Quantcast
Channel: د.جوزيف زيتون
Viewing all articles
Browse latest Browse all 1470

البطريركية المسكونية وتاريخ اللقب

$
0
0

البطريركية المسكونية وتاريخ اللقب

توارد على مسمعنا جميعاً ذلك اللقب الذي يلحق برئيس الأساقفة الأول في ذيبتيخا الكنائس الأرثوذكسية المحلية المستقلة وأعني بذلك “رئيس أساقفة القسطنطينية – روما الجديدة والبطريرك المسكوني”. بيد أن الجميع على دراية بأن كلمة “مسكوني” في هذااللقب ليست أكثر من عنوان بيزنطي شعائري مراسمي أُعطي تكريماً للتقاليد التاريخية. لأن التعليم المسيحي الأرثوذكسي لا يفوّض أي شخص – باستثناء المسيح ذاته – “بالولاية العالمية”: تمامًا كما كان الرسل في أيّامهم مستقلّين عن بعضهم البعض مجتمعين بالروح الأخويّة وقاموا بالتبشير برسالتهم الإنجيليّة باستقلالية تامة كذلك هي الكنائس التي أسسوها هي كأخواتٍ مستقلين متّحدين بالروح القدس كجزء من الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية. لكن الأشخاص البعيدين عن فهم القانون الكنسي والذين ليسوا على دراية بتاريخ الكنيسة يفسرون هذا اللقب بطريقة مختلفة تمامًا. من وجهة نظرهم، أن كلمة “مسكوني” وانطلاقاً من معناها، تكون بمثابة اعتراف رسمي بدور قيادي للاورثوذكسية يتم منحه لأول البطاركة. وهذا على الرغم من حقيقة أن رعايا البطريرك المسكوني حول العالم يبلغون حوالي 6 ملايين شخص – أي ما يقارب حوالي 2 ٪ من إجمالي عدد المسيحيين الأرثوذكس في العالم.ماذا يعني لقب “مسكوني” ، من أين أتى وما هو هدفه الحقيقي؟

الامبراطورية كمسكونيّة

في البداية، من الضروري فهم كلمة “مسكوني”- باللغة اليونانية οἰκουμένη. يأتي من الفعل οἰκέω “العيش، السكن، المسكن ” فمع الاسم الذي يتم حذفه عادةً وهو “الأرض”، أي حرفياً يكون المعنى الكامل: “الفضاء الأرضي الذي يسكنه الإنسان”. لهذا أطلق الإغريق القدماء هذا المسمى على العالم المألوف أو المكتشف بالنسبة لهم، على عكس المناطق البعيدة، إما غير مأهولة بالسكان أو تلك التي يسكنها البرابرة المتوحشون. عادة لا تعني كلمة “مسكوني” العالم كله، بل فقط ذلك الجزء من العالم حيث توجد الحضارة. دُعي حكام الممالك الكبيرة “ملوك المسكونة” – على سبيل المثال، الملك الفارسي كورش الكبير الذي ورد في العهد القديم (2 عزرا 2: 2).

وعندما توحدت الحضارة اليونانية-الرومانية تحت حكم الأباطرة الرومان، أخذت الإمبراطورية الرومانية على نفسها تسمية “المسكونيّة”. وانطلاقاً من هذا اللقب يروي لنا القديس لوقا في انجيله عن ميلاد السيد المسيح بقوله: “وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. -πᾶσαν τὴν οἰκουμένην- (لوقا 2: 1). وبهذا نفهم أن مصطلح “مسكونة” لا يعني مساحة مأهولة بالسكان بقدر ما يعني مساحة مثقفة للحضارة القديمة (لديها ثقافة). فلقد كان للثقافات الأخرى “مسكونة” أخرى خاصة بها. وقد تم الحفاظ على هذا المفهوم لقرون عديدة. على سبيل المثال، عندما أرسل الحاكم البلغاري إياكوف سفياتوسلاف في عام 1262 إلى متروبوليت كل روسيا كيريل الثاني كتب الپيذاليون (مجموعة من القوانين الكنسية والعلمانية التي كانت مرشدة في إدارة الكنيسة وفي المحاكم الكنسية للدول الأرثوذكسية السلافية) : كتب ” فلتستنر المسكونة الروسية بكلمتك”.

Illustration_2.jpg

وهكذا، عندما استدعى الإمبراطور قسطنطين الكبير الأساقفة من جميع أنحاء إمبراطوريته إلى نيقية عام 325 لمناقشة مشاكل الكنيسة العامة، تم تسمية هذا الاجتماع بـ “المجمع المسكوني”. هكذا بالتحديد ولدت فكرة المجامع المسكونية على المستوى الإمبراطوري بالكامل، والتي، بناءً على دعوة الأباطرة في مناسبات مهمة اجتمع الأساقفة من جميع أنحاء الدولة الرومانية الشاسعة تحت رئاسة الأسقف الأكثر سلطة، الذي ومع الوقت أصبح يدعى “أبو الآباء” أي البطريرك.

انتشر لقب “مسكوني” بمعنى “كامل الإمبراطورية أو كامل الدولة” بشكل خاص في تشريعات يوستينيان الكبير (527-565). نصادف في شرائعه الكثير من كلمة “المسكوني – المسكونة” كدلالة منه على كامل أراضي الإمبراطورية. وفي الكتاب 109 من عام 541 ، قدم الإمبراطور شرحًا شاملاً للمجامع المسكونية والبطركيات: ” أطلقنا نحن، كما الآباء، بالهراطقة على كل من ينتمي إلى بدعةٍ من البدع المخلفة. وبشكل عام على جميع الذين ليسوا أعضاء في كنيسة الله المقدسة الجامعة الرسولية، حيث يوجد كل قداسة البطاركة من كل المسكونة أي روما الغربية، وهذه المدينة الملكية، والإسكندرية، وتيوبول (أنطاكية)، والقدس، وجميع الأساقفة الذين يتبعون لهم المبشّرون بالتعاليم والتقاليد الرّسولية “.

Illustration_3.jpg

وهكذا، من وجهة نظر التشريع الإمبراطوري، يتم الإعلان عن الإيمان الأرثوذكسي وفقًا لـ “بطاركة المسكونة” الخمسة والأساقفة التابعين لهم – ومن أجل الشهادة على ذلك، تتم الدعوة إلى المجامع المسكونية من قبل الأباطرة – كما وتم ذكر رتب البطاركة في كل من (مجمع مسكوني الثاني:3 – المجمع المسكوني الرابع: 28 – المجمع المسكوني السادس:36) كما هي مذكورة في قانون الامبراطورية الرومانية (Codex Iustiniani, I.1.7, I.2.16; Novella Iustiniani 131 وغيرها) بالترتيب التالي: روما – القسطنطينية – الإسكندرية – أنطاكية – القدس.

من المهم أن نلاحظ أن هذه القائمة المكوّنة من خمسة عروش أبوية لا تتوافق مع عدد الكنائس المحلية المستقلة في ذلك الحين: ليس فقط الكنائس الأرثوذكسية التي كانت خارج الإمبراطورية في ذلك الوقت كالكنيسة الجورجية والكنيسة الأكييلية، ولكن أيضًا الكنائس المستقلة داخل حدود الإمبراطورية ككنائس ( قبرص، كرخيدون، يوستنيان الأولى). ترمز هذه المجموعة الخماسية من البطاركة، حسب يوستنيان، إلى وحدة الكنيسة الأرثوذكسية، التي كان ضامنها رؤساء العروش الإمبراطورية الأكثر سلطة.

والأهم من ذلك ، اعتُبر البطاركة الخمسة “مسكونيون”.

من خمسة “بطاركة مسكونيون” إلى “بطريرك مسكوني واحد”

في المصادر التي وصلت إلى يومنا هذا، فإن صفة “مسكوني” تم منحها لاسقف لأول مرة خلال المجمع اللصوصي الذي أقيم بمدينة أفسس في العام 449. حيث أطلق الأسقف أولمبيوس إيفازي في خطابه على زعيم هذا المجمع الللصوصي ديوسقوروس الإسكندري، “قدس أبانا ورئيس أساقفة مسكونة مدينة الإسكندرية العظيمة”. بعد ذلك بعامين، وتحديداً في مجمع خلقيدونية، وقع مندوبوا البابا لاون الكبير نيابة عن “سيدنا ، المغبوط رجل الكنيسة المسكونية، أسقف مدينة روما”.

Illustration_4.jpg

ولكن في قوانين يوستنيان (أي منذ العام 530) ابتدأ إطلاق لقب “البطريرك المسكوني” رسميًا على رئيس أساقفة القسطنطينية أي روما الجديدة.

لم يخرج هذا اللقب خارج بيزنطة لفترة طويلة، ولكن عندما بدأ تداوله ووصل إلى مسامع خارجيّة، تسبب على الفور بتوبيخ غاضب من الكرسي الروماني في روما. حيث انتقد القديس البابا غريغوريوس الأول (بابا روما) في رسالة إلى أولوجيوس الإسكندري استخدام كلمة “المسكونية” واعتبرها محاولات من القسطنطينية لحكم وقيادة الكنيسة. وجواباً على الرسالة أكد أولوجيوس، كما وبطريرك القسطنطينية آنذاك، للبابا غريغوريوس الأول بأن هذا الوصف أو اللقب ليس سوى تعبير بيزنطي مراسمي. مع تأكيدهم بأن القائد الحقيقي للمسيحيين حول العالم هو رئيس الكرسي الرسولي …

هذا وتم الحفاظ على مفهوم أن جميع عروش البطريركية في بيزنطة هي “مسكونيّة” لعدة قرون. كما وأنه في المجمع المسكوني السابع، دعا ممثل بطريرك القدس، يوحنا، البطاركة بـ “رعاة المسكونة”. كما وكتب القديس ثيوفانوس المعترف (818)، في مقدمة كتابه الشهير “الخرونوغرافيا”، أنه سيشير فيه إلى تواريخ رئاسة “أساقفة العروش الكبرى والمسكونيّة – أي روما والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية والقدس، ممن دافعوا عن الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية وأيضاً ممن كلصوص حكموا تحت سلطة بدعة”.

ومن الجدير بالذكر، أنه في القرن التاسع وجواباً على سؤال طرحهُ المبعوث البابوي اناستاسيوس بيبليوثيكاريوس في القسطنطينية حول معنى لقب “المسكوني”، تم الرّد عليه أنهم يدعون البطريرك بالمسكوني (oecumenicus, universalis) لا يعني أنه اسقف على العالم أجمع، بل يعني أنه يملك سلطة أوليّة على رقعة من الأراضي التي يسكنها المسيحيون.

Illustration_5.jpg

في وقت لاحق، شدد القانوني البيزنطي ثيودوربالسامون (القرن الحادي عشر) ومتى فلاستار (القرن الرابع عشر) على أن “مناطق المناخات الأربعة للكون” تم توزيعها بين البطاركة الخمسة، دون احتساب “الكنائس الصغيرة” التي لا تتبع لأي من البطاركة (وهي: البلغارية، القبرصية، الجورجية). ولا يجوز لأي من البطاركة ” إرسال ستافروبيجيا إلى أراضي تابعة قانونياً لبطريرك آخر، أو أخذ رجل دين منها، حتى لا يتم بذلك انتهاك للقوانين الكنسية”.

ولكن على الرغم من كل هذا، فإن فكرة الامتيازات الخاصة والفريدة من نوعها للقسطنطينية تظهر في التشريع الإمبراطوري والنوموكانون البيزنطيين. على سبيل المثال، في النوموكانون الرابع عشر (عام 880) نقرأ في (العنوان الأول، الفصل 5): “حول رتب البطاركة… وحول أن القسطنطينية هي رئيسة جميع الكنائس ( اقرأ الكتاب الأول من المدوّنة، العنوان 1 ، القسم 7 ؛ العنوان 2 ، الأقسام 6 و 20 و 24؛ بالإضافة إلى العنوان الأول لنوفيلاس، القسم 2 ، والعنوان 2 ، القسم 3. ويذكر القسم السادس عشر من العنوان الثاني من الكتاب الأول [من القانون] أن القسطنطينية لها الرئاسة على الجميع. يتردد صدى هذا النص في إيساجوجو للإمبراطور باسيليوس الأول (886)، الذي يقول: “إن عرش القسطنطينية، مزيّن المملكة، الذي تم الإقرار بأولويته من قبل المجامع المسكونية الأولى هو الذي يحدد الشرائع الإلهية ويحكم في الدعاوي التي تحدث في العروش الأخرى تحت نظره وحكمه “. من الواضح أن أياً من النصوص المدرجة في النوموكانون لا تتحدث عن القسطنطينية باعتبارها “رأس جميع الكنائس” ولا تنص أي من القوانين على الولاية العالمية لعرش القسطنطينية. ولكن إذا تحدثنا عن أراضي الإمبراطورية نفسها، فإن تصريحات نوموكانون وإيساغوغي تكون صحيحة في هذه الحالة.

Illustration_6.jpg

الحقيقة هي أنه بحلول القرن التاسع، فقدت بيزنطة كل ممتلكاتها في الشرق والغرب، وتزامنت حدودها في الواقع مع منطقة الأراضي الكنسية القانونية لبطريركية القسطنطينية. وبما أن مجال عمل القوانين التشريعية، بحكم التعريف، يقتصر على أراضي الإمبراطورية، فإن صلاحيات القسطنطينية كما تشير قوانينها تقتصر أيضًا على هذه المنطقة. وهذا يتوافق تمامًا مع لقبه “المسكوني” – حيث تعني كلمة “المسكوني” ، كالعادة ، الإمبراطورية الرومانية (البيزنطية).

من “ملّة باشي” – إلى “زعيم الأرثوذكسية العالمية”

في عام 1453 سقطت الإمبراطورية البيزنطية. وبذلك أصبحت القسطنطينية عاصمة دولة إسلامية وهي الإمبراطورية العثمانية. توحدت جميع البطريركيات الأرثوذكسية مرة أخرى ضمن دولة واحدة، ولكن على أسس قانونية مختلفة. نظرًا لأن الشريعة لم تنطبق على المسيحيين واليهود، فقد تم فصلهم إلى جماعات عرقية ودينية مستقلة وهي (الملّة)، وتكون برئاسة قادتهم الروحيين. أحد هؤلاء كان “ملّة باشي” وهو بطريرك القسطنطينية، الذي نقل الأتراك مقرّه من كنيسة آيا صوفيا إلى حي الفنار. بموجب القانون التركي، حصل على حقوق الولاية القضائية على جميع المسيحيين الأرثوذكس الذين عاشوا تحت حكم الباب العالي. حيث أخذ العديد من البطاركة بالاستفادة وضعهم الجديد وابتدأوا في التدخل بنشاط في شؤون الكنائس المحلية الأخرى، لكنهم واجهوا الموقف القانوني الثابت لرؤسائها. حيث أعرب بطريرك الإسكندرية ملاتيوس بيغاس بإيجاز ووضوح لبطريرك القسطنطينية إرميا الثاني في عام 1592 في رسالةٍ وجهها إليه بقوله: “لا يوجد عرش بطريركي خاضع للآخر”.

يذكر أن هذه الرسالة كُتبت بعد محاولات البطريرك إرميا الثاني تقديم نفسه كزعيماً للأرثوذكسية العالمية في الحوار مع البروتستانت. أولئك الذين كانوا يبحثون عن حلفاء في صراعهم المرير مع البابوية في ذلك الوقت. “الكنيسة المسكونية هي موطن كل الكنائس وهي تقود السلطة القضائية … حصلت على الأقدمية في الأرثوذكسية وتم وضعها على الرأس” هذا ما أشار إليه البطريرك إرميا الثاني الذي تخرّج من جامعة توبنغن الألمانية في عام 1576.

وهكذا، حاول البطاركة القسطنطينيون ملء لقب “البطريرك المسكوني” بمحتوى حقيقي، وتقديم القسطنطينية كزعيمة للعالم الأرثوذكسي بأسره مستغلين رعاية السلطات الإسلامية ومتجاهلين الشرائع الأرثوذكسية. في نوفمبر تشرين أول عام 1872، قام المبعوث الرّوسي في الباب العالي، الكونت نيكولاي إغناتييف بدراسة الوضع القائم حول بطريركية القدس وكتب لوزارة الخارجية الروسية ما يلي : “تتزايد الرغبة بين بطاركة القسطنطينية في رفع رتبة الكرسي البطريركي القسطنطيني ليعلوا على كامل الكراسي (العروش) البطركية الأخرى. كما لاحظنا النّية في منحه “الأولويّة” كالكرسي البابوي في الكنيسة. وبهذا اعتبار أملاك الكنائس الأخرى ملكًا له. يأمل هذا الفريق، بعد أن أصبح سيّداً للعالم الأرثوذكسي، أن يسلب الثروة لصالح العلمانيين المؤيدين للفنار الذين يديرون البطريركية المسكونية “.

Illustration_7.jpg

في الوقت نفسه، من المثير للدهشة أن بطاركة القسطنطينية بذاتهم كانوا قد أدانوا بشكل صارم وواضح محاولات روما البابوية بإفضاء سلطتها على الكنائس الأخرى. تقول الرسالة البطريركية والمجمعية لعام 1895 مباشرة: “كانت كل كنيسة محلية في الشرق والغرب مستقلة تمامًا في زمن المجامع المسكونية السبعة. حكم كل من أساقفة الكنائس المستقلة في الشرق كما وأساقفة إفريقيا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا كنائسهم من خلال مجالسهم المحلية. ليس للأسقف الروماني أي حق في التدخل في شؤون الكنائس الأخرى، بل هو نفسه ملزمًا بإطاعة القرارات المجمعية لمجمعه. وعندما ظهرت قضايا مهمة تتطلب قرارًا من الكنيسة بأكملها، تمت الدعوة لانعقاد مجمع مسكوني، والذي كان دائمًا ولا يزال أعلى سلطة في الكنيسة. هذا هو هيكل نظام الكنيسة القديم”.

أدى انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى نمو ذلك الوهم في العالم اليوناني وهو ولادة وشيكة لتلك “الفكرة العظيمة” ألا وهي استعادة مجد بيزنطة وذلك بمساعدة الوفاق الثلاثي. فعلى هذا الأساس ولدت في أروقة الفنار فكرة تحويل البطريركية المسكونية إلى مركز مسيحي للكنائس في جميع أنحاء العالم. في 11 فبراير شباط (29 يناير كانون ثاني من التقويم القديم) 1920 ، توجّه مجمع القسطنطينية، الذي عقد برئاسة القائم مقام بعد أن فرغت السدّة البطريركية منذ خريف عام 1918، إلى “كنائس المسيح القائمة في كل مكان” باقتراح إنشاء، نوع من رابطة الكنائس المسيحية بالكامل، على غرار عصبة الأمم، (في اليونانية Κοινωνία – كلمة لا تعني فقط “الاتحاد، المجتمع” ، ولكن أيضًا “المجمع الكنسي، الشركة”، التي أعطت للمجمع ظل خاص) ، “للإعداد والتنفيذ للوحدة المباركة من الله” للمسيحيين من جميع الطوائف. اجتذب هذا المشروع الطموح موافقة العديد من رؤساء الكهنة الأرثوذكس كما وحصل على اهتمام شديد من رئيس الأساقفة اللوثري السويدي ناثان سودربلوم، أحد مؤسسي الحركة المسكونية. وهكذا بدأ ماراثون المفاوضات حول التحضير لـ “مجمع مسكوني” مسيحي في عام 1925، وذلك في ذكرى مجمع نيقية.

لكن السياسة أعاقت الأحلام. لأن الحرب اليونانية التركية انتهت بطرد قوات الوفاق من القسطنطينية وترحيل السكان اليونانيين من أراضي تركيا، بعد حكم كمال أتاتورك. في مؤتمر لوزان عام 1923، أصر أتباع أتاتورك على طرد البطريركية “اليونانية”. وهكذا كان لابد من استخدام لقب “المسكوني” لأغراض مختلفة تمامًا: أعلن الوفد اليوناني برئاسة الفثيريوس كيرياكو فينيزيلوس أن “البطريركية المسكونية هي الأولى (primate) بين جميع الكنائس الأرثوذكسية… ووجهات نظر البطريرك القسطنطيني تعتبر حاسمة في مسائل الإيمان والأخلاق المسيحية والقوانين الكنسية”. أضطرّ ألأتراك بتقديم تنازلات تحت ضغط الفرنسيين والبريطانيين فسمحوا للبطريرك وللمدنيين الداعمي للفنار بالبقاء في اسطنبول ولكن بشرط رفض العمل السياسي بشكل كامل. وهكذا تم نسيان فكرة “المجمع المسكوني” …

Illustration_8.jpg

على مدى القرن الماضي، لم تتعزز مكانة البطريرك المسكوني في تركيا بأي شكل. بل على العكس، انخفض عدد السكان اليونانيين الذين يسكنون حي الفنار انخفاضًا حادًا. اليوم، لم يعد للبطريرك المسكوني أي رعية تقريبًا في تلك المنطقة الكنسية التي تم اخضاعها للقسطنطينية في المجمع الخلقيدوني قبل 1570 عامًا. أغلب رعاياه تتمركز في هذه الأيام في أمريكا وأوروبا الغربية. هذا الوضع بالطبع يحتاج إلى مبرر. كما وأخذنا نصادف في كتابات رجال الدين القسطنطينيون (الأمر الذي كان حذراً في البداية قبل أن يتطوّر ليصبح علناً) دعمهم للفكرة التي تقول بأن الاسقف الذي يحمل لقب “المسكوني” يتمتّع بولاية “مسكونيّة” أيضاً. ولإثبات هذا الطرح، يتم اختيار أي حقبة من الماضي، ويتم إخراج السوابق القديمة من سياقها، ويتم تفسير قوانين الكنيسة بشكل خاطئ على الرغم من أنها مشروحة بشكل مستقيم وصحيح منذ زمن بعيد. لكن هذا اللقب التاريخي يتم استغلاله بشكل خاص.

في العام 2008، قال البطريرك برثلماوس، مخاطبًا جمعية البرلمان الأوروبي، التالي: ” تحتضن بطريركتنا المسكونية خدمة رسوليّة عالمية حقّة، كمؤسسة روحية بحتة، وهي تسعى جاهدة لرفع وتوسيع وعي الأسرة البشرية وذلك في سبيل الوصول إلى إدراك أننا كلنا نعيش في منزل واحد. بالمعنى الأساسي للكلمة، هذا هو معنى كلمة “مسكوني” ، لأن “ecumene” هو عالم مأهول، أرض تُفهم على أنها منزل يعيش فيه جميع الشعوب والقبائل واللغات”.

بالنسبة للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية، فإن كلمة ecumenical – “مسكوني”، التي ترد في لقب البطريرك برثلماوس، لها دلالة خاصة مرتبطة بالحركة البروتستانتية المعروفة من أجل الوحدة المسيحية المشتركة. وإذا كانت المفردات الكنسية في اللغة الروسية “مسكوني- вселенский” و “مسكونيّة – экуменический” تبدو متعاكسة ومختلفة فهي نفس الكلمة في كل من اللغة الإنجليزية واليونانية الحديثة. وفي النصوص التي تخرج من قلم المدافعين الحاليين عن “اللاهوت الكنسي الجديد”، فإن تمييز أو تفريق هاتين الكلمتين أو المعنيين لهو أمرٌ صعب ويزداد صعوبة.

ذلك المصطلح القديم الذي جاء في زمن الأمبراطور يوستينيان الكبير، الذي أراد به أن يشير إلى الدور الخاص للبطاركة المسكونيين الخمسة في الإمبراطورية كركائز وضمائن للأرثوذكسية، تحول بطريقة ما إلى “بطريرك المسكونة” الذي يجمع في معناه “قائد الكنيسة الأورثوذكسية” ويُراد له أن يكون “قائد العالم المسيحي بجميع طوائفه” .وليس من قبيل المصادفة أن مبادرة البطريرك بارثولماوس التي أعلن عنها مؤخرًا لاجتماع قادة الكنيسة في العام 2025 أي في الذكرى المئوية للمجمع المسكوني الأول – تقترح العمل على: «more determined ecumenical course» (دور مسكوني أكثر تصميماً).

 

كاتب المقالة
Pavel Kuzenkov /قسم العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو
:

Viewing all articles
Browse latest Browse all 1470

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>