وجلي القول إن كانت القاهرة وحاراتها رزقت بابنها البار نجيب محفوظ، الذي لم يترك صغيرة أو كبيرة إلاّ وراح يدونها بلغة قصصية آسرة. ورزق الساحل السوري، مدينة اللاذقية، بصبي الحلاق، حنا مينه، الذي شبّ ليصبح راويا نقل أدق تفاصيل حياة المدينة، رغم أنه لم يتلق تعليما أكاديميا، فإن دمشق هي الأخرى فازت بابنها البديري الحلاق الذي أثرت مذكراته الأعمال الدرامية في سورية وفضحت أكاذيب جنة الخلافة العثمانية ومن أراد إحياءها.
المواطن السوري اليوم، ولهول ما يعيشه من تفقير وتجويع، لا يجد نفسه بعيدا عن عبارة كان قد دونها مواطنه البديري الحلاق في يومياته، منذ ما يقارب القرنين ونصف القرن، بفعل الحصار العثماني الجائر “وقد هلَّ هذا العام الجديد، ورطل الخبز الشامي بأربعة مصاري وبخمسة، ورطل الأرز بثمانية مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري ولا توجد، مع أنه كان من نحو شهر كل رطل وثمانية أواق بقرش، ولكن الخزان ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبدا وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال”.
حلاق مهذار وثرثار“كتاب لا يخطر على البال ولا على الخاطر”، هكذا وصف أحد مؤرخي دمشق المحدثين مدوّنة ظلت ضائعة لفترة طويلة من الزمن، قاربت القرن ونصف القرن.. وكان ذلك عام 1959 في طبعة جديدة ومنقحة حملت توقيع الشيخ محمد القاسمي، بعد أن وصلت، بطريقة ما، إلى الشيخ طاهر الجزائري.. وها نحن نقف عند النسخة المنقحة في طبعة كانت جديدة آنذاك، بعد أن حققها وشذّبها ثم نشرها أحمد عزت عبدالكريم.
إنها مذكرات البديري الحلاق (1701 ـ 1762)، ومن أدراك من هذا البديري الحلاق، الذي استأنست واستندت واقتبست من يومياته شتى كتب التوثيق ودراما المسلسلات، والأفلام مستقية منها تفاصيل دقيقة للأحداث اليومية في منتصف القرن الثامن عشر.
على مدى 21 عاما أي من 1741 وحتى 1762 ظل الرجل الدمشقي البسيط، المتحذلق والظريف وشبه الأمي، يؤرخ للمدينة كما لم يؤرخ لها أحد من قبله، ويدون لكل اختلاجاتها وحركاتها وسكناتها وانتكاساتها بشكل مدهش.. الأمر الذي نافس فيه أحد أشهر مؤرخيها، وهو ابن عساكر (1105 ـ 1176) الذي التصقت به هذه المدينة والتصق بها.
كانت عائلة البديري تمتهن الحلاقة وكانت تقطن ضاحية القبيبات في حي الميدان بدمشق. عمل البديري كحلاق في محل صغير قرب قصر أسعد باشا العظم، حاكم دمشق حينذاك.
ومثل كل حلاق مهذار وثرثار وحاضر النكتة والبداهة، دوّن البديري كل شاردة وواردة، وحتى لم ترد، في دكانه الصغير.. وبمتعة آسرة في السرد والتعليق، وحتى المبالغة.. من منا يلوم حلاقا على مبالغاته، ولا يطرب له وهو يقص الشعر والحكايات؟
بدأ البديري بتدوين وتسجيل الأخبار والحكايات بنفس مهارة مراسل صحافي في أيامنا الحالية، وهل غير الحلاق أقدر على السرد، وحتى التحليل، من خلال كل من يقصد محله من زبائن صادقين وكذابين وثرثارين ومفترين.. إنه وكالة أنباء من نوع خاص، أضف إليها بعض التوابل الشامية على غرار ما شاهدناه في مسلسل “باب الحارة” وغيره من الأعمال التي اتكأت على كتاب “يوميات البديري الحلاق”.
كتب البديري الحلاق بخطه “المفشكل” وفق التعبير الشامي، وبكل ما أوتي من أخطاء إملائية ونحوية، وطرافة في التعبير والتشبيه، كل ما مر بدمشق من أحداث في تلك الفترة التي كان يجثم فيها الأتراك العثمانيون على صدر مدينته، ودوّن ما لا يمكن لعتاة المؤرخين تدوينه، فسلب ألباب كل من قرأوه، وترحموا على موسه ومقصه ولسانه في ذلك الصالون الدمشقي الذي يختصر المنطقة بأكملها.
روح دمشقيةكتاب “يوميات البديري الحلاق”، وحتى في نسخته “السياحية” الحديثة، لم يفقد جاذبيته ونكهته وطرافته، فكأنما أنت تستمع إلى واحد من “معتقي الشام” على شاكلة الممثلين الشعبيين رفيق سبيعي، سليم كلاس وياسر العظمة، في الدراما الشعبية السائدة منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
لم يفقد هذا الكتاب بريقه بفضل ما يزخم به من طرافة وغرابة الرواية، وما يوثق له من أحداث لم يتعمد صاحبها ولم يدّع التحليل والحكم على الأحداث بل تركها تنساب كجدول رقراق من جداول نهر بردى الدمشقي الذي قال ماؤه وهو يغلي، على لسان شامي معتق “أصل البلاء مني، في الوادي وجريت، كل عود سقيته، بنارو اكتويت”.
يرصد البديري الحلاق في كتابه الذي يجاور ويحاور أمهات الكتب والمراجع التاريخية التي ترصد تلك الفترة، حقبة من تاريخ دمشق التي عانت الكوارث الطبيعية والوبائية والسياسية، وكثيرا ما كان يظهر بمظهر المؤرخ المحايد والمهتم بالأحداث وحدها دون الحكم عليها.. ألم يلقن البديري الحلاق المدونين القدامى والمحدثين درسا في واجب رصد الأحداث دون التعليق عليها؟
القيمة التي تضاف إلى هذا الكتاب المبهج، ليست في التأريخ والتوثيق فقط بل بالقيمة الوجدانية ذات النكهة الشعبية، والتي تستمتع حتى بأخطائها الإملائية.. فمن هذا الفهلوي الذي حاول تشذيبها وتهذيبها من تلك الأخطاء التي تزيد الكتاب سحرا، وتجعل كلامه “يجلّ على الكلام”؟
في كل سطر من كتاب البديري تشتم عطرا غير معهود، وتبتسم لمعلومة قد تكون مغلوطة، وتضحك لتحليل غريب المرجعيات، لكنك تقف عند رجل “لا يشق له مقص أو غبار”. ينقل روحه الدمشقية المرحة إلى كل قارئ سوف يأتي، ويتحدث عن المجاعات والأوبئة وسنوات العطش وويلات الحروب، وكأنه يتحدث الآن.
نقل البديري ما عانته بلاد الشام من ظلم العثمانيين وجبروتهم بمنتهى الصدق والأمانة دون انحياز سياسي أو حزبي على الطريقة الحديثة. أرخ لأيام الفقر والعوز والفاقة بأسلوب يخلو من تلك المظلومية المعهودة في دراما المسلسلات والأفلام.
زاوج هذا الحلاق الدمشقي الظريف بين حس الرواية وأمانة التوثيق مع الكثير من الغرابة وروعة القص فصنع نوعا من الأدب التاريخي أو “التاريخ المؤدب”.. ألم يقل المفكر المغربي عبدالله العروي “إذا كان التاريخ رواية وقائع، فالرواية تاريخ متوقع”.
مثل بديع الزمان الهمذاني في مقاماته، كان البديري الحلاق “بديعا” في الوصف والسجع كما في توثيقه لحالة دمشق، تلك الفترة بقوله “لأن الغلا معلّق بالشام، والمعاملة مغشوشة والفلوس غير منقوشة، والخلق نايمة ومطروشة، والنسا باحت، والرجال ساحت، والحدود طاحت، والأكابر مشغولة، ومروءة الرجال مغلولة، وكل منهم مشغول بحال”.
بنات الخطأ
ويقول أحد النقاد معلقا على هذا القول: من يقرأ هذا الاقتباس قد يظن أن هناك من يُحاول كتابة مقامَة دمشقية معاصرة شبيهة بمقامات بديع الزمان الهمذاني، لكن المفاجئ أن كاتب هذا الكلام هو شهاب الدين أحمد بن بدير، الصوفي المنحدر من عائلة حمّالين أي من أولئك الذين قصمت ظهورهم الأعباء وظلوا يحتفظون بتلك الروح المرحة وحس الفكاهة.
والجدير بذكره أن كتاب البديري أقرب للتقارير الإخبارية منه لكتاب التاريخ فهو يذكر الحوادث جميعها من سياسية واقتصادية واجتماعية. يتعرض لولاة دمشق وسياستهم في إدارة البلاد، ويذكر العسكر من “انكشارية” و”دالاتية” و”قبيقول” وغيرهم والصراعات في ما بينهم.
ويذكر البديري، حسب ما يفيد الموثقون من بعده، القضاة والمفتين، ويذكر أسماء التجار ومحتكري مواد البناء فيفضح سماسرة ومحتكري العصر دون مواربة. كما أنه لم يغفل عن حالة المجتمع الأخلاقية فيذكر بنات الهوى أو كما يسميهن “بنات الخطأ”.
وعن كتاب البديري، يقول الكاتب والمدون السوري نبيل صالح “لا تعود شهرة مؤلفه لإتقانه الحلاقة وإنما تعود لكتابه الذي أرّخ به لدمشق والذي يعرف باسم ‘حوادث دمشق اليومية’”. ويضيف صالح “لم يكن البديري الحلاق مؤرخا ولا أديبا ولا عالما ولا شاعرا، كان حلاقا بسيطا يجيد القراءة والكتابة وارتأى أن يكتب يوميات مدينته خلال واحد وعشرين عاما فنقل لنا نبض دمشق وصورتها الشعبية ببساطة دون محسنات لغوية ودون غايات سياسية.. بالمختصر أرّخ حياة الناس العاديين الذين لم يعتد التاريخ أن يضمهم لصفحاته، وهكذا ترك لنا وثيقة تنبض بالحياة والصدق عن الفترة التي كتب عنها”.
ومثل روايات الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، تحدث البديري الحلاق في حوادث دمشق اليومية: بعد مضي إحدى عشرة سنة من جلوس مولانا السلطان محمود خان ابن السلطان مصطفى خان أيد الله عرش هذه الدولة إلى آخر الدوران. جرى على لسان العامة أنه ستحدث في الشام زلازل عظيمة تتهدم بسببها أماكن كثيرة، وأن الرجال سينقلبون نساء.
كما يتحدث البديري عن احتفالات لم تشهد الشام مثيلا لها، مرة بمناسبة طهور(ختان) أحمد ابن سليمان باشا، وأخرى في عرس ابنة أخ فتحي أفندي الدفتري، وغيرهما. ويكتب أيضا عن وفاة علمائها ومشايخها، وعن تصرُّفات مومساتها، وعن بعض الجرائم الغريبة والحوادث التي ترقى لأن تتصدر الصفحة الأولى من صحف الفضائح.
من تلك الحكايات امرأة بترت عضو زوجها بعدما علمت بزواجه من أخرى، ورجل عائد من الحج فوجد امرأته ازدادت جمالا فما كان منه إلا أن قتلها لظنه أنها على علاقة مع آخر، وآخر اكتشف أن صهره كان على علاقة جنسية مع نساء أخريات، فشكاه للأعيان الذين تجاهلوه تماما، لذلك توجه الرجل إلى الجامع وصلى صلاة الجنازة على نفسه، ثم صعد إلى المئذنة وصاح قائلا “يا أمة الإسلام الموت أهون ولا الفسق مع دولة هذه الأيام”، ثم قفز من المئذنة.
كتاب “حوادث دمشق اليومية”، التسمية المعروفة للنسخة الشائعة من كتاب البديري الحلاق، تعرض للكثير من التحريف والتزوير كما يقول بعض المحققين، خصوصا في نسخته التي ظهرت بعد ما يقارب القرن ونيف من الاختفاء، ففي مقارنة بين النسخة الأصلية الوحيدة للمخطوط الموجودة في مكتبة “تشيستر بيتي”، وتنقيحات محمد سعيد القاسمي، ستُظهر “مجزرة فكرية وتاريخية وأخلاقية” كما تقول الباحثة دانة السجدي الأستاذة المشاركة في التاريخ الإسلامي بجامعة بوسطن الأميركية، في كتابها “حلاق دمشق.. محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني”، الذي ترجمته سرى خريس، وتعزو السجدي ذلك إلى العجرفة الاجتماعية للمدقق وانحيازه إلى السلطات العثمانية وممثليها من آل العظم وورثتهم، ما جعله يزيل أي نبرة تذمر تجاه الحكام من اليوميات، وتقول “التغييرات التي أجراها القاسمي لم تكن لتحسين لغة الكتابة وأسلوبها، لكن ثمة إرادة لتحويل النص من بنيته الأصلية إلى تأريخ منظّم يعنى بالسلاطين والولاة، ما أدى إلى تجريد النص من فحواه السياسي الأصلي، وتجريد الحلاق من سلطته الاجتماعية أيضا، حيث تم إسكات صوته وتغيير لغته لدرجة أصبح في أحسن الأحوال خلفية ظريفة. أي أن القاسمي استغل موت الحلاق ليقتله مرة أخرى”.
وكالة أنباء الحي
لم تحظ يوميات شعبية بمثل ما حُظيت به تلك المدونة الشبيهة بالمذكرات، ذلك أنها كانت على قدر كبير من العفوية والطزاجة والطرافة، كما احتفظت نسختها الأصلية التي تمزج بين العامية والفصحى، بتلك العذوبة الأخاذة فجعلت العديد من الدارسين يعيدون للأدب الشعبي اعتباره، ويقدرونه حق قدره بعيدا عن تلك التوصيات والإملاءات، والرغبة في كتابة التاريخ كما يشتهيه المنتصرون أو الأتباع والمتملقون.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب حسين درويش: لولا يوميات البديري الحلاق لظلت كثير من قصص الشام طي الكتمان ولما وصلنا من حوادث تلك الأيام سوى النزر اليسير، رغم أن معاينات البديري كانت مجرد ذكر عاجل للوقائع والتواريخ لكن فيها من الطاقة التخيلية ما يغذي الموهبة لكتابة نص روائي بامتياز.
ويختتم درويش شهادته بقوله “كانت أوراق البديري أشبه بعدسة الكاميرا التي تُخزن الأحداث دون إضافات أو حذوفات، كانت حقائق واضحة تشبه الصحف الحديثة غير أن محررها كان حلاقا وليس جورنالجيا”.
حلاق دمشق، كان فعلا، حلاق دمشق، ولا “كوافيرا”، ولا حتى “حلاق إشبيلية” كما يريد أن يلوي ذراعه المتفذلكون وتطويع وجهته نحو مآربهم. إنه دمشقي ليس أكثر ولا أنقص من اللازم، دفعه حب الحكي إلى “ارتكاب” كتاب ساحر، يجمع بين الفائدة والإمتاع، بين المعلومة والظرافة والتشويق.
هذا الكتاب لم يفقد بريقه بمرور الزمن بفضل ما زخم به من طرافة وغرابة تركها صاحبها تنساب كجدول رقراق
ما يشجّع الحلاّق على حبّ التحدّث إلى حدّ الحذلقة والثرثرة هو اقتراب فمه من أذن الزبون الذي لا يشاركه الكلام إلاّ بعبارات مقتضبة بحكم حذره من حركة عشوائية طائشة قد تصدر من المقصّ أو موسى الحلاقة، كذلك يساهم عامل تنوّع الزبائن على مختلف مشاربهم وثقافاتهم ممّا يجعله وكالة أنباء الحيّ ودليل التائهين في العناوين. ولعلّ أشهرهم في التاريخ هو البديري الحلاّق الدمشقي الذي ترك إرثا توثيقيّا ودراميّا مدهشا.
“يوميات البديري الحلاق” ليس مجرد كتاب يباع على الأرصفة وتضحك لتدويناته العامة بالسخرية أو الاستهزاء.. إنها دمشق يرويها ابن دمشق بكل ما أوتي من قدرة على الابتسام في الزمن الصعب، والسخرية ممن أرادوا الضحك على الذقون.. وهو البارع في بلّ الذقون وحلقها، وخلعها مختلف الشعرات والخطب الطنانة والرنانة.
حكيم مرزوقي كاتب تونسي / موقع العرب
السبت 2020/12/05