع كل الدراسات المتعلقة بالموقع ومنها الدراسات المتعلقة بالناحية المعمارية -الطبوغرافية – التاريخية – الجيولوجية- الجيوفيزيائية – المناخية وتقديم المخططات اللازمة لهذه الدراسات مع حلول تدعيمية لأربعة مباني خطرة إنشائياً ضمن القلعة.
المرحلة الثانية للترميم
تضمنت ترميم أحد المباني في القلعة وهو مبنى السرادق الشرقي حيث نفذ تدعيم مؤقت لسقف المبنى وإعادة بناء الواجهة الحجرية الجنوبية و الشرقية و تغطية مؤقتة للسويات الأثرية على السطح وتنفيذ عزل مع صبات ميول
– ركزت أعمال التنقيب في القلعة التي جرت في عام 2002 من قبل بعثة وطنية من دائرة اثار طرطوس على سطح برج البوابة الداخلي حيث توقفت أعمال التنقيب فيها حتى عام 2007 تلا ذلك تشكيل بعثة سورية هنغارية مشتركة مهمتها القيام بأعمال سبر وتنقيب انطلاقا من أهميتها التاريخية.
اهداف الترميم للبعثة السورية – الهنغارية
ومن الأهداف المهمة للبعثة تقديم القلعة بالصورة الأكمل من الناحيتين الثقافية والعلمية بعد تحديد ماهية ووظيفة كل الفراغات في القلعة ليصار إلى إعادة توظيفها واستثمارها بما يخدم الحركة الثقافية في المنطقة وإتاحة الفرصة لتدريب الطلاب السوريين والهنغاريين على العمل في مختلف الميادين.