أبرز دساتير سورية خلال 100 عام …
صراع الميدان والسياسة
مقدمة توضيحية
خلال قرن من الزمان شهدت سورية ستة عشر دستورا، (بين جديد ومعدل) صدرت في فترات التغييرات السياسية، بينما لم تشهد خلال سنواتها الخمسين الفائتة اي منذ تقريبا التحرر عن الدولة العثمانية ثم الوقوع تحت الانتداب الفرنسي سوى دستورين وصف الثاني بأنه مجرد تعديل لما سبقه.
الحزب القائد
منذ بداية عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، وحتى اليوم صدر في سورية دستوران، ويعود ذلك لحالة الاستقرار السياسي التي عاشتها البلاد، واستمرت حتى عام 2000 ثم امتدت بعد رحيل حافظ الأسد، وإن شابتها بعض التوترات، عقداً كاملاً في عهد الرئيس الحالي بشار الأسد، الذي بدأت بلاده تواجه أزمة داخلية منذ 2011، وكان في صلب المطالب آنذاك تعديل المادة الثامنة من الدستور الدائم لعام 1973، التي كانت تحصر السلطة السياسية في حزب البعث، وتقول
“حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
أبرز الدساتير السورية
كل تغيير سياسي كان يستدعي تغيير الدستور، أو تعديله، وكان التغيير أو التعديل مؤشرا على عمق التحولات السياسية، ورغم تعدد الدساتير السورية إلا أن أبرزها كان دستور 1950، ثم “دساتير البعث” وأبرزها دستور عام 1973، الذي حمل وحده دون غيره في دساتير سورية لقب “الدائم”، وهو الذي استمر نحو 39 عاما، (منذ 1973 وحتى 2012) وهي أطول فترة في تاريخ سورية الحديث لدستور دون تعديل جوهري (عُدلت فيه مادة تتعلق بسن رئيس الجمهورية عام 2000).
ومنذ 1920 بداية التشكل المستقل للدولة السورية عن السلطنة العثمانية، بقي شكل الحكم، وآلية انتقال السلطة، إضافة إلى علاقة الدين بالدولة من أبرز ما تم التركيز عليه ومناقشته.
استعراض تاريخي للدستور السوري والمراحل السياسية التي فرضت تغييراته
أول دستور
لم يكتب لدستور الملك فيصل (وهو أول دساتير الدولة الفتية عام 1920) أن يستمر طويلا، إذ سرعان ما تعرضت البلاد للاحتلال الفرنسي، إلا أن ذلك الدستور ثبت في المادة الأولى أن:
“حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين الملك الإسلام”
وهو ما أخذه الملك عن الحقبة العثمانية التي كانت تربط بين الدين والسلطة، واستمرت هذه المادة في جميع الدساتير السورية اللاحقة، وكانت تأتي دوما ضمن المادة الثالثة. (شهد مجلس الشعب السوري قبل إقرار الدستور الحالي اعتصاما كان موجها بشكل خاص ضد المادة الثالثة من الدستور التي كانت تنص على أن الإسلام هو دين الدولة).
كذلك حرص الملك فيصل على أن يحصر “ملك المملكة السورية في الأكبر فالأكبر من أبناء الملك فيصل الأول” كما ضمن الدستور حرية المعتقد، وإن كان أشار صراحة إلى “الطوائف” في سياق حريتها في إقامة حفلاتها الدينية.
دستور 1928
مع تعطيل دستور فيصل، بدأت فرنسا تحضر البلاد لدستور جديد، وتم تشكيل “جمعية تأسيسية” لوضعه، إلا أن ذلك الدستور لم ير النور أيضا إذ عطلته فرنسا بعدما طالبت بتغيير مواد تتعارض مع الاحتلال، وهو ما تحقق في دستور 1930 الذي كان نسخة عن دستور 1928 الذي منح صلاحيات لمجلس النواب، وضمن الحريات، إلا أنه احتوى مادة فرضتها سلطات الاحتلال وتقول
“ما من حكم من أحكام هذا الدستور يعارض، ولا يجوز أن يعارض، التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسورية لا سيما ما كان منها متعلقاً بجمعية الأمم” (المادة 116).
وهي المادة التي ألغيت من دستور 1930، بعد جلاء الفرنسيين عن سورية عام 1946، وأعيد العمل بدستور 1928، الذي كان ينص على أن
“البلاد السورية جمهورية نيابية، دين رئيسها الإسلام، وعاصمتها مدينة دمشق”.
وعلى النحو التالي
في سنة 1928، دعت سلطة الانتداب الفرنسي الحاكمة في سورية، لانتخاب مؤتمر تأسيسي لصياغة دستور جمهوري للبلاد، بدلاً من الدستورالملكي الي وضع من قبل المؤتمر السوري 1920 وبايع الامير فيصل ملكاً دستورياً، التي كانت حكومة الانتداب قد عطلته قبل ثماني سنوات، عشية احتلال دمشق.
خاضت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات، وكانت حديثة العهد، وفازت باثنين وعشرين مقعداً من أصل 70، وتم انتخاب مؤسسها، هاشم الأتاسي، رئيساً للمؤتمر، يعاونه اثنان من أعضاء الكتلة الحقوقيين، وهما فوزي الغزي وفائز الخوري.
كلاهما كان قد درس القانون في كبرى جامعات إسطنبول، وكانا محسوبين على فئة الشباب: الغزي (31 عاماً) والخوري (33 عاماً). أما هاشم الأتاسي فكان أكبرهم سناً وخبرة، فهو رجل دولة منذ العهد العثماني، ولد سنة 1873 وعمل متصرفاً في عدة مناطق منها الأناضول. وكان رئيساً للمؤتمر السوري (البرلمان) الذي توّج فيصل ملكاً على سورية في 8 آذار 1920، وقد عُيّن رئيساً للحكومة السورية من أيار وحتى تموز العام 1920.
إضافة لكل هذه المهام، كان هاشم الأتاسي رئيس اللجنة الدستورية التي وضعت دستور عام 1920، ما جعله من أكثر الوطنيين خبرة ودراية ومقدرة على صياغة دستور سورية الجديد.
أنجز الأتاسي ورفاقه دستور سورية الجديد، في فترة قياسية لم تتجاوز الأسبوعين، ووضعوا دستوراً عصرياً مُستلهماً من الدساتير الأوروبية، نصّ على نظام برلماني ديمقراطي، تكون ولاية مجلس النواب فيه أربع سنوات وولاية رئيس الجمهورية خمسة، غير قابلة للتمديد بشكل متواصل. دفاع الأتاسي عن موقفه بالإشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، قائلاً إن رئيس الجمهورية هناك يقضي سنته الأخيرة في الحكم في إدارة حملته الانتخابية، ويكون ذلك دوماً على حساب الناس ومصالحهم.
رأى أنه من الأفضل أن يخرج الرئيس من المنصب ويُعيد ترشيح نفسه بعد قضاء خمس سنوات خارج الحكم، تكون حملته الانتخابية فيها على حسابه الشخصي، لا على حساب الدولة والشعب. وقد أكد الدستور على حرية المعتقد والتعبير، صان ملكية الفرد وأصرّ على استقلال القضاء، كما جعل التعليم الابتدائي إلزامياً لكل مواطن سوري.
ولكن هذا الدستور لم يُعجب السلطة الفرنسية، بسبب خلوّه الكامل من أي إشارة لنظام الانتداب القائم منذ عام 1920. اعترضت فرنسا على ست مواد، منها المادة 74 التي أعطت رئيس الجمهورية المُنتخب، بدلاً من المندوب السامي الفرنسي، حق إعلان الحرب والسلم وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
وجاء في المادة 110 حق إنشاء جيش وطني في سورية بدلاً من الجيش الذي تم سحقه ثم حلّه إبان معركة ميسلون، الأمر الذي لم يعجب الفرنسيين أيضاً. وأخيراً احتجت فرنسا على المادة الثانية من الدستور التي لم تعترف بحدود اتفاقية سايكس بيكو، ونصّت على اعتبار سورية الطبيعية هي المساحة القانونية للدولة السورية الوليدة.
في 11 أب 1928 تمّ التصويت على مسودة الدستور داخل المؤتمر التأسيسي وتبناه النواب بالإجماع. ولكن الفرنسيين أضافوا المادة 116 والتي نصّت على ذكر الانتداب. رفض الأتاسي ذلك، مُشيراً لدستور مصر لسنة 1922 ودستور العراق لسنة 1925، وكلاهما خالٍ من أي إشارة لوجود الإنكليز أو شرعيتهم في تلك الدول العربية.
وعندما أصرّ الوطنيون على موقفهم الرافض للمادة 116، جاء الرد الفرنسي بتعطيل المؤتمر التأسيسي لمدة ثلاثة أشهر. وفي 5 شباط 1929، أُعلن عن حل المؤتمر كلياً وتعطيل الدستور إلى أجل غير مسمّى. وفي أيار 1930 قام المندوب السامي الفرنسي غابريل بونسو، بإقرار نسخة معدّلة من هذا الدستور، فُرضت فيها المادة 116 دون إعلام أو استشارة الآباء الدستوريين.
وبقي جوهر تلك المادة في دستور 1930
دستور الاستقلال 1950
بقي هذا الدستور 1930 ساري المفعول طوال فترة الانتداب الفرنسي، وانتُخب بموجبه هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية سنة 1936، ثم شكري القوتلي عام 1943. عصفت بسورية بعدها سلسلة من الانقلابات العسكرية، كان أولها انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في 29 آذار 1949، تلاه انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم في 14 آب 1949.سريعا دخلت البلاد مرحلة الانقلابات العسكرية الدامية، منذ الانقلاب الأول في تاريخ سورية والمنطقة العربية (انقلاب حسني الزعيم 1949) وبدأ تعطيل الدستور والاستفتاء الشعبي، إلا أن فترة حكمه القصيرة لم تسمح له بأي تغيير دستوري.
وحتى عام 1950 شهدت البلاد ثلاثة انقلابات عسكرية، المحكي عنها اعلاه، وبعد انقلاب أديب الشيشكلي الأول، تم وضع دستور جديد سُمي دستور الاستقلال نظرا لأنه أول دستور بعد الجلاء.
حافظ الدستور الجديد على وصف سورية بأنها “جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة” كما حافظ عىل المادة الثالثة التي تقول:
“دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”
وهو ما سيستمر في الدساتير اللاحقة.
وقد وُصف دستور 1950 بأنه ليبرالي، موالٍ للأغنياء، والواقع أن شريحة العمال والفلاحين في سورية كانت ما تزال خارج أي تمثيل في السلطة.
بقي دستور 1950 سارياً حتى الوحدة مع مصر عام 1958 رغم فترة انقطاع استمرت لنحو عامين (من 1952 وحتى 1954) فرضها أديب الشيشكلي في انقلابه الثاني، الذي وضع مشروع دستور جديد بعد استفتاء لتنصيبه رئيساً، وكان دستور الشيشكلي يتضمن نظاماً رئاسياً.
وكان انه بعد نجاح الانقلاب الثاني ومقتل حسني الزعيم، أعلن سامي الحناوي أنه لا يريد تولّي رئاسة الجمهورية، وأنه سيعيد الجيش إلى ثكناته ويُفسح المجال أمام عودة الحياة المدنية البرلمانية التي كان الزعيم قد عطلها مع انقلابه الأول.
دعا الحناوي إلى اجتماع كبير في مبنى الأركان العامة، حضره ممثلون عن الأحزاب السياسية كافة، قرر فيه المجتمعون الطلب من هاشم الأتاسي العودة إلى سدّة الحكم بصفته قائد تاريخياً أجمع عليه الشعب السوري، بكافة شرائحه وطوائفه.
رفض الأتاسي هذا الطرح بداية، مُعتبراً أن الرئيس شكري القوتلي يبقى هو الرئيس الشرعي للبلاد، بموجب الانتخابات النيابية الأخيرة التي أُجريت سنة 1947. رأي أن يعود القوتلي إلى الحكم ويدعو لانتخابات نيابية جديدة، بموجب دستور 1928، ولكن معظم السياسيين رفضوا هذا المقترح وأصروا على موقفهم.
نزولاً عند رغبة الأكثرية وإنقاذاً للموقف، قبل الأتاسي منصب رئاسة الوزراء وشكّل حكومته يوم 15 آب 1949. وفي 11 كانون الأول، انتخب زعيم حزب الشعب، رشدي الكيخيا، رئيساً للمؤتمر التأسيسي المُكلف بصياغة دستور جديد بدلاً من الدستور القديم الذي كان حسني الزعيم قد عطّله قبل أشهر.
حصد حزب الشعب غالبية مقاعد المؤتمر التأسيسي (40 من أصل 114) وتقرر أن يتحول هذا المؤتمر إلى مجلس نواب بصلاحيات تشريعية كاملة، عند إتمامه مهام صياغة الدستور الجديد. وقد ضمت اللجنة الدستورية ممثلين عن جميع الأحزاب، فكان فيها مصطفى السباعي، مؤسس الإخوان المسلمين في سورية، وعصام المحايري، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.
خاض المؤتمرون في تفاصيل قانون الانتخابات أولاً، وشُكّلت لجنة مؤلفة من وزير الدولة عادل العظمة (الحزب الوطني)، وزير الاقتصاد فيضي الأتاسي (حزب الشعب)، وزير المعارف ميشيل عفلق (حزب البعث) ووزير الزراعة أكرم الحوراني (الحزب العربي الاشتراكي).
قرروا تخفيض سن الناخب إلى 18 وعدم قبول ترشّح الأميين. وكان الهدف من ذلك هو تشجيع الشباب على المشاركة في الحياة السياسية وقطع الطريق على عدد من النواب القدامى الأميين، لمنعهم من الوصول إلى المجلس النيابي، ورفع سوية النقاش داخله. وقد أعطوا النساء ولأول مرة حق الانتخاب، شريطة أن تكون المرأة حاصلة على شهادة التعليم الابتدائي.
أبرز ما جاء في الدستور الجديد هو تقليل صلاحيات رئاسة الجمهورية، تجنباً لتعديل الدستور الذي تم في عهد الرئيس القوتلي، والاستبداد الذي حصل في عهد حسني الزعيم. في زمن الرئيس القوتلي، تم تعديل الدستور للسماح له بولاية دستورية ثانية، وكانت الحجة أن البلاد تمر في ظرف سياسي صعب لا يجوز فيه استبدال قبطان السفينة.
أعاد المؤتمر التأسيسي العمل بمبدأ الولاية الواحدة التي كان قد أقرها الرئيس الأتاسي سنة 1928، وجاء في المادة 73: “مدة رئاسة الجمهورية خمس سنوات كاملة تبدأ منذ انتخاب الرئيس. ولا يجوز تجديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء رئاسته”.
دين الدولة
هذا وقد دارت معركة كبرى في المؤتمر التأسيسي عند إثارة موضوع “دين الدولة” بطلب من جماعة الإخوان المسلمين. طالبوا بمادة تقول إن دين الدولة السورية هو الإسلام، وهي عبارة خلت كل الدساتير السابقة منها. في دستور العام 1920 مثلاً، جاء أن دين الملك وحده هو الإسلام، وفي دستور 1928 جاء في المادة الثالثة منه أن دين رئيس الدولة هو الإسلام.
الرد على هذا المقترح كان بداية من خارج المجلس، وجاء على لسان مطران حماة للروم الأرثوذوكس، أغناطيوس حريكة، في حديث له مع مراسلي الصحف ووكالات الأنباء، طالب المطران بعلمانية الدولة السورية، وقال: “إننا كثيراً ما كنا نعلن للأجنبي أن لا أقلية في البلاد إلّا أقلية الخونة والمارقين. فماذا نقول لهم غداً إذ وجدوا في صلب دستورنا مادة تسجل علينا نحن النصارى أقلية؟”
شجع هذا النداء عدداً من العلمانيين السوريين على رفع صوتهم، وكان في مقدمتهم صاحب جريدة القبس، نجيب الريّس، وهو مُسلم سني من مدينة حماة، كتب مقالاً بعنوان “البلاد ليست لنا وحدنا”، جاء في افتتاحيته: “لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم، لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم، ولكن البلاد ليست لنا وحدنا، بل هي لنا ولغيرنا، وخصوصاً للنصارى الذين كانت لهم قبلنا، والذين دخلنا عليهم وهم فيها أصحاب دولة ومُلك ودين.
حرمة الدين الإسلامي لا تكون بالنصوص والقوانين المفروضة، بل تكون بالتقوى والتمسك بتعاليم الدين، فلنكن متدينين أتقياء لا متعصبين أشداء، وليكن الدين مظهراً لأخلاقنا لا مُنفراً لإخواننا ومواطنينا”. يكمل نجيب الريس كلامه: “لماذا تضعون هذه المادة الذي يثير مجرد وضعها فقط نفوس غير المسلمين في سورية وفي غيرها، ويفتح علينا وعلى بلادنا باباً جديداً من الدعاية في العالم الخارجي نحن في غنى عن فتحه.
ولا نعتقد أن أية حكومة تتألف في سورية تستطيع تطبيق أوامر الدين الإسلامية ونواهيه على رعاياها في معاملاتهم، وخصوصاً في هذه الأيام التي تفرض منظمة الأمم المتحدة والعرف الدولي وإجماع الدنيا وجوب المساواة بين المواطنين نساء ورجالاً، في كل دولة مستقلة، وسورية عضو في هذه المنطقة ومجبرة على تطبيق قوانينها”.
هنا حصل لغط، عندما نُشر على لسان الرئيس الأتاسي قوله: “نأمل في المرحلة التالية أن تلغى الأديان”. هبّ رجال الدين من كل حدب وصوب، مسيحيين ومسلمين، مستغربين صدور كلام من هذا النوع عن رئيس البلاد المعروف بـحكمته. وصدرت عدة بيانات استنكار من المشايخ المقربين من هاشم الأتاسي، المحسوب على التيار المحافظ في سورية لا على العلماني. تم تدارك الأمر بسرعة وصدر بيان عن المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري، موضحاً أن الرئيس الأتاسي طالب بإلغاء الطائفية لا الأديان.
شكل الأتاسي لجنة لدراسة موضوع دين الدولة، مؤلفة من ثمانية أشخاص، حاولت الإنصاف بين المحافظين والتقدميين، فكان بين أعضائها “العلماني” أكرم الحوراني و”الشيخ” معروف الدواليبي (ممثلاً عن حزب الشعب)، وكل من محمّد مبارك ومصطفى السباعي، ممثلين عن الإخوان المسلمين.
رُتب لقاء بين جماعة الإخوان ورجال الدين المسيحي، عُقد في الكنيسة الكاثوليكية بدمشق، طالب فيه الاكليروس المسيحي وحقوقيون علمانيون بوضع دستور بحترم الخالق دون الدخول بالتفاصيل. أيدهم اتحاد خريجي الجامعات والمعاهد العليا في سورية، الذي طالب بطي مادة دين الدولة وسحبها من التداول، وأثنى على ذلك المؤتمر الأول لطلاب المدارس الثانوية المنعقد في دمشق، والذي عرّف سورية قائلاً: “سورية جمهورية عربية مستقلة ديمقراطية تحترم جميع الأديان”.
في نهاية الصراع، اكتفى الإخوان بالمادة الثالثة التي تنص على دين رئيس الدولة، وبالقول إن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع.
الدساتير الاشتراكية
الدستور الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر سيشكل مرجعا أساسيا للدساتير اللاحقة، وقد وضع نهاية للنظام البرلماني وأقام نظاماً رئاسياً يمنح صلاحيات كبيرة للرئيس، ويمنع تعدد الأحزاب.
ومع نهاية حقبة الوحدة، عام 1961، أعيد العمل من جديد بدستور 1950، مع بعض التعديلات.
مراحل “البعث”
إلا أن مرحلة جديدة كانت البلاد تتهيأ لها، أفضت إلى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم، إلا أن تغيير الدستور لم يكن على رأس أولويات الحكام الجدد ممثلي الطبقات الكادحة، حسب تعابير الحزب، إذ كان إعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحكام العرفية، أول ما صدر في البلاد من تشريعات.
وبعد أزمة ما عُرف بأحداث حماة الأولى عام 1964 أصدر “المجلس الوطني لقيادة الثورة” دستورا مؤقتا في نيسان 1964. وجاء فيه أن
“القطر السوري جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة وهو جزء من الوطن العربي”
وكانت المفاهيم الاشتراكية، وسيادة الحزب الواحد، من أبرز ما احتواه هذا الدستور وهو أيضا ما احتواه دستور البعث لعام 1969، الذي استمر حتى 1973 وإن كان خضع لبعض التعديل عام 1971، بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى الحكم في البلاد.
الدستور الدائم 1973
بدأت تحضيرات الدستور الجديد منذ 1972، ولم تكن البلاد قد عرفت الاستقرار بعد، وكانت المادة الثالثة (دين الدولة) إضافة إلى آلية انتقال السلطة، ودور حزب البعث، من أبرز النقاط التي أثارت موجة احتجاجات.
أقر الدستور، وكان ينص على المادة الثامنة الشهيرة (حزب البعث هو القائد) إضافة إلى المادة الثالثة (دين رئيس الجمهورية الإسلام) إضافة إلى النص على أن اقتصاد البلاد هو “اشتراكي مخطط”، وكذلك المواد التي تمنح الرئيس صلاحيات كبيرة، ومنها أنه يمتلك سلطة التشريع، كما يستطيع حل مجلس الشعب، وإعلان حالة الطوارئ، وحالة الحرب، والتعبئة العامة، وهو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة.
بقي الدستور سارياً حتى 2012، عندما صدر دستور جديد استجابة لمطالب إلغاء المادة الثامنة، وإلغاء حالة الطوارئ، وكان الرئيس بشار الأسد أصدر في نيسان عام 2011 مرسوما أنهى العمل بحالة الطوارئ، التي بقيت مستمرة منذ 1963.
بقيت كثير من مواد الدستور الدائم في دستور 2012، ومنها ما يتعلق بصلاحيات الرئيس، إضافة إلى المادة الثالثة التي شهدت إعادة كلمة “الطوائف”، واستعاد دستور 2012 ما جاء في دستور 1950 حول ذلك إذ تنص المادة الثالثة على
“دين رئيس الجمهورية الإسلام.
الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.
تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام.
الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.”
أما المادة الثامنة فقد تحولت من “احتكار” البعث للسلطة، إلى “التعددية السياسية” إذ تقول:
“يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع”.
تحديد الولاية
دستور البلاد الساري يضع سقفا لعدد مرات انتخاب رئيس الجمهورية، وهو يشير صراحة إلى الرئيس الحالي في المادة 88:
“ينتخب رئيس الجمهورية لمدة سبعة أعوام ميلادية تبدأ من تاريخ انتهاء ولاية الرئيس القائم، ولا يجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية إلا لولاية واحدة تالية”
بينما تقول المادة 155
“تنتهي مدة ولاية رئيس الجمهورية الحالي بانقضاء سبع سنوات ميلادية من تاريخ أدائه القسم الدستوري رئيساً للجمهورية، وله حق الترشح مجدداً لمنصب رئيس الجمهورية، وتسري عليه أحكام المادة / 88/ من هذا الدستور اعتباراً من الانتخابات الرئاسية القادمة”
وكل ذلك هو من المسائل التي تشهد خلافات حادة، إضافة إلى الشروط التي حددها الدستور لمن يحق له الترشح لمنصب الرئيس، إذ يشترط أن يكون مقيما في سورية منذ 10 سنوات متصلة، وهذا يعني أن كثيرا من المعارضين لن يستطيعون الترشح للمنصب.
المصادر
-أسامة يونس/ RT
– سامي مروان مبيض / رصيف 22