أرنستو تشي غيفاراً لمن لم يقرأه
في عام 1969 وبعمر 17 سنة كنت في زيارة للصديق الأب الياس زحلاوي في غرفته ببطريركية الروم الكاثوليك وقدسه من الآباء الذين احبهم جداً…
اغلقت باب الغرفة كي نتكلم بحرية وإذ أفاجىء بصورة ارنستو تشي غيفارا مقتولاً وجسمه فيه ثقوب و… وكانت صورة طولانية على طول باب الغرفة من الداخل…
لفتتني هذه الصورة الاليمة، وكان تعقيب ابونا الياس على دهشتي لأنه رجل دين وغيفارا ماركسيا بينهما 180درجة فأجابني على سؤالي ودهشتي:
” ياجوزيف ياحبيبي كثيرون يستغربون محبتي لتشي غيفارا، ولم تكن انت الاول، فأنا خوري وهو ماركسي وقد يقول البعض انه ضد الكنيسة، ولكن من يستطيع نكران ان هذا المقاتل ضد ظلم اباطرة الحروب ضد الشعوب المستضعفة وهو ما علمنا اياه الرب يسوع …؟”
من وقتها وانا عاشق لهذه الشخصية وقد قرأته جيداً…
الكل يعرف شدة ايماني بربنا يسوع له المجد، فأنا مؤمن… ولكني اؤمن ايضاً بانسانية الانسان وتوقه لسعادة كل انسان وهو ماعلمنا اياه ربنا له المجد في (وصية المحبة) وهي اعظم الوصايا…
هذا هو ارنستو تشي غيفاراً في سطور
السيرة الذاتية
ولد أرنستو تشي غيفارا عام 1928 من عائلة بورجوازية أرجنتينية، وكان عمره لم يتجاوز العامين، عندما اكتشف أهله انه مصاب بمرض الربو. تلقى تعليمه الأساسي في البيت على يد والدته (سيرينا لاسيليا دي)، كان غيفارا منذ صغره قارئا جيداً لماركس، وانجلز وفرويد حيث توافرت الكتب في مكتبة ابيه بالمنزل.
دراسته
التحق بصفوف مدرسة ( كوليجيو ناسيونال) الثانوية عام 1941 وتفوق في الادب والرياضيات. عايش في تلك الفترة مأساة لا جيء الحرب الإسبانية الاهلية والازمات السياسية المتتابعة في الأرجنتين خلال عهد الديكتاتورالفاشي خوان بيرون. غرست هذه الاحداث في ذهن غيفارا الصغير الاحتقار للمسرحية الديموقراطية البرلمانية التي تمثلها الطبقة السياسية، فكَّرَّهُ السياسيون وكرههم وكره حكم الأقلية الرأسمالية، وقبل ذلك كله حكم واستعباد دولار الولايات المتحدة الامبريالية فكرهها.
خلال ذلك التحق بحركات طلابية لكنه لم يظهر اهتماما ملحوظا بالسياسة، وقد التحق بالجامعة، حيث درس الطب لفهم مرضه الخاص، لكنه فيما بعد اصبح أكثر اهتماماً بمرض الجذام. خرج عام 49 في رحلة يستكشف الأرجنتين الشّماليّة على درّاجة، وللمرّة الأولى يقابل فيها الطبقة الكادحة الفقيرة، وقرر الخروج مرة أخرى عام 1951 في رحلة طويلة، وطاف قبيل تخرجه من كلية الطب مع صديقه (ألبرتو غراندو) معظم دول أمريكا الجنوبية على الدراجة النارية، فزار إضافة لبلده الأرجنتين، التشيلي وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وبيرو وبنما وعايش معاناة الفلاحين والطبقة الكادحة من العمال، وفهم طبيعة الاستغلال الذي تعانيه شعوب الدول المضطهدة، وكيف يستغل الرأسمالي حاجة الفقراء، ويخضعهم تحت تصرفه.
عاد إلى البيت ليقدم امتحاناته النّهائيّة متأكّداً من شيءٍ واحدٍ فقط، أنه لم يرد أن يصبح ممارساً عامّ منتمي للطّبقة الوسطى وكرس نفسه منذ ذلك الحين ثائراً أو محرضاً على الثورة أو شريكاً فيها حيثما أمكن ذلك. فسافر عام 1953 الى المكسيك وهي البلد الأمريكي اللاتيني الأكثر ديموقراطية والتي كانت ملجأ للثوارفي اميركا اللاتينية من كل مكان.
مع فيديل كاسترو والنضال المشترك
تعرف على (هيلدا جادي) التي كان لها مخزون ماركسي جيد مما عزّز تعليمه السّياسي، اعتنت به و قدّمته لـ (نيكو لوبيزا) احد ملازمي (فيديل كاسترو) الذي كان في ذلك الوقت يقوم بالهجوم على قلعة موناكو حيث فشل هجومه واعتقل وحوكم وفي اثناء محاكمته اصدر بياناً سياسياً كان بمثابة برنامج سياسي يبين اهداف الحركة الثورية لفيديل ورفاقه .
اعجب ارنستو بشخصية فيديل وتمنى مقابلته وهذا ما كان بعد خروج فيديل عام 1955 من المعتقل. ادرك غيفارا قي ذلك الحين انه وجد شخصية القائد الذي كان يبحث عنه. قويت علاقتهما ببعضهما وقاما بالتخطيط لتحرير كوبا من حكم الدكتاتور باتيستا. انطلق الثائران فيديل وارنستو ومعهم 80 ثائرا اخر على متن سفينة قاصدين شواطئ كوبا . اثناء ذلك اطلق علىغيفارا لقب تشي(الصديق او الرفيق).
سرعان ما اكتشفتهم قوات (باتيستا) وهاجمتهم، ولم يسلم منهم سوى عشرون ثائراً صعدوا جبال (السيرا مايسترا) وأعادوا ترتيب صفوفهم. نجحوا في إقناع الفلاحين والفقراء بضرورة الثورة، فأمن ذلك لهم الحماية، وان كانت محدودة. وسرعان ما أثبتوا جديتهم وتلاحقت انتصاراتهم على جيش باتيستا الى ان وصلوا هافانا، واعلنوا نجاح الثورة والقضاء على حكم باتيستا، وبعد نجاح الثورة عين غيفارا وزيراً للثورة، وقام بزيارة العديد من البلدان، والتقى العديد من القادة أمثال (جمال عبد الناصر)
و(نهرو) و(تيتو) و(سوكارلو) ومن ثم عين وزيراً للصناعة وبعد ذلك وزيراً ورئيساً للمصرف المركزي . وكان بمثابة الرجل الثاني في الدولة بعد فيديل كاستروا.
آمن منذ البدء بضرورة اعادة هيكلية النظام الاقتصادي لكوبا، وفتح المصانع، وذلك لسد احتياجات كوبا وعدم لجوئها وخضوعها تحت الهيمنة الامبريالية.
وضحت معالم شخصية تشي الماركسية اللينينية وتوجهه نحو سياسة (ماو-تسي تونغ) وآمن بأن الثورة تحضَر في الريف ومن ثم تنطلق الى المدن وخالف بذلك سياسة رفيقه فيديل الذي كان يميل للسياسة الشيوعية الروسية في تلك الفترة.
بعد نجاح الثورة في كوبا اثر تشي ان يكمل حلمه في تحرير شعوب العالم النامي ومساعدتهم بالتخلص من الحكم الاستعماري والهيمنة الامبريالية فغادر كوبا تاركاً مناصبه وعائلته متجها الى الكونجو في افريقيا وبعد محاولته لتكوين الجيش الثائر فشل بعد رفض الشعب الافريقي للتعاون معه لاعتباره غريب ولم يقتنعوا باهدافه فكانت تجربة قاسية له، ولكنه آثر ا ان يكمل مسيرته، فانطلق متجها الى بوليفيا واستطاع هناك ان يكون فرقا ثورية من الفلاحين والعمال والبدء بالثورة الا انه لم يستطع مواجهة الجيش البوليفي الذي كان اقوى ومجهز واحدث من جيش باتيستا وغير ذلك مساعدة النظام الامبريالي الامريكي للحكومة البوليفية فكان الامر شاقاً عليه ومع ذلك استمر الى ان تم قتله بعد ان القي القبض عليه.
سمات تشي غيفارا
اتسم تشي بشخصية سياسية، لها منطلقاتها ووجهة نظرها الخاصة، فكانت له مواقفه الرافضة للهيمنة السوفيتية على الثورة، والتي كانت تميل الى مهادنة النظام الامبريالي فكان يؤكد مراراً على ضرورة الثورة ضد الهيمنة والاستغلال، فردد باستمرار عبارته الشهيرة “لاحياة خارج الثورة ولتوجد فيتنام ثانية وثالثة واكثر”.
نعم فقد كان لتشي اعداء كثر، ولعل ذلك يكمن في اسلوبه الصريح في النقد، ومهاجمة المخطئ مهما كان.
على اية حال فان تشي انتهت حياته علي يد جندي من جنود الجيش البوليفي وكما يقال بتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية. ولعل سر سحر شخصية تشي يرجع الى تلك المواقف واسلوبه القوي وعناده ورفضه للهيمنة حتى لو كانت من مؤسسة شيوعية كالاتحاد السوفيتي. مهما كان فقد كان تشي الشخصية الأكثر إثارة ومحبة في قلوب الشعوب المضهدة حول العالم وستظل صوره في قلوبنا وعلى صدورنا فاحلامه واحلامنا لاتعرف حدوداً
سقوطه شهيداً
التقطوه وحملوه ووضعوه على طاولة عالية، ثم قالوا للصحافيين والمصورين والعالم أجمع:
” هذا هو تشي غيفارا… لقد انتصرنا عليه .”
الفصل الأخيرمن حياته
بدأت المرحلة الاخيرة من المطاردة الني استمرت أكثر من سنتين، واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائل للقضاء على موجة حرب العصابات التي يقودها “تشي غيفارا” في نيسان 1967، بعد أن ألقت السلطات البوليفية القبض على المفكر الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه، واتهمته بالتعاون مع غيفارا وأنصاره، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان غيفارا. وبعد ذلك بفترة قصيرة، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنه واثق هذه المرة من القبض على غيفارا حيا أو ميتا. ولم يكن بارينتوس يعتمد في عملية مطاردة واصطياد غيفارا على رجاله وحدهم ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن غيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصابات والتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة.
الدور الاميركي في تصفيته
مدرسة بنما او القبعات الخضر
في باناما، أنشأت وزارة الدفاع الاميركية سنة 1949 مدرسة حربية، وسلمتها للجنرال بورتر. وفي هذه المدرسة كان يتم تدريب جنود أميركيين من مختلف أنحاء اميركا الجنوبية والشمالية على يد ضباط يمتازون بكفاءة علمية عالية، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أميركا اللاتينية الصعبة الشائكة. لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة باباً جديداً على منهاجها، وهو على تدريب الجنود على أصول وأساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في اميركا اللاتينية.
استمر التدريب اربعين اسبوعاً، خضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواع التدريب العسكري، وكانوا يوضعون في الظروف نفسها التي سيتعرضون لها حين يواجهون رجال العصابات في الجبال والغابات.
كان هؤلاء الجنود يتدربون على ايدي القبعات الخضر – وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما – هم الذين يطاردون غيفارا، وينصبون له الفخ تلو الفخ ، لإيقاعه والقضاء عليه. واستمرت هذه العملية شهوراً، حتى جاء الخريف، واطل شهر تشرين الاول، فإذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة، وهو يقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلى رأسها القائد رامون وهو احد اسماء غيفارا المستعارة. وقال بارينتوس هذه المرة سوف نقبض على “تشي” ولن يستطيع ان يهرب منا “. لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا على ثائريَّن من رجال ” رامون ” اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان ما بالقرب من منطقة ( فاليغراندي). وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على غيفارا، ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل، وهو لا يهتم بشيء، ويظهر احتقارا بالغا لحياته.
بعد ايام من القبض على الرجلين، وفي مساء بوم الاحد 8 تشرين الاول 1967 ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة (هيغوبراس) بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار، وفي النهاية بقي ستة من رجالهم ، وبينهم تشي غيفارا.
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت غيفارا، ومنها رواية القائد الأعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو، ان غيفارا قال قبل وفاته، وهو في ساعات احتضاره الأخيرة: ” انا تشي غيفارا. لقد فشلت “. لكن الكولونيل سانديكو، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد غيفارا وثواره، ذكر أن تشي ظل فاقدا وعيه حتى مات.
وهناك رواية اخرى، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباط الذين طاردوا تشي غيفارا، وتقول ان غيفارا أُسر حياً، وحاول الطبيب معالجته من الجروح التي أُصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه، ومرض الربو كان يمنعه من التنفس إلا بصعوبة. وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد، يئن من الاوجاع والزفير، يطلب من الطبيب أن يعالجه، حتى قضى عليه الألم في صباح الاثنين بعد أن خارت قواه تماما وعجز الطب عن اسعافه.
ورواية أخرى تقول ان غيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبض عليه، لكنه لم يعترف بشيء فقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه.
وكما تعددت الروايات حول مقتله، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه.
ومن هذه الروايات ولعلها الاقرب الى الصحة، ان احد رجال العصابات، من رفاق ” تشي ” القدامى، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذه السلطات للقبض عليه، وهي في حدود خمسة الاف دولار.
وكان مؤلما حقا أن تشي الذي آمن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية، وعاش على هذه الاخوة والصداقة والاخلاص والتضحية، وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم، لأن المال كان أقوى من القيم والمبادئ التي يمثلها غيفارا او يدعو اليها.
ردود الافعال على موته
ولم تصدق عائلة تشي انه مات. لا الأب، ولا الشقيق، ولا أي فرد من أفراد العائلة. وما زالوا ينتظرون بين اللحظة والاخرى ان يحمل اليهم البريد، او صديق من الاصدقاء، رسالة من الإبن المشرد، يعلن فيها للعالم انه ما زال حياً، ويسخر، كعادته من الموت. منذ اختفائه قتلوا تشي عدة مرات. وفي كل مرة كان ينفض الموت عنه ، ويبدو انه اقوى واصمد .
هذه المرة ، يبدو ان تشي اقتنع انه مات. وان جثته أُحرقت فعلا، كما قالت السلطات البوليفية. ولعله استراح، لم يعد يضايقه زفير الربو، ولا المطاردة القاسية المستمرة.
مساء الاحد 15 تشرين الاول، وقف فيديل كاسترو، رفيق تشي في النضال ، وأعلن في خطاب دام ساعتين ، وبلهجة حزينة حزينة:
” اننا متأكدون تماما من موت غيفارا . لقد درسنا جميع الوثائق التي تتعلق بموته، الصور، فقرات يومياته التي نشرت، الظروف التي رافقت لحظاته الاخيرة وتأكدنا للاسف أن تشي مات فعلا. وانا لا اعتقد بان للحكومة البوليفية مصلحة في اختراع كذبة كبيرة كهذه، قد تنكشف بعد ايام قلائل…
كان يطارد غيفارا في الاسابيع الاخيرة أكثر من 1500 جندي، مدربين أحسن تدريب واستطاع هؤلاء ان يقضوا في النهاية عليه. ثم حاولت السلطات البوليفية القضاء أيضاً على أسطورته، فلفقت العبارات الاخيرة التي زعمت بان تشي تفوه بها، والتي تعلن فشله. لكن النضال سيستمر بعد موت تشي والحركة الثورية لن تتوقف”
من أقوال تشي غيفارا
“لا يستطيع المرء أن يكون متأكداً من أن هنالك شيئا يعيش من أجله إلا إذا كان مستعداً للموت في سبيله”
“إن الطريق مظلم و حالك فاذالم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟؟!!
“أنا لست محررا..المحررين لا وجود لهم, فالشعوب وحدها هي من يحرر نفسه.”
“إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني.”