حامية الجيش الأوكراني
مع اندلاع الحرب الأوكرانية، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صورا لأعمال “فنية” تثير الدهشة في نفس كل من يجهل تاريخ هذا البلاد. بين هذه الأعمال، تبرز أيقونة غريبة تحيي “عيد حماة الوطن” الذي كرّسه الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2014، بعدما ضمّت القوات المسلحة الروسية شبه جزيرة القرم إلى قوام روسيا الاتحادية.
أنجزت هذه الأيقونة الغريبة في 2017، وكرّسها رسميا الأسقف أبيفانيوس، يوم كان متروبوليتا على مدينة بيرياسلاف، وهو منذ نهاية عام 1918 متروبوليت كييف. تحتل العذراء وسط القسم الأعلى من اللوحة، وتقف شامخة فوق غمامة بيضاء تلتفّ حول قامتها، باسطة ذراعيها، حاملة بين يديها المفتوحتين وشاحا أبيض يتمدّد في الأفق. تحيط بالسيدة جوقة من الملائكة، وتتمدّد من خلف قدميها مدينة يحدها نهر عظيم. في شكل متوازن، يحتل رئيس الملائكة ميخائيل وسط القسم الأسفل، ويظهر شاخصا بغضب بين حشد من رجال يمثلون القوى الأوكرانية، شاهرا بيده اليمنى سيفا ناريا.
عن اليمين، يظهر القديس فلاديمير الكييفي “المعادل للرسل، منير الشعب الروسي”، وهو الأمير الذي قرّر أن يصير “مسيحيًّا على دين الروم” في نهاية القرن العاشر، فاعتمد، واعتمد من بعده ضباطه، ثم فرض الاعتماد على شعب كييف بأسره. يظهر من أمامه، جندي من زمنه يحمل راية ممهورة بصورة المسيح. عن يسار هذا الجندي، يقف عسكري في لباس معاصر، تزين كتف قميصه الشارة التي تُعرف باسم “ترييزوب”، وهي الشارة التي تعود إلى زمان أجداد الأمير فلاديمير الكييفي، كما أنها الشارة التي تحولت إلى شعار لأوكرانيا في مرحلة استقلالها بين 1917 و1920، وهي شعار أوكرانيا الرسمي منذ صيف 1996.
خلف الأمير القديس والجنديين، يظهر قوم من الرجال، ويتضّح أن أحد هؤلاء هو إيفان ستيبانوفيتش مازيبا الذي شغل منصب هيتمان، أي القائد العسكري، في مقاطعة زابوروج، دولة القوزاق في الجنوب الغربي من أوكرانيا، وهي الدولة التي يعتبرها الأوكرانيون واحدة من دولهم القديمة. بحسب الرواية الشائعة، علم مازبيا أن القيصر بطرس الأول كان ينوي إعفاءه من دوره في دولته واستبداله بألكسندر مينشيكوف، فهجره، وانحاز مع جيشه إلى تشارلز الثاني عشر، ملك السويد. نتيجة لهذا التحوّل، وضعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لعنة الحرمان على اسم مازيبا في عام 1708، وما زالت ترفض إبطال هذه اللعنة إلى اليوم. من هنا أضحى اسم مازبيا كنية اعتمدها الروس في تحقير الأوكرانيين “الخونة” إلى يومنا هذا، فباتوا يُعرفون بـ”المازبيين”. في المقابل، استمر عزل مازبيا عن التأريخ الأوكراني في المرحلة السوفياتية، ولكن بعد عام 1991، في أوكرانيا المستقلة، جرت محاولات حثيثة لإعادة الاعتبار إلى هذا القائد القوزاقي، وهو اليوم في الذاكرة الجماعية بطل قوي أوكراني، على الرغم من أنه لا يزال شخصية مثيرة للجدال.
في الجانب الآخر، عن يسار رئيس الملائكة ميخائيل، يظهر حشد آخر من الرجال يمثلون كما يبدو فصائل الجيش الأوكراني. يتقدم هؤلاء الرجال جندي يرفع عاليا الراية الأوكرانية بلونيها الأصفر والأزرق، ويظهر إلى جواره مقاتل بلباس مدني عقد حول معصمه شريطا بلوني الراية الوطنية. في حركة جامعة، يرفع كل الحاضرين في الحشدين رؤوسهم نحو الأعلى، شاخصين إلى العذراء التي تبسط وشاحها الأبيض فوق هاماتهم.
المنقذة من الشدائد
تجمع هذه الأيقونة الوطنية المعاصرة بين نموذج كنسي أرثوذكسي تقليدي ونموذج مدني حديث مبتكر. يُعرف النموذج الكنسي باسم “عيد زنار والدة الإله الحامي”، كما يعُرف باسم “عيد سيّدة الحماية” أو “ستر والدة الإله”، أما النموذج المدني، فهو أوكراني دون أي شك، وقد اتخذ أشكالا متعددة، آخرها هذه الأيقونة التي تحيي “عيد حماة الوطن”.
من المفارقات، يعود “عيد زنار والدة الإله الحامي” إلى العالم البيزنطي، غير أن أيقونته تعود إلى العالم الروسي حيث تشكّلت في القرن الثالث عشر، وانتشرت في شكل واسع في الرابع عشر بعدما اكتملت ملامحها. في الأصل، يحيي هذا العيد حادثة وقعت في الأول من أيلول من العام 911، في زمن الأمبراطور لاون الحكيم الشهير بالفيلسوف، حين احتشد المصلون لإقامة صلاة سهرانية للسيدة العذراء في كنيسة بلاشيرن في القسطنطينية، بحضور القديس اندراوس المتباله الذي كان واقفاً في مؤخرة الكنيسة مع تلميذه ابيفانوس. وفي الرابعة صباحاً، ظهرت السيدة فوق المؤمنين حاملة وسط يديها وشاحاً نشرته من فوق جموع المصلّين، وكأنها تريد أن تحميهم به. سأل القديس اندراوس المتباله تلميذه ابيفانوس: “هل ترى ما أرى؟ هل ترى والدة الإله تصلّي من أجل العالم أجمع؟” فأجابه تلميذه: “أجل يا أبتي، أعاينها وأقف بخوف ورعدة”.
جعلت الكنيسة من هذه الرؤيا عيدا، حفظاً لتذكار تلك الحادثة، وتأكيداً لحماية العذراء لها، كلما لجأت إليها طالبة عونها في الشدائد والضيقات. واللافت ان الأيقونة الخاصة بهذا العيد تجاوزت في تأليفها التقليدي الحدث الزمني الذي شكّل أساساً لها، وجمعت بين أحداث تعود إلى أزمنة مختلفة، منها ما سبق رؤيا القديس اندراوس المتباله، ومنها ما جرى بعدها.
هكذا باتت الأيقونة تحيي العذراء بوصفها “جندية محامية” و”منقذة من الشدائد”، لها “العزة التي لا تُحارب”، كما تقول احدى التراتيل الشهيرة. وحصدت هذه الأيقونة نجاحا هائلا في الأراضي الروسية المختلفة، كما يشهد العدد الهائل من نماذجها المحفوظة في المتاحف والكنائس.
لجأ أسياد إمارة كييف إلى “سيدة الحماية” وجعلوها شفيعة وسنداً لهم، وتبعهم في ذلك حكام القوزاق الأوكرانيون الذين جعلوا من عيدها الذي يُحتفل به في 14 أكتوبر/تشرين الأول بحسب التقويم البولياني عيدا لتأسيس دولتهم. كذلك، سار قادة “الجيش الشعبي الأوكراني” على هذا المنوال، وهو الجيش الذي أنشأته “جمهورية أوكرانيا الشعبية” بعدما تشكلت كدولة في سنة 1917، إثر إعلان استقلالها عن جمهورية روسيا في زمن اندلاع الثورة الروسية. بدوره، اعتمد بيترو بوروشينكو هذا التاريخ للاحتفال بـ”عيد حماة الوطن”، بدلا من من 23 فبراير/شباط، يوم تأسيس الجيش الأحمر وعيد الجيش السوفياتي. وتعرضت القيادة الأوكرانية لانتقادات روسية حادة بسبب هذا القرار، لأن يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول يُعتبر كذلك تقليديا يوم تأسيس “جيش التمرد الأوكراني” الذي تعاون مع النازيين بشكل كبير حين كان يحارب الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية.
بين الماضي والحاضر
تظهر “سيدة الحماية” كشفيعة للقوزاق في عدد من الأيقونات الأوكرانية، وفيها يطلّ رئيس الملائكة ميخائيل عن يمين السيدة، ويطلّ القديس نيقولاوس العجائبي عن يسارها، ويُشكل هذا الحضور المزدوج عنصرا محلياً مبتكراً لا نجد له أي أثر في المثال الروسي الأصلي. والمعروف أن إمارة كييف جعلت من ميخائيل القائد الميداني لجيش الله، وقد اتبعت الإمارات التي ظهرت من بعدها هذا التقليد. أما نيقولاوس فهو القديس الأكثر حضورا في مجمل الأراضي السلافية، وهو شفيع الفرسان البحّارة في عصر القوزاق الأوكرانيين.
كذلك، تظهر “سيدة الحماية” كشفيعة لدعاة القومية الأوكرانية في زيتية من القرن الماضي تضم العديد من الشخصيات المثيرة للجدال. كما في النموذج الأوكراني المبتكر، تحتل العذراء القسم الأعلى من التأليف، ويحوط بها رئيس الملائكة يميناً، والقديس نيقولاوس يساراً. في القسم الأسفل، عند قدمي مريم، يقف ملاكان يحملان معا الشارة الأوكرانية التي تُعرف باسم “ترييزوب”، ويحوط بهما حشدان من كبار أعلام الأوكرانيين، حيث يقف أعلام العصور الوسطى من جهة اليمين، ويقف أعلام العصر الحديث من جهة اليسار.
في وسط الفريق المعاصر، يظهر ميخايلو هروشيفسكى، أشهر أعلام النهضة القومية الأوكرانية. ويظهر عن يساره سيمون بيتلورا، وهو ناشر وكاتب وصحافي وسياسي ورجل دولة وزعيم قومي، قاد النضال الأوكراني للحصول على الاستقلال، تولّى منصب رئيس أوكرانيا خلال فترة الاستقلال بين 1918 و1920، واغتيل غدراً بخمس طلقات من سلاح ناري في 1926. بين ميخايلو هروشيفسكى وسيمون بيتلورا، يطلّ في الخلف دميترو فيتوفسكي، أحد أشهر أعضاء الحزب الراديكالي الأوكراني، كان منظّما نشطاّ لعدد من المؤسسات التربوية الأوكرانية. قضى في حادث طيران سنة 1919 ودُفن في برلين، وفي 2002، تم نقل جثمانه إلى أقدم وأعرق مقبرة في مدينة لفيف الأوكرانية.
في طرف الصف الأول، يقف رومان شوخيفيتش، وهو رجل سياسي وعسكري، انضمّ إلى منظمة القوميين الأوكرانيين في إقليم غاليسيا، وقاد كتيبة ناختيغال الألمانية الأوكرانية، في عداد الكتائب الأجنبية للجيش الألماني، في مطلع الأربعينات، كما كان قائدا عاما للمجلس الأوكراني الأكبر للتحرير، قُتل سنة 1950 أثناء مداهمة قامت بها قوات الأمن الروسية في قرية بيلوهورشا المجاورة لمدينة لفيف. عن يمين رومان شوخيفيتش، يحضر ستيبان بانديرا، وهو سياسي وأحد قادة الحركة الوطنية، تزعّم منظمة القوميين الأوكرانيين التي أنشئت في نصف القرن العشرين، وقاتلت البولنديين في البداية، ثم عقدت تحالفا مع النازية وحاربت القوى السوفياتية. اغتيل في ميونيخ سنة 1959، وأعلنت المؤسسات القضائية الألمانية أن قاتله عميل لجهاز المخابرات السوفياتي.
يُعتبر ستيبان بانديرا قطعا أكثر تلك الشخصيات إثارة للجدال. أصدر الرئيس فيكتور يوتشينكو مرسوما يقضي بمنحه لقب بطل أوكرانيا، وقام الرئيس فيكتور يانوكوفيتش بإلغاء هذا المرسوم وسط احتجاجات عارمة نظّمها القوميون الأوكرانيون، وبعدها أعيد الاعتبار إليه كبطل قومي بعد ما عُرف بثورة الميدان في خريف 2013. في الجهة المعاكسة، تقول السلطات الروسية اليوم إنها تخوض حربا ضدّ أتباع بانديرا من الأوكرانيين النازيين والفاشيين.
محمود الزيباوي