القسم الأول
نبذة تاريخية
في حي الميدان
تعد محلة او حي الميدان أكبر ضواحي دمشق جنوباً، وقد ورد أقدم ذكر لها عند المؤرخ ابن القلانسي في كتابه “ذيل تاريخ دمشق في القرن 6 ه”
ويرى المؤرخ العلامة عيسى اسكندر المعلوف(1) انها تعود الى العهد الأموي، وقال:”وعقد الوليد ميداناً لسباق الخيل كا هو جار اليوم عند الافرنج، ولايزال ذلك المضمار الى يومنا هذا، ويُعرفْ بالميدان ، وهو أحد أحياء المدينة المشهورة في غربها الجنوبي.”
سبب التسمية
سميت المنطقة بالميدان، لأنها كانت ميداناً رحباً واسعاً تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة، على ان الميدان لم يكن يقتصر على هذه السباقات كما يرى الباحث سوفاجيه بل كان ينزل ويخيم به كل من تضيق المدينة عن إيوائه من الناس، كمواكب الأمراء والوفود والجيوش والقوافل.
من الاسماء القديمة التي أُطلقت على الميدان إسم “ميدان الحصى” وكان هذا الاسم مختصاً بالمحلة المحاذية لجامع باب المصلى والتي كانت أول ماسكن من أراضي الميدان لقربها من المدينة وعرفت باسم ” الميدان التحتاني”، ثم شاع اسم ميدان الحصى ليشمل الضاحية برمتها.
وسبب تسميته بذلك أي “ميدان الحصى” أنه كان يمر بأرضه الكثير من فروع نهر بردى عبر العصور القديمة، فكان فرعا بردى الغزيرة القنوات والداراني بسبب وقوع الميدان على مفاض سيل الفرعين المذكورين، تحمل المياه معها التربة اللحقية فيمتد الحصى المتفتت الوارد من الجبال الغربية فترسب في أرض الميدان مع التربة اللحقية قبل ان تتلاشى قوة المياه شرقاً باتجاه البادية شرقاً خلف الغوطة الشرقية.
من تاريخ الميدان
حلت ضاحية الميدان محل قرية من قرى الغوطة الجنوبية تدعى القبيات، وقد بدأ العمران في هذه الضاحية في العهد المملوكي 684-923هجرية 1450م تقريباً… حيث بدأت ضواحي دمشق بالظهور خارج الأسوار مع سويقات(2)، حيث كان البناء قبلاً يتم داخل أسوار دمشق، وكان العمران يتم بمجموعات منفصلة، ما لبثت أن ارتبطت ببعضها، فصارت ضاحية كاملة كبيرة متطاولة الشكل جنوبي دمشق لها ابواب وسويقات…ويمتد حي الميدان لمسافة كيلومترين ونصف، وقد اخذ شكله النهائي الحالي في العهد العثماني.
ولما كانت بلاد حوران، سهلاً وجبلاً، تعد إحدى أهم الأقاليم الزراعية الشامية، فكان لابد من نشوء سهل قريب لتصريف هذا الانتاج الوفير، وكانت دمشق الشام خلال عدة قرون هذا المنفذ الطبيعي والسوق الرئيس، وبالذات لاستيراد الحبوب والثروة الحيوانية…بينما كانت غوطة دمشق الغَّناء المحيطة بدمشق من جنباتها كافة تغذيها بالخضار والفواكه في كل موسم بدوره.
وكان أبناء حوران يصلون دمشق لعرض حبوبهم، فيصل بعضهم مع أحمال قوافل الجمال في موسم يمتد سنوياً من تموز الى كانون الثاني، والبعض الآخر يتوقف على مسافة من المدينة على طول الطريق، التي كان يسلكها أهل حوران باستمرار. فيقصد القرويُ الحورانيُ التاجرَ الشامي الذي اعتاد التردد عليه وبيعه في دمشق وخاناتها. وكذلك يُفَّضل أصحاب المطاحن الدمشقيين، أن يتزودوا من هذه المستودعات الكبيرة، بدلاً من التعامل مع المنتجين مباشرة، مما ساعد على زيادة عدد المستودعات التي أعطت حي الميدان طابعه الخاص والذي كان الى عهد قريب وقبل غزو البنايات الاسمنتية يرى هذه المستودعات والخانات والبوايك في جانبي شارع الميدان.
بالقرب من هذه المستودعات، شُيِّدتْ الخانات الواسعة، حيث يَنزل القرويون ارزاقهم المتنوعة، بعد فترة استقر هؤلاء في هذه الضاحية ومعهم عائلاتهم، وهكذا نمت كتلة سكنية كانت تعتمد بداية على تجارة الحبوب والاغنام ومنتجات الحيوان… كما استقر عدد من التجار الشوام بالطريقة ذاتها في هذه الضاحية التي صارت مركزاً للتبادل التجاري بهذه الارزاق، وترافق ذلك مع استقرار للعائلات الشامية، وترافق ذلك مع بناء مساجد وكنائس لهذه الضاحية منذ عهد المماليك الى ان استقرت في القرن 18بساحاتها وحاراتها.
مذبحة 1860 الطائفية
هذا وقد لعبت مذبحة المسيحيين في جبل حوران من جهة وفي دمشق في تموز 1860، دوراً رئيساً في هجرة المسيحيين الى حي الميدان حيث يتوفرفيه مناخ الأمان والأخوة، وتوسعت أزقة وحارات المسيحيين كحارة القورشي موضوع بحثنا، وحارة الموصلي المتاخمة ومنطقة باب مصلى حيث استقر المسيحيون الهاربون الوافدون من المجازر ذاتها في جبل حوران، ومن راشيا وحاصبيا والبقاع الغربي، ومن دمشق القديمة حتى بقطاعها الشرقي المسيحي(3)، حيث وجد المسيحيون اللاجئون في الميدان واحة أمان ومحبة وأمن من سكانها وبفضل متابعة عقلائها ومشايخها الدينيين وزعماء الحارات أمثال آل الميداني… وغيرهم، وحارة المغاربة بمقاتليها بقيادة الامير عبد القادر الجزائري الذين كان لهم الدور الرئيس في الحفاظ على القلة المتبقية من المسيحيين في دمشق.
نؤكد هنا كما في كل كتاباتنا عن هذا الحدث المدمر للوجود المسيحي الدمشقي على دور العديد من المشايخ الأجلاء في دمشق الذين سعوا مع الامير الجزائري لوأد الفتنة قبل وقوعهاعند والي دمشق، وللملمة جراح المسيحيين بنكبتهم كآل الخطيب وسواهم بالحماية والرعاية والإطعام (بعد ضلوع والي دمشق أحمد باشا في مخطط الدولة العثمانية في القضاء على المسيحيين والخلاص من “نظام الامتيازات الدينية والمذهبية” حيث خطط ونفذ هذه المجزرة وسلح الرعاع التكفيريين المحليين من داخل وخارج دمشق في غوطة دمشق، وخاصة الاكراد سكان محلة ركن الدين (اليوم) بقيادة شمدين آغا(4) الذين ابلوا بلاء متميزاً في ذبح المسيحيين والاغتصاب وفعل المنكرات(5) مع القوات التركية وبمكائد اليهود المحليين المجاورين للمسيحيين في ذبحهم وتدمير محلتهم وكنائسها وبيوتها…
اما مسيحيو الميدان كما يشهدون هم وحتى الآن، فقد عاشوا محبة إخوتهم المسلمين وحمايتهم وعلى رأسهم أتباع الأمير عبد القادر الجزائري الساكنين في حارة المغاربة وبقية شيوخ الحارات، وكان جو الإلفة بين الشريكين الشقيقيين يدفعهم الى تناول أحياناً حتى اللقمة الواحدة، ومساعدة الفقراء والمحتاجين من الفريقين، كأن يقوم المسلمون الاغنياء بمساعدة المسيحيين الفقراء في أعياد المسلمين، والعكس صحيح، حيث كان الموسرون المسيحيون الميادنة، مع الجمعيات الكنسية الخيرية ك”جمعية القديس حنانيا الرسول” باعإلة ومساعدة فقراء مسلمين دوماً كما هي الحال اليوم من خلال العديد من المؤسسات الكنسية وأبرزها واولها مكتب التنمية البطريركية والعلاقات المسكونية في بطريركية الروم الأرثوذكس وعلى كل الجغرافيا السورية ومنذ 2003 زمن لجوء العراقيين الى سورية.
لم يسجل التاريخ في مذبحة 1860 في حي الميدان إلا حادثة منكرة واحدة استشهدت فيها عائلة مسيحية فقيرة كبيرة العدد باكملها،عندما أقدم حلواني على تقديم صينية من حلوى الهريسة الى هذه العائلة التي تجاور محله في باب مصلى وقد اتبرت فعله هذا تحبباً، وكان قد وضع فيها كمية من الزرنيخ فقضت هذه العائلة بأكملها، وتم فيما بعد اعتقاله من قبضايات الحي وإعدامه مع من تم اعدامه من القتلة، بقرار محكمة الوالي العثماني المصلح فؤاد باشا.(6)
سكن المسيحيون في حارات وساحات تسمت بأسمائهم كساحة الرياشنة (نسبة الى اللاجئين من راشيا) والتيامنة ( نسبة الى اللاجئين حاصبيا ووادي التيم اي جنوب لبنان حالياً).
ونشير الى ان كل الجاليات المتنوعة عرقياً ودينياً ومذهبياً المهاجرة الى دمشق، والتي سكنت في ضاحية الميدان صارت محلات سكنهم تتسمى بأسمائها كساحة الدروز وساحة المغاربة…
أقسام ضاحية الميدان
تقسم ضاحية الميدان في عُرف أهل دمشق وعرف أهلها الى ثلاثة ميادين هي
1- الميدان التحتاني ممايلي محلة باب مصلى.
2- الميدان الوسطاني
3- الميدان الفوقاني عند بوابة القدم، أو بوابة الله وهي منطلق موكب الحج الشامي الى مكة والمدينة.
ويضم الميدان أحياء وحارات عديدة تسمت ب”الوافدين اليها” (كما اسلفنا) وتتصل بالطريق السلطاني(العام) منها محلة وزقاق القورشي وزقاق الموصلي في نفس المحلة وزقاق العسكري…
وكانت ضاحية الميدان تزدحم بالجموع الغفيرة من الناس مرتين في السنة، مرة عند خروج محمل الحج من بوابة الله بأسفل الميدان الفوقاني الى الحجاز، ومرة أخرى عند رجوعه الى دمشق.
ويوجد العديد من المقابر الأسرية والمساجد الصغيرة على طرفي الطريق السلطاني.
وكان السياح الأوربيون عند إطلالهم من قاسيون على دمشق، يشبهونها بالمدينة البيضوية مع ضاحية الميدان المستطيلة الملحقة بها بشكل المقلاة أو قيثارة الماندولين.
لم يبق بدمشق من نماذج أصالتها وعادات أهلها، إلا ماهو قائم في حي الميدان. الميدان اليوم حي سكني كبير يشتهر أهله الأصلاء بالنخوة والكرم والجود تبعاً لأصولهم الريفية، وتنسب اليهم بعض الشدة(التخانة) فيقال:”الميادنة اصبعتهم تخينة”. وكان إلى عهد قريب وعند أصلاء الميادنة المسيحيين، وعند زواج إبن أو إبنة من الميدان بإبن أو إبنة من دمشق يقال أنهم تزوجوا من أهل المدينة.
يتميزحي الميدان بمطبخه العريق والكبيرحيث تكثر فيه اليوم محلات الطبخ والحلويات والمطاعم، ولا تزال المشتقات الحيوانية تعد من إختصاصات الميدان، ومازال أهل دمشق يفضلون ابتياعها وابتياع اصناف اللحوم والسمن العربي والقشدة والحلويات الشامية من الميدان، إضافة الى البيع بالجملة والمفرق للأقماح الحورانية والارزاق البقولية من فول وحمص وعدس وبرغل…من “بوايك” ومخازن ومستودعات الميدان العريقة، والتي لايزال باقياً العديد منها بأشكالها التراثية والقناطر والأبواب الخشبية “باب الخوخة” التي كان يدخل اليها الجمال بأحمالها.
اهل الميدان يتصفون بالحس الوطني…إذ هو موئل للأصالة، وعنوان لكل ما يخص ماضي دمشق من عراقة وورع وفضيلة وقوة ومازالوا هكذا بكل أطيافهم الدينية والاجتماعية.
ويسجل التاريخ الوسيط للميادنة أن أبناءهم من الفتيان الاشداء منذ العهد الملوكي كانوا يواجهون في فترة “الغزو الافرنجي” على بلاد الشام، طلائع الغزاة من جهة جنوب الشام، فيشكلون سد الدفاع عن دمشق.
كما سجل لهم التاريخ الحديث، وقوفهم في وجه التراك المستعمرين ومحاولات التتريك، وفي وجه الفرنسيين المستعمرين واشتراك العديد منهم في الدفاع عن دمشق، وقدموا الكثير من الشهداء. كذلك كانوا ككل الدمشقيين طليعة “جيش الإنقاذ السوري” في فلسطين، وهو القوة المتطوعة الرديفة للجيش السوري الفتي المقاتل في بطاح فلسطين 1948 وقدم الكثيرون ذواتهم شهداء لفلسطين.
التاريخ المسيحي لحي الميدان
تحتفظ الذاكرات الشعبية المسيحية بان سكن المسيحيين الوافدين تم بداية في “محلة باب مصلى”
والاسم يوحي بحدث يرتبط بالصلاة، ويقترن بحدث معجز وبعجيبة إلهية موصوفَيّنْ وقد سكتت عنه المصادر المكتوبة، ولكن حفظته الذاكرات الشعبية المسيحية وتناقلته طيلة ثمانية قرون، ووصلني من مسني العائلة وغيرهم، وقد علمت انه ورد في مخطوط تاريخي من مخطوطات البلمند، وهو إقدام والي دمشق الفاطمي على محاولة إزالة ضريح رأس القديس يوحنا المعمدان الموجود في الجامع الأموي عام 705 مسيحية بأمر الوليد.
أما كيف صار هذا الرأس في الجامع الاموي وهو لقديس مسيحي متميز؟
فهي الواقعة التالية
نعود الى اواخر القرن الرابع في زمن الدولة البيزنطية، عندما تولى الأمبراطور البيزنطي الرومي ثيوذوسيوس الكبير السدة الرومية وأمر بجعل المسيحية ديناً للدولة ومصادرة كل هياكل الوثن، وبتحويلها إلى كنائس ومنها في دمشق “هيكل الاله جوبيتر الوثني الذي كان على اسم الاله الآرامي حدد” ويشكل ربع مساحة دمشق داخل الأسوار، فأمر بتحويله إلى “كاتدرائية دمشق الكبرى” اي “كنيسة المطران” وكان ذلك في عام 387مسيحية، وبتسمية الكاتدرائية على اسم “القديس يوحنا المعمدان”، وفي عام 450 مسيحية، تم نقل رأس القديس يوحنا من القسطنطينية حيث هو محفوظ الى دمشق ليكون شفيعها، وتم وضعه بالتالي على المائدة المقدسة في “كاتدرائية دمشق” التي هي على إسمه.(7) ولما انتصرالفرس على الروم واجتاحوا أُورشليم مطلع القرن السابع،وسرقوا خشبة الصليب المقدس مع موجودات الكنائس والأديرة الثمينة، وأخذوها الى عاصمتهم المدائن. خاف الدمشقيون على ذخيرتهم المقدسة أي هذا الرأس من أن يلقى المصير ذاته، فوضعوه في صندوق من الخشب الثمين مع كتابة باليونانية لإسم صاحبه، وأخفوه في أرض الكاتدرائية، ولا يعرف المكان الا ثلاثة اشخاص فقط .
قرر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الإستيلاء على كاتدرائية دمشق لتحويلها الى الجامع الأموي، وبُدىء بالهدم والحفر في أرضيتها، وقد وصلوا في حفر الأرض إلى مكان حفظ الرأس الكريم في السنة 705 مسيحية، حيث تم العثور عليه في كنيسة صغيرة مربعة قياسها ثلاثة اذرع بثلاثة أذرع داخل الصندوق الخشبي مع كتابة باليونانية، فلما رأى الوليد الرأس وعرف صاحبه االمعروف عندهم ب”النبي يحي” أمر بتكريمه وإقامة الضريح الفخم الحالي في وسط مصلى الجامع.