بادن باول (الكشاف الأول)…
بادن باول اسم لم يمت بموت صاحبه، ولن يموت، مادام هنالك من يذكر اسم الكشاف في العالم، ومادام هنالك من يؤمن بأن الذهاب إلى الله يكون عن طريق المحبة، وليس عن طريق الخوف.
ولد بادن باول في 22 شباط عام (1857) في لندن، لعائلة كان بيتها مجتمعاً لأهل الفن والعلم والأدب، مات أبوه وله من العمر ثلاث سنوات، فقامت أمه بأعباء العائلة الكبيرة المؤلفة من أولادها السبعة.
كان بادل باول منذ صغره مولعاً بالفنون كالرسم والأدب والتمثيل، ولقد وجد ذلك الطفل في الغابة المجاورة لمنزله ما حرك فيه كل ساكن، وبعث فيه مشاعر التبصر، وخصوبة الخيال، والرهبة، والرغبة، وحب الحياة والكفاح من أجلها، لقد وجد في الغابة كل ما سيكون مستقبلاً أساساً للحياة الكشفية.
انتسب بادن باول عام (1876) إلى الجيش البريطاني، برتبة ملازم أول في فوج الخيالة الثالث عشر المرابط يومئذ في الهند، وبعد عشر سنوات من الخدمة هناك، عاد إلى إنكلترا، وبها أصدر كتابه “مغامرات جاسوس” تحدث فيه عن أهمية الاستكشاف والاستطلاع في خدمة جيش بلاده ووطنه.
زار بادن باول العديد من الدول في أوروبا وآسيا وأفريقيا، للاطلاع والتعرف على العلوم العسكرية، وفي غانا أصدر كتابه “الخنزير البري” الذي أصبح الرفيق والمرجع لكل هواة الصيد والقنص في العالم، وهناك اختار لنفسه القبعة العريضة الجوانب التي عُرف بها الكشاف فيما بعد، وفي أفريقيا وقع على قرن كانت تستخدمه القبائل للتنادي، فراقه وأخذه، وبه، وبعد اثنتي عشرة سنة أرسل صرخة الكشاف الأولى والكبرى، لمَ بها حوله شبيبة العالم كله، كما جعل من الصيحات التي كانت تتفاهم من خلالها قبائل أفريقية، وسيلة تواصل، وتعاضد وتفاهم بين عناصر الكشاف.
كان لبادن باول موهبة أدبية فنية من طراز رفيع، وكان رجل فكر وعمل، رجل سيف وقلم، رجل تصميم وتحقيق، وكان أول من نادى بالألعاب كوسيلة للتدريب والتعليم.
وفي عام (1885) أصدر كتابه “إرشادات إلى الخيالة” وكان له ضجة كبيرة، وبه تحدث عن صفات الجندي، ووسائل تنمية هذه الصفات كالشجاعة، والثقة، والاطمئنان، وفي عام (1907) أصدر كتابه الأشهر “الطلائع” ضمنه آراءه وخبراته في حركة الطلائع، وأساليب تنظيمها، وفكرتها، فقلده ملك إنكلترا إدوار السابع الصليب الفيكتوري، ورفعه إلى مرتبة الأشراف بلقب لورد، وفي أيار عام (1910) قدم بادن باول استقالته من الجيش.
بدأ بادن باول حياته جندياً، وانتهى كشافاً، فكان كمن خلع ثوباً وارتدى آخر، ليتفرغ لتأسيس الحركة الكشفية، التي سرعان ما أصبحت قوة خارقة، ولم تمض سنوات قلائل حتى أقيم أول “رالي” للكشاف في كلاسكوف البريطانية.
لقد كانت الغاية من الحركة الكشفية -كما وصفها بادن باول- هي بناء مواطنين صالحين، يتمتعون بروح التضحية، ويخضعون للواجب، ويطلعون بالمسؤوليات دون وجل، أما الوسائل لتحقيق هذه الغاية فهي متعددة، وأهمها: اللعب، والحكايات، والنزهات، والرحلات، والاختبارات، والمسابقات، أما الميدان فكان السهل والجبل والغابة، حيث النبات والحيوان والإنسان، وفي هذا الميدان على الكشاف أن يتعلم، كيف يتجه بواسطة الشمس والقمر والنجوم، وكيف يقتفي الأثر، وكيف يُشعل النار في البرية، وكيف يطبخ، ويسبح، ويُنقذ الغريق، ويحافظ على المبادئ العامة للصحة والنظافة، وكيف يرسم علم بلاده، ويحفظ تاريخها، وأتى دستور الكشاف على شكل نصائح، ودوافع، وتحريضات، وليس على شكل أوامر ونواهٍ.
وللكشفية -كما لكل منظمة- شاراتها، ولباسها الخاص، وقام بادن باول بتصميمها.
ويقوم على رأس الحركة الكشفية مجلس تنفيذي، ترأسه بادن بأول، ثم تأتي دونه مجالس المقاطعات، ثم مجالس المفوضين المحليين.
انتشرت الحركة الكشفية في العالم انتشاراً سريعاً، كما لم تنتشر حركة مثلها من قبل، وعرفت البلاد العربية الحركة الكشفية منذ عام (1912) حيث تشكلت في بيروت أول فرقة كشفية عربية، ثم ما لبثت أن تشكلت في نفس العام فرقة كشفية في دمشق، وتلتها الدول العربية الأخرى، وقد أقيم المخيم الكشفي العربي الأول في الزبداني عام (1954) وانبثق عن هذا المؤتمر تشكيل لجنة التنسيق الكشفية العربية.
وفي عام (1916) تم ضم الصغار إلى الحركة الكشفية، وأصدر باول كتابه “الجراميز” وكان هذا الكتاب للصغار، مثلما كان كتاب “الطلائع” للكبار.
تزوج بادن باول الآنسة سومس التي اُطلق عليها “المرشدة الأولى” ورُزق منها ثلاثة أبناء، وكانت قد سمت إلى مستواه في موضوع الكشفية، وأصبحت ساعده الأيمن، وتولت تنظيم حركة المرشدات، وأصدر باول كتابه “المرشدات” عام (1917) كما أنشأ رابطة لقدامى الطلائع، وهم الشبان الذين تجاوزوا سن السادسة عشر، والذين لم يعد لهم مكان في الطلائع.
كاد حلم بادن باول في تحقيق الأخوة العالمية -من خلال جمع ولقاء الآلاف من شبيبة العالم- أن يتحقق، إلا أن وقوع الحرب العالمية الأولى حال دون ذلك، وشتتت الحرب الجهود والشبيبة، لتستعيد عافيتها بعد الحرب، وتحظى باعتراف الحكومة البريطانية، ولتصبح من صميم حياة البلاد.
وتوالت المخيمات، وأخذت فكرة “الجوالة” تخرج إلى النور، والغاية منها: خدمة المجتمع، ومراقبة العمل، وتحصيل الشاب مهنة يرتزق منها، ومرحلة الجوالة هي المرحلة التي تلت مراحل الجراميز والكشافين والمرشدات.
بلغ عدد الكشاف عام (1939) ثلاثة ملايين ونصف المليون منتسب، توزعوا على اثنين وثلاثين دولة، وتوالت لقاءات “الجمبوري”، والجمبوري كلمة التقطها بادن بأول، أثناء جولاته في أفريقيا، من اللغات المحلية، ووظفها بمعنى المخيم العالمي، الذي يُعقد كل أربع سنوات، في بلد من بلدان العالم، حسب خطة اللجنة المنظمة الدولية للكشفية.
لقد ترك بادن باول للفرق الكشفية المجال لتمارس من الدين ما نشأت عليه، وسعى إلى تنمية الطفل على العاطفة الدينية العميقة التي تقود إلى محبة الله، ومحبة القريب.
وفي سنة (1939) وكان بادن باول قد زار العديد من دول العالم، والتقى بكشافين ومرشدات من مختلف دول العالم، وأصدر كتابه “الكشفية في العالم” واستمر في نشاطاته الفكرية والميدانية إلى أن خانته قواه، فقصد كينيا ليقضي الشتاء في جوها الدافئ، وراقته البلاد، فقرر أن يقتني له منزلاً يقضي فيه أواخر سني حياته، وأصدر في تلك الفترة ثلاثة كتب للأحداث هي: “طيور وحيوانات من أفريقيا، سر بمركبك، سور من كينيا”.
ونشبت الحرب العالمية الثانية وهو في كينيا، فكانت ضربة لآماله، وتشتت شمل شبابه، وأخذت تنحط قواه، إلى أن مات في 8 كانون الأول عام (1941)، وهو الآن يرقد تحت تراب ذلك البلد الذي أحبه، وأحب سكانه. لقد مات جسد بادن باول الفاني، ليحيا عظيماً في التاريخ، مكرماً في قلوب شبيبة وكشافي العالم.
د. شفيق يازجي…