الكنيسة والعالم
لقد شاء الرب المؤسس لكنيسته له المجد أن تكون كنيسته هذه التي اقتناها بدمه الكريم في العالم، وخارج العالم بآن…
– ماذا يعني هذا الكلام المزدوج وربما المتناقض؟ اذ كيف تكون الكنيسة في العالم وخارج العالم؟
الكنيسة تعيش في العالم
الكنيسة تعيش في العالم بتفاعلها مع كل شيء زمني، مع التاريخ وتطوراته، ومع المجتمع وحركاته، ومع البشر الرازحين تحت نير الخطيئة التواقين، عن معرفة أو عن غير معرفة، إلى خلاص المسيح. وليس ثمة في العالم شيء لا تقدر الكنيسة أن تنظر فيه أو تحكم له… أو عليه.
حكم الكنيسة في العالم على العالم لا يعني مطلقاً تدخلها في شؤونه الزمنية.
الكنيسة لايمكن لها بحال من الأحوال، أن تتحمل مسؤولية هذا أو ذاك من الأوضاع التي تبدي رأيها فيها بثقة وجرأة.
الكنيسة غير مسؤولة، والمسؤولون فقط المسؤولون عما هم مسؤولون عنه. الكنيسة إذن تعزي وتقوي وتعلم وترشد وتحكم وتغفر وتخلص وتعد الانسان بمحبة المسيح الفائقة، وإذ تفعل كل هذا تترك للانسان الحرية التامة بأن يقبل أو لايقبل هذه المحبة، وبأن يستفيد، أو، لايستفيد من هذه التعزية والتقوية والتعليم والارشاد والحكم والخلاص والغفران.
من أرفع صفات الله حريته في الوجود وفي الخلق. ومن جوهر حبه الفائق لنا أنه أرادنا أحراراً خلاقين مثله، واسمى خلق بشري حر هو خلق نفسه، أعني أنه يعين كل واحد منا نفسه في ان يختار، بين ان يكون، إما إبناً حراً لله وارثاً أمجاده وآلامه أيضاً، أو ابناً لغير الله متمردأ على روحه وكلمته. وكل بنوة لغير الله الحيّ هي، كما قال أوغسطينوس المغبوط: “عبودية”.
استجابتنا بحريتنا الشخصية الداخلية لله بالقبول أو بالرفض، هي الفعل الكياني الأخير الذي لايستطيع حتى الله ذاته تعطيله فينا.
هذا هو سر الحرية في الانسان… هذا هو عيش الكنيسة في العالم.
الكنيسة تعيش خارج العالم
لكن الكنيسة أيضاً تعيش خارج العالم، تعيش في سر الله المكنون في المسيح، وهي لأنها مثَّبَّتة في هذا السر، ممارسة إياه غنية به، أمينة عليه وله، تستطيع أن تفعل فعلها في العالم، وتصبر على هذا العالم، وتحبه. ولولا عيش الكنيسة خارج العالم، لما عاشت في العالم ايضاً، ولما بقيت فيه.
تعيش بالأسرار والطقوس، بوحدة الإيمان ورباط المحبة، بالأدعية والصلوات بالاعتراف والمناولة، بكلمة الرب، وبشراكة القديسين، بالتبحر في حياتهم وآلامهم وأقوالهم ببركة الكهنوت، بفيض المحبة النابعة من المسيح.
بهذه جميعاً تعيش الكنيسة خارج العالم في سر الله المكنون بطريقة شاءها رب الكنيسة المؤسس لها والمتابع بعيشه في وسطها.
ومن الجدير ذكره أنه لاتمكن المقابلة الصحيحة بين الكنيسة والعالم، لأن مآل هذا غير مآل تلك. و”الكنيسسة والعالم”، تعني بالفعل “العالم من أجل الكنيسة” لأن الكنيسة في أزلية، بينما العالم في زوال. مع أن كل نفس إنسانية هي خالدة… فأعمق صرخة يمكن أن تتصورها الكنيسة هي: طوبى للنفس الخالدة في الكنيسة وبالكنيسة.
أنا كمسيحي وُجدت على صورة خالق افتداني بدمه الكريم المسفوح على صليب آثامي من الجدين الأولين، لا أعرف، ولا يجب علي ان أعرف، إلا الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية، بدون تحزب ” انا لبولس او أنا لأبولوس وصفا…” ولذلك أحزن وأبكي واغضب بشرياً أمام ظاهرة التفسخ والتعدد والانشقاق والتباعد، والإستلاب والإحتواء وشراء الضمائر والذمم، وضم الناس مادياً بقوة الدولار لظروفهم الحزينة كما في حالة السوريين الفقراء والمذبوحين بنتيجة غدر عالمي عليهم، كما غدر الاستلاب الديني والمذهبي اللاحق والمكمل الذي يسلبهم حق الايمان كما يرون.
وأجثو على ركبتيّ مبتهلاً بحرارة من أجل خير الكنيسة ومستقبلها في التقارب والوحدة.
هذا التراث الأرثوذكسي الايماني العظيم الذي في كينونتنا، كأرثوذكس أنطاكيين تحديداً، هو أقدس ماعندنا، وان عن غير استحقاق منا به، يجب علينا أن نحبه ونتمتع فيه، ونلتصق به، ونحافظ عليه باتضاع وانكسار قلب.
– التساؤل العميق القلق عن الوحدة المسيحية لتعود واحداً، والسعي المتواضع نحوها، وبالتالي نحو حقيقة الكنيسة الواحدة، سواء في العالم الأرثوذكسي، أو في العالم الكاثوليكي، وفي العالم البروتستانتي من أخطر ظواهر هذا العصر حيث يتفشى الالحاد بشكل كبير، وحيث تتوالى الانشقاقات أكثر فأكثر بتنامي الهرطقات بتدخل النظريات السياسية والتلمودية والمتهودة فيها، وكأننا في أول عهد الكنيسة بالمجتمع بعد القرون الدموية الثلاثة الأولى من عمر الكنيسة، عندما بدأت الهرطقات الهدامة تفعل فعلها، وتشق جسد الكنيسة جسد مؤسسها الرب يسوع.
لنصلِ إذن من أجل الوحدة في الايمان والمحبة، طالبين أولاً ارادة الرب وبره، محافظين على كل ما استلمناه من التقليد الرسولي والآبائي الشريف.
ولنَحْذَرْ من كلِ كبرياء وكل مصلحة، وكل انتفاخ و”غرور وحب الرئاسة، والكلام البطال” وهمسات الشيطان، ولنكرر كل يوم ما تعلمناه من الذهبي الفم أنه، “مهما حصل، فلله وحده ينبغي كل مجد وإكرام وسجود”.