الأيقونةُ كلمة يونانية الأصل εἰκών تعني، حرفيًا، صورة. وهي عبارة عن عمل فني ذو طابع ديني من أصول كتسية رومية أورثوذوكسية . وهي، عادةً، صورة مسطحة تصور موضوعًا دينيًا كالصليب والملائكة و/أو شخصية مقدسة كيسوع ومريم والقديسين.هي إسمٌ “مؤنّثٌّ من الرسمِ اليونانيِّ الكلاسيكيِّ ” إيْكُون”(eikon)” كما تعني كلمة “صورةٌ”، الصُّورةَ الشّخصيّةَ للإمبراطورِ ( الصّورة = الأصل ) الإثنانِ واحدٌ ومعناهَا” الصُّورةُ أوِ الأيقونةُ”، ثمَّ تدريجيًّا “إنتقلت الكلمة إلى اللغة الرومية بلفظة “اِيكُونَة”(eikona) لتُحدِّدَ، تقليديًّا، الرّسمَ الدِّينيِ على لوحٍ خشبيٍّ”، وإتّخذتْ معنًى دّينيٍّ في الإصطلاحِ الكنسيِّ، وهي انجيل مفتوح ومقروء لمن لايعرفون القراءة، وأصبحتْ تصنعُ وفق أساليىبَ لاهوتيّةٍ. هي”موسيقَي العينِ…تُلقِي في النَّفسِ شُعورًا بالرَّاحةِ والأَمَانِ”. هي صُورةٌ مدشّنةٌ ومُخصّصةٌ تخدمُ أغراضَ العبادةِ المسيحية بمواضيعَ “دينيّةِ”. “. تُصَوِّرُ الأيقونةَ الأحداثَ الدّينيّةَ المُقدّسةَ دونَ تحريفهَا لأنّ عَملهُ يجبُ أن يعكِسَ “روحَ الكنيسةِ وليسَ أحاسيسهُ الجماليّة الشّخصيّةَ”.
هي ليست نتاج خيال كل فنان، تصنع وفق أساليب بالنظر لإعتبارات لاهوتيّة وبالتزامن مع صلاة الرّسام أثناء عملها لكي تخدم أغراض العبادة وترتقي بحياة الناظؤ إليها من الأمور الأرضية للرّوحية.
الأسباب التي دعت إلى بزوغ الأيقونة الرومية
جاءت الفكرة الأساسية من خلال التفكير المستمر في الكشف عن المنظور واللاّمنظور، الذي يبحث عنه الإنسان في معرفة الوجوديّة أي وجود الله الغيبي وفي أي ساعة وأي هيئة سيتقابل الإنسان مع ربه وكيفيّة حضور الله وتشكيل ذاته. أمّأ البعد الآخر هو التعرف على ماهو أسخاتولوجي مقدّس وماهو غير مقدّس والصراع القائم بينهما، فمن ثّم بدأ المؤمن بتخيل فكرة الكنيسة على إعتبارها هي السّماء على الأرض…
ماذا عن نشأة الأيقونة؟ برزت الأيقونة الرومية مع القرون الأوّلى للمسيحية، إستقت من أسلافها السابقين جملة الرّموز التي جسدتها على الجدران منذ القرن الثّاني المسيحي على شكل عناقيد العنب والكرمة لتعبير عن ما بداخل المسيحي، ومن ثم بدأ الرّسم على سراديب دفن الموتي أو الكاتاكومبا للدلالة على الإيمان الخالص بالعقيدة الجديدة المسيحية، ونظر لولادة الفن في الدولة الرّومانيّة لذا شهد عدّة إضطهادات لكن مع بداية القرن الرابع المسيحي حقق فيها الفن تقدما وإمتزجت فيها الرّموز المسيحيّة بالأساطير اليونانيّة وإنتشر تصوير الموضوعات الدينيّة لعل أبرزها صور السيد المسيح الذي رُمز به إلى الحمل.
ولما كانت المسيحية منبثقة في الأصل من اليهودية التي تحرم التصوير، فإن الأيقونة أو الصورة إنما تعود إلى تأثر المسيحية بالديانات الأخرى التي ترعرعت في وسطها، مما أدى، من الناحية الثيولوجية، إلى تبريرها فيما بعد من قبل آباء الكنيسة في قرونها الأولى من منطلق العقيدة المسيحية القائلة بتجسد الألوهة في المسيح، ما يعني تجاوز المنع الذي كان موجودًا في العهد القديم. مع التأكيد على أن تعبد المؤمن أمام الأيقونة لا يعني تعبدًا لها بحد ذاتها إنما للشخص أو الموضوع الذي تمثله، وهذا ما عبر عنه بوضوح القديس باسيليوس الكبير حين قال “إن التعبد أمام الأيقونة يتجاوزها إلى الأصل الذي تمثله”.
أقدم الأيقونات الموجودة حاليًا، والتي تعود إلى القرن الرابع المسيحي، موجودة في دير القديسة كاثرينا في سيناء. وقد أخذت الأيقونة بعدها الكامل بدءًا من القرن السادس في بيزنطة. ونجدها في مختلف العصور وبشكل خاص لدى مختلف الكنائس الشرقية. وتختلف مدارسها وفق البلدان حيث نجد إلى جانب الأيقونة البيزنطية أو اليونانية مدارس سورية وقبطية ورومانية وروسية، إلخ… وهذا ما سنحاول أن نبينه لقرائنا في معابر من خلال هذا العرض المتواضع.
مقاصد الرّموز والألوان والتراكيب الإنشائيّة ضمن الأيقونة
سنتطرق أوّلاً إلى جماليات الرّموز فمن مميزاتها بالأيقونة مثلا تُرسم العينان واسعتان دلالة على البصيرة في حين الأنف يرسم صغيرا ورقيقًا وذلك لقلّة زُهد الحواسِّ، أمّا الأذن كبيرة بارزةً وواضحةً لترمزَ إلى ضرورةِ سماعِ كلمة الله والشفاه صغيرة للدلالة على قلّة الشهوات رَمَزُ بها إلى تمجيدِ اللهِ وتسبيحهِ والتّلفّظُ بالطّيِبِ في حين برزت الرقبة عريضة دلالة على الشموخ من منظور العقيدة المسيحيّة…، بينما جاءت الألوان بمقاصد ثانية فلكل لون له دلالاته إذ رمز الأحمر إلى العفة والأزرق إلى الملكوت واللّون الأصفر إلى القداسة أما الأبيض إلى الطهارة، يجسده الفنان مع إضفاء جانب من رّوحه ليدعوا بها إلى جمال العالم الغيبي بدل من جمال العالم الماديّ… مع العلم أنّ الأيقونة منذ القرن الخامس المسيحي مثلت الأيقونة الرّوحية والجماليّة لإعتبارها رسالة تعليمية.
في بداية انتشار المسيحية المضطهدة كان ولا زال الصليب هو الأيقونة التي تدل على المسيحيين وأصبح رمزا خاصا بهم . فحيث يوجد صليب يوجد مسيحيين ، والصليب لدى الشعوب السابقة كان رمزا للَّّّّّعنة “ملعون كل من علق على خشبة” (تث21 : 23) . فقط المسيحيين تسموا به . فكان المسيحيون الفارون من الاضطهاد والمختبئون في شقوق الأرض وثقوب الجبال للدلالة على أنفسهم لذويهم وأقرانهم ، كانوا يرسمون إشارة الصليب فيعرف بوجود مسيحيين .
وعندما انتشر هذا الرمز كثيرا وكشف لدى المنكِلين بهم ، اضطر المسيحيين الأوائل إلى البحث عن رمز آخر يعبر عنهم ، فاستخدموا رمز السمكة بدلا من الصليب للدلالة على وجودهم فأصبح حيث توجد السمكة يوجد المسيحي وعثر على هذا في الدياميس المكتشفة في أصقاع الإمبراطورية الرومانية .
ورمز السمكة هو ليس رمزا مستحدثا لدى المسيحيين ، فهو كمعظم الرموز الأخرى دخل في التقليد ولكن ليس من قبل الكنيسة مباشرة بل من قبل السيد المسيح نفسه .
لقد عاشر السيد المسيح صيادي السمك وكان هامتهم بطرس الذي قال له مع أندراوس أخوه
” هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس” (مر 1: 17 ) . والفن الكنسي وعى هذه الآية تماما في استخدامه لهذا الرمز في الأيقونات فيما بعد، ولا زال هذا الرمز يستخدم في الزخرفات الكنسية التي تزين جداريات القبب والأيقونات والحوائط كمثل الكرمة والصليب … ومن هنا نجد بأن السمكة هي ليست رمزا للسيد المسيح فقط كما يظن البعض، بل هي رمز لكل مسيحي ، فالطقس المسيحي الذي هو أيقونة متكاملة يشرح لنا هذا
-الوجود الأساسي لدى كل مسيحي يبدأ بجرن المعمودية، أما المادة المستخدمة في هذا السر هي الماء والجرن رمز للقبر وللجحيم، واستخدم البحر أيضا رمزا لهذا، الشيء الذي نجده في أيقونة القديس جاورجيوس قاتل التنين والكل يعرفها. ففي جرن المعمودية يوجد هذا البحر “الجحيم” وهو بحر الأهواء والتجارب والموت . وكما أنه يوجد في البحر التنين الذي يريد ابتلاع الكنيسة ، يوجد أيضا السمك الذين هم المؤمنين أعضاء هذه الكنيسة . والرب يسوع هو الصياد الحقيقي الذي ينتشل المؤمن المعمد من الجحيم الحقيقي الممثل بجرن المعمودية كما يصطاد الصياد السمك . وفي هذا رمز لكل مسيحي ليكون سمكة في شبكة الحب الإلهي التي يحملها يسوع . فأغصان الكرمة ترمز لنا ، والسمكة تمز لنا أيضا .
والسبب الآخر لشعبية هذا الرمز طبعا كما يعرف الجميع أنه يرمز للمسيح فالأحرف الخمسة لكلمة سمكة اليونانية IXQUC تعني اختصار عبارة ابن الله المنقذ (المخلص) وإذا تركنا هذا الأمر لمن يمسكون في أيديهم زمام اللغة اليونانية القديمة لأخبرونا به . وهكذا استخدم هذا الرمز بين المسيحيين للمراسلة وفي الطقوس الجنائزية وجدران الكنائس . وصار يستخدم هذا الرمز للدلالتين : على المسيحيين من جهة، وعلى المسيح من جهة ، وعند اجتمعت هاتان الدلالتان ، رمز لجماعة المؤمنين بالسمك الصغير وللرب يسوع بالسمكة الكبيرة ، وغالبا كان يعبر عنها بالدولفين .
ودخل هذا الرمز في الطقس الكنسي حقيقة ، فأصبح السمك يستخدم كتعزية للمسيحي الصائم ، كما أن الرب عزى قلوب التلاميذ بعد موته بأن ظهر لهم قائما من بين الأموات وأكل معهم السمك .
وكما قلنا سابقا السمك ليس رمزا نشأ مع نشأة المسيحيين وحسب وإنما استخدم بدلالات أخرى من قبلهم فلقد استخدم كرمز جنسي للخصوبة قديما لدى الرومان ، كما أن الصليب كان رمزا للعنة ، ولكن هذه الرموز عمدت بفكر المسيح
فن الايقونة الرومية هو مصطلح يشيع استخدامه لوصف النتاج الفني من الامبراطورية الرومانية الشرقية والتي اصطلح على تسميتها الامبراطورية الرومية من نحو القرن الرابع المسيحي وتحديدا من براءة ميلانو 313مسيحية باعتلاء الامبراطور قسطنطين الكبير عرش الامبراطورية الرومانية وتأسيسه العاصمة الجديدة على اسمه القسطنطينية حتى غزوها من قبل الاتراك واسقاطهم الامبراطورية الرومية في 1453مسيحية.
الانتقال من الوثنية
كانت أعظم مآثر الحضارة الرومية ( الرومانية الشرقية) هي الإدارة الحكومية وفن الزخرفة.
فقد أقاموا دولة دامت أحد عشر قرناً من الزمان، وأنشأوا كاتدرائية آجيا صوفيا القائمة في هذه الأيام. وكانت احدى آيات الفن المعماري الكنسي الارثوذكسي، وكان الفن الوثني قد لفظ أنفاسه الأخيرة قبيل عهد جستنيان، وكان نصف ما خلفه من الآثار قد شُوَه أو هدم.
فقد بدأ تخريب البرابرة للعاصمة القديمة روما وقدشمل كل الامبراطورية الرومانية، وانتهاء الأباطرة، وتدمير الأتقياء ورجال الدين، بدأ عمل هؤلاء وهؤلاء عهداً من الإتلاف المتعمد والإهمال دام حتى قام بترارك في القرن الرابع عشر يدافع عما بقى منه في أيامه. وكان من العوامل التي زادت أعمال التخريب اعتقاد الجماهير أن الآلهة الوثنية شياطين، وأن الهياكل مأواها
وأياً كانت عقيدة ذلك الوقت فقد كانوا يشعرون أن مواد هذه الآثار الفنية يمكن أن ينتفع بها على خير وجه في تشييد الكنائس المسيحية أو أسوار المنازل، وكثيراً ما كان الوثنيون أنفسهم يشاركون المسيحيين في أعمال التدمير.
وقد بذل بعض الأباطرة، وخاصة هونوريوس وثيودوسيوس الثاني، كل ما في وسعهم لحماية المنشئات القديمة ، وأبقى المستنيرون من رجال الدين على البارثنون، وهيكلثسيوس، والبارثينون، وغيرها من الصروح بأن أعادوا تدشينها بوصفها أضرحة مسيحية.
وكانت المسيحية في بادئ الأمر ترتاب في الفن وتراه عماداً للوثنية، وعبادة الأصنام، وفساد الأخلاق، وترى أن هذه التماثيل العارية لا تتفق مع ما يجب أن تحاط به البكورة والعزوبة من إجلال. ولما خيل إلى الناس أن الجسم أداة الشيطان، وأصبح الراهب مَثَلَ الرجولة الأعلى بدل الرجل الرياضي،اختفت من الفن دراسة التشريح، ولم يبق في فني النحت والتصوير إلا وجوه كئيبة وثياب لا شكل لها.
فلما انتصرت المسيحية على الوثنية، واحتاجت إلى صروح ضخمة تأوي عبادها المتزايدين، أخذت تقاليد الفن المحلية والقومية تثبت وجودها مرة أخرى، وارتفع فن البناء فوق الأنقاض. يضاف إلى هذا أن تلك الصروح الرحبة كانت تلح في طلب الزخرفة والزينة، وكان العابدون في حاجة إلى تماثيل للسيد المسيح ووالدته السيدة مريم يقوى بها خيالهم، وإلى صور تحدث السذج الأميين……. وهكذا ولدت فنون النحت والفسيفساء والتصوير من جديد.
ولم يكن الفن الجديد في روما إلا اختلافاً قليلاً عن الفن القديم. فقد انتقلت من الوثني إلى المسيحية متانة البناء، وبساطة الشكل، وطرز الباسلقا المعمدة.
ومثال ذلك أن مهندسي قسطنطين خططوا كنيسة القديس بطرس الأولى بالقرب من ساحة الألعاب الحيوانية التي أنشأها نيرون على تل الفاتيكان، وجعلوا طولها380 قدماً وعرضها 212 قدماً. وقد ظلت هذه الكنيسة مدى اثني عشر قرناً أعظم كنائس المسيحية اللاتينية حتى هدمها برامنتي ليقيم في مكانها كنيسة أكبر منها هي كنيسة القديس بطرس الحالية.
وأعاد فلنتيان الثاني وثيودوسيوس الأول بناء الكنيسة التي أقامها الأمبراطور قسطنطين “للقديس بولس خارج الأسوار San Paolo fuori le mura ” في المكان الذي قيل إن الرسول استشهد فيه.
وهذه الكنيسة أقل أتساعاً من كنيسة القديس بطرس، فقد كان طولها أربعمائة قدم وعرضها مائتين .
ولا تزال كنيسة القديس قنسطنزا Santa Constanza التي أقامها قسطنطين ضريحاً لأخته قنسطنطيا في معظم أجزائها بالصورة التي كانت عليها وقت بنائها في 326-330مسيحية، وأعيد بناء كنائس سان جيوفني San Geovanni في لترانا Latrana وسانتا ماريا في ثرستفيري Trastevre “وسان لورنزو خارج الأسوار” في خلال قرن بعد أن بدأها قسطنطين، وأعيد بناؤها مراراً كثيرة من ذلك الحين. وأنشئت كنيسة سانتا ماريا مجيوري Santa Maria Maggiore في عام 432 مسيحية على غرار أحد الهياكل الوثنية. ولا يزال صحنها في جوهره كما كان منذ إنشائها إذا استثنينا ما حلى به من النقوش في أيام النهضة.
ولا يزال طراز الباسيليات ( البازيلكا ) من ذلك الوقت حتى الآن الطراز المحبب في الكنائس المسيحية، ذلك بأن اعتدال نفقاته وجلال بساطته، وتناسق بنائه، وعظيم متانته قد جعلته محبباً إلى الناس في جميع الأجيال. وتناسق لم يتقبل في يسر إدخاله عليه من التطور والتغيير، ولهذا بدأ البناؤون الأوربيون يتلفتون حولهم ليبحثوا عن آراء هندسية جديدة حتى وجدوها في بلاد الشرق، بل وجدوها أيضاً في اسبالاتو Spalato المركز الأدرباوي الأمامي لبلاد الشرق.
ففي هذا المكان القائم على ساحل دلماشيا أطلق ديوكلديانوس كامل الحرية لفنانيه، وعهد إليهم أن يجربوا كافة الوسائل التي تمكنهم من أن يقيموا له قصراً يلجأ إليه إذا أراد الاستجمام من عناء الحكم، وفيه أحدث أولئك الفنانون انقلاباً كبيراً في العمارة الأوربية. ففيه كانت الأقواس ترفع مباشرة من تيجان الأعمدة، وليس بينها وبين تلك التيجان عوارض، وهكذا مهدت السبيل بخطوة إلى الطرز الرومية، والرومانية، والقوطية. وفي هذا القصر أيضاً استبدلت بالأفاريز ذات الصور والتماثيل زخرفة عجيبة من الخطوط المتعرجة، التي تنفر منها عيون الأقدمين والتي ألفها الشرق من زمن بعيد. وبذلك كانت اسبلاتو هي النذير الأول بأن أوربة لم يغلبها على أمرها دين شرقي فحسب، بل سيغلبها كذلك فن شرقي إن لم يكن في جميع أنحائها ففي العالم الرومي على الأقل.
الفنانون الروميون
نرى من أين جاء إلى القسطنطينية ذلك الفن ذو اللون الفذ، البراق المقبض الذي نسميه الفن الرومي؟ ذلك السؤال ثار فيه الجدل بين علماء الآثار بقوة لا تكاد تنقص عن قوة الجنود المسيحيين في حروبهم، وكان النصر النهائي في هذه المعركة الكبرى لبلاد الشرق.
وتفصيل ذلك أنه حين قويت سورية وآسية الصغرى بفضل ما حدث فيهما من تقدم صناعي، وحين ضعفت روما بسبب الغزو الأجنبي، ارتد التيار الهلنستي الذي اندفع نحو الشرق إثر فتوح الإسكندر من آسية إلى أوربة، وتلاقت في القسطنطينية مؤثرات الفن الشرقي المنصبة من فارس الساسانية، وسورية النسطورية، ومصر القبطيةـ ووصلت هذه المؤثرات إلى إيطاليا، بل تعدتها إلى غالية (فرنسا)، وتخلى الفن اليوناني القديم الممثل للطبيعة عن مكانه إلى الفن الشرقي ذو الزخارف الرمزية.
وكان الشرق يفضل الألوان عن الخطوط والأقواس والقباب عن السقف الخشبي. والزينة الكثيرة عن البساطة الصارمة، والأثواب الحريرية الفخمة عن الجبة التي لا شكل لها. وكما أن دقلديانوس وقسطنطين قد اتخذا في نظم الحكم أشكال الملكية الفارسية، فكذلك شرع فن القسطنطينية يغض النظر شيئاً فشيئاً عن الغرب الذي ألقى الآن بنفسه في أحضان البربرية، وأخذ يرنو ببصره إلى آسية الصغرى وأرمينية، وفارس، وسورية، ومصر.
ولعل انتصار جيوش الفرس في عهد شابور الثاني وكسرى أنوشروان قد عجل خطوات البواعث والأساليب الشرقية. وكانت الرها ونصيبين في ذلك الوقت مركزين مزدهرين من مراكز ثقافة ما بين النهرين، وهي الثقافة التي مزجت العناصر الإيرانية، والأرمنية، والكبدوكية والسورية ، ونقلها التجار، والرهبان، والفنانون إلى إنطاكية، والإسكندرية، وإفسس، والقسطنطينية، ثم نقلوها أخيراً إلى رافنا وروما، فكادت النظم اليونانية والرومانية القديمة تفقد قيمتها في هذا العالم المعماري الجديد، عالم العقود والأقواس، والقباب.
ولما اتخذ الفن الرومي هذه الصورة الجديدة عمل على نشر العقائد المسيحية وإظهار مجد الدولة. فأخذ يقص على الثياب والقماش المزركش، وفي نقوش الفسيفساء ورسوم الجدران، حياة المسيح وأحزان مريم، وأعمال الرسل والشهداء الذين تضم الكنائس عظامهم ورفاتهم، أو دخل بلاط الأباطرة، وزين قصر الإمبراطور، وغطى ملابس الموظفين بصورة رمزية أو رسوم تاريخية وخطف أبصار رعاياه بالملابس الزاهية الكثيرة الألوان، وانتهى أمره بأن صورة السيد المسيح والسيدة العذراء مريم في صورتي إمبراطور وملكة.
ذلك أن الفن الرومي لم يكن له كثير من المؤيدين يختار من بينهم من يناصره، ولهذا لم يكن له مجال واسع يختار منه موضوعاته وطرازه، فكان الإمبراطور أو البطريق (القائد العسكري الرومي) هو الذي يحدد له ما يعمل ويبين له طريق العمل، وكان الفنانون يعملون جماعات، ولهذا قلما يذكر التاريخ أسماء فنانين أفراداً، ولكنهم أتوا بالمعجزات في بهاء الألوان، وكان الفنان يرفع من شأن الناس أو يحط من قدرهم بمستحدثاته الرائعة، ولكن هذه المنزلة اقتضته استمساكاً بالأشكال والأنماط المتبعة، وضيقاً في المجال، وجموداً في خدمة ملك مطلق التصرف ودين لا يقبل التغيير.
وكان تحت تصرفه مواد كثيرة يستخدمها في عمله، كانت لديه محاجر الرخام في بروكنسوس Procnnesus، وأتكا، وإيطاليا، وكانت لديه عمد وتيجان ينتهبها من كل هيكل وثني قائم، وكان لديه الآجر يكاد ينمو كالنبات في الأرض التي تجففها الشمس. وكان أكثر ما يعمل فيه الآجر المثبت بالملاط، ذلك أنه كان يسهل استخدامه في الأشكال المنحنية التي فرضتها عليه الأنماط الشرقية. وكثيراً ما كان يقنع بالشكل الصليبي – شكل الباسلقا ذات الجناحين التي تستطيع حتى تنتهي بقباء.
وكان في بعض الأحيان يقطع الباسيليكا فيجعلها مثمنة الجوانب كما فعل في كنيستي القديسين سرجيوس وباخوس في القسطنطينية، أو في كنيسة فينالي في رافانا.
ولكن الطراز الذي برع فيه وبز فيه جميع الفنانين الذين سبقوه أو جاؤوا بعده هو القبة المستديرة المقامة على هيكل كثير الأضلاع. وكانت الطريقة التي اتبعها للوصول إلى هذه الغاية، هي إنشاء قوس أو نصف دائرة من الآجر فوق كل ضلع من أضلاع السطح المتعدد الزوايا والأضلاع، ثم إقامة مثلث دائري من الآجر متجه إلى أعلى وإلى الداخل بين كل نصف دائرة، ثم بناء قبة فوق الحلقة المستديرة الناشئة من هذا كله. وكانت المثلثات الدائرية تبدو متدلية من حافة القبة إلى قمة المضلع، وبهذا ربعت الدائرة من الوجهة المعمارية، وبعد هذا كاد طراز الباسيليكا أن يختفي من الشرق.
وقد أفاء البَنّاء الرومي على هذا البناء من الداخل ما أسعفته به عشرات الفنون المختلفة. وقلما كان يستخدم التماثيل لهذا الغرض، ذلك أنه لم يكن يريد أن يصور رجالاً ونساء، بل كان يعمل لخلق جمال مجرد من الصور الرمزية.
ولكن المثالين الروميين كانوا رغم هذا القيد عمالاً يمتازون بالكفاية والصبر وسعة الحيلة. وقد نحتوا التاج “الثيودوسي” للعمد بأن جمعوا بين “آذان” النمط الأيوني، وأوراق النمط الكورنثي، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا هذه الوفرة من الطرز أشمل وأعم، فحفروا على هذا التاج المركب أجمة من النبات والحيوان.
وإذ كانت نتيجة هذا لا تتناسب مع الجدران أو الأقواس فقد وضعوا بينها وبين التاج عصابة مربعة وعريضة من أعلاها، ومستطيلة وضيقة نوعاً عند قاعدتها، ثم حفروا على توالي الأيام أزهاراً على هذه العصابات نفسها. وهنا أيضاً كانت الغلبة للفرس على اليونان، كما للأولين في مربع القمة. ثم طلب إلى المصورين أن يزينوا الجدران بصور نثبت عقيدة الناس أو ترهبهم، ووضع عمال الفسيفساء مكعباتهم المتخذة من الحجر أو الزجاج الملون البراق فوق أرضية زرقاء أو ذهبية، وزينت الأرض والجدران، أو مذابح الكنائس، أو ما بين العقود، أو أي جزء من البناء لا تطيق عين الشرقي أن تراه خالياً من الزخرف.
وكان الصناع يزينون الملابس، والمذابح، والعمد، والجدران بالجواهر والأحجار الكريمة، وصناع المعادن يضعون فيها صفائح الذهب والفضة؛، وصناع الخشب ينقشون المنابر وأسوار المحاريب، والنساجون يعلقون الأنسجة المزخرفة على الجدران ويفرشون الأرض بالطنافس، ويغطون المذابح والمنابر بالأقمشة المطرزة وبالحرير. ولم يذكر التاريخ قبل ذلك العهد فناً أوتي ما أوتيه الفنالرومي الأرثوذكسي من وفرة الألوان، ودقة الرموز، وغزاة الزينة؛ وقدرة على تهدئة الذهن وتنبيه الروح.
الحكمة الالهية او كاتدرائية آجيا صوفيا
ولم تكن العناصر الوثنية (اليونانية والرومانية، والشرقية)، والمسيحية قد أتمت امتزاجها ليكون منها الفن الرومي قبل عهد يوستنيانوس. فلقد أتاحت له فتنة نيقا Nika، كما أتاح حريق روما لنيرون من قبل، فرصة بناء عاصمته من جديد. ذلك أن الغوغاء في لحظة من لحظات نشوة الحرية أحرقوا دار مجلس الشيوخ، وحمامات زيوكسبوس Zeuxippus وأروقة الأوغسطيوم، وجناحاً من أجنحة القصر الإمبراطوري، وأيا صوفيا كاتدرائية البطريركية المسكونية الكبرى، وكان في وسع يوستنيانوس أن يعي بناء هذه كلها حسب تخطيطها القديم، فلا يتطلب هذا منه أكثر من عام أو عامين. لكنه لم يفعل هذا وصمم على أن في بنائها مزيداً من الوقت والمال، وأن يستخدم في هذا البناء عدداً كبيراً من الرجال، وأن يجعل عاصمة ملكه أجمل من روما، وأن يقيم فيها كنيسة لا يدانيها صرح آخر في العالم كله. وكانت بداية عمله أن وضع في ذلك الوقت منهجاً للأبنية أوسع وأعظم من أي منهج آخر وُضع لها في التاريخ.
وكان هذا المنهج يَشمل حصوناً، وقصوراً وأديرة، وكنائس، وأروقة معمدة، وأبواباً أقيمت في جميع أنحاء الإمبراطورية. ففي القسطنطينية أعاد بناء مجلس الشيوخ من الرخام الأبيض، وشاد حمامات زيوكسبوس من الرخام المتعدد الألوان، وبنى رواقاً معمداً من الرخام، ومتنزهاً في الأوغسطيوم، ونقل الماء العذب إلى المدينة في قناة مبنية جديدة تضارع أحسن ما وجد من القنوات في إيطاليا. أما قصره فلم يكن يعلو عليه قصر آخر في البهاء والترف. فقد كانت أرضه وجدرانه من الرخام، وسُقُفه تقض بالفسيفساء البراقة ما ناله من النصر في أيام حكمه، وتصور الشيوخ في حفلاتهم يقدمون للإمبراطور مظاهر الإجلال والتعظيم التي “لا تكاد تقل عما يقدم منه لله”، وبني على الجانب الآخر من البوسفور، بالقرب من خلقيدون مسكناً صيفياً لثيودورا وحاشيتها هو قصر هريون الذي كان له مرفأه، وسوقه، وكنيسته وحماماته الخاصة به.
وبعد أربعين يوماً من خمود نار الفتنة النيقية، بدأ يبني كنيسة أجيا صوفيا الجديدة. ولم يقمها على اسم قديسة تحمل ذلك الاسم، بل أقامها باسم الحكمة المقدسة Hagia Sophia أو الحكمة المقدسة، أو إلى الله نفسه.
وأستدعى لهذا الغرض من ترالبس في آسية الصغرى، ومن ميليتس الأيونية، أنثميوس وأزدور أعظم المهندسين الأحياء، ليضعا رسوم البناء ويشرفا على تشييده. ولم يتبع المهندسان شكل الباسيليكا التي جرت عليها التقاليد المعمارية الرومية، بل وضعا للبناء تصميماً تكون صرته قبة واسعة لا ترتكز على جدران بل على أكتاف ضخمة، وتسندها نصفا قبتين من كلا الجانبين. واستخدم في العمل عشرة آلاف عامل، وأنفق عليه 320.000 رطل من الذهب (134.000.000 دولار أمريكي) وهو كل ما كان في خزانة الدولة، وأمر حكام الولايات بأن يبعثوا إلى الكنيسة المخلفات القديمة، وجئ بعشرات الأنواع والألوان من الرخام من مختلف الأقطار وصبت في النقوش والزينات مقادير هائلة من الذهب، والفضة، والعاج، والأحجار الكريمة. واشترك يوستنيانوس نفسه اشتراكاً عملياً في تخطيط البناء وإقامته، وكان له نصيب غير قليل (كما يقول المؤرخ المداهن الساخر) في حل ما يعترض العمل من المشاكل الفنية.
فكان يتردد عليه في كل يوم وعليه ثياب بيض، وفي يده عصا طويلة، وعلى رأسه منديل، يشجع العمال ويحثهم على العمل ليتموه في موعده المقرر. وتم بناء الصرح العظيم في خمس سنين وعشرة أشهر، وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ايلول من عام 537 مسيحية، أقبل الإمبراطور والبطريرك القسطنطيني ميناس يتقدمان موكباً مهيباً لافتتاح الكنيسة المتلألئة الفخمة. وسار يوستنيانوس بمفرده إلى المنبر ورفع يديه إلى السماء ونادى قائلاً: “المجد لله الذي رآني خليقاً بأن أتم هذا العمل! الجليل! أيا سليمان! لقد انتصرت عليك!”. هنا يشير الى تقوقه على سليمان الحكيم في بناء هيكل سليمان في اورشليم.
وقد خط البناء على شكل صليب يوناني طوله 250 قدماً وعرضه 225، وغطى كل طرف من أطرافه بقبة صغرى، وقامت القبة الوسطى على المربع (البالغ 100 قدم × 100) والمكون من الضلعين المتقاطعين، وكانت ذروة القبة تعلو عن الأرض مائة وثمانين قدماً. وقطرها مائة قدم -أي أقل من قطر قبة البنثيون في روما باثنتين وثلاثين قدماً. وكانت هذه القبة الثانية قد صبت من الأسمنت المسلح قطعة واحدة مصمتة، أما قبة أياصوفيا فقد بنيت من الآجر في ثلاثين سطحاً تلتقي كلها في نقطة واحدة- وهو طراز أضعف من الطراز الأول.
وليست ميزة هذه القبة في حجمها بل في دعائمها: فهي لا تقوم على بناء دائري كما تقوم قبة البنثيون بل على أربطة من أعلاها، وعلى عقود بين حافاتها المستديرة وقاعدتها المربعة. ولم تحلّ هذه المشكلة المعمارية قبل ذلك الوقت حلاً أكثر توفيقاً من هذا. وقد وصف بروكبيوس القبة بأنها:
“عمل مجيد يبعث الروعة في النفوس… وهي لا تبدو قائمة على ما تحتها من البناء بل تبدو كأنها معلقة بسلسة من الذهب في أبراج السماء”.
وأما من الداخل فكانت الكاتدرائية صورة رائعة من الزخرف البراق. فقد كانت أرضها وجدرانها من المرمر المتعدد الألوان: أبيض، وأخضر، وأحمر، وأصفر، وأرجواني، وذهبي. وأقيم منه كذلك طابقان من العميد يخيل إلى إليها أنها حديقة من الأزهار. وكانت تيجان العمد، والعقود وما بينهما، والأفاريز، والطنف مغطاة بنقوش على الحجارة مكونة من أوراق الأكنثوس والكرمة. وكان يطل من الجدران والقباب فسيفساء لا مثيل لها في روعتها وسعتها. وكانت تضم فيها أربعون ماثلة من الفضة معلقة من حافة القبة تضاف إلى ما فيها من النوافذ الكثيرة.
وإن ما يحس به الناظر إلى هذه الكنيسة من سعة تبعثها في نفسه أجنحتها الطويلة، وبناءها الرئيس، والفضاء الخالي من العمد تحت القبة الوسطى، وما في حظارها الفضي المواجه للقباب من زخارف معدنية، والحظار المعدني الجميل الذي في الإيوان الأعلى، والمنبر المرصع بالعاج والفضة والحجارة الكريمة، وعرش البطريرك المصنوع من الفضة المصمتة، والسجف المنسوجة من خيوط الحرير والفضة، والتي ترتفع فوق المذبح وعليها صورتا الإمبراطور والإمبراطورة تتلقيان بركات السيد المسيح و السيدة العذراء والمائدة والمذبح الذهبي اللون المصنوع من الرخام النادر الوجود وعليهما الأواني المقدسة من الفضة والذهب -وهو بعض ما في الكنيسة من زخارف وزينة- ليجل عن الوصف، ولو أن يوستنيانوس قد تباهى به أباطرة المغول من بعده، وهو أنهم كانوا يبنون كما يبني الجبابرة، ويزينون مبانيهم كما يزينها الصباغ، لكان على حق في مباهاته.
وكانت كاتدرائية أياصوفيا بداية الطراز المعماري الرومي وخاتمته في آن واحد. وكان الناس في كل مكان يسمونها “الكنيسة الكبرى” وحتى “بروكبيوس المتشكك” نفسه تحدّث عنها حديث الرجل المرتاع فقال: “إذا دخل الإنسان هذه الكنيسة للصلاة، أحس بأنها ليست من أعمال القوى البشرية… ذلك أن الروح ترقى إلى السماء تدرك أن الله هنا قريب منها، وأنه يبتهج بهذا اليوم، في بيته المختار”.
من القسطنطينية إلى رافنا
كانت كاتدرائية آجيا صوفيا أجلّ ما قام به يوستنيانوس من الأعمال، وكانت أبقى على الدهر من فتوحه أو قوانينه، ولكن بروكبيوس يصف أربعاً وعشرين كنيسة أخرى بناها يوستنيانوس هذا الامبراطور الرومي الحسن العبادة أو أعاد بناءها في عاصمة ملكه. ويقول:
“لو رأيت كنيسة منها بمفردها لحسبت أن الإمبراطور لم يبْن كنيسة سواها بل قضى سني حكمه جميعها في بنائها وحده”.
وظلت حمى البناء منتشرة في جميع أنحاء الإمبراطورية طوال حياة جستنيان، حتى كان القرن السادس وهو بداية العصور المظلمة في الغرب من أكثر العصور ازدهاراً في تاريخ العمارة في الشرق. فكانت ألف كنيسة في إفسوس، وإنطاكية، وغزة، وبيت المقدس، والإسكندرية، وسلانيك، ورافنا، ورمة، واللاد الممتدة من كرش في بلاد القرم إلى الصفاقس في شمالي أفريقية، تحتفل بانتصار المسيحية على الوثنية، وبالطراز الشرقي-البيزنطي على الطراز اليوناني-الروماني. وحلّت العقود والقباب محل الأعمدة الخارجية، والعوارض، والقواصر، والطنف.
وازدهرت في سورية نهضة حقه في القرن الرابع، والخامس، والسادس؛ فكانت مدارسها القائمة في إنطاكية، وبيروت، ونصيبين، تخرج العدد الجم من الخطباء، والمحامين، والمؤرخين، والخارجين على الدين. وبرع صنّاعها في أعمال الفسيفساء، والنسيج، وجميع الفنون الزخرفية، وشاد مهندسوها مائة كنيسة زينها مثّالوها بما لا حصر له من النقوش البارزة.
وكانت الإسكندرية المدينة الوحيدة في الإمبراطورية التي كان ازدهارها متصلاً لم ينقطع أبداً. ذلك أن مؤسسها قد اختار لها مكاناً يكاد يرغم عالم البحر المتوسط على استعمال مرافئها وزيادة تجارتها. ولم تبق الأيام على شيء مما أقيم فيها من عمائر في تاريخها القديم أو في أوائل العصور الوسطى، ولكن ما بقى من أعمالها في المعادن، والعاج، والخشب، والتصوير، متفرقاً في أماكن مختلفة يوحي بأن أهلها قد بزوا غيرهم في الشهوانية، والحمية الدينية. وكان الطراز الشرقي في عهديوستنيانوس هو الطراز الغالب في فن العمارة القوطي الذي بدأ بالباسيلكا الرومانية.
وبدأ مجد رافنا المعماري بعد أن اتخذها هونريوس عاصمة الإمبراطورية الغربية في عام 404مسيحية بزمن قليل. وعم الرخاء المدينة في الفترة الطويلة التي كانت فيها جلا بلاسيديا Galla Placidia نائبة عن الإمبراطور، وكانت صلتها الوثيقة بالقسطنطينية سبباً في قدوم الصنّاع الشرقيين، واختلاطهم بالمهندسين الإيطاليين وفي دخول الأنماط الشرقية وامتزاجها بالأشكال الإيطالية. وظهر فيها الطراز الهندسي الشرقي المؤلف من قبة مقامة على قاعدة بشكلها الصليبي منذ عام 450 في الضريح الذي لقيت فيه بلاسيديا ربها، ولا يزال في وسعنا أن نرى فيه النقش الفسيفسائي الذائع الصيت الذي يمثل المسيح في صورة الراعي الصالح. وفي عام 458مسيحية أضاف الأسقف نيون Neon إلى مكان التعميد المقبب في باسيليكا أرسيانا Basilica Ursiana سلسلة من قطع الفسيفساء من بينها صورة مفردة للرسل. وشاد ثيودريك حوالي عام 500 كنيسة كبرى سماها باسم القديس ابلينارس الذي يقال إنه مؤسس العشيرة المسيحية في رافنا. وهنا يظهر على الفسيفساء التي طبقت شهرتها آفاق العالم للقديسين ذوي الثياب البيض في وقارهم الشديد الذي ينبئ ببداية الطراز الرومي.
كان استيلاء بليساريوس على رافنا من الأسباب التي عجلت بانتصار الفن الرومي في إيطاليا. وسرعان ما تمت كنيسة سان فيتال (San Vitale 547مسيحية) في عهد يوستنيانوس وثيودورا، اللذين وهباها المال اللازم لتزيينها، كما وهباها أيضاً وجهيهما غير الجذابين لينقشا على جدرانها. وما من شك في أن الإمبراطور قد أوتي حظاً كبيراً من الشجاعة إذ أجازا أن تنقل صورتهما إلى الخلف. ومواقف أولئك الأباطرة والاكليروس تنبئ كلها عن صلابة وحدة في الطباع، وفي مظهرهما الأمامي الجامد ليعد انقلاباً في الصور التي كنا نشهدها قبل عصور اليونان والرومان الأقدمين. وأثواب النساء كثيرة الزركشة تعلن انتصار نقوش الفسيفساء، ولكننا لا نجد هنا رشاقة مواكب البارثنون للمرحة والسعادة، أو نصب السلام لأغسطس أو ما نشاهده في الصور المنقوشة على أبواب شارترز وريمز من نبل ورقة.
وبعد عامين من افتتاح كنيسة سان فيتال افتتح أسقف رافنا كنيسة القديسة ابلناري في كلاس Class وهي ثاني كنيسة أقيمت لهذا القديس راعي المدينة؛ وكان موضعها في ضاحيتها التي على شاطئ البحر، والتي كانت في وقت ما قاعدة الأسطول الروماني على البحر الأدرياوي. ونشاهد فيها التصميم الباسيليكي الروماني القديم، ولكن تيجان الأعمدة المختلطة الأشكال تظهر عليها مسحة رومية تنم عنها أوراق الأقنتا الملفوفة الملتوية على خلاف ما كان يظهر في الأنماط اليونانية والرومانية القديمة، كأنما هبت عليها ريح شرقية. وإن ما في هذه الكنيسة من صفوف الأعمدة الكاملة الطويلة، وفي حليات العقود والمثلثات المحصورة بينها من فسيفساء زاهية (من القرن السابع)، وما في مكان الجوقات والمرتلين من لوحات جميلة من المصيص، وما في الصليب القائم في القباب من الجواهر مرصعة بها أرضية من النجوم في الفسيفساء، إن في هذا كله ما يجعل هذه الكنيسة من أشهر كنائس شبه الجزيرة التي تكون كلها معرضاً عظيماً الفنون الجميلة.
الفنون الرومية
لقد كان فن العمارة أروع ما خلفه الفنان الرومي، ولكنه كان في ثناياه أو من حوله فنون أخرى كثيرة نبغ فيها نبوغاً خليقاً بالتنويه. نعم إنه لم يكن يعنى بالنحت المجسم، وأن مزاج العصر كان يفضل الألوان على الخطوط، ولكن بروكبيوس يثني على المثالين في ذلك العصر، وأكبر الظن أنه يعني بهم أصحاب النقش البارز، ويقول إنهم لا يقولون مهارة عن فدياس وبركستليز، وإنا لنجد على بعض التوابيت الحجرية المصنوعة في القرن الرابع والخامس والسادس صوراً آدمية منحوتة تكاد تضارع الرشاقة الهلينية، مختلطة بها كثير من نقوش الزينة الآسيوية.
وكان النقش على العاج من الفنون المحببة إلى الارثوذكسيين، وكانوا يصنعون منه ألواحاً ذات طيتين أو ثلاث طيات، ويجلدون به الكتب، ويصنعون منه العلب، وصناديق العطور، والتماثيل الصغيرة، ويطعمون به التحف ويزينون به ما لا يحصى من الأشياء. وقد بقيت الفنون الهلنستية في هذه الصناعة لم يمسها سوء، وكل ما حدث فيها أنها استبدلت السيد المسيح والقديسين بالآلهة والأبطال. وإن الكرسي العاجي الذي كان يجلس عليه الأسقف مكسميانوس في الباسيليكا أرسيا Basilica Ursiana (حوالي 550مسيحية) ليعد تحفة عظيمة في فن من الفنون الصغرى.
وبينا كان الشرق يجري التجارب على الرسم بألوان الزيت، كان التصوير الرومي لا يزال مستمسكاً بالأساليب اليونانية التقليدية كتثبيت ألوان الرسوم بالحرارة – بحرق الألوان في سطوح الخشب، والخيش ونسيج التل، وكالمظلمات يصنعونها بخلط الألوان بالجير ووضعها على سطوح من الجبس المبلل، ومزج اللون بمحلول الماء والصمغ أو الغراء وبزلال البيض ثم وضعها على المربعات الخشبية أو على الجبس بعد أن يجف.
وقد عرف الرسام الرومي كيف يمثل البعد والعمق في الأيقونة الارثوذكسية، ولكنه كان يهرب عادة من صعاب النظور بأن يملأ خلفية الصورة بالمباني والسجف. وقد أخرج عدداً كبيراً من اللوحات المصورة، ولكنها لم يبق منها إلا القليل. وكانت جدران الكنائس والسقوف تزدان بالرسوم، وتدل القطع الباقية منها على الواقعية غير المتقنة كالأيدي العديمة الشكل، والأجسام الصغيرة، والوجوه الشاحبة. والشعر المصفف تصفيفاً غير معقول.
وقد برع الفنان الرومي في الأشياء الدقيقة وأظهر فيها مرحه وظرفه. وليست روائع التصوير الباقية إلى هذا اليوم من أعماله هي رسوم الجدران أو اللوحات الكثيرة، بل هي الرسوم الصغرى ذات الألوان البراقة التي كان يزين وينمنم بها ما ينشر من الكتب في عصره. ذلك أن الكتب كانت كثيرة النفقات في ذلك العصر، ولهذا كانت تحلى كما تحلى غيرها من الأشياء النفيسة.
وكان الفنان المصور او مصور او كاتب الايقونة بتسميته في المصطلحات الارثوذكسية، يبدأ عمله هذا عادة بالصلاة العميقة النابعة من قلبه، ثم يرسم ما يريده من الحليات على البردي أو القماش او الرق أو الجلد بفرشاة دقيقة أو قلم، ثم يضع أرضية تكون عادة ذات لون ذهبي أو أزرق، ثم يضع ما يريده من الألوان، ثم يزين الأرضية والحواشي بأشكال رشيقة دقيقة. وكان في بادئ الأمر يقتصر على تحسين الحرف الأول من كل فصل أو صفحة؛ وكان يحاول في بعض الأحيان أن يرسم صورة للمؤلف، ثم انتقل بعدئذ إلى توضيح النصوص بالصور؛ فلما تقدم فنه آخر الأمر كاد ينسى النص ويملأ الكتاب بالزخارف ويبينها على أساس هندسي أو رمزي ديني يكرر بأشكال مختلفة بخطئها الحصر، حتى تصبح الصفحة كلها وكأنها صورة واحدة بديعة من الألوان والخطوط كأن النص دخيل عليها من عالم أكثر منها خشونة.
وكانت زخرفة المخطوطات مألوفة في مصر أيام الفراعنة والبطالمة الاغريق في الحضارة الهلنستية، ثم انتقلت منها إلى بلاد اليونان الهلنستية وروما. ويحتفظ الفاتيكان بقصيدة الالياذة الاغريقية، وكذلك نسخة ثانية منها في المكتبة الأمبروزية في ميلان، تعزى كلتاهما إلى القرن الرابع المسيحي وهما مزدانتان زينة يونانية ورومانية قديمة، ويبدو الانتقال من الزخرفة الوثنية إلى المسيحية واضحاً في الطبوغرافية المسيحية لصاحبها كزماس انديكبلوستيز Cosmas Indicoplenstes (حوالي 547).
وقد نال لقبه هذا “إنديكلبوستير” لأنه سافر إلى الهند بحراً، كما نال شهرته لأنه حاول أن يثبت أن الأرض مستوية. وأقدم كتاب ديني مزخرف باق إلى هذا اليوم هو سفر التكوين المكتوب في القرن الخامس والمحفوظ الآن في مكتبة فيينا. والنص مكتوب بحروف من الفضة والذهب على أربع وعشرين “ورقة” من الجلد الأرجواني الرقيق. ويحتوي على أربعة وعشرين زخرفاً بيضاء وخضراء، وبنفسجية، وحمراء، وسوداء، تصور قصة الإنسان من سقوط آدم حتى موت يعقوب. ولا يقل عنه جمالاً الملف الصغير لكتاب يوشع المحفوظ في الفاتيكان وكتاب الأناجيل الذي زخرفه الراهب رابولا Rabula في أرض الجزيرة في عام 586مسيحية.
ومن الأرض السورية جاءت الصور والرموز التي كانت لها الغلبة في الكتابة التصويرية التي ذاعت في العالم الرومي. وقد تكررت هذه الكتابة في الفنون الصغرى واتخذت لها ألف شكل وشكل حتى ثبتت وأصبحت تقليداّ وعرفاً متبعاً، وكان لها نصيب موفور في كلاسيكية الفن الرومي الايقونغراقي في الكنيسة الارثوذكسية.
وإذا كان المصور الرومي مولعاً بالتصوير البراق الدائم فقد اتخذ الفسيفساء وسيلته إلى هذين الفرضين. ومن أجل هذا اختار الأرض حجراته مربعات من الرخام الملون، كما يفعل المصريون واليونان والرومان من قبله، أما السطوح الأخرى فكان يستخدم فيها مكعبات من الزجاج أو الميناء من جميع الألوان ومختلف الحجوم، ولكن سطحها في العادة كان يبلغ 1/8 بوصة مربعة.
وكانت الحجارة الثمينة تختلط أحياناً بالمكعبات، وكثيراً ما كانت الفسيفساء تستخدم في صنع الصور الصغيرة التي توضع في الكنائس أو البيوت. أو تحمل في الأسفار عوناً لأصحابها على الزمن ودليلاً على التقي والخشوع. غير أن صانع الفسيفساء كان يفضل على هذه الصور الصغرى مجالاً أوسع هو جدران الكنائس والقصور. فكان في مرسمه يجرب وضع المكعبات على قطعة من الخيش عليها رسم ملون. وهنا كان يجهد عبقريته الفنية ليضع تحت يده الألوان المدرجة الذائبة بعضها في بعض كما يجب أن يراها الناظر من بعيد. وفي هذه الأثناء كانت طبقة من الأسمنت الغليظ، ثم طبقة أخرى من الأسمنت الرقيق توضعان على السطح المراد تغطيته. ثم يأتي صانع الفسيفساء ويضغط مكعباته في هذا القالب على غرار النموذج الذي وضعه لنفسه فوق الخيش، وقد جرت عادته على أن يضع حافاتها المقطوعة إلى الأمام لكي يقع عليها الضوء. وكان يفضل السطوح المنحنية كسطوح القباب، وأنصاف القباب الشبيهة بالأصداف لأنها تمتص في أوقات مختلفة بزواياها المختلفة أنواعاً عدة من الأضواء المطلة. ومن هذا الفن الشاق الذي يتطلب المهارة والجلد أُلهم الفن القوطي في مستقبل الأيام غير قليل من فن تلوين الزجاج.
وقد ورد ذكر هذا الزجاج الملون في النصوص الباقية من لقرن الخامس ولكن شيئاً منه لم يبق حتى الآن، ويبدو أن صبغته كانت من خارجه لم تمزج فيه مزجاً. وكان صنع الزجاج بالنفخ وتقطيعه قد مضى عليهما الآن ألف عام وكانت سورية، أقدم مواطنصناعة الزجاج والصناع، لا تزال مركزاً من مراكزهما.
وكان فن الحفر على المعادن الثمينة والحجارة الكريمة قد انحط بعد أيام أورليوس، ولهذا نرى الجواهر، والنقود، والأختام الرومية غير دقيقة الشكل والصناعة. لكن الصناع مع هذا كانوا يبيعون منتجاتهم لكل طبقة من الطبقات تقريباً، لأن الروم كانوا مولعين أشد الولع بالحلي. وكانت محال صنع التحف الذهبية والفضية كثيرة العدد في العاصمة القسطنطينية كما كانت الحقائق ( جمع حق للنبيذ) والأقداح، وعلب المخلفات المصنوعة كلها من الذهب تزدان بها كثير من مذابح الكنائس، وكانت الصحاف (ج صحفة او صحن) الفضية تغطي موائد ذوي اليسار.
وكان في كل بيت، بل يكاد يكون لدى كل شخص، شيء من النسيج الرقيق.
وكانت لمصر الزعامة في هذا الميدان بما كان فيها من منسوجات رقيقة، متعددة الألوان، مزدانة بالصور، تصنع منها الثياب، والستر، وأغطية الفراش، وكان المصريون سادة هذه الميادين. وتكاد بعض الأقمشة المصرية التي كانت تزدان بها الجدران في تلك الأيام تضارع من الناحية الفنية أقمشة الجوبلين Goblins كان النساجون الروم ينسجون الحرير المطرز، والثياب المطرزة، بل والأكفان المطرزة أيضاً- فقد كانت المنسوجات التيلية تصور عليها بالفعل ملامح الموتى. وكان الناس في القسطنطينية يعرفون ما يلبسون من الثياب، ذلك أن كل طبقة من أهلها كانت تعتز بنوع خاص من الثياب يميزها من غيرها وتدافع عنه أقوى دفاع، وما من شك في أن أية جماعة رومية كانت تبدو برَّاقة كذيل الطاووس.
الموسيقى الرومية
وكانت الموسيقى محببة لجميع الطبقات منتشرة بينها، وكانت ذات شأن متزايد في طقوس الكنيسة، وقد أعانت على مزج العاطفة بالعقيدة. وقد كتب ألبيوس Alypius في القرن الرابع المسيحي مقدمة موسيقية بقيت منها حتى الآن أجزاء، هي أهم ما نسترشد به في قراءة العلامات الموسيقية اليونانية. وقد استبدلت في ذلك القرن بالحروف الهجائية التي كانت بها الأنغام علامات رمزية، ويبدو أن أمبروزيوس هو الذي جاء بهذه العلامات إلى ميلان، وأن هيلاري Hilary هو الذي أدخلها في غالية، وجيروم في روما.
وألف رومانوس Romanus، الشماس الحمصي الأصل – البيروتي المنشأ، والذي صار شماس الكاتدرائية العظمى في القسطنطينية في أواخر القرن الخامس ألفاظ الترانيم والصلوات العديدة ومنها قنداق الميلاد البديع ” اليوم العذراء تأتي الى المغارة…” التي لا تزال حتى الآن جزءاً من الطقوس الدينية اليونانية الارثوذكسية ولحنها بشكلها البديع كما نرتلها اليوم، وليس ثمة ما يضارع هذه الترانيم في عمق الشعور وقوة التعبير. وكتب بؤيتيوس مقالاً في الموسيقى لخص فيه نظريات فيثاغورس وارستكسنوس Aristoxenus وبطليموس. وقد ظلت هذه الرسالة تدرس في جامعتي أكسفورد، وكمبردج…
وبعد، فإن من واجب الإنسان أن يكون شرقياً إذا شاء أن يفهم الفن الشرقي على حقيقته. وإن المعنى الجوهري الذي يدركه العقل الغربي من النزعة الرومية الارثوذكسية هو أن الشرق قد سرى في قلوب اليونان سكان حوض البحر المتوسط الشرقي وتغلغل في أفئدتهم في الحكومة الأتوقراطية، وفي الطبقات المتدرجة الثابتة، وفي ركود العلم والفلسفة، وفي الكنيسة الخاضعة لسلطان الدولة، والشعب الخاضع لسلطان الدين، وفي الثياب الفخمة والحفلات العظيمة، والطقوس الدينية ذات الألفاظ الطنانة الرنانة والمناظر الرائعة، والنغمات الموسيقية الساحرة المتكررة التي تستحوذ على تفوس المؤمنين والسامعين، وتغمر الحواس بفيض من الألوان البراقة؛ وأخضع الطبيعة للخيال، والفن التمثيلي للفن الزخرفي.
ولقد كان من شأن الروح اليوناني القديم أن يجد هذا كله غريباً عنه لا يطيقه، ولكن بلاد اليونان نفسها وقتئذ جزءاً من الشرق. وغلبت على العالم اليوناني كلالة أسيوية فيه في الوقت الذي كانت بلاد الفرس المتجددة الحيوية، وكانت قوة الإسلام العظيمة التي لا يكاد العقل يدرك مداها، نقول في الوقت الذي كانت هذه وتلك تنازعانها حياتها نفسها.
الفرق بين الايقونة الرومية الارثوذكسية والصورة الغربيةمن الأمور التي تتميز بها الكنيسة الأرثوذكسية عن الغرب تصوير الأيقونات المقدسة الذي بلغ شأناً بعيداً في الجمال والإبداع والقداسة بحسب لاهوت الكنيسة المقدسة.
الأيقونة هي كلمة ذات أصل يوناني تعني الصورة أو المثال . وفي الاصطلاح المسيحي هي صورة تمثل شخصاً أو مشهداً مقدساً مرسومة على الخشب أو الجدار وفقاً لأساليب وتقاليد خاصة تُظهر حالة الشخص المرسوم فيها وهذا يفرض على الفنان أن يطلع تمام الإطلاع على سيرة الشخص المرسوم فيها ، وعلى أحداث الكتاب المقدس وتعاليمه. وبهذا التعريف ليست كل صورة أيقونة . فالأيقونة مبدئياً صورة تمزج ألوانها بمح البيض ( الصفار ) بدلاً من الزيت أو الغراء أو أي مادة هلامية أخرى بعكس الصورة الغربية التي يستخدم فيها الرسامون الزيت والمواد الكيماوية.
هذا يعني أن لفن الأيقونات طرق وتقاليد خاصة لابد للفنان أن يتقيد بها. فلا يخضع التصوير الكنسي لخاطر المصور أو تقلب العصور، بل للأيقونة شخصية ثابتة بمعزل عما تمثله، فهي إيضاح شعور جميع الذين يجاهرون بالمبادئ الدينية نفسها ، أي إيضاح شعور الكنيسة وأفكارها وعقائدها. فالصورة وإن كانت من عمل الرسام فهي ليست من ابتداعه أو تجلي شعوره الشخصي. ولهذا يجب على من يريد أن يزاول “كتابة الأيقونات”، على الأقل، أن يرضى ويخضع خضوعاً تاماً لمثالها الفني الأعلى الذي تسلمته الكنيسة بالتقليد من الأباء. فتاريخ الكنيسة يشهد أن معظم الذين مارسوا كتابة الأيقونات مارسوا الزهد والتقشف والحياة الشريفة الملائكية.
وبحسب هذا المثال فإن فن الأيقونات لا يمثل لنا الأشياء كما هي، والأجساد البشرية وشوائبها، بل هو فن روحي صرف يعبّر لنا عن فكرة لاهوتية، فترينا الإنسان متجلياً بروح الله، وينبئنا عن حالته الروحية الممتلئة مجداً وقداسة . فهناك تمييز بين الجسد واللحم في الأيقونات. فهدف الأيقونة هو ليس إثارة أو إبراز أحاسيس الطبيعة البشرية فهي غير متحركة وخالية من العاطفية بحسب لغة الفن الحديث. هدفها أن تتجلى عواطفنا وإدراكنا وكل عناصر طبيعتنا بشكل متناغم مع النعمة الإلهية وذلك بنزع كل الأهواء التي يمكن أن تكون مؤذية ولا تناسبنا في السير نحو الخلاص. الأيقونة لذلك لا تقمع أو تخمد أي شيء أصيل في الإنسان كما هو شائع في بعض الأوساط. ولا تقتل العناصر الجسدية ولا شخصيته التي يتميز بها في العالم ولا تحقّر عمله في هذه الأرض الذي استطاع هذا القديس أن يحوله إلى نشاط وعمل روحيين إن كان كنسياً كأسقف أو راهب أو مدنياً كأمير أو جندي أو نجار. ولكن على العكس فالأيقونة تظهر كل هذه الأشياء مرتبطة مع العالم السماوي والإلهي. فكل مهنة أو كل ظاهرة في الحياة عندئذ تتأله، تتطهر وتأخذ مكانها الصحيح وتكتسب معناها الأصلي.
لهذا فالأيقونة تظهر لنا بوضوح جسد الإنسان المقدس بنعمة يسوع المسيح ” الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده “. فإن ما يكتبه الرسام ويوحيه للناظر هو ذلك الجسد الروحاني الذي تكلم عنه بولس ” من الأجساد ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي”. فليست الأيقونة صورة عادية ولا مجرد أشكال فنّية وزينة مقدسة للمعابد ولا تفسيراً للأسفار المقدسة. بل هي أسمى من هذا كله فهي حقيقة إلهية محسوسة تاريخية منورة بالنعمة تباركها الكنيسة وتكسبها صفة سر من أسرارها. هي أداة عبادة تكمن فيها النعمة الإلهية وجزء متمم لليتورجيا تتجلى فيها عقيدة الكنيسة وتقليدها المقدس وتتمتع بالصفة نفسها التي للتقليد المكتوب أو الشفهي فتقابل الأيقونة بحسب تعاليم الكنيسة المقدسة كلمة الكتاب المقدس لأن ما تعلمنا إياه الكلمة بحاسة السمع تظهره الأيقونة بصمت بما تمثل للعيان. إذاً الفن المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية هو تعبير منظور لعقيدة التجلي.
يرى الغربي في الأيقونة وسيلة للتثقيف والتعليم والبنيان الروحي أما الشرقي فيعدها، بالإضافة لهذه الأمور، سراً يفيض النعمة والبركات والأشفية ومنهلاً قوياً مُقدساً للطالبين منها، وقدسية يهرع إليها الجميع، وحرزاً في القتال، وحماية الأُسَرِ ومسار البشر في الأفراح والأتراح، وأسمى تعبير عن الشعور الديني والفني، لا بل خلاصة الشعورين وامتزاجهما معاً.وهذه العلاقة الناشئة بين المؤمن والأيقونة هي ليست علاقة وثنية أي تعبدية، بل هي علاقة تنشأ بين المؤمن وبين ما تمثل الأيقونة فيمسي هذا حاضراً سرياً وماثلاً للعيان. والأيقونة تظهر بطريقة حسية منظورة تنازل الله بالوحي الإلهي، وتجاوب الإنسان معه بحياته، فهي شهادة حسية ملموسة تنطق بعظم تنازل الله نحو الإنسان معه بحياته واندفاع الإنسان نحو الإله المتنازل.
غاية الأيقونة المقدسة
غاية الأيقونة المقدسة إنارة العقل بما تعلمنا من حقائق لاهوتية وتاريخية، وإثارة العواطف المقدسة في القلب بما تمثله لنا من مشاهد حياة الرب يسوع المسيح والعذراء والقديسين. قال لاوانديوس أسقف نيابولس في قبرص ( ق.الرابع ) ما معناه، إن الأيقونات المقدسة صحف مفتوحة على الدوام للمؤمنين، تناجي بلا انقطاع وتذكر المسيحيين بحقائق إيمانهم وبحضوره تعالى وإنعاماته السنية فتساعدهم على إظهار شعائر العبادة والسجود للخالق. لذا الأيقونة هي وسيلة للاتصال بين المؤمن المصلي والخالق. لذلك تمنع الكنيسة الأرثوذكسية الرسامين أن يسترسلوا لمخيلتهم وخاطرهم خشية أن تفقد الأيقونات هيبتها ورموزها ومعانيها الفريدة لأنه في إنشاء الأيقونات ووضعية أشخاصها أدق المعاني اللاهوتية وأسمى التعاليم الإنجيلية. هذا ما يميز التصوير البيزنطي عن التصوير الغربي. فبالدرجة الأولى تعمد الكنيسة الغربية إلى تزيين الجدران من الداخل وبشكل محدود بالصور، ففي المجمع الفاتيكاني الثاني نجد وضوح هذا الأمر في القرار 125 القائل :” إن عرض الصور يكون بعدد محدود ونظامٍ ملائم خشية أن تثير تعجب الشعب وتحمل على عبادة منحرفة”، وبالدرجة الثانية إلى تثقيف الشعوب القاسية في أوربة حتى القرون الوسطى.
الأيقونة هي نفسها غاية التجسد الذي في مفهومه الأخير تقديس المادة عامة وتجلي الجسد البشري خاصة. أي إن حادثة التجلي على ثابور تفسر غاية التجسد الإلهية للجسد البشري ولنا أمثلة على ذلك (القديس سيرافيم والقديس استفانوس) والرؤية الأيقونوغرافية توضح بجلاء هذا التعليم الكتابي “كونوا كاملين”مت 5 : 48 .لذلك تظهر لنا ما يكون عليه الجسد الروحاني المتحرر من المادة والجاذبية والعائد على صورة الله وشبهه ، فهي تحول الأنظار من جمال البشرة إلى جمال ماهو إلهي إنساني لأنه لايوجد جمال كامل إلا في حالات محددة مرت بالكتاب (التجلي على ثابور ، وجه موسى ووجه استفانوس) ووجه القديس سيرافيم . وتأتي هنا الأيقونة لتعطينا فرصة رؤية هذا الجمال الذي ليس له وجود إلا بالإتحاد بالله . فهي تظهر التوازن بين الجسد الإنساني والنعمة الإلهية وهذا الإتحاد يعني الجسد المتأله الذي للقديسين والذي تصوره الأيقونة الشرقية فقط . فلاشيء ممكن أن يسبق الزمن إلا الأيقونة التي تظهر الحالة الجمالية المطلقة وليست المؤقتة في الأمثلة السابقة التي سيكون عليها المؤمنون في الملكوت لذلك تلقب الأيقونة بالنافذة السماوية ، وهذا المفهوم لن يستوعبه إلا من تلقفوا هذا السر (الأيقونة) من تعاليم الآباء . لذلك نفهم لماذا إلى اليوم يوجد مسيحيين لا يستطيعون رؤية الجمال المطلق الذي للأيقونة الأرثوذكسية ولازالوا يهبطون مع الجمال المحدود الذي للغربية.
الأبعاد الأربعة في الأيقونة
سنسير في الشرح من الآخر إلى الأول لنصل إلى المراد لكن أطيلو أناتكم علي :تصور الأيقونة القديس وهو في الملكوت ، وهذا يعني تحرره من كل ما هو مادي وزمني .ولكن هذا لايعني بأنه خيال . وهي تصور القديس لافي حالته الراهنة الفردوسية ، وإنما في حالته بعد المجئ الثاني للمسيح ،أي ليس بروحه فقط بل بجسده القائم من الانحلال والممجد . وهذا الجسد لامادي بالمعنى الأرضي للكلمة لكنه من مادة مقدسة متحررة من شوائب المادة الأرضية . كيف يكون هذا في الأيقونة التي تصور عذابات القديسن ؟ كيف لجسد ملكوتي كهذايمكن تصويره في الفن الأيقوناتي وهو مقطوع الرأس وينزف الدماء ، وبنفس الوقت بلا نفور وبلا صورة مجسدة أي بصورة روحية . تخطت الأيقونة عائق الزمن لتصوير هذا ، فبالرغم من أنها صورت القديس وهو بجسد ممجد ، لكنها صورت هذا الجسد بمرحلة من حياته الأرضية وهي المرحلة التي تقدس بها (إن كان لحظة استشهاد القديس أو نسكه أو أي وسيلة تقدس بها) وهنا أرادت الأيقونة أن تصور بأن هذا القديس في اللحظة التي تقدس بها قد تخلى عن هذا الجسد المتألم عينه ليستبدله بآخر ممجد منزه عن الألم . وبهذا تكون الأيقونة قد تخطت البعد الرابع الذي تحدث عنه آينشتاين وهو بعد الزمن محررة القديس منه .وبتحرره من البعد الزمني يكون قد تحرر من البعد الأرضي أيضا . فمع أنه في الملكوت ، لكنه يصور في مكان استشهاده ، متجاوزا في ذلك البعد الثالث أيضا والذي يعبر عنه بالعمق أي النفور الذي يصور التجسيد المادي للأشياء . وأماالبعدين الثاني والأول فهو متحرر منهما أيضا في ملكوت المسيح . فلا الطول والعرض يحد أجساد القديس في الملكوت ، إذلا أبعاد هناك سوى الأبعاد الروحية لا المادية . وأما تصوير الأيقونة له ببعدين . فذلك كان لابد منه لأنه الوسيلة الوحيدة لتشكيل هذا الفن لإيصاله إلى الناس . واستعاضت الأيقونة عن تخليها عن هذين البعدين ببعض الرموز التي ترشدنا إلى أنه الآن بلاقامة مادية بل بقامة روحية كالهالة التي تدل على القداسة والخلفية الذهبية التي ترمز إلى الحضرة الإلهية التي لا يحدها شيء !!!.
أيقونة الكلمة المتجسد
الأيقونة هي السمة البصرية التي للكلمة .”اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ.” (1يو 2 :1) . فباعتبار أن الإنسان مادي (ترابي) بحاجة إلى ماهو مادي ليساعده بالوصول إلى ماهو روحي .فالإدراك الذهني يبقى مشتتا دون مساعدة الإدراك الحسي . وهذه ماهية الأيقونة كوسيلة مساعدة على الصلاة ، فأن تصلي وأنت مغمضا العينين أو تنظر إلى حائط أبيض شيئ يجعلك تسرح وتمرح في خيالك . لكن الرب منحنا نحن ورثة الموعد من بعد الرسل أن نحظى بما حظو هم به وذلك بمشاهدته في الأيقونة وسماعه في الإنجيل ولمسه وتذوقه في الأفخارستيا . وبهذا نكون كما الرسول يوحنا فيما ذكر في رسالته أعلاه . ويكون نالنا تطويب الرب بقوله “طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ!”(لو10 : 23) .وهنا يتضح لنا أن الأيقونة من صميم التعاليم التي أعطانا إياها الرب يسوع الذي تدرج بنا عن طريق حواسنا إلى أن نصل إلى ملء قامته . فبعد أنا جعلنا نسمع عنه في الكتب ، تجسد وجعلنا نراه وبعد أن رأيناه سمح لنا أخيرا بالحصول عليه كليا في آخر مرحلة لنا معه على الأرض “خذو كلو هذا هو جسدي” (مت 26 : 26 ) .وبعد أن حصلنا عليه كليا وصل بنا إلى مرحلة مابعد الماديات وما بعد الحواس ، وصل بنا إلى مرحلة الروح بعد هذا التدرج ليحل علينا الروح القدس في الخمسين . إن هذه الرحلة الإنجيلية تعلمنا كيف نصل إلى الله ، كيف نكون روحانيين كما هو روح وذلك باستخدام حواسنا ، بسماع كلمة الله المتجسد في الإنجيل ،ورؤيته في الأيقونة . والإتحاد به بالمناولة.
ايقونة السيدة
تعتبر العذراء مريم الفائقة القداسة أكثر الشخصيات تصويرا في الأيقونات . وربما ما يرفع لها من التسبيح كل يوم يفوق ما يرفع لإبنها . فهي تحتل مكانة لا يمكن مزاحمتها في الصلاة المسيحية الصحيحة .ولقد انبرى الفن الايقوناتي على تصوير والدة الإله معبرا عن سيرة وعقيدة صحيحة . فرسم كل الأعياد الوالدية وكل مراحل حياتها ، ما ورد في الإنجيل وما ورد في التقليد أيضا . منذ ولادتها وإلى ما بعد ارتقائها أيضا . وارتبط تصويرها ارتباطا وثيقا بتصوير ابنها معها . تأكيدا على أن إكرامها هذا نابع من كونها والدة الإله تحاشيا للمبالغة في الإكرام واعتبارها مشاركة في الألوهة أو الأزلية . يستثنى من هذا الأيقونات التي صورت والدة الإله في الفترة التي لم يكن فيها الرب يسوع موجودا في الجسد على الأرض . كالبشارة قبل التجسد . وسيدة الجبل بعد الصعود .لم يكن الإكرام الأرثوذكسي لها مبالغا فيه يوما . ولم يكن منتقصا لمكانتها أيضا . إنحراف الغرب عن منابع التقليد السليم ادى بهم إلى انحراف النظرة لها . فبالغت الكنيسة البابوية في اكرامها (الحبل بلا دنس) . وانتقصت منه البروتستانتية (ليست شفيعة) . موقفنا هو : انسان ناسوتي ليس إلا ، لكنها قديسة فوق العادة . لأنها والدة الإله ولأن شفاعتها لايمكن أن ترد أبدا إلا أنها ولدت كما يولد أي انسان ، حاملة آثار الخطيئة الجدية ، وإلا لكان عند الله محاباة ولما كان من داع لفداء المسيح لو أن إمكانية الحبل بلا دنس ممكنة حتى ولو للعذراء بشكل استثنائي .ولكن هي ليست كما باق الناس ولا كما باق القديسين . فمكانتها فوق جميع القديسين . وهي الوحيدة الأكرم من جميع الشيروبيم والسيرافيم ولا يوجد لقداستها حدود . فقد استمدتها من ملء الألوهة في أحشاءها . الأيقونة صورت هذا . فهي بلباس أزرق دائما لأنها انسان وليست إله . ولكنها بلباس أحمر أيضا لأنها التحفت الألوهة . هي ماتت كباق الناس ، ولكن جسدها المتأله لم يبق في أديم الأرض بل كرم بالارتقاء الإلهي خلافا لكال الناس . ولدت كباق الأمهات ، لكن بتوليتها دائمة كما لم ولن تكن مثلها ام بين الناس . نراها في الأيقونة كما لا نرى اي قديس آخر . وحدها تكرم إلى جانب ابنها الإله كما لا يكرم اي قديس آخر . إن وضعنا كل قديسي العالم بمقابل والدة الإله . فإنها وحدها تمثل الجنس البشري وهي فقط رمز للكنيسة لأنها الوحيدة صارت بلا دنس . فتشفعي فينا يامن هي الوحيدة التي شفاعتها لا يمكن أن ترد عند ابنها .
الانسان في الايقونة
كما يعرف كل اللاهوتيون أن الإنسان وجد ليتخطى حدود الزمان. وبتخطيه حدود الزمان اسخاتولوجيا يتخطى حدود المكان أيضا (وذلك في الملكوت). إن ما لم يدركه الباقون أن روحانية كنيستنا بنيت على الإيمان بسرمدية الله . هذا الذي وضع مجده في الإنسان فصوره على صورته ليكون هو مجدا له. وبهذا يكون الإنسان أبديا أيضا يستمر في بناء الكون الذي خلق في الزمن ليدلنا على أنه مستمر في كماله هذا. ويستمر الإنسان في هذا مرورا بكل شيئ يقوده إلى الصليب . ولكي نفهم كل هذا التدبير الزمني يجب أن يكون هذا التدبير متحررا من المادية أي ليس زمنا ماديا بل هو زمنا سرمديا . ولأن الأيقونة متحررة من هذا الزمن المادي صورت الإنسان كما هو متحرر منه أيضا .لذلك نستطيع أن نرى يوحنا المعمدان يقف في زمن الملكوت وهو يحمل رأسه المقطوعة في يده . ونستطيع أن نرى كل حدث التدبير مجموعا في أيقونة الميلاد . فلا الزمان ولا المكان بماديتهما وقفا أمام أخروية الرسالة التي حملتها الأيقونة لتري الإنسان سر التدبير منذ أزليته وإلى أبديته ، فيقف أمامها ويستمر في خوضها دون أن يصل إلى نهايتها ، لأنها تجمع كل الزمان والمكان في صفحتها التي لا يمكن قراءتها إلا بالروح . فالعين تعمل ، لكن القلب هو الذي يقرأ . فلا نقف عند حدود الجمال بل نصل إلى عالم الملكوت ذو الجمال الروحي لا المادي .
الإكليروس في الأيقونة
الاكليروس كان منهم عبر التاريخ كان منهم الكثير من القديسين للكنيسة والشهداء وقد بذلت هذه المرتبة الملائكية أكثر من غيرها في مجال العطاء الكنسي . فقدمت المعلمين(كالأقمار الثلاثة) والشهداء (كاغناطيوس الأنطاكي)والمعترفين (أثناسيوس الرسولي) والنساك (أفرام السوري) والعجائبيين (نكتاريوس العجائبي) . ولقد أبدع الفن الأيقونوغرافي في تصوير كل هذا . فصورهم في تعليمهم كما نرى في أيقونة المعلمين وهم يرتدون الحلة الكهنوتية ويباركون باسم السيد وينشرون تعليمهم أو يمسكون الإنجيل مصدر التعليم الصحيح . كما صورهم كشهداء تلتهمهم الوحوش أو كمعترفين لا ينكرون الإيمان أو كنساك راسما التقشف والزهد في وجوههم وأجسادهم . هدف الأيقونة من كل هذا الإحاطة بكل شيء . فالأيقونة عالم مرئي مكتوب لمن يحسن القراءة . ومرسوم لمن يتذوق الفن . ومسبوك بالروح لمن يصلي . من غاص في كل هذا عرف من هم القديسون الذين لازالوا بيننا .وفي الحقيقة أرى وجوههم في حياتهم كوجوههم في الأيقونة . فأنا لا أستطيع أن أرى صورة القديس باييسيوس الآثوسي إلا كأيقونة مجردة من المادة تحمل في طياتها عالما من الروح لا منظور له، من الكهنة الشهداء الشهيد في الكهنة القديس يوسف الدمشقي رائد النهضة الروحية في دمشق والكرسي الانطاكي المقدس، والخوري الشهيد سليمان سويدان، والخوريين الشهيدين ( أب وابنه) نقولا وحبيب خشة، و في مأساة سورية وذبحها الشهداء الكهنة الخوري الشهيد باسيليوس في حماه والخوري الشهيد فادي الحداد في قطنا، والمطران المظلوم والمغيب بولس يازجي….
الملائكة في الأيقونة
كل مراتب القديسين صورت في الأيقونة ، وكل طغمة صورت تعبر عن عيشها ، فالنسك في النساك ، والجهاد والعطاء في الشهداء . والتعليم في المعلمين . من هم أعلى من البشر قليلا (مز8 : 4)صوروا بهيئة بهية تعبر عن المجد الإلهي الذي يحملوه (ميخائيل : من مثل الله) . هذا المجد البهي يصور به رؤساء الملائكة أكثر من غيرهم من القديسين ،فقط السيد والسيدة يصوران ببهاء ورفعة أعظم . أيقوناتهم تكون إما جانبية تظهر بانحناءة قوسية تظهر تواضعهم أمام من يخدمون بالرغم من مجدهم . أو مباشرة تظهر عظمتهم لكن مصورة الرسالة التي أتوا من أجلها كالملاك ميخائيل مرتديا زيا حربيا أو جبرائيل يلبس لباسا مسالما كرسول ومبشر . كما أنهم رسموا في أيقونات الأعياد فصوروا بشكل ليتورجي يعكس رسالتهم أيضا كأيقونة البشارة أو أيقونة الصعود أو الرقاد . الجميل بالأيقونة أنها صورت “مالم تره عين أو تسمع به أذن أو يخطر على بال إنسان” (1كو2 : 9) وهذا على عكس ما يعتقده البعض أن الفن الكنسي صور ما تجسد فقط . هذا يصح على لاهوت التجسد الإلهي لأنه لاهوت منزه . لكن سمح في الكنيسة تصوير ما لم يرى لأن صورهم وضعت في الكتاب المقدس بعهديه . فصوروا في الأيقونة بحسب ما رسمهم كتَاب الأسفار المقدسة . أما الآب الذي لايصور فلأنه لم توضع له ولاصورة تقريبية سوى صورته الحقيقية الذي هو الإبن (يو14 : 9) . لهذا نحن نسجد لأيقونات الملائكة التي صورتها الكنيسة ونقدم لها الإكرام .
هل الأيقونات أصنام نعبدها ؟
مما لا ريب فيه أن كل العبادات عرفت الوسائل الحسية الملموسة في الحياة الروحية. والله بسبب معرفته هذه الطبيعة الطينية (المادية) لدى البشر سمح بهذه الوسائل الحسية في العبادة لاستخدامها بدلا من الأصنام وهذا ما عرفته الروحانية السليمة.
لقد سمح الله بوضع معظم طقوس العبادة بحس مادي أيقوناتي بمفهومنا الآن. فأيقونة الله في العهد القديم كانت تابوت العهد (يش15 )، وأيقونة الصليب لديهم الحية النحاسية (عدد9 :21) ،ورؤساء الملائكة هم الكيروبيم (ملوك1-6 :23)، والرموز كثيرة. ولقد عرف المؤمنون أن هذا الإكرام والتوقير لتلك الرموز هو توقير لله وتكريم له، وأن السجود لها هو تكريم وليس عبادة.
فالله اختار أن يصنع آيات وعجائب من خلال هذه الأشياء . ففي حالة تابوت العهد والأفعى البرونزية فإنه يوجد لدينا صور من المعتاد أن تصنع عجائب والله هو من صنع تلك العجائب بل ومن خلال ذخائر النبي اليشع ومن ظل القديس بطرس ومن خلال أشياء بالكاد لمست جسد قديس .فالله يستطيع تطهير المادة وهذه ليست بالمفاجأة لمن يقرأ الكتاب المقدس.
فعلى سبيل المثال لم يكن المذبح مقدسا بل أيضا كل شيء يمس المذبح كان قدوسا بنفس القدر (خروج29:37 )والمقولة القائلة بأن الله لا يعمل من خلال المادة هو أمر واقع بالغنوصية لذا بنفس القدر من التقريب نعم الأيقونات تجترح العجائب والله هو الفاعل بها.
أما نقطة الجدل بيننا نحن مكرمي الأيقونة وبين محاربيها كانت الوصية الثانية من الوصايا العشر :” لا تضع لك أي صورة منحوتة أي شبه للسموات من فوق وعلى الأرض في الأسفل وتحت الماء ولا تنحن أمامها ولا تخدمها “(خروج 20:2-5.).
في العودةإلى الترجمة السبعينية للعهد القديم تمت ترجمة كلمة “صورة” إلى ideoloiأو idols و الكلمة العبرية الأساسية pesel في النص لا تشير من حيث المعنى الحرفي والدقيق لغويا إلى الصور في الهيكل لأن الكلمة في معناها الدقيق هنا يجب أن تترجم إلى وثن وليس أيقونةّ، بينما الكلمة الأخرى تترجم إلى صورة . بدليل استخدام صور الشيروبيم في الهيكل وإلا لكانت خرقا لوصية الله .ناهيك من أن الله أمر بعدم صنع هذه الصور والتماثيل بغية عبادتها .
أما إن سأل سائل لماذا نجد أيقونات لالملائكة فقط دون قديسي العهد القديم؟
والجواب أنه قبل مجيء السيد المسيح بالجسد وانتصاره على الموت بالقيامة فإن كافة قديسي وأنبياء العهد القديم لم يكونوا في حضرة الله في السموات لكنهم كانوا في الجحيم الذي كان مقر الأموات بنوعيهم الأشرار والأبرار بينما الشيروبيم هم في الحضرة الإلهية فيكون الهدف من وضع صورهم المساعدة على تصور حضور الله من قبل من يرونه اي الملائكة .
ويجب ألا ننسى أن الأيقونات المصورة في مقابر اليهود في دورا أوربوس التي دمرها الفرس في القرن الثالث خير دليل على استخدام اليهود لهذا الفن في عباداتهم لله.
وهكذا نجد أن للأيقونة نشأة من نشأة العبادة تقريبا نتجت من علاقة الله بشعبه على مر العصور . وبتطور هذه العلاقة ، تطورت معها الأيقونة ، فبعدما كان التكريم لتابوت العهد صار التكريم لأيقونة الرب يسوع نفسه مع والدته . وأصبح الصليب المقدس يرسم ويكرم بأجلى بيان . وهذه الأيقونة سوف تبقى مادام قديسي الله والمؤمنين في الجسد . لأن تكريمها يرجع إلى عنصرها الأول أي القديس الذي يحضر من خلالها والذي هو أصبح في الحضرة الإلهية وعلى صورة الله الحقيقية اي تكريمها هو تكريم لله الحاضر من خلال وجوه قديسيه . فهي أداة صلاة . ووسيلة لشرح الإيمان وإنجيل مفتوح . وما تختلف الأيقونة فيه بالنسبة لنا عما يمثله الوثن للوثنين ، هو أن الوثنيين نحتو ما لم يكونو يعرفون أي آلهة تخيلتها عقولهم . أما نحن فنصور الله الذي ظهر بالجسد ، ومن هنا لاهوتها مرتبطا بشكل اسراري بلاهوت التجسد الإلهي . فلولا أن الرب ظهر بالجسد لما أمكننا تصويره . فكتابة ا”لأيقونة بالمطلق هي تعبير عن التجسد الإلهي وتأكيد له.
الخاتمة
كما يعرف كل اللاهوتيون أن الإنسان وجد ليتخطى حدود الزمان . وبتخطيه حدود الزمان اسخاتولوجيا يتخطى حدود المكان أيضا (وذلك في الملكوت) . إن ما لم يدركه الباقون أن روحانية كنيستنا بنيت على الإيمان بسرمدية الله . هذا الذي وضع مجده في الإنسان فصوره على صورته ليكون هو مجدا له. وبهذا يكون الإنسان أبديا أيضا يستمر في بناء الكون الذي خلق في الزمن ليدلنا على أنه مستمر في كماله هذا. ويستمر الإنسان في هذا مرورا بكل شيئ يقوده إلى الصليب . ولكي نفهم كل هذا التدبير الزمني يجب أن يكون هذا التدبير متحررا من المادية أي ليس زمنا ماديا بل هو زمنا سرمديا . ولأن الأيقونة متحررة من هذا الزمن المادي صورت الإنسان كما هو متحرر منه أيضا .لذلك نستطيع أن نرى يوحنا المعمدان يقف في زمن الملكوت وهو يحمل رأسه المقطوعة في يده . ونستطيع أن نرى كل حدث التدبير مجموعا في أيقونة الميلاد . فلا الزمان ولا المكان بماديتهما وقفا أمام أخروية الرسالة التي حملتها الأيقونة لتري الإنسان سر التدبير منذ أزليته وإلى أبديته ، فيقف أمامها ويستمر في خوضها دون أن يصل إلى نهايتها ، لأنها تجمع كل الزمان والمكان في صفحتها التي لا يمكن قراءتها إلا بالروح . فالعين تعمل ، لكن القلب هو الذي يقرأ . فلا نقف عند حدود الجمال بل نصل إلى عالم الملكوت ذو الجمال الروحي لا المادينحن المؤمنون نعرف ماهية الأيقونة لنا. وماهية حضور الله في وجوه قديسيه بشكل أسراري في الأيقونة. والكثيرون يعرفون مم تتكون الأيقونة
إنها تتكون من الطبيعة فقط .
لا شيء من صنعي او صنعك، كله من صنع الله. فهي كما قلنا سر، والأسرار من عمل الله. كل الأسرار. فسر الشكر من الخبز والخمر الطبيعيين والمعمودية بالماء والميرون بزيوت طبيعية، وكذلك الأيقونة.
فالأيقونة ترسم بألوان مستخرجة من التراب لا بألوان صناعية كالألوان الزيتية والبلاستيكية أو الأكريليك. ومم تتكون كليا ! الأيقونة تتشكل رويداً رويداً من الخشب الطبيعي والقماش الطبيعي واالتراب الممزوج بالبيض والخل. فالبيض مادة حية تشكل الأيقونة للدلالة على أن القديس الحاضر في الأيقونة هو حي الآن. لذلك هي نافذة تفتج لنا رؤية إلى الملكوت لنرى كل ما هو حي. كل ما هو حي بالحقيقة لأن “وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.”( يو 17: 3)
-الأيقونة تعني صورة غير ثابتة، مكتوبة وفقا لأساليب وتقاليد خاصة، تُظهر حالة من وصلوا إلى القداسة علاوة على شخص السيد المسيح والسيدة العذراء أو الملائكة.
يدرك عالم الأيقونة كل من الفنان والمصلي معاً، فالأيقونة هي عمل فني لكنه عمل روحي بالدرجة الأولى.
يرتبط الفن الأيقوناتي بسر التجسد الإلهي، فكما أن المسيح يقودنا إلى الله بشخصه، كذلك الأيقونة تقودنا إلى الله برمزيتها. وفي هذا يقول القديس يوحنا الدمشقي “لذلك لا أستحي من تصوير الإله غير المنظور، لا لأنه غير منظور، بل لأنه صار منظورا من خلالنا في الاشتراك بالجسد والدم. ولا أصور الألوهة غير المنظورة، بل أصور جسد الله المنظور. فإن كان من المحال فعلا أن تصور النفس، أفليس أكثر استحالة من ذلك تصوير الله الذي وهب النفس أيضا خاصيتها غير المادية؟”.
فنتذكر مع هذا القول تعبير القديس بولس :”إننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، إلا أننا سنراه أخيرا مواجهة”(1كو13 : 12) .فتأتي الأيقونة في هذا المجال، هي المرآة التي توصلنا بعالم الله.
الأيقونة كرسم لها وجه مسطح ببعدين دون الثالث. وبكشف الروح نستشف حضور الوجه الثالث غير المنظور، والذي ينقله إلينا الرسم الأيقوناتي الصحيح.
الأيقونة كفن، لا تأخذ منها إلا اللون والفرشاة، ومواد الرسم والخشب، وهي لا ترى إلا بهم. ولكنها كأيقونة تتجاوز كل هذا دون الاستغناء عنهم. هذا هو سر الأيقونة. لذلك فإن الأيقونة والكتاب المقدس يتوقفان في أن كليهما يحققان هندسة مقلوبة، وفكرة مقلوبة.
في الأولى عالم الأيقونة نراه متجها نحو الإنسان، يفتح للإنسان عالم بلا نهاية ، وطريق واسع ورحب. والكتاب المقدس خاصة الإنجيل، هو انقلاب ذهني لأننا إن تأملناه نرى أن الأولين فيه يصيرون آخرين، والودعاء هم الذين يرثون الأرض …إلخ.
فالأيقونة هي كالإنجيل، في الإنجيل تعبير عن حياة القداسة، وفي الأيقونة كشف لتلك القداسة، مرئية لنا كحياة مكثفة بألوان الأيقونة ورسومها.