في القرن الحادي عشر، تشكلت في هذه البلاد دولة اتحادية حملت اسم “كييفسكايا روس”، أي “روس كييف”، غير أن هذه الدولة دخلت سريعاً في عصر الانقسامات، وتحولت إلى إمارات صغيرة متحاربة. في هذا الخضم، بدأ الزحف المغولي التتاري إلى الأراضي الروسية، وبلغ “روس كييف” في العام 1223، فدخلها ثم اضطر للخروج منها ليعود ويجتاحها ثانية في 1237، معتمداً سياسة الأرض المحروقة.
أحكم التتار سيطرتهم على الأراضي الروسية مدى قرن من الزمن، وعيّنوا ولاة محليين أداروا شؤون هذه الأراضي الواسعة في ظلّهم، غير أنهم اضطروا للتخلي عن المناطق الغربية التي تضم كييف وسمولينسك وأبرز الطرق النهرية، وذلك بعد سلسلة من الحروب مع قوى ليتوانيا وبولندا التي أحكمت سلطتها على هذه المناطق وتغلغلت فيها، فطبعتها منذ تلك الفترة بثقافاتها وقيمها وعاداتها. بالتزامن مع هذا التحول، وبالرغم من خضوعها المستمر لسلطة المغول المتضعضعة، شهدت الأراضي الروسية بروز موسكو التي اتسعت حدودها بشكل كبير، بعدما كانت في زمن إمارة “روس كييف” مجرّد ضاحية صغيرة من ضواحي إمارة مدينة سوزدال.
لم تتحوّل موسكو إلى عاصمة للأراضي الروسية فحسب، بل طمعت في أن ترث عرش روما، لتكون “روما الثالثة”، تلك التي سطع نجمها بعد سقوط روما الأولى في 476، وسقوط روما الثانية، أي القسطنطينية، في 1453. وقد عبّر راهب من مدينة بسكوف العريقة، يُدعى فيلوتاوس، عن هذه الرؤيا في رسالة شهيرة بعث بها في 1508 إلى فاسيلي الثالث، أمير موسكو المعظّم وقيصر عموم روسيا، وفيها يقول: “بعدك ننتظر الأمبراطورية التي لا نهاية لها. سقطت روما الأولى والثانية، لكن الثالثة باقية، ولن تكون هناك رابعة”. واصل فاسيلي الثالث، بعد توليه عرش موسكو، سياسة توحيد الأراضي الروسية التي انتهجها والده إيفان الثالث، وخلفه في الحكم عند رحيله في 1533 ابنه إيفان الرابع الذي تُوّج كأول قيصر في تاريخ روسيا، وخاض حروباً توسعية، وانتصر على التتار، ثم دخل في حروب مفتوحة مع ليتوانيا وبولندا والسويد، غير أنه خرج منها خائباً. بقيت الأراضي الأوكرانية تحت حكم مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا اللتين اتحدتا في 1559 تحت اسم دولة الكومنولث البولندي الليتواني، ونجحت الكنيسة الكاثوليكية في اختراق أرثوذكسيتها بعد جهد جهيد.
فرسان القوزاق
في مواجهة الثنائي البولندي – الليتواني، برز فرسان القوزاق، وهم في الأصل الجنود الفلاحون الذين عاشوا في مناطق نهري الدنيبر والدون، في شرق أوكرانيا وغرب روسيا، وأشهرهم في الذاكرة العالمية تاراس بولبا، بطل رواية نيقولاي غوغول، الأديب الروسي الكبير الذي وُلد في قرية من ضواحي مدينة بولتافا الأوكرانية، ونشأ وسط الفلاحين في الريف الأوكراني، وعرف عن كثب تقاليد شعب القوزاق وافتتن بها، كما افتتن بها من قبله والده الذي احترف الكتابة ووضع عدداً من المسرحيات من وحي هذه التقاليد. تروي رواية غوغول الشهيرة، سيرة تراس بولبا الذي يلتقي بابنيه أندره وأوستاب بعد عودتهما من كييف وإتمامهما دراستهما فيها، وينتقل معهما إلى زابوروجين سيش، معقل القوزاق في جنوب أوكرانيا، ويلتحق الثلاثة بهؤلاء القوزاق، ويخوضون معهم الحرب ضد البولنديين.
اختلف أهل العِلم في تحديد أصل اسم القوزاق، والكلمة تعني بالتركية “الإنسان الحر”. والمعروف أن القوقاز شكّلوا جماعات عديدة، أشهرها قوزاق نهر الدون في جنوب شرقي روسيا، وقوزاق زابوروج في الجنوب الغربي. في مطلع القرن السادس عشر، شرعت كل من روسيا وبولندا في تنظيم قبائل هذا القوم في وحدات عسكرية تساندها في حربها ضد التتار الغزاة. في المقابل، حصل القوزاق من الدولتين العظميين على امتيازات عديدة مكافأة لهم على خدمتهم، وشكّلوا جمهوريات شبه مستقلة، واعتمدوا في ما بينهم نظاماً ذا وجه ديموقراطي، إذ كان أرباب البيوت منهم يختارون رئيساً تنفيذياً لجمعية منتخبة. عاش قوزاق زابوروج خلف نهر الدنيبر، وكلمة “زابوروج” تعني “عبر النهر”، واعتمدوا تنظيماً إجتماعياً زراعياً عسكرياً، وعاشوا مستقلين في مراكز محصنة تُسمَّى “السيش”، كما في رواية تاراس بولبا، وكانت هذه المراكز المحصنة تجمع بين المعسكر والسوق والمركز الإداري.
كان القوزاق من المسيحيين الأرثوذكس، وعُرف فرسانهم بشجاعتهم وبسالتهم الهائلة في القتال، وأصبحوا الدعامة الأولى لإيفان الرابع داخل البلاد، وفي الحرب ضد التتار. كذلك، استفادت بولندا منهم في حماية حدودها ضد هجمات هذا العدو المشترك، غير أن القوة الروسية الصاعدة نجحت في استمالة القوزاق بشكل كبير، وتبنّت قضيتهم وشجعتهم على الانتفاض في وجه بولندا التي كانت تستغلهم من طريق الإقطاع الاستيطاني. جاءت هذه الانتفاضة بعدما عقدت بولندا وليتوانيا اتفاقية “اتحاد لوبلين” في 1569. إثر هذا الاتحاد، بات إقليم أوكرانيا تحت حكم غلب عليه العنصر البولندي، وكان أكثر سكانه من قوازق زابوروج الذين تمرسوا في الحرب وألفوا الاستقلال، فدخلوا في مواجهة مع القوى البولندية، وتزعم هذه الحركة “هتمان”، أي زعيم حربي، يُدعى بوهدان خميلنيتسكي، وناصرها تتار القرم المسلمون.
تحت قيادة بوهدان خميلنيتسكي، دحر القوزاق الجيش البولندي العام 1648، وبعدما سيطر على جزء كبير من أوكرانيا الخالية، خشي ألا يستطيع الصمود أمام الجيوش البولندية المعززة، فاستنجد بروسيا الأرثوذكسية، وعقد اتفاقية مع القيصر ألكسي في مطلع 1654، عُرفت باسم “اتفاقية بيريياسلاف”. بموجب هذا القانون، انضوت أوكرانيا القوزاقية تحت الحكم الروسي، وكفل هذا الحكم للإقليم الاستقلال الذاتي تحت حكم زعيم حربي ينتخبه الشعب القوزاقي، يُصادق القيصر على انتخابه.
عُرفت أوكرانيا القوزاقية في تلك الحقبة باسم “روسيا الصغرى”، وحاول أصحابها المحافظة على استقلالهم في ظل الحكم الروسي الذي أخلّ بالاتفاقية التي عقدها معهم في كثير من الأحيان، إلى أن تخلّت الإمبراطورة كاترين الثانية عنهم في 1774 حيث ألحقت كيانهم بمقاطعة “روسيا الجديدة”. ويعتبر الأوكرانيون اليوم أنهم ورثة القوقاز، ويرفعون بوهدان خميلنيتسكي إلى مقام كبار أبطالهم القوميين، كما يشهد حضور صورته في ورقة من أوراق العملة الأوكرانية.
أيقونة وطنية
يظهر هذا البطل القوزاقي في العديد من الأعمال الفنية، منها أيقونة من محفوظات متحف أوكرانيا الوطني في مدينة كييف، تتميز بموضوعها “الوطني” التاريخي المحلّي. في هذه اللوحة، تحضر العذراء مريم تبعاً لنموذج مستمد من الفن الأوروبي يُعرف بـ”سيّدة الرحمة”، وفيها تظهر وهي تبسط يديها، ممسكة بطرفي معطفها، بينما يظهر حشد من المؤمنين في النصف الأسفل من التأليف، راكعاً في خشوع تحت ظل معطفها.
على يمين السيدة، يظهر كاهن بلباس أسقفي، وعلى يسارها يظهر ملك متوّج، ومن خلفه رجل يعتمر قبعة قوزاقية، وهذا الفارس هو قطعاً بوهدان خميلنيتسكي، والملك الذي يجاوره هو القيصر ألكسي ميخائيلوفيتش، أمبراطور روسيا الثاني وحاكمها من 1645 حتى وفاته في 1676. أما الأسقف الحاضر في الجهة المقابلة، فهو على الأرجح ديونيسوس بلابان، متروبوليت كييف من 1657 إلى 1663.