“سوسيتا” حارسة الجولان!!
في موقع استراتيجي هام غربي “فيق” وشرق بحيرة طبرية بنيت “سوسيتا او هيبوس” في القرن الثاني قبل الميلاد. وبعد التطور الذي لحق بهذه المدينة أصبحت من المدن العشر “الديكابولوس” وهي مدن ذات طابع ثقافي إغريقي.
.
استوطن المكان منذ ما يقارب 2500 سنة، وتطورت إلى مدينة في العصرين اليوناني والروماني. وهي تتخذ موقعها على أطراف هضبة الجولان الجنوبية الغربية، وتطل على بحيرة طبريا عن بعد 2 كم، وتعلو عن سطح البحر 350 م.
.
“هيبوس” الإغريقية أو “سوسيتا” الآرامية، هي لفظة لدلالة واحدة تعني الحصان، وقد أخذت اسمها من ظاهرة جغرافية طبعت المكان بطابعها الخاص، حيث أن الموقع يبدو من الزاوية اليمنى كرأس حصان وعنقه، وفي الجانب الشرقي يوجد جرف جبلي مقوس على شكل سرج الحصان ويعرف بسرج “سوسيتا”. ومن هنا أطلق عليها العامة اسم “قلعة الحصن”. ومفردها حصان.
.
في العصر البيزنطي والروماني أخذت المدينة ترتدي الهوية المسيحية، وكانت هذه المدينة ذات قداسة خاصة حيث يعتقد أنها كانت آخر مدينة يطأها السيد المسيح في جولته على مدن الـ”ديكابوليس”، والتي كان فيها معجزة إطعام خمسة آلاف إنسان..
هذا الطابع المسيحي تجلى ببناء الكنائس الأربعة التي ذكرها “البلاذري” في “فتوح البلدان”.
.
وأشار ابن “خرداذبة”، إلى أنها كانت كورة، والكورة اليوم تعني الإقليم. وهذا يؤكد أنها كانت مركزاً لإقليم استمد اسمها.
.
وتقول المراجع أنه قد شيد للمدينة ميناء صغير على شواطئ البحيرة لغرض الصيد والتنقل من وإلى الاماكن الواقعة على محيط البحيرة في ذلك الوقت، وقد شيد الميناء إبان انضمام المدينة ل الـ(ديكابولوس) وهو اتحاد المدن العشرة ذات الطابع الثقافي الإغريقي المعطاة حكماً ذاتياً في العصر الروماني.
.
هنالك ما يبرر الاعتقاد أن المدينة كانت مسكونة قبل قدوم اليونان، لكنها تطورت بعد قيام الدولة السلوقية في المنطقة إلى مدينة صغيرة، وذلك حوالي العام 200 ق. م تقريباً، لتصبح مدينة مواجهة على تخوم الصراع السلوقي المتمركز في سورية، والبطلمي المتمركز في مصر، مما يبرر قيام السلوقيون بتطويرها وتشييد الأبنية الجديدة فيها، لتصبح حصن متقدم على تخوم دولتهم قبل تمكنهم من دحر البطالمة عن فلسطين، وهو ما يأخذ دلالاته من الاسم اليوناني (أنطيوخيا هيبوس)، أي مقاطعة هيبوس.
.
ومع استقرار نفوذ السلوقيين على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، بعد المعركة الفاصلة مع العدو البطلمي قرب بانياس في العام 196 ق. م، تطور وضع المدينة لتصبح مدينة رسمية (بولس) تسيطر على المناطق القريبة منها. وأضيف لأبنيتها معبداً وسوقاً وأبنية رسمية أخرى. لكن تطور المدينة العام كان مرهون بإمكانية توفير المياه، التي جرت العادة على جمعها من هطولات المطر في آبار حفرت هنا وهناك.
.
في العام63 ق.م اجتاح جيش القائد الروماني (بومبيوس)، المناطق الواقعة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط ، مزيحاً بذلك السيطرة اليونان إلى الأبد، ومعلنا مرحلة جديدة نعمت فيه سوسيتا بحكم ذاتي من جديد، بانضمامها للمدن العشرة (الديكابوليس).
.
تعتبر “سوسيتا” من المناطق الغنية بآثارها المعمارية والتحف الفنية، وكل عصر ترك فيها من روحه الثقافية الشيء الكثير، حيث يقف آثار هيكلين وثنيين يحملان طابع الهندسة المعمارية الـ”هلنستية” أحدهما يوناني والآخر روماني. أما الكنائس الأربع فقد بينت في العصر البيزنطي ومنها الكنيسة الملكية جنوب شرق المدينة. وكنيسة شمال غرب، وأخرى شمال شرق. وجميع كنائسها تأخذ الطابع المعماريالرومي.
.
ومن آثارها كذلك التي تؤكد التطور والازدهار الذي شهدته هذه المدينة، ساحة مركزية مرصوفة بأحجار بازلتية واعمدة نصبت على قواعد رخامية، مما يعني أنها كانت مزدهرة اقتصاديا وشهدت عملية تبادل تجاري مع المدن المحيطة، حيث تم جلب الرخام من مناطق أخرى.
.
تمتعت المدينة بتطور مميز، بعد أن تم تصميمها من جديد على الطريقة الرومانية، بشكل شطرنجي تتوازى فيه الشوارع مع بعضها، شرقا وغرباً، وشمالاً وجنوباً. كان الشارع الرئيسي (الدوكومونوس) يتوسط المدينة ممتداً من الشرق إلى الغرب، ومزيناً على طول جانبيه بأعمدة غرانيتية حمراء استوردت من مصر، مما يدلل على مستوى الرخاء الذي تحقق في تلك الفترة. أما الشارع الرئيسي الآخر فيمتد باتجاهي الشمال والجنوب ويدعى (الكوردو)، وتوازي باقي الشوارع في المدينة هذان الشارعان، وتتقاطع مع بعضها، مما يخلق شكلا شطرنجيا.
.
من المنشآت الجديدة أيضاً، معبد ومسرح، بالإضافة للسور الذي أحاط بالمدينة. لكن الأبرز بين المشاريع الجديدة كان بركة الماء المنشأة كحل بديل عن تجميع مياه الأمطار في آبار صغيرة خلال فصل الشتاء، وقد تم جر المياه إلى البركة عن بعد 25 كم من منطقة العال
.
ومن الآثار التي وجدت في المدينة قطع نقدية تعود للعصر الـ”هيلنستي” والروماني والبيزنطي والأموري، وأقدم قطعة تم سكها عام 285 قبل الميلاد. وأحدث قطعة مسكوكة كانت في طبريا عام 734 ميلادية.
.
ويؤكد الباحثون أن هذه المدينة بنيت وفق مخطط هندسي فريد، وأنها شهدت معضلة مائية قامت بحلها عبر أحواض التخزين لتوفير الماء اللازم، ففيها بقايا من بركة كبيرة وأخرى صغيرة.
.
سوسيتا مدينة ذات أفق علمي، وقد استشف الباحثون ذلك من طريقة حلهم لمعضلة نقص المياه، حيث تبين لهم أن سكانها كانوا يعرفون جيدا بـ “طبوغرافية” الأرض المحيطة، حيث جلبوا الماء من أعالي وادي العال على امتداد 25 كم، عن طريق نحت قناة في الصخور وتركيب حجارة بازلتية كجوفة قابلة للوصل في أجزاء أخرى. وفتحت فتحات دائرية في القناة من أجل التهوية. وهذا يذكرنا بزنوبيا وجر المياه من عين الفيجة إلى تدمر.
إنه الإنسان السوري، حيث وجد كان الإبداع والحضارة والرقي والازدهار
.
في العام 749 م دمرها زلزال قوي، ولم تُستوطن بعد ذلك مطلقاً. غير أن تضاريس المكان حثت على بناء قلعة الحصن خلال حملات الفرنجة، كبناء دفاعي يقابل قلعة الصبيبة في الشمال من الجولان، من أجل حماية هذان الممران الطبيعيان إلى الداخل السوري، وقد فقدت القلعتان أهميتهما بعد ذلك، لكن قلعة الحصن دمرت عن آخرها تقريباً..