الملكة ماوية السورية المسيحية الارثوذكسية
مقدمة
اعتنق سكان سورية الكبرى ومنطقة العربية المسيحية منذ مرحلة مبكرة جداً زمن بولس الرسول. الذي بشر في العربية بعد هروبه من دمشق، وفي التاريخ المسيحي يرد ذكر اساقفة المضارب، وكنائس الديار العربية. وفي تلك الحقبة كانت الخلافات المذهبية محتدمة فالأرثوذكسية أو المسيحية المستقيمة الرأي (الخلقيدونية التي لاتقبل بغير ان الرب يسوع بطبيعتين الهية وبشرية لاامتزاج فيهما ولا طغيان لواحدة على الاخرى، وبمشيئتين الهية وبشرية لاطغيان لواحدة على اخرى ) كانت تقف بمواجهة شراسة الهرطقات المسيحية المختلفة من أريوسية ومانوية ونسطورية ومريمية ولا خلقيدونية.
وقد كان لأساقفة انطاكية العظمى بمن فيهم اساقفة المضارب دور هام في النقاشات والحوارات الدينية والخلافات العقيدية التي كانت تدور في انطاكية والاسكندرية القسطنطينية وروما واورشليم من البطريركيات وفي المجامع المسكونية وخاصة الاربعة الأولى منها. وقد أظهر العرب نزعة شديدة نحوالاستقلال الكنسي والروحي، عن الدولة البيزنطية بالرغم من انها حامية الايمان الارثوذكسي الا من بعض الاباطرة الذين تأثروا بالآريوسية والنسطورية وباللاخلقيدونية بعد المجمع الخلقيدوني…
في خضم هذا الخلاف والسجال اللاهوتي حول طبيعة ومشيئة المسيح برز اسم ملكة عربية ارثوذكسية سجل لها المؤرخون والمصادر اليونانية انها وقفت بالقوة العسكرية في وجه طغيان الآريوسية متمثلة بالأمبراطور البيزنطي فالنس، فقد ذكرت بعض المصادر اليونانية اسم ملكة عربية حكمت في القرن الرابع، في جنوب سورية، وكانت تدين بالمسيحية الارثوذكسية، واسمها ماوية، وكانت تطالب بتنصيب أُسقف ارثوذكسي عربي اسمه موسى لشعبها، بعدما مارس الآريوسيون بحماية فالنس ابعاداً منظماً للأساقفة الارثوذكس حماة الايمان المسيحي القويم (الارثوذكسي) لدرجة الاضطهاد والقمع حتى الدم لوقوفهم ضد اريسة الكنيسة الرومية، وضد تسيد الآريوسية في الامبراطورية البيزنطية حامية الايمان الارثوذكسي القويم، وقد خاضت الملكة حروباً طاحنة مع الدولة الرومية لتحقيق هذاالهدف، حاربت البيزنطيين وشنت عليها حرباً مظفرة في فلسطين وفنيقيا عامي373 و378 ميلادية
تشبه قصة الملكة ماوية قصة الملكة زنوبيا التي تصدت لروما قبل مائة سنة.
فماوية وزنوبيا قامتان أُنثويتان قياديتان سوريتان حاربتا لأجل سورية بعد وفاة زوجيهما، وذلك في محاولةٍ منهما بالاستقلال عن الإمبراطورية الرومانية ثم الرومية آنذاك…
بداية لم يأخذ إمبراطور القسطنطينية ڤالنس الملكة ماوية على محمل الجد كما فعل سلفه الروماني مع زنوبيا ولم يكترث بها، ولكنّه قرر فيما بعد حشد جيوشه لمحاربتها. إلّا أن ماوية حققت نصراً كبيراً في كلٍ من جنوب سورية ومصر وفينيقيا وفلسطين، وهزمت الجيوش البيزنطية شرّ هزيمة. وذلك بفضل القوة المعنوية الروحية وصادق الانتماء والعزيمة التي كانت تتمتع بها، وجودة التدريب وبسالة المقاتلين العرب جيشها، ولأن هذه لم تكن أول مرّة تُذل فيها جيوش الإمبراطورية الرومانية على يد إمرأة، قرر ڤالنس عقد الصلح معها وإحلال السلام بين مملكتها وإمبراطوريته.
امتازت ماوية بالشجاعة والجرأة النادرتين، وتمتعت بالحنكة السياسية التي جعلت منها إمرأة قيادية متميزة في قيادة تلك المرحلة من التاريخ القديم لسورية.
السيرة الذاتية
في القرن الرابع المسيحي ،اشتهرت الملكة ماوية، Mavia . وكتب عنها معظم مؤرخي هذا القرن والقرن الذي تلاه، من امثال روفينيس وسقراط وسوزومين، بالاضافة الى ماوجد عنها في احجار القبور للشخصيات العربية التي دفنت في براري سورية، وقد رووا سيرتها على النحو التالي (1):
” كانت ماوية فتاة صغيرة السن، تعيش في احدى المدن المواجهة للصحراء السورية ،وعلى الارجح كانت مسيحية ارثوذكسية، سباها العرب اثناء احدى غزواتهم، فباعوها الى شيخ القبيلة، فتزوجها، ويبدو انها تعلمت الفروسية وفنون القتال عنده. ولما توفي زوجها بعد فترة قصيرة ، اصبحت ماوية ملكة على القبيلة، كانت ماوية قد قادت حملة لاحتلال اجزاء من براري سورية وفلسطين،واصطدمت بالرومان وقاتلتهم، وذلك في عام 343 لكن القتال توقف بعد حين وانتهى الى عقد سلام بين الطرفين في عام 376، وطالبت الرومان بالعثور على احد الرهبان الذي يدعى (موسى) والموافقة على اعتباره اسقفا على قبيلتها.”
ونرجح انها كانت من قبيلة سطيح التي جاءت من الجزيرة العربية الى سورية،التي كانت قبيلة تضم كثيرا من المسيحيين.” ثم انها زوجت ابنتها الى احد الضباط الرومان الذي يدعى فكتور. وقام الروم بارسال الراهب موسى الى الاسكندرية لكي توافق الكنيسة على تعيينه اسقفا على قبيلة ماوية العربية. كما ارسلت الملكة ماوية قوة مقاتلة لمساندة الرومان في قتالهم ضد هجمات (القوط) على القسطنطينية. وقد تكرر اسم ماوية في القرن الرابع، كما عثر على نقوش تذكر اسمها . ويذكر ان الملكة ماوية، هي غير ماوية زوجة الحارث ابو شمر، او الحارث الرابع من قبيلة كندة والتي كان فيها العديد من المسيحيين.(2)
أسلاف ماوية هم التنوخ
التنوخيون هم قبائل عربية شاردة هاجرت شمالاً من شبه الجزيرة العربية قبل قرن من ولادة ماوية…
اي ان ماوية تنتمي إلى تجمع قبلي عربي لخم أو تنوخ الذين كانوا يشغلون حيزاً جغرافياً يمتد في منطقة العربية، من جنوب مدينة حلب وصولا إلى عمق البادية السورية.
عند توليها الملك حوالي السسنة 375 مسيحية بعد وفاة زوجها الذي حكم حوالي 20 سنة، اتخذت ماوية مركزاً لها منطقة جبل الأحص الواقعة جنوب حلب وبنت في تلك المنطقة أبراجاً وحصوناً وقلاعاً. وقد يكون ثمة (ملوك عرب) آخرون لم يكشف عنهم بعد. على أن (الملوك) كانوا أصحاب سلطة على جماعات وقبائل قوية، لكن القبائل الأصغر كان صاحب الأمر فيها يسمى شيخاً وهؤلاء الملوك والشيوخ كانوا جميعهم مرتبطين بمعاهدات للإمبراطور البيزنطي. للقيام بواجبات معينة لقاء بدل مالي ولم يكونوا يتلقون “جراية” على نحو ما كان عليه الأمر أيام الإمبراطوريتين المتعاقبتين الرومانية والرومية، فالجراية هي المكافأة العينية التي كانت تغلب على العلاقات بين الإمبراطور وزعماء القبائل الذين كانوا يسمون “الأعوان”.
انتشار المسيحية في بلاد الشام
كانت المسيحية في القرون الأولى قد انتشرت في المدن والريف المجاور بداية وظلت بعيدة عن الريف، كما كانت القبائل العربية التي تقطن البوادي، اي حتى أبعد من الريف بالنسبة للدين الجديد. لكن في القرن الرابع أخذت المسيحية تنتشر بين القبائل العربية. ويعزو الباحثون ذلك إلى انتشار النساك والرهبان بين هذه القبائل،وإلى التواصل التجاري بين المدن والارياف وإلى الرغبة في الحصول على امتيازات خاصة من الدولة البيزنطية التي اطلق فيها قسطنطين الكبير براءة ميلانو السنة 313مسيحية واباح بها حرية العبادة في امبراطوريته للمسيحيين واوقف المجازر الوحشية بحقهم .
تمسكها بأرثوذكسيتها
كانت ماوية عربية الأصل بنت البادية، ارثوذكسية المعتقد، وكان زوجها ملكاً على مجموعة من القبائل العربية لعلها (المجموعة) كانت اتحاداً لخميّاً – تنوخياً قوياً، (على نحو ما كان عليه امرؤ القيس (ملك كل العرب) المتوفى سنة 328م) ولما توفي زوجها تولت ماوية زعامة هذا الاتحاد، ويبدو أنها كانت ملكة حقيقية في حياة زوجها، وإلا لما كانت لتحصل على هذا اللقب من الإمبراطور البيزنطي لأن المعاهدة المعقودة بين الملك والإمبراطور كانت قد انفصمت عراها بوفاة الأول. ولم تجدد المعاهدة بعد ذلك، إنما ماوية الأرثوذكسية اغتنمت الفرصة وثارت على الإمبراطور فالنس الآريوسي وجيشت شعبها ارثوذكسياً ضد بدعته، ومن ثم فقد اعتبرتْ عملها هو ثورة ضد ظلم، ولم يكن عصياناً على معاهدة وضد الإمبراطور، وهذا هو السبب في عدم إقدامها على تجديد المعاهدة.
كان أسقف مضارب العرب تيموثاوس قد توفي في وقت قريب من – إن لم يكن متزامنا تماما – موت الملك (زوج ماوية). وكان فالنس يدين بالأريوسية لذا فقد أقصى عدداً من الاساقفة الارثوذكسيين من رعاة الكرسي الانطاكي، ونفاهم إلى فلسطين الأولى والولاية العربية ومصر واضطهدهم، وعيّن مكانهم أساقفة أريوسيين من أتباعه.
اتخذت الثورة والحرب التي شنتها ماوية في الفترة الواقعة بين 375 و378م، شكلين مختلفين من القتال. كان الأول على ما يسميه العرب “غزوات” أي الهجوم السريع على بلدات أو مدن قد تكون حتى محصنة، ولعل القصد منها كعادة القبائل العربية كان الكسب أو النهب. إلا أننا نرى من دراساتنا لمثل هذه العمليات بين أهل البادية والمدن، طيلة الفترات الهلنستية والرومانية والرومية أن القصد قد يكون إثارة الأماكن الهادئة لدعم الثورة، وليس الغزو بقصد السلب والنهب، الذي أساساً لم تكن تمارسه القبائل العربية المسيحية وتعف عنه لأنه يتنافى مع تعاليم المسيحية التي تدين بها. ونرى أن ماويَة كانت في هذه الهجمات توجه الأنظار إلى سبب هذه الهجمات، والى موقف الإمبراطور الأريوسي من المذهب الأرثوذكسي وتعتبر نفسها حامية للمذهب الارثوذكسي. سيما وأن الغزوات هذه لا يذكر المؤرخون أنها كانت تفيد ماوية كثيراً فيما يتعلق بالأسلاب فهي تعف عنها. وعلى كل فبعد هذه الغزوات التي لا نعرف مداها تماماً انسحبت ماوية إلى ما وراء الحدود. ونحسب أن هذا كان للاستعداد للحملة الكبيرة التي شنتها ضد الدولة والتي انتصرت فيها.
الثورة الاولى
هذه الحملة أرّخ لها كثيرون من أهل القرنين الرابع والخامس الميلاديين (وفيما بعد). والطريف في الأمر هو أن المؤرخين الكنسيين كانوا أكثر اهتماماً بها من المؤرخين العاديين أو حتى العسكريين، وهذا فيه دلالة على أن القوم رأوا فيها صراعا لا هوتياً بين فئتين من أتباع الكنيسة المسيحية، وأن ماويَة كانت تتزعّم الفريق الارثوذكسي وفالنس كان على رأس الفريق الأريوسي، ويجدر بنا أن نشير إلى أمر حري بالاهتمام. فإذا كان الأمر بلغ حد الثورة والقتال بينهما كفريقين، فمعنى ذلك أن الشرخ بين الفريقين كان قويا وعميقا.
لم يستطع دارسو ماكتبه الكتّاب المعاصرون للثورة ولا اللاحقون من التأكد من أمرين: الأول زمن وقوع الحرب – كثورة ومعركة رئيسة – على وجه الدقة. ومن هنا فإننا نؤكد، للتذكير، أن المعركة وقعت بين سنتي 375 و378 مسيحية، والأمر الآخر هو موقع المعركة الرئيسة تماماً. لذلك يحتم علينا أن نفيد من النتائج التي توصل إليها الباحثون، فالآراء التي يمكن عرضها في هذه العجالة تدعونا إلى النظر في أمور عدة، يمكن إجمالها فيما يلي
1- إن ماوية سلطت ضربتها ضد الجزء الأقل تحصينا في الشرق
كان هذا يشمل فينيقيا(الساحل السوري) وفلسطين الثالثة والطريق إلى مصر عبر السلّم العربي الواقع شرقي الدلتا والمرتبط بفلسطين الثالثة من جهة الغرب. فضلا عن ضعف التحصين والحماية في هذه المنطقة الواسعة، فإن جزأين منها كان فيهما عنصر عربي قوي
الجزء الأول فينيقيا، التي لجأ إليها عدد كبير من أهل تدمر بعد تدميرها على يد الإمبراطور الروماني أورليان سنة 273م.
الجزء الثاني في شرق الدلتا وسيناء والجزء المصاقب لهذه من فلسطين الثالثة.
فضلا عن ذلك فإن المقاومة في هذه النقطة كانت ضعيفة.
2- اختراق الحدود للوصول إلى أرض المعركة بالذات
كانت ماوية وهي التي شاركت زوجها الحكم وتمرّست بشؤون المنطقة على نحو ما قامت به زنوبيا سابقتها في الثورة والقتال في القرن السابق، تعرف تماما الأماكن الصالحة لاختراق الحدود الرومانية. وأدركت يومها أن نقطة اتصال فينيقيا بفلسطين الأولى قرب الجولان هي الأنسب للنفوذ.
3- ثمة شبه إجماع بين الذين درسوا، لا الذين تصفحوا، المظان الأصلية أن المعركة بالذات وقعت في فينيقيا على مقربة من المكان الذي تم الاختراق فيه (حول منابع الأردن).
حري بالذكر أن ماوية قاتلت جنود الإمبراطورية في معارك متعددة، وكان نجاحها فيها مما زاد في طموحها وأدى إلى تنظيم شؤون الجيش البيزنطي استعدادا للمعركة الفاصلة. وهكذا جمع قائد العسكر في فينيقيا وفلسطين الأولى قواته واشتبك في معركة مع عسكر ماوية، ويبدو أنه هزم. ومن ثم رأى بأنه يستنجد بالقائد العام لقوات الشرق يوليوس (الذي تولى هذا المنصب من 371 إلى 378 مسيحية). واعتزم هذا على قتال ماوية بمفرده، فأمر القائد المحلي، وهو تابع له، أن يتنحى جانباً، وحمل هو على جيش ماوية حملة عنيفة، لكنه بدوره فشل في حملته هذه، ولم ينقذه سوى الشخص الذي طلب منه التنحي، والذي سهل للقائد العام سبل التراجع، فيما دبر هو أمر التراجع، وأطلق على العدو الذي كان يحيط به سهامه.
كان ثمة انهزام للجيش الإمبراطوري بلغ حد الكارثة. طلب البيزنطيون الصلح، فكان لهم ذلك، على أن يُشرطن موسى، الناسك الأرثوذكسي أسقفا لشعب ماوية. وقد تم له ذلك على أيدي الاكليروس الأرثوذكسي الذين كانوا منفيين في فلسطين ومصر.
يقول سوزومنوس الذي كتب عن المعركة بعد نحو سبعين سنة (إن هذه الحادثة لاتزال قائمة في ذكرى الناس ولايزال الشرقيون أي العرب يحيونها بالغناء). ابنة ماويَة وفكتور كان لماوية ابنة صبية تجيد الفروسية. وهي بطبيعة الحال عربية (ولو أن الإشارة إليها أنها كانت سراسينية على ما درج عليه بعض المؤرخين يومها من خلط بين الكلمتين أو من رغبة في الحط من شأن العرب). وكانت ابنة ملكة معاهدة ولم تكن مواطنة رومانية. وكان ثمة قائد الفرسان في الدولة البيزنطية رجل في الستين من عمره (لعله كان عازبا أو أرمل). هذا الرجل المواطن الروماني، والذي تولى واحداً من أرفع المناصب في الإمبراطورية قرابة عشرين عاما (363-382) والذي كان مثل ماوية مسيحياً أرثوذكسياً مؤمناً إيماناً قوياً بالأمرين. وقد تزوج قائد الفرسان في الشرق هذا ابنة ماويَة.
السؤال هل كان وراء هذا الزواج مصلحة لأحد الفريقين?
الجواب إن كان ثمة مصلحة فهي لماوية. كان الرجل صاحب منصب كبير، وكان، له على ما يبدو، أثره الكبير في شؤون الدولة في أيام فالنس.
– هل كانت له يد في إقناع فالنس في تجديد المعاهدة بعد انتصارات ماويَة في الهجوم العام وفي المعارك?
يبدو أن الجواب إيجابي.
– هل كان يستطيع بنفوذه أن يوثق المعاهدة عمليا?
الجواب أيضا إيجابي.
والسبب أن الرجل كان محترماً في البلاط البيزنطي، إذ عمل مع أربعة أباطرة قبل فالنس. يضاف إلى ذلك، أن الرجل الذي كان أرثوذكسياً وقد عمل مع إمبراطور اريوسي هو فالنس، وعمل ايضاً مع خلفه الامبراطور الارثوذكسي العظيم ثيوذوسيوس الأول او الكبير387مسيحية.
البعض يقع في هذا الشرك، إذ يعتبرالأخيره كذلك اريوسياً وهذا محل نظر ومرفوض، فصحيح ان قسطنطين الكبير اعطى حرية العبادة للمسيحيين وذلك بتأثير من امه القديسة هيلانة، لكن ثيوذوسيوس الكبير هو من فرض المسيحية وبلبوسها الارثوذكسي، وليس الآريوسي، ديناً وحيداً للدولة الرومية، وصادر معابد الوثن وأوقافها، وحولها الى كنائس ارثوذكسية وهذه الاوقاف لخدمتها والانفاق عليها، ومنها كانت كاتدرائية دمشق- كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان ( التي صادرها الوليد بن عبد الملك 705مسيحية وحولها الى الجامع الاموي )، وأعاد بناء كاتدرائية آجيا صوفيا التي بناها سلفه الامبراطور قسطنطين الكبير، وتداعت نتيجة حريق هائل ضربها.
قائد الفرسان هذا ايضاً عمل قبلهما مع إمبراطور مرتد إلى الوثنية (يوليان) وظل في وظيفته بسبب ما اكتسبه من خبرات في ميادين القتال والسياسة، وبسبب تمكنه من خدمة الدولة والكنيسة في وقت واحد، فإن مثله عند ماوية يمكن مصاهرته للاحتماء بقوته ونفوذه، خاصة أنه من المرجح أن فكتور هو الذي أقنع فالنس بعقد الصلح مع ماويَة على شروطها. على أن المؤرخ عرفان شهيد اكتشف في الزواج شعلة حب. وعلى ما كانت عليه العلاقات والمعاهدات العربية – البيزنطية من قوة أيام فكتور وعلى يده، إذ أضاف إلى المعرفة العميقة بالأمور والخبرة العملية في شؤون الفريقين، الرغبة الصادقة في مصلحة الفريقين البيزنطيين والعرب من جهة واحدة، والكنيسة والدولة من جهة أخرى.
كان فارساً خبيراً أميناً مجرباً مخلصاً. فإذا كان الزواج لغاية سياسية من وجهة نظر ماويَة، فقد كان أيضاً لمصلحة الجميع في هدفه.
الثورة الثانية
قضى فالنس حرقاً بيد القوط في احدى معاركه في البلقان، فخلفه على عرش بيزنطة الأمبراطور ثيوذوسيوس الأول (379-395) الذي جاء من إسبانيا، والذي لم يكن يعرف أي شيء عن الشرق أو العرب. فلا هو سكن بينهم ولا قاتلهم. ولعل الأمر الذي كان قد نُقل إليه بعد توليه الحكم هو أنهم كانوا أعداء للدولة البيزنطية، بدليل معارك ماوية مع سلفه، هذا مع العلم أن بعض أفراد فرقة الفرسان العربية من جيش ماوية التي أرسلتها للدفاع عن القسطنطينية في وجه القوط الذين حاصروها وقد أكَّدَّ مؤرخ معاصر انهم من حسم أمر انتصار القسطنطينية على القوط، هؤلاء الفرسان العرب كانوا مازالوا يقيمون في العاصمة. ثم إن لابينوس الفيلسوف الوثني أثار قضية مقتل الامبراطور يوليان (363) المرتد للوثنية، واتهم العرب بذلك.
لابينوس هذا، الذي اعلن اعتناق المسيحية صورياً، وفي الواقع بقي وثنياً، جاء بعد تولي ثيوذوسيوس العرش بقليل. فضلا عن ذلك فلم يكن للعرب في البلاط الجديد ولا في إدارة الشرق أنصار. فقد طغى العنصر الجرماني على الوظائف الإدارية وحتى العسكرية، لا في البلاط القسطنطيني وحده بل حتى في الولايات الشرقية. ونود نحن أن نوضح أمراً آخر مهماً لعله كان من مخبآت الشعور النفسي وهو أن البيزنطيين الرسميين على الأقل كانوا يضمرون بعض الحقد والضغينة للعرب بقيادة ماوية الذين استطاعوا أن يكسروا جيوش القسطنطينية بالرغم من انتصارهم لها في سحق الحصار القوطي. لذلك لما جاء ثيودوسيوس لتجديد المعاهدة مع العرب، حسب النظام القائم يومها لم يكن منصفا في ذلك (وفق المؤرخين). ففيما منح القوط شروطاً ايجابية خاصة، فإنه لم يعط العرب مثلها. هذا مع أن العرب مسيحيون أرثوذكس ولم يكن القوط مثلهم إذ كانوا وثنيين!!! ولا نعلم في ضوء المؤرخين المعاصرين الذين اكدوا على وثنية القوط وقتئذ، لانعلم حقيقة كيف اقتبلهم ثيوذوسيوس في مدينته التي ومنذ قسطنطين لم يعش فيها اي وثني ولا معبد وثني ولا اي طقس وثني كما اراد قسطنطين المعادل للرسل،لأنه اراد القسطنطينية ” مدينة الله العلي”، وثيوذوسيوس هوالأمبراطورالارثوذكسي المكين جداً الذي فرض المسيحية الارثوذكسية ديناً رسمياً للدولة، فكيف يستوي الامران؟؟؟.
لا جواب لدينا!!!
وفي سنة 381 عُقد المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية ولم يدع أي أسقف من اساقفة العربية إليه، مع أنه كاد أن يكون وقفاً على الأساقفة الشرقيين. ولم ينل العرب أيّا من المناصب التي شحنها ثيوذوسيوس بالقوط الجرمان، حتى ولا الصغير منها، هذا مع العلم أن العرب حاربوا إلى جانب الدولة ضد القوط سنة 378 ونصروها. كما أن العائدات المالية للعرب أنقصت.
ومن ثم وفقاً لهذا الواقع (الذي نشك بأمره في ضوء تأكدنا من أرثوذكسية ثيوذوسيوس الكبير) يمكن القول بأن الجو الإمبراطوري لم يكن مؤاتياً للعرب.
لذا قام العرب بثورة ثانية ضد القسطنطينية. والمرجح أن يكون ذلك قد حدث سنة 383مسيحية (وقد تكون بوادر الثورة قد بدت طلائعها قبل ذلك). وهنا يجدر بنا أن نذكر أن العلاقات بين بيزنطة وفارس في هذه الفترة كانت سلمية (في زمن الثورة الأولى كانت الحرب شبه مستمرة)، ولم يكن العرب الآخرون معنيين بالأمر. وأهم من ذلك كان الحد القوطي في تراقيا هادئاً. فكان من المتيسر توجيه ضربة قاسية ضد العرب (التنوخيين – اللخميين) انتهت بانقصام ظهرهم.
كان فكتور قد انتهى عمله العسكري وغادر إنطاكية، عاصمة منصبه كقائد للفرسان. والذي تولى مكانه، والذي كان المشرف على قتال العرب هو ريشومر، وهو جرماني وثني، فلعله بذلك قاتل العرب من زاويتين
الاولى انه القائد الجرماني للدولة البيزنطية، والثانية بصفته الرجل الوثني الذي لم تكن المسيحية تعني له شيئا هنا (وهو لم تعن له شيئا في العاصمة أيضا). وحري بالذكر أن الثورة الثانية، التي كانت بقيادة ماويَة أيضاً، كان مسرحها المنطقة نفسها التي كانت مسرح القتال الأول، ولعل الفرسان والقوات المقاتلة البيزنطية كانت قد عرفت أسلوب القتال المناسب لتلك المنطقة فاستعدت للأمر. ويبدو أن العرب كانوا أضعف أيام الثورة الثانية منهم أيام ثورتهم الأولى. واغتنم أولو الأمر في العاصمة المناسبة فأنزلوا العقاب بالمكسورين، بدلا من إعادة الأمور إلى نصابها، وكان في ذلك القضاء على هذا التحالف الكبير.
الخاتمة
إن التحالف الذي تزعمه اولاً “الملك المجهول” وزوجته الملكة ماويَة بعده، انحلت عراه بحكم الهزيمة التي أصابته. ويبدو أن بعض الجماعات التنوخية، وهي القسم الأهم في التحالف، عادت إلى أراضي الدولة الفارسية التي كانت قد جاءت منها من قبل لخلاف مع الملك شابور الأول الفارسي (241-272). أما اللخميون فيبدو أنهم دخلوا أيضاً أراضي الإمبراطورية الفارسية وأصبحوا، فيما بعد، سادة الحيرة وعملاء فارس عليها. والجماعة المعاهِدةْ التي خلفت جماعة ماويَة كانت بنو صالح، وهم الذين أصبحوا المعاهدين مع بيزنطة في القرن الرابع.
يبدو أن بيزنطة تنبهت إلى ناحية مهمة جاءتها من انهزامها على أيدي شعب ماويَة، ذي الاتحاد اللخمي – التنوخي الكبير، في المعركة الاولى وحتى في المعركة الثانية، فلم تسمح لبني صالح بأن تتسع رقعة نفوذهم، ومن ثم فلم يكونوا قوة مركزية كبيرة. بل ظلوا جماعة أصغر من التحالف التنوخي اللخمي كي يسهل التعامل معهم. أما ماويَة فيبدو أنها اعتزلت الحياة العامة ولعلها انضمت إلى واحد من المؤسسات المسيحية الارثوذكسية فقضت حياة عبادة وخدمة للمجتمع. وهناك نقش يوناني يعود إلى سنة 425 عثر عليه على مقربة من خناصر، في شمال سورية، ورد فيه اسم ماويَة وعزي فيه إليها أنها عملت على بناء صرح القديس توما.
تقول المستشرقة الروسية نينا فكتورفنا عن ماوية العبارة التالية
” لا يمثل تاريخ ماوية سوى حلقة من سلسلة العلاقات التي ربطت العرب بالامبراطورية “.
وكانت سياسة الإمبراطورية موجهة نحو إحلال الوفاق ما أمكن مع القبائل العربية وربطها بمعاهداتٍ واتفاقياتٍ تجعل منهم حلفاء حتى يكونوا في وضع يمكنهم من تقديم العون لها في كفاحها مع البرابرة الآخرين “. أي استخدام البرابرة العرب ضد البرابرة القوط والهون والآفار والفرس وغيرهم.
لقد كانت ماوية ملكة عربية لم يترك التاريخ لنا الكثير عن سيرتها، قادت شعبها في ظروف حساسة من أجل الدفاع عن حقهم في الإستقلال الروحي وربما السياسي ولعبت دوراً حاسماً في الدفاع عن القسطنطينية وإنقاذها بعد أن خسر إمبراطورها المعركة، فخدمت أمتها وعقيدتها فسطرت لأمتها صفحات من المجد خلدتها.. أو كادت.
حواشي البحث
(1) فؤاد يوسف قازنجي قناة عشتار
(2) المصدر ذاته
مصادر البحث
– كتاب تاريخ كنيسة انطاكية د.اسد رستم
– قناة عشتار- الملكة ماوية المسيحية السورية
– صفحات من التاريخ الحقيقي لسورية
– ابعاد قيادية
– نساء سوريات