علامة القانون الجزائي السوري …الشهيد الدكتور محمد الفاضل
مقدمة
علامة عصره والفقيه العربي والدولي للقانون الجزائي،الشهيد الحقوقي العبقري الدكتور محمد الفاضل احد اهم اساتذة القانون السوري في الفترة مابين منتصف و ثمانينات القرن العشرين، الذي لم يقرأ احد ولم اقرأ حرفاً واحداً كتب عنه سواء في جامعة دمشق او في كلية الحقوق وفاء لذكراه التي ترتبط بإسمه وأمثاله كالاساتذة الدكاترة رزق الله انطاكي استاذ اصول المحاكمات وبقية التخصصات وجاك الحكيم حامل الاكريجية ( 3 شهادات دكتوراة) استاذ القانون التجاري والشركات التجارية، والدكتور العلامة في القانون المدني محمد وحيد الدين سوار… وعبد اللطيف عابدين الدكتور الاميز في القانون الدولي وممثل سورية في مكتب الامم المتحدة في جنيف لأكثر من 12 سنة، والدكتور الشهيد ايضا عصام بشور الاختصاصي في المالية العامة والتشريع الضريبي الذي كان في قمة الدمائة والاخلاق … الخ وما اكثرهم من الذين رفعوا اسم جامعة دمشق وكانت الجامعة السورية…
لم أجد أي تكريم لأي منهم، سوى توثيق يتيم بتسمية قاعة الصف الاول في كلية الحقوق بإسم علمنا وذلك بعد اغتياله:
” قاعة الشهيد الدكتور محمد الفاضل”
يرتبط هذا العلم المغدور ضداً للعدالة، وهو المدافع العنيد عن العدالة، والعلامة الدولي في القانون وتحديداً في القانون الجزائي بذاكرة كل الطلاب الذين لقنهم (الف ياء) القانون الجزائي منذ خمسينيات القرن الماضي الى لحظة مفارقته ايانا نحن الطلاب عندما اغتالوه عام 1977 وكان ذنبه انه من جهابذة الوطن ويجب في شرعهم افراغ سورية من اعلامها وجهابذتها، كما اغتالوا الاطباء الأفذاذ والمخترعين وكبار القادة العسكريين… والحقيقة ان الجميع، وخاصة نحن طلابه، بكاه بكاء مراً، بكى فيه خسارة وطنية، بكى فيه الدماثة ومحبة الطلاب وسعيه لخدمة من يقصده، وخاصة ومعظمهم من العسكريين والموظفين والعمال الفقراء، الذين لايستطيعون الدوام، كما كنت انا قبل تسريحي من خدمة العلم والتحاقي مجدداً بوظيفتي التي كنت فيها قبل التحاقي بخدمة العلم.
كانت كل صفوفنا في كلية الحقوق قاعات وليست مدرجات، وكانت قاعة الصف الاول هي أكبر قاعة صفية في كلية الحقوق بجامعة دمشق تتسع لمئات الطلبة جلوساً كما اتذكر، تليها من حيث المساحة والاستيعاب قاعة الصف الثاني، ثم تصغر إلى مقدار النصف قاعة الصف الثالث، فالقاعة الاصغر الممائلة لصفوف المدارس، وهي قاعة الصف الرابع، والسبب في ذلك هو اقبال حملة الثانوية العامة بفرعيها من العسكريين والموظفين… و… للانتساب الى كلية الحقوق للدراسة وهي بدون دوام، وكنا وعلى سبيل المثال عند تسجيلي في الكلية عام 1974 عشرة آلاف طالب ثم يبدأ عدد الطلاب بالتناقص نتيجة الترك او التسرب…الى اصغر عدد في الصف الرابع بدليل لوائح اختبارات المواد، مع الاشارة الى ان منهاج كلية الحقوق هو من اصعب المناهج وكانت الكتب والمقررات التي هي الأكبر في كل الكليات الجامعية وجميع المناهج وبكل الصفوف الاربعة تعتمد على الحفظ اكثر بكثير من الفهم.
في الصف الاول كانت الدروس الأكبر حضوراً لدرجة الاكتظاظ في القاعة هي للدكتور الفاضل، ومثلها لمعاونه في الاختصاص الجزائي/ التطبيق العملي/ الدكتور الراقي في حضوره وعطائه عبود السراج ابن دير الزور …
ومع ان القاعة كما اسلفنا كانت تتسع لمئات الطلبة الا ان الحضور الواقف والجالس على الارض كان ،اضافة الى امتلاء المقاعد، بالمئات وكنا نتسارع لحجز كرسي قبل المحاضرة التي كانت غالباً بعد الظهر لأننا لانستطي بسبب دوام الجندية والدوام الوظيفي وعمل الطلاب المكافحين لاعالة اسرهم جضور دروس قبل الظهر.
كنا نتسمر في مقاعدنا وليس حتى من همسة عندما نستمع الى دروس هذا العملاق المترافقة مع بسمته الدائمة ونبع اجاباته على كل سؤال، وكان بين الفينة والفينة لا ينفك عن املائنا نصائحه بوجوب الدراسة المكثفة سيما وان كلية الحقوق في سورية معظم طلابها من الفقراء او ذوي الدخل المحدود بعكس فرنسا وسويسرا واميركا والدول الانجلو ساكسونية حيث يدخلها هناك ابناء العائلات الارستقراطية، بالرغم من ذلك فالاجازة في الحقوق مجال عملها هو الاوسع في الوظيفة العامة وفي الدبلوماسية والشرطة والجيش والقضاء والمحاماة…وكان يدعونا الى ان لانخجل من انتسابنا لكلية الحقوق رداً ما ماكان يشاع من انها مأوى للعجزة…
السيرة الذاتية
ولد محمد الفاضل في قرية (عين الجاش) طرطوس سنة 1919 لعائلة بسيطة مادياً ، وعرف عنه وعن عائلته بالرغم من فقرها الشديد، الكرم والجود الاصيل.
درس الابتدائية في مدرسة القرية المجاورة التي كانت تبعد 15 كم عن قريته. وكان عليه وهو طقل وحدث ان يمشيها يومياً ذهاباً واياباً صباحاً، وبعد الظهر عائداً الى قريته مع أقرانه في قريته والقرى المجاورة في مسالك وعرة وشديدة الانحدار في منطقة مطيرة جداً وتنقطع نتيجة الشلالات الانحدارية الشديدة، كان وقد اخبرنا ذات يوم اثناء الدرس من ضمن نصائحه لنا في حديثه التوجيهي لنا لنبذل الجهد ونتخطى الفقر والاحتياج، مستعيراً من سيرته الذاتية، انه كثيراً ماكان يمشي حافياً في هذه الطبيعة الوعرة وزربوله (صندله الثقيل المصنوع من اطارات السيارات البالية)، إما في بيت الكتاب القماشي المصنوع من اكياس الجنفيص الذي خاطته له امه حيث ليس من حقيبة مدرسية… وفيها الكتاب والدفتر وقلم الرصاص، وزوادة من الطعام البسيط ،او يضع حذاءه تحت إبطه، كي لايتلف الزربول (الحذاء) الوحيد الذي كان عنده، وعندما يصل الى مدرسته التي في القرية المجاورة ينظف قدميه بخرقة زودته بها أمه، ويلبس الزربول ويدخل الى الصف ليتلقى الدرس وكان الجميع هكذا… وفي المساء يدرس تحت نور الشمعة او مصباح الكاز، وعندما دخلت الكهرباء الى القرية وأُنيرت مسالكها كان يدرس تحت ضوء عمود البلدية. وتفوق في شهادة السرتفيكا التي كانت تمنح في الصف الخامس، ويبدو انه بتفوقه تم منحه منحة مدرسية على نفقة المعارف (وزارة التربية والتعليم) حيث درس الإعدادية والثانوية في مدارس طرابلس وحلب وكان ينهي كل مرحلة من المرحلتين الاعدادية والثانوية بتفوق… ثم التحق نتيجة معدله العالي وتفوقه بكلية الحقوق بجامعة دمشق (الجامعة السورية) التي كانت حصراً وقتذاك لأبناء الميسورين والذوات والمتميزين علمياً كما هو، وحصل منها على الإجازة في الحقوق سنة ال 1942 كعادته بتفوق.
الدراسات العليا
ثم سافر الى فرنسا لإكمال دراسته العليا في القانون بمنحةٍ حصل عليها من الجامعة السورية نتيجة تخرجه بتفوق، ومنها حصل على دبلوم (معهد العلوم الجنائية ) سنة 1948، وعلى(دبلوم معهد القانون المقارن)، و( دبلوم معهد الدراسات الدولية العليا)بامتياز.
ولم يكتف بذلك بل حصل على درجة الدكتوراه في القانون عام 1949 بمرتبة شرف.
وفي مطلع العام 1952حصل على منحة دراسية من منظمة الأمم المتحدة لدراسة الأساليب الحديثة في النظم العقابية، ومحاكم الأحداث في غربي أوربة، والاطلاع على مناهج تدريس قانون العقوبات والإجراءات الجزائية، وعلم الإجرام، والتشريعات المالية والاقتصادية والجزائية في الجامعات الأوربية.
والتحق ايضا لمدة قصيرة بجامعة كمبردج في إنكلترا… و حصل عام 1961 على منحة دراسية من (أكاديمية القانون الدولي في لاهاي) للاشتراك في أعمال مركز البحوث الدولية والتعمق في دراسة القانون الدولي.
عُيّن إثر عودته من أوربة عام 1949 مدرساً في كلية الحقوق بالجامعة السورية، ورقي إلى استاذ مساعد، فاستاذ، وأصبح رئيساً لقسم القانون الجنائي وأصول المحاكمات الجزائية عام 1959، فعميداً لكلية الحقوق عام 1964، ورئيساً لجامعة دمشق عام 1976
وإلى جانب عمله الأكاديمي مارس المحاماة منذ العام 1944، واختير وزيراً للعدل في عام 1966
تجاوز نشاط محمد الفاضل العلمي حدود عمله القانوني، فشارك في عضوية عدد كبير من المجالس والجمعيات ومراكز البحوث العلمية، العربية والأجنبية منها.
وكان كل من عاصره يشهد له بأخلاقه الحميدة، ومساعدته للناس، و أحيانا كان يرافع مجاناً عن أناس فقراء أو مغلوبين…خاصة ان كان متأكداً من برائتهم. إذ لم ينسى فقره ولم يترفع.
مثّل سورية في عدد كبير من المؤتمرات العلمية والدولية، العربية والأجنبية، رئيساً وعضواً في وفد الجمهورية وممثلاً لجامعة دمشق…
جوائزه وانتاجه المكتوب
منح جائزة الدولة التشجيعية على إنتاجه العلمي عام 1960، عن كتابه الاشهر “الجرائم الواقعة على أمن الدولة” وهو سفر قيم جداً، لم يتمكن المدرسون اللاحقون لهذه المادة من وضع مؤلف غيره او حتى تعديله.الى مابعد استشهاده وكنا قد درسنا هذا المقرر في السنة الثانية.
كما نال جائزة الدولة عام 1968 تقديراً لمؤلفه “التعاون الدولي في مكافحة الإجرام”
ألف باللغة الفرنسية والإنكليزية والعربية كتباً وأبحاثاً في مختلف فروع القانون
مثل كتاب (المذاهب السياسية وأنظمة الحكم) و (القضاء الإداري ) و (المبادئ العامة في قانون العقوبات) وكتب المقالات المتخصصة في مجلات تخصصية سورية ولبنانية واردنية بشتى التخصصات القانونية.
وكتب لمجلة “النعمة” الدورية لسان حال بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس مفالات في القانون والقانون الجنائي والقانون الدولي واصول المحاكمات والتشريع خلال فترة اصدارها منذ 1960-1967
أوسمته
نال الاوسمة التالية
وسام الاستقلال اللبناني من الدرجة الأولى
وسام التربية الممتاز من الاردن
نال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة
اغتياله
وقد اغتيل رمياً بالرصاص في (حرم جامعة دمشق) على يد الاخوان المسلمين صباح الثلاثاء في 22 شباط سنة 1977عندما كان يهم للدخول إلى مبنى الكلية لاعطاء الدروس لطلابه كالعادة، وبعدها يذهب الى عمله كرئيس لجامعة دمشق. لقد اغتيل بالرصاص امام طلابه الذين كانوا ينتظرونه خارج الكلية ليرافقوه كعادتهم، وكل منهم يعرض له حاجته وظلامته كالعادة.
كان الاسف محلياً وعالمياً على هذه القامة السورية في القانون التي فقدتها سورية، وجامعة دمشق، والطلاب من سوريين وعرب وموفدين للدراسة في جامعة دمشق. وانتابت المنظمات القانونية الدولية والامم المتحدة موجة من الحزن العارم والاستنكار والشجب.
الخاتمة
بالرغم من تقدمي في العمر وانقضاء حوالي أربعة عقود على تتلمذي القانون على يديه إلا أن صوته لم يبارح مسامعي وحضوره اللطيف واستماعه بكل اناة وطولة بال لكل طالب ذي حاجة واهتمامه الذي كان يظهر على وجهه… واجابته باحترام مشهود عن كل سؤال مهما كان مقداره.
لازلت أذكر كل كلمة تلقيتها عنه وخاصة في الجزئيات ومنها قوله لنا رداً على انتقاد الناس للحكومة وادائها:” يا ابني انت عندما تسب الحكومة فكأنك تسب نفسك لأن الحكومة وانت من هذا الشعب، يحق لك ان تنتقدها وتصوب اخطاءها لكن كن لطيفاً في انتقادها ولا تسبها وتجّرح بها فتصبح كمن يسب ذاته واهله.”
وقوله لنا بسؤال: ” انت لمَ تقف على شارة المرور وتتقيدْ بالقانون في المرور وغيره؟ هل هو خوف من العقاب؟ ام احترام للوطن وقانونه ودستوره؟
والجواب طبعاً هو الثاني…
وأخيراً كانت كلمته المأثورة لنا:” آخر صروح الاخلاق في المجتمع هي العدل والتربية، واخشى ما اخشاه بعد تردي العدل في المجتمع والمحاكم والتربية في مدارسنا وجامعاتنا في واقعنا الحالي ان نفقد الاخلاق”
رحمة الله عليك يادكتور القانون السوري محمد الفاضل وانت الفاضل…
غبت باغتيالهم لك، فانطفأت منارة مضيئة في القانون السوري وانت منارته وفي القانون الدولي وانت جهبذه وفقيهه.