سؤال لاهوتي…
إن كان المسيح هو الله، فمن هو إبن الله الذي يجلس عن يمين الآب؟
الجواب
إنّ طبيعة الله ثالوثيّة، آب وابن وروح قدس. الآب هو الله، الابن هو الله، الرّوح القدس هو الله.
لا نتكلّم هنا عن ثلاثة آلهة، لا، إنّما عن إله واحد في ثلاثة أقانيم وواحد في الجوهر. أي أنّ الإبن هو واحد في الجوهر مع الآب ومع الرّوح القدس أيضاً. لا توجد لحظة في الزّمن كان فيها أقنوم دون الآخر.
ولكن، مهما سمت الكلمات البشريّة تبقى عاجزة، لا بل محدودة، في التّعبير عن الألوهة، لهذا تبقى الكلمات تشبيهيّةً بشريّة.
نقرأ مثلًا في الظّهور الإلهيّ
“فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ” (متى ١٦:٣). لنلاحظ التّشبيه ” مِثْلَ حَمَامَةٍ”.
كذلك نقرأ في العنصرة مع التّلاميذ عندما حلّ عليهم الرّوح القدس
“وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ” (أع ٢:٢-٣).
وهنا أيضًا استعمل العنصر التّشبيهيّ: “كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ”، “كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ.”
– الرّبّ يسوع المسيح هو ابن الله
دُعي الرّبّ “ابن الله” كما جاء على لسان بطرس الرّسول مثلًا (متى ١٦:١٦). وأيضاً “ابن الإنسان”، و”ابن المبارك”، و”ابن داود”، و”يسوع”، و”المسيح”، وكلّها تصبّ في المعنى ذاته.
” فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاء” (مرقس ٦١:١٤-٦٢)
جواب الرّبّ يسوع هذا يؤكّد أنّه هو الشّخص المعنيّ، وأنّ ابن المبارك هو ابن الإنسان، وذلك للدّور الخلاصيّ الّذي يتمّمه ابن الإنسان (دانيال ١٤:٧). وهذا ما جعل رئيس الكهنة يمزّق ثيابه قائلًا:
“مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ!” (مرقس ٦٣:١٤-٦٤)
فإذا كان الأمر مختلطًاً عند اليهود، يأتي الرّبّ يسوع المسيح ليقول إنّه لا خلاص إلّا به، وكلّ الألقاب والتّسميات تصبّ فيه.
اسم يسوع معناه “الكائن” أي “الله”، وفعل “يشع” يعني يخلّص، فيصبح معناه “الله الّذي يخلّص.”
وهذا ما قاله الملاك ليوسف خطيب مريم:
“فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ” (متى٢١:١)
من هنا نشاهد هذه الأحرف اليونانية OWN / οων / ΟΩΝ على أيقونات الرّبّ يسوع، وهي تعني “الكائن”.
كذلك، تعني كلمة المسيح “الممسوح بالرّوح القدس”.
– ابن الله الّذي جلس عن يمين الله
يشرح ما أعلنه رئيس الشّمامسة وأوّل الشّهداء استفانوس، قبل استشهاده، بوضوح تامّ المعنى الخلاصيّ والرّباط الجوهريّ العميق بين الرّبّ يسوع المسيح الله المتجسّد وابن الإنسان الذي هو نفسه ابن الله والمبارك.
“شَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: “هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ”” (أع ٥٤:٧-٥٦)
ملاحظات
1- لا يتكلّم النّصّ الإنجيليّ هنا عن يسوع وابن الإنسان كشخصَيْن مختلفَيْن بل كشخصٍ واحد.
2- “وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ ” (تيموثاوس الأولى ١٦:٣).
إنّ ظهور الله في الجسد، أي صيرورته إنساناً مع الحفاظ الكامل على ألوهيّته (طبيعة إلهيّة كاملة وطبيعة إنسانيّة كاملة دون أن تلغي الواحدة الأخرى)، أعطى المعنى الكامل لكلمة “ابن” الواحد مع الآب في الجوهر.”
3- “الجلوس عن اليمين” هي آية تفتتح المزمور١١٠: ” قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: “اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ.”
وبهذه الآية تحديداً أفحم الرّبّ يسوع أحبار اليهود، إذ ” وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ قَائلاً: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً؟ قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ البَتَّةً.” (متى ٤١:٢٢-٤٦)
أخذت هذه الآية مداها بعد تجسّد الله وصيرورته إنساناً وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السّماوات.
4- الآية “هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً”، التي أتى على ذكرها الشمّاس استفانوس، تربط الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد. فقد افتتح حزقيال سفره فيها، ونقرأها في سفر الرّؤيا: “ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ” (رؤ ١١:١٩)
فإنّ رؤية إشعياء للسّيّد جالساً على كرسيّ عال ومرتفع (إش ١:٦) والتي تعني الرّبّ يسوع المسيح قبل تجسّده هي نفسها التي ذكرها استفانوس لأنّ “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا” (يوحنا١٤:١)، و”فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ” (يو١:١).
وقد عمد الرّبّ يسوع أن يُفهم اليهود ألوهيّته لكنّهم لم يدركوا كلامه:
«فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ.” (يو٢٥:٨)، كما أشار عن نفسه أنّ:” أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»” (يو٥٨:٨)
حتّى أنّ هذا الموضوع الثّالوثيّ صعب على التّلامذة أنفسهم ممّا استوجب قول الرّبّ لهم: “أنَا وَالآبُ وَاحِدٌ” (يو ٣٠:١٠)، و”اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ” (يو٩:١٤)، “أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ” (يو ١١:١٤)
وفي مكان آخر حدث تذمّر من اليهود وتراجع من بعض التّلامذة عندما قال يسوع عن نفسه:
“أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ” (يوحنا٥١:٦)
صحيح أنّ الابن مولود من الآب لكنّها ولادة أزليّة، وهو واحد مع الآب في الجوهر والأزليّة وعدم الابتداء.
والرّوح القدس منبثق من الله الآب بمعزل عن الزّمن، وهو أيضاً واحد مع الآب والابن في الجوهر والأزليّة وعدم الابتداء، ثالوث واحد في الجوهر وغير منقسم، واحد في الألوهة ومثلّث الأقانيم.
وقد حرص الآباء على القول “إنّ الثّالوث هو شركة محبّة لا متناهية”، ولم يُعلن الله نفسه ثالوثيّاً من دون سبب، إذ نحن مدعوّون أن نعيش شركة المحبّة هذه على ما قال القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ
فهذا الكشف الإلهيّ هو نموذج للحياة الإلهيّة والوحدة في المحبّة، وليس نموذجاً خارجيّاً بل حياة أعطيت لنا بالمعموديّة والإفخارستيّة لنعيش بها ونحقّق وحدة الإنسانيّة بالمحبّة الباذلة، حيث كلّ ما لي هو لك، كما أنه كلّ ما للآب هو للابن ولروحه القدّوس. هذا تجاوزٌ للأنا دون انمحاء الشّخصيّة.
سر الخلاص
هذا هو سرّ الخلاص، أي أن نعرف أنّ الله محبّة، وهي محبّة ثالوثيّة واحدة وباذلة وليست محبّة شِعريّة أو كلاميّة فقط، وقد “بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كلّ من يؤمن به، وهو الذي جلس عن يمين القدرة لأنّه واحد معها.”
نهايةً، هذا الأمر ليس بالسّهل، وقد أكّد الآباء القدّيسون عن عجز العقل الإنسانيّ والمنطق البشريّ عن تحليل الثّالوث القدّوس، وشدّدوا على إدراكه بالإيمان والصّلاة والاتّضاع وإخلاء الذّات والدّخول بعلاقة مباشرة مع الله لنَعي هذه المحبّة.
(صفحة البطريركية الانطاكية الارثوذكسية)