الحياة الرهبانية في كنيسة انطاكية
مقدمة لابد منها
ليس من ثبت دقيق يوثق تأريخاً للحياة الرهبانية في حوزة انطاكية العظمى، هناك اشارات نحو اشخاص يتضح فيما بعد أن الاسماء غير دقيقة، على الرغم ان الدلائل تشير الى نمو حالة من الاستشهاد من نوع خاص بين مجموعة من ابناء وبنات الكنيسة امتدت قلاياتهم في طول البلاد وعرضها…كما تشير اليوم بقايا الاديرة الرهبانية في شمال حلب والجزيرة وفي وادي العمق حيث مسار العاصي الى مصبه في السويدية انطاكيةانطلاقا من منبعه في بعلبك مرورا بحمص وحماة وجسر الشغور…
كما نراها في قمم جبال القلمون / صيدنايا، ومعلولا وجيرود وعدرا مثلاً وبلودان…
الراهب السوري
الراهب السوري في سعيه نحو الرهبنة، لم يبحث فقط عن المناطق الوارفة الظلال وحيث ينابيع المياه …بل انه تنسك في كل مكان… بين الصخور ووسط الحفر والمغاور وكهوف الارض… في اسفل الوديان وعلى ضفاف الانهار والمسيلات كدير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي، وعلى تخوم الصحراء والعربية بقلايات الرهبان، وفي وسط البوادي وفي بطون الجبال وقممها كالشيروبيم ومار توما ودير مار الياس شويا ودير سيدة البلمند، ودير سيدة حماطوره ودير سيدة صيدنايا ودير القديسة تقلا في معلولا وسرجيوس وباخوس في معلولا وفي بخعا وعين التينة ويبرود وجيرود ودير بطرس على سفح قاسيون (قصر تشرين الرئاسي وبجانبه دير النيربين) ودير رؤية القديس بولس في كوكب
ودير اليونان في جبل اليونان ببلودان ودير القديس جاورجيوس الرهباني في بلودان ودير العشائر الذي قضت عليه ايادي الزمان كما اديرة الغوطة واولها دير العصافير…امثلة لاتعد ولاتحصى كلها ان كانت لاتزال قائمة او محقها الانسان والزمان كلها تشهد للرهبنة السورية بتنوعاتها التي استمر بعضها الى حين القضاء عليه كما في الغزوات كما دير الصليب المقدس في لقصاع…بيد تيمورلنك 1402
ان حالة الاستشهاد بالرب يسوع نمت بين معتنقي هذه الطريقة العبادية الاستشهادية كبديل عن البطش الدموي بحق المؤمنين منذ مطلع القرن الرابع واتسم بالتقشف وقهر الجسد وملذاته وتزامنت مع ابي الرهبنة انطونيوس الكبير وباخوميوس في صحراء مصر …مرورا بسيناء ومارسابا فلسطين…
امتازت الرهبنة السورية منذ نشأتها بالصرامة، واخذ الرهبان الاولون بالشدة فعاشوا منفردين أو منقطعين كلياً. ظهر اول الامر بعض الرهبان يحملون اسم “الرعيان” وكانوا يعيشون فوق جبال سورية بالصلوات والتسابيح لله (الفقر والعفة والطاعة والعبادة)
تتبع القديس افرام حياة الرهبان والرعيان باعجاب ووصفها بقوله:”انهم كانوا يهجرون المدن والضجيج ويفضلون الجبال والقفار. كانوا يتجولون كالأموات بين القبور او يعيشون في المغاور وثقوب الأرض كانوا يهوون الجبال والقفار بمسة النفس. ويلبسون أردية من الشَعر، وموائدهم مليئة بنبات الحقول، كانوا يُتكؤن رؤسهم على الحجارة بدلاً من المخدات اثناء النوم.
كانت الجبال تحيطهم كأسوار مائدتهم كل الارض وكل الجبال وعشاؤهم النباتات البريةكانت السنتهم كنائس لهم وبها يصلون دائماً…
كانوا كهنة لأنفسهم، كانوا يرعون كالوحوش في القفر، حيث يصادفهم مغيب الشمس، هناك كانوا يقضون ليلهم، كثيرون منهم ماتوا وهم في وقفة صلاة، او مستندين على صخرةاو ماشين وسط الجبال.”
فبحسب اشارات البار افرام السوري يُستدل أنه كانت توجد اديار في مابين النهرين، ومعلومات عن الرهبان فيها وعن المتوحدين والعائشين عيشة مشتركة.
القديس ابيفانيوس اسقف قبرص يذكر ادياراً مابين النهر اسماها (مانذرا) او حظائر ويقول عن الرهبان انهم كانوا يطلقون شعرهم طويلاً كالنساء ومرتدين اردية بسيطة، ولم يستحسن القديس ابيفانيوس هذا المظهر والزي الرهباني المشكك للمؤمنين.
وتصف سيلفيا (أبتيريا) التي اجتازت حران الى الاماكن المقدسة حوالي 385-388م احتفال رهبان ميسو بوتاميا في تذكار ابراهيم خليل الله لأن منزله كان هناك، والآن هو هيكل يرقد فيه جسم القديس البيذيوس وتقول أنه فيما عدا الفصح لاينزلون من اماكنهم وبقيت يومين من اجل عيد الشهيد لكي ترى هؤلاء القديسين الذين ارتضوا ةتنازلوا ان يستقبلوها ويسلموا عليها هي غير المستحقة، ثم غادروا بعد يوم التعييد ولم يظهر لهم أثر، بل عادوا الى القفار كل الى قلايته التي يقيم فيها. وقد كُتِبَ ذلك في اخبار رحلات قديمة بكل اللغات.
وقد ذكرت سيلفيا انها لم ترى في حران مسيحيين آخرين ماعدا الرهبان وبعض الاكليريكيين لأن المدينة كان يسكنها الوثنيون، وجدير ذكره ان سيلفيا هذه هي حاجة لاتينية كانت تحج الى الديار المقدسة.
ويقول القديس افرام أن مركزاً آخر للنسك كان في أديسا وهو يقيم فيه وحوله مائة راهب يأكلون الطعام مرة واحدة في الاسبوع/خبز الشعير/ وقد رُتب لهم إقامة الصلوات بالتناوب، وقد شهد على ذلك يوليانوس.
اما جوف سورية فكانت أنطاكية المركز الأهم للحياة الرهبانية، ويعطينا العلم اليقين عنها القديس يوحنا الذهبي الفم الذي عاش اربع سنين في دير من اديرتها وسنتين أخريين حبيساً او وحيداً…
كانت على مايذكر الذهبي الفم “ان الجبال الخضراء المحيطة بأنطاكية كانت تؤلف”مدينة كبيرة للفضيلة”من اديرة الرهبان” التي كانت تظهر للمارين من بعيد كأنها مصابيح تضيء من فوق، يقيم سكانها في ميناء الهدوء الذي يغمزون به كل متزعزع ينظر اليهم من خشبة الغرق، يرى نفسه في الظلمة، ويرى اولئك في النور اذا هبط راهب الى الدينة ركض الشعب اليه معبرا عن اعجابه به.
كانت الاديار على جبال انطاكية في وسط طبيعة خضراء رائعة ، وقلالي الرهبان كانت تدعى “بيوتاً صغيرة” أو “حظائر مسقوفة” أو “خياماً” منفصلة وكن ليست متباعدة كثيراًعن بعضها.
وكان الرئيس ينتقل باكراً جداً، يوقظ الرهبان الذين كانوا حالاً يجتمعون في صلاة مشتركة” واقفين في جوق واحد، وبضمير مبتهج يرتلون كلهم بصوت واحد، كأنه من فم واحد لإله الكل معتزين ومبتهجين وناعمين.”
كانت صلاتهم تدوم الى طلوع الشمس. ولما يطلع النهار يشكلون ايضا صلوات سَحَّرية وتسابيح، ثم يمضي كل منهم الى عمله الخاص. لأنهم كلهم عاقلون بدون استثناء يقومون بالأعمال الضرورية لاستمرار العيش فرادى وفي الجماعة…
البعض ينشلون الماء وينقلونه… والبعض يقطعون حطباً… الآخرون يحفرون الارضويسقونها أو يزرعونهااو يحيكون سلالاً او ينسجون اردية.
آخرون ينسخون مخطوطات او يشتغلون بمطالعة الكتب المقدسة ودراستها من اجل تعليم باقي الإخوة، البعض يقوم بتصوير الايقونات…
واخيرا كان البعض يعتنون بالغرباء والمرضى لمداواة الجراح والامراض والأخير يقود أعمى وثالث يسعف كسيحاً
كان الرئيس يراقب كل هذه الاشغال المتنوعة الكثيرة وهو الأب الذي يُدعى الرئيس، وهو الذي يقسم نهار العمل الى اربعة اقسام من العمل، وعند نهاية كل قسم كان يدعو الرهبان الى صلاة مشتركة متقدماً هو في الترتيب.
طعام الرهبان
كان الرهبان يأكلون مرة واحدة في اليوم فقط، طعامهم بسيط دون إدام والبعض كان يأكل خبزاً وملحاً. والبعض يضيفون زيتاً الى طعامهم، واما المرضى منهم فيستطيعون أن يأكلوا بعض الخضار والبقول.
لاتترهل ابدانهم بسُمنة الشحم واللحم ولاينتابهم الم الرأس، كل ماعندهم هو ماء وخبز…
الماء من الينابيع النقية والخبز من القمح الطاهر.
وإذا آثر الراهب نفسه بشيء زائد عن المأكول فببعض الموالح والبزور. اما موائد الرهبان فكانت الى هذا حافلة بالآكلين من الفقراء والمعطلين…!
اسرتهم من العشب، كثيرون قلاياتهم بدون سقف و سقوفها هي السماء..
بعد صلاة العشاء كان الرهبان يجتمعون فرقاً، فاما يقرأون الكتاب المقدس، او يتحادثون ويتحاورون عن الله اله الكل.، وعن بطلان الحياة الحاضرة، وعن سعادة ومجد الحياة المستقبلية…
ثم ينصرفون الى النوم كل في قلايته الخاصة، ونومه حسب الانظمة الديرية، لابسين الاردية الصوفيةأو الشَعرية، والبعض كانوا ينامون على الرماد، والبعض على الارض.
وصباحاً عند السّحَّر العميق ايضاً يطوف عليهم الرئيس عند صياح الديك ويلكز الراقد برجله فينهض حالاً وتُتستأنف الحياة الديرية اليومية المعتادة.
كانوا يلبسون لباساً متشابهاً من وبر الجمال، أو شعر المعزْ او الجلد أيضاً ، وكانوا كلهم بدون أحذية، وكانوا كلهم متفقين ومتساوين فلا احد يشتكي فقراً، كانوا ينظرون الى الحياة نظرة المسيحي الحقيقي. أجل يجتازون العمر بالحزن، ولكن ذاك الحزن هو اسمى من فرح العالم الباطل والمصطنع، ومن هنا لم يكونوا يخافون من الموت، بل كان الموت يملأهم فرحاً ناتجاً عن عزمهم الأخلاقي.
هكذا يصف يوحنا الذهبي الفم حياة الرهبنة الانطاكية التي عاشها ويصف اضطهاد الامبراطور (والندس) للرهبان، وقد ساهم الوثنيون في هذه الاضطهادات بفرح ونشوة، وكان يحامي قديسنا العظيم مضيفاً ان الراهب لديه القوة وهي قوة النفس التي لاتُغلب.
الراهبات
كذلك كان القديس يوحنا الذهب الفم يحامي عن الراهبات فيقول:
” فتيات لم يبلغن العشرين من اعمارهن، عائشات حياة ناعمة رخوة بين العطور والاطياب…يتملكهن فجأة شوق ورغبة في الحياة النسكية، فيحتقرن كل هذه، ويُقبلن على مثل هذا الشظف من العيش، ليجعلن أخشن المسوح من الشَعر على جلود أجسادهن الناعمة، يمشين بغير نعل في ارجلهن الصقيلة، ويتمددن على أسرةٍ خشنة، لابل يقضين الليل ساهرات لايحفلن بطيب او بزينة، بل يجدلن شعورهن ببساطة وكيفما اتفق حتى لاتظهرن بغير لياقة.
يأكلن وجبة واحدة عند المساء فقط، بغير خضار وبغير خبز، بل طعامهن سميذ وفول وحمص وحبات زيتون وتين، وعملهن عمل دائم بشغل الصوف ويمارسن اعمالاً أشق من عمل الخادمات في البيوت، وعلى الاجمال فإن حياة المتوحدات لم تختلف في قسوتها عن حياة الرهبان.
والرهبان يعيشون اما حبساء بالانفراد او حياة مشتركة تحت قيادة أب ورئيس… وتتوالى ولادة اديرة الرهبان والمدارس النسكية وفي بعضها عاش الذهبي الفم اربع سنوات حياة مشتركة وسنتين متوحداً في دير بالقرب من انطاكية هو دير افتريبوس، حيث عاش نسطوريوس بعده بعدة سنين.
بعض الرهبان الذين خصصوا انفسهم لتعليم الناشئة كانوا يعلمون اللغة اللاتينية الى جانب اليونانية.
وكان بعض الرهبان يتغنون في قهر الجسد بتحميله أثقال عقاباً للذات لانشغال البصر عن سماع كلمة الله…
في النظامين الانفرادي والحياة مشتركة يقول القديس افرام:
” كان على الراهب ان يبقى على ما اختار منهما الى آخر حياته، لا ان يقفز من الواحد الى الآخر بحجة طلب الكمال الاكثر. واذا اردنا أن نقارن بينهما، فلا نكاد نجد فرقاً كبيراً من جهة ممارسة النسك تعفف شديد عن الأكل وتعقل كامل. رفع دائم للنفس نحو الله ظاهر في الصلاة المتواصلة، روح تواضع وندامة.
يطبع جميعَ هذه الامور طابعٌ يطبع نظامي الحياة الرهبانية في سورية.
كان يُقبل في الحياة الديرية كل المتقدمين من جميع الأعمار ،ولكن قبول الصغار الذي يتم غالباً يتم اما بدافع اليتم او الفقد…لأن قبول الصغار يشكل خطرا كبيراً في الدير انضباطاً ورئاسة. واما الذي يربيه ويعلمه “فهو مرضٍ عند الرب ومغبوط”.
اما الاعمال اليومية للراهب فهي وفق يوحنا كاسيانوس(+435م) الصلاة والتسبيح متكاملاً روحياً بالأوجاع والاتعاب، ثم عمل اليدين فحيناً يحيك مراوح وسلال…فيما عدا الأعمال اليدوية التي ذكرناها كان الخطاطون منهم ينسخون الكتب. كان يوجد في كل دير خبازون، وبستانيون، وطباخون، وبوابون، وخدام…