النكتة الحمصية
في كل بلد تكاد تكون منطقة أو مدينة في مرمى سهام النكات، حيث تشكل النكتة عبر العصور والأزمان وسيلة لتوجيه النقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتعد مدينة حمص “عاصمة الضحك” السورية، إذ لهذه المدينة قصتها الموغلة في القدم مع عالم النكت.
◘ العهد الروماني
يقول المؤرخ الحمصي فيصل شيخاني :إن النكتة أو النادرة المضحكة في حمص تعود إلى عصور قديمة، وكانت أحياناً تأخذ منحى السخرية. وروى المؤرخ الروماني كيكرون عن الملكة الحمصية جوليا دومنا التي حكمت روما كإمبراطورة حبها للنكات الساخرة والنادرة الناعمة وذات مرة طلبت من المفكر الروماني “بابنيان” السوري الأصل العامل لديها في البلاط أنه يروي لضيوفها ماحدث بينه وبين موظف الأمن الحمصي عند عبوره نهر الفرات.
ويسرد المؤرخ ما يلي: أردت أن أعبر نهر الفرات فسألني: موظف الأمن ماذا تحمل معك.. ولما كنت لاأحمل شيئا قلت مازحاً..أحمل الصدق والوفاء والعدل.
وهذه الألفاظ في اللاتينية تنتهي بمقطع مؤنث!! فقال لي الموظف في استعجال جهز ثلاثة جوازات سفر للفتيات الثلاث وأهلاً بك.
.
◘ القرون الوسطى
في القرن الثاني عشر وبعد دخول صلاح الدين الايوبي إلى حمص كان قد صادر أموال أبي أسد الدين شيركوه ملك حمص وفرض عليه حفظ القرآن لعلمه أنه شرب الخمر ويروى أن صلاح الدين سأله مرةً : “أين وصلت في تعلم القرآن الكريم؟” فرد شيركوه : “وصلت إلى الآية التي فيها (ولاتأكلوا أموال اليتامى.)”, يذكره بأنَّه أخذ أمواله. فضحك صلاح الدين وقال:”أعطوه أموال أبيه وخلصونا منه..”
.
◘ زمن الاجتياح المغولي
الشائع في تفسير أسباب التنكيت على أهل مدينة حمص أنهم يحتفلون كل يوم أربعاء بـ “عيد المجانين”. ويعود هذا التقليد إلى زمن الاجتياح المغولي لبلاد الشام ومحاولة تطويع البلاد بالحديد والنار،حيث علموا أن (تيمور لنك) قادم إليهم، و هو على أبواب مدينتهم بعد أن قام بتدمير دمشق و العديد من المدن التي مر عليها بجيشه, و تأكدوا أنهم لن يتمكنوا من مجابهة جيوش المغول الجرارة, و كان يشاع في ذلك الوقت أن الهروب من المجنون أمر ضروري؛ لكي لا يداهمك الجنون، فلبسوا ملابسهم مقلوبة و حملوا قباقيبهم على أكتافهم، و بدؤوا بالطرق على البراميل فاتحين أبواب المدينة على مصراعيها غير عابئين بجيش تيمور الذي مر بها مرورا سريعا هاربا من لعنة الجنون التي أصابت كل أهل المدينة بحسب اعتقاده, و من هنا بات سكان المدن الأخرى يتندرون بالقصة و يقولون إن: “الحماصنة جدبوها على تيمور لنك بهاليوم”.
فكان لنجاة أهل مدينة حمص من بطش تيمورلنك بتصنعهم الغباء وإشاعة أن مياه نهر العاصي تسبب هذه الآفة أكبر الأثر في وسمهم بتلك الصفة.
.
و يروي جورج كدر في كتابه عن النكتة الحمصية أيضا أنه
” وعندما دخل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر في عام 1840م إلى سورية، أقام في حمص فترة أثناء مطاردة العثمانيين، ونقل إليه أن بعض الحماصنة سطوا على مستودع الذخيرة وسرقوا بعض القنابل الكروية وانفجر بعضها بهم.
غضب إبراهيم باشا، وأراد أن يحقق بنفسه مع الجرحى الحماصنة، فقال له أحدهم: “ياسيدي ظنناها كرات نلعب بها لم نحسبها بومبات، وكان إلى جانبه المؤرخ الدمشقي إبراهيم مشارقة، قال له: “ألم أقل لك إنهم بسطاء لطيفون، فرد ابراهيم باشا: “لا والله شياطين بالذكاء”.
.
ويروي أنه حدث مرة أن السلطنة العثمانية أرادت بناء مارستانات في المدن السورية على غرار دمشق، والمارستان هو مشفى للأمراض العقلية، وقرر ممثل السلطنة في دمشق زيارة حمص لاختيار الموقع، وهناك فوجىء بما هو غير متوقع، وجهاء حمص في استقباله لابسين بأقدامهم فردة حذاء أحمر، وفردة قبقاب، فالطقس كان غائماً وإن نزل المطر انسلخ نعل الحذاء بينما القبقاب أقوى.
و من النكات التي وردت
أن حمصيا ذهب إلى ضابط في وزارة الداخلية، طالبا الترشح للانتخابات، فيجيبه الضابط “هل أنت مجنون؟”، فيرد عليه الحمصي: “وهل هذا شرط للترشح؟”.
و منها أنه
قرر وفد من لبنان الدخول على مدينة حمص، فاتفقوا أن يخرجوا أيديهم من الباص، وهم يصطنعون التجديف ليروا مالذي سيفعله الحماصنه، وما أن باشروا بخطتهم حتى رأوا أهل حمص يمتطون الباص، ويقفزون منه كأنهم يقفزون من السفينة، فانقلب السحر على الساحر، ورجع اللبنانيون خائبون.”نكتة حمصية”.
.
وبذلك نجد أن لا أحد يستطيع التغلب على دهاء الحماصنة وذكائهم المتميز، الذي أنقذهم مرات عديدة من المصائب.
.
ونادرا ما تجد حمصيا تزعجه النكات التي تطلق على الحماصنة, و غالبا و بشكل عام يؤلف الحماصنة النكات عن أنفسهم و يروونها بمرح و ثقة.
أن تتمكن من اختلاق نكتة، هو أمر يحتاج خفة ظل، يزينها ذكاء، وهذا مما يؤيده كل من عرف الحماصنة و عاشرهم.
و لديهم ميزة جميلة غريبة، هي عيد يوم الأربعاء، فيعتبره الجميع عيد أسبوعي يطلق عليه باقي السوريين (عيد المجانين )و (عيد الحماصنة), و في هذا اليوم يمازح الحماصنة بعضهم بقولهم :”معيد ما بيتواخذ”.
.
ويجيء كتاب “أدب النكتة… بحث في جذور النكتة الحمصية” للكاتب جورج كدر كواحد من أول المحاولات التي تبحث في جذور النكتة التي تطلق على أهل مدينة حمص وسط سورية.
.
ويستند الكتاب إلى منهج يقوم على التمييز بين صفتين متناقضتين لحمص أحداهما مادية (اللهو والمجون) والأخرى روحية (التصوف). وينحصر غرض هذا البحث إلى إظهار النكتة على إنها حالة ترقى بالفكر البشري “أحياناً خمس كلمات تجعل الإنسان يفكر بمضمون تلك النكتة وتدفعه إلى الضحك “.
.
لكن مؤلف الكتاب جورج كدر الذي استعرض كل الآراء التي اشتهرت عبر التاريخ في تفسير هذه الظاهرة يرجع إلى أن الأسباب تعود إلى زمن موغل في القدم، إذ تعود إلى الفترة التي كانت تسود فيها ديانة الخصب في هذه المنطقة أي قبل انتشار المسيحية والإسلام. وهي الديانة التي ابتكرها أهالي حمص كثاني ديانة شمسية في العالم بعد الأخناتونية في مصر وحل فيها إلههم “إيلاك بعل” محل إله الأولمب “جوبيتر”.
.
أما طقوس العبادة فكانت تتجلى بإعادة تمثيل الأسطورة التي كانت سائدة في ذلك الزمان من أن العالم بدأ بفوضى ثم قام الإله بتنظيمه. وكانت هذه الأسطورة تستعاد خلال شهري آذار ونيسان من كل عام. وفي هذا الإطار كان يوم الأربعاء يشهد التحضير للاحتفال بأعياد الخلق التي كانت تقام يوم الخميس.
.
وكان يوم الأربعاء يوما مقدسا، ومن الاحتفالات التي كانت تتم كان هناك عيد يسمى عيد المجانين، وهو يمثل ثورة الطبيعة قبل خلق الهدوء والسكينة،
.
ثم جعل المتصوفون المسيحيون يوم الأربعاء يوم الرب وكانت لهذه الطقوس في مدينة حمص أهمية خاصة، حيث كانت تعتبر قبلة يحج لها الناس من كافة الدول المحيطة للمشاركة في هذه الاحتفالات،
.
واشتهر في مدينة حمص قبل الإسلام ناسك اسمه سمعان المتباله لأجل المسيح، حيث ابتكر طريقة في العبادة لإنكار الذات تُدعى “التباله” إرضاء لله. وهذه الطريقة انتقلت إلى روسيا وأوجدت طائفة انتشرت في أوربة كما تقول الأدبيات المسيحية، وعرف أتباعها باسم المتبالهون لأجل المسيح
.
وفي الفترة الإسلامية ظهرت طرق صوفية أطلق على بعض أتباعها المجاذيب أو الدراويش ينكرون ذاتهم كرمى لله إذا الإرث الذي يجمع أهل حمص مع الجنون والتباله ضارب في القدم ولا يعود إلى زمن المد المغولي، وإن كان له دور كبير كون تيمورلنك نكل بأهالي المدن السورية.
.
و يتطرق الكاتب إلى صورة الحمصي في الأدب العربي حيث كان شخصية محورية في كثير من النوادر والقصص الفكاهية التي وردت في كتب التراث العربي مثل الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي.
.
ويبين الكاتب إن النكت التي ظهرت في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي ،أن أهل حمص كانوا يسخرون من أهل حماة أكثر مما كان يفعل الآخرون،” امرأة سقط ابنها في العاصي، فأخذت تفتش عليه من حماه حتى حمص. ولما وصلت إلى حمص: قالوا لها: أنت غلطانة، لازم تفتشي عليه من حماه لأنطاكية، لأن العاصي بيطلع طلوع ما بينزل نزول. هزت المرأة رأسها وقالت لهم: “انتو ما بتعرفوا ابني، ابني تنح ودائماً معاكس”.
.
ولم يكن أهل المدينتين يتركان فرصة تمر دون أن يتخذوا منها فرصة ” للتشنيع” ببعضهما. تلك التشنيعات التي أدت إلى نشوب معارك عديدة بين أهل المدينتين، ولكن زمن الخلافات والمعارك انتهى، وإن كانت النكات ما تزال كتسلية وتمضية للوقت.
.
يروي أحدهم هذه النكتة:” كان حموي وحمصي يسيران في الطريق، فقابلهما غريب، فسأل الأول: من أين أنت؟ قال: من حماة… حماك الله. وسأل الثاني: ومن أين أنت؟ فقال من حمص… حمّصك الله.
.
وكما هو معروف فان النكتة هي قاسم مشترك بين أبناء الجنس البشري في قوتها وسطوتها على انتزاع الضحكة حتى في أقسى الظروف. ولكن ربما كانت أسباب إطلاق النكات على أهالي حمص التاريخية والنفسية والأدبية والميثولوجية تختلف عنها في حمص عن غيرها ولكل مدينة عالمها الخاص.
.
ويدعو المؤلف في نهاية كتابه إلى إقامة مهرجان سنوي للضحك في مدينة حمص أسوة بالاحتفال الذي يقام في مدينة غابروفو في بلغاريا، خاصة أن أهالي حمص هم من ينتجون النكت على أنفسهم والتي تعكس طبيعة شخصية الحمصي بشكل عام الذي يتسم بالمرح والطيبة.